بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الثانى
من ذكر الوصول لدار السلطان الى خروج السلطان
● [ ذكر وصولنا إلى دار السلطان ] ●
وعند قدومنا وهو غائب
ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان، ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث، ووجدنا عليه النقباء، وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع، فوجدنا به الوزير خواجه جهان ينتظرنا. فتقدم ضياء الدين خداوند زاده، ثم تلا أخوه قوام الدين، ثم أخوهما عماد الدين، ثم تلوتهم، ثم تلاني أخوهم برهان الدين، ثم الأمير مبارك السمرقندي، ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خدواند زاده، ثم بدر الدين الفصال.
ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون " استون " ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام. فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض، وخدمنا نحن بالركوع، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض، وخدمتنا لناحية سرير السلطان، وخدم جميع من معنا. فلما فرغنا من الخدمة، صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله، وخرجنا.
● [ ذكر وصولنا لدار أم السلطان ] ●
وذكر فضائلها
وذكر فضائلها
وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر، وسبب ذلك انه لما ملك ابنها، جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي، وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر، فخدمن بين يديها جميعاً، فذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس براً بها. ومن بره أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها، وترجل عن فرسه وقبل رجلها، وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.
ولنعد لما قصدناه فنقول، ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة جهان. فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب، وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.
ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر، ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام، وأوتوا بقلال من الذهب يسمونها السين " بضم السين والياء أخر الحروف "، وهي مثل القدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها، يسمونها السبك " بضم السين وضم الباء الموحدة " وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان. ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين.
ولما تقدمنا للطعام، خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: بسم الله، ثم أكلنا، وأتوا بالفقاع والتنبول. وقال الحجاب: بسم الله، فخدمنا جميعاً. ثم دعينا إلى موضع هنالك، فخلع علينا حلل الحرير المذهبة، وأتوا بنا إلى باب القصر، تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان. فأعطي كل واحد منا نصيبه منها. ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وبطيفور مثله فيه الجلاب، وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك، يأخذ الطيفور بيده، ويجعله على كاهله، ويخدمه بيده الثانية إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناساً منه وتواضعاً ومبرة، جزاه الله الخير. ففعلت كما فعل، وانصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي، وبمقربة من دروازة بالم منها، وبعث لنا الضيافة.
● [ ذكر الضيافة ] ●
ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل، يحمل السرير منها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر، يحمله غلامه على رأسه، وهو أربع قوائم مخروطة، يعرض عليها أربعة أعواد، وتنسج عليها ضفائر من الحرير والقطن، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به، لأنه يعطي الرطوبة من ذاته. وجاءوا مع السرير بمضربين ومخدتين ولحاف، كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف " اللحف " وجوهاً تغشيها وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونه الخراص والثاني الجزار ويسمونه القصاب فقالوا لنا خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق، ومن هذا كذا وكذا من اللحم، لأوزان لا أذكرها الآن وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق، وهذا الذي ذكرناه في ضيافة أم السلطان، وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غير ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان، وسلمنا على الوزير، فأعطاني بدرتين، كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتي " شستي " ومعناه لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز، وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منها أعطي كل واحد منها مائتي دينار، والصنف الثاني أعطي كل واحد منهم مائة وخمسين ديناراً والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار، والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين ديناراً، وكانوا نحو أربعين وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفاً، وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان، وهي ألف رطل هندية من الدقيق، ثلثها من الميرا وهو الدرمك، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون، وألف رطل من اللحم، ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة، لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلاً من أرطال المغرب، وخمسة وعشرون من أرطال مصر، وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق، ومثلها من اللحم، مع ما يناسبها مما ذكرناه.
ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك ولما كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير، فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم، بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي، فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني، وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير، ويجعلون على القبر الأزاهير، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه " كل شبو " وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها، وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منها حبات بالخيوط، ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرأون القرآن، فإذا ختموا أتوا بماء الجلاب فسقوه الناس، ثم يصب عليهم ماء الورد صباً، ويعطون التنبول وينصرفون.
ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت، خرجت الصبح على العادة، وأعددت ما تيسر من ذلك كله، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك، وأمر بسراجة فضربت على القبر، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند، والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة، ولم آت إلا والقوم المذكورون، قد أخذوا مجالسهم، والحاجب بين أيديهم، وهم يقرأون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر. فلما فرغوا من القرأة، قرأ القراء بأصوات حسان، ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة، وثناء على السلطان. وعند ذكر اسمه قام الناس جميعاً قياماً فخدموا ثم جلسوا، ودعا القاضي دعاء حسناً، ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس، ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات، ثم فرقوا عليهم التنبول، ثم أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان، فخدمنا للسرير على العادة، وانصرفت إلى منزلي فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان، ما ملأ الدار ودور أصحابي، وأكلوا جميعاً، وأكل المساكين. وفضلت الأقراص والحلواء والنبات، فأقمت بقاياها أياماً، وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان. وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء، ويركبها الرجال وهي شبه السرير، سطحها من ضفائر الحرير والقطن، وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا، معوج من القصب الهندي المغلوق، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة، ويحمل أربعة، وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر، عليها ينصرف أكثر الناس فمن كان له عبيداً حملوه، ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالاً يحملونه. وبالبلد منهم جماعة يسيرة، يقفون في الأسواق وعند باب السلطان، وعند أبواب الناس للكري، وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير. وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان، فحملوا فيها جاريتي، وهي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فاقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة، وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم، وأساور ذهب مرصعة، وتهليلاً من الذهب مرصعاً وقميص كتان مزركشاً بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختاً بأثواب ولما جاءت بذلك أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين، محافظة على نفسي، وصوناً لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.
● [ ذكر إحسان السلطان والوزير ] ●
في أيام غيبة السلطان عن الحضرة
في أيام غيبة السلطان عن الحضرة
وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة، فعينها لي الوزير وأهل الديوان، وخرجت إليها فمنها قرية تسمى بدلي " بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام " وقرية تسمى بسهي " بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء " ونصف قرية تسمى بلرة " بفتح الباء الموحدة واللام والراء "، وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروهاً، وهو الميل، بصدي يعرف بصدي هندبت، والصدي عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدي له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد، ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها. وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار، فبعث الوزير إلي عشر جوار منه، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منهن، فلما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثاً صغاراً منهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن، لأنهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار، ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف، ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار، وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض، وهي لهم مثل السور، وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم الا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض، ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.
● [ ذكر العيد الذي شهدته ] ●
أيام غيبة السلطان
أيام غيبة السلطان
وأطل عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة، فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مهد له على ظهره شبه السرير، وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة، وليس الخطيب ثياب السود، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه، وفقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلى صيوان قطن، وفرش ببسط، واتجمع الناس ذاكرين الله تعالى. ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم، وانصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام، فحضره الملوك والأمراء، والأعزة وهم الغرباء، وأكلوا وانصرفوا.
● [ ذكر قدوم السلطان ولقائنا له ] ●
ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر اسمه تلبت "بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى "، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج اليه فخرجنا، ومع كل انسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر واجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم، ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب، ولما وصلت إلى النوبة، دخلت فوجدته قاعداً على كرسي، فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكنت عرفته أيام غيبة السلطان، فخدم الحاجب، فخدمت واستقبلني أمير حاجب، وهو ابن عم السلطان فيروز، وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله، مولانا بدر الدين. وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب، ويقول لي بالفارسي، حلت البركة، قدومك مبارك، اجمع خاطرك، اعمل معك من المراحم، وأعطيك من الأنعام، ما يسمع به أهل بلادك، فيأتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له: بلاد المغرب فقال لي: بلاد عبد المؤمن، فقلت له: نعم. وكان كلما قال لي كلاماً جيداً قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي، وانصرفت واجتمع الواردون، فمد لهم سماط. ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي، وعماد الملك عرض المماليك، والملك جلال الدين الكيجي، وجماعة من الحجاب والامراء، وحضر كذلك خداوند زاده غياث الدين، ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا، وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مراراً من بلاده. والواردون الذين خلع عليهم في ذلك اليوم هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن أخيه أمير بخت ابن السيد تاج الدين، وكان جده وجيه الدين وزير خراسان، وكان خاله علاء الدين أمير هند ووزيراً أيضاً، والأمير هبة الله ابن الفلكي التبريزي، وكان أبوه نائب الوزير بالعراق، وهو الذي بنى المدرسة الفلكية بتبريز، وملك كراي من أولاد بهرام جور " جوبين " صاحب كسرى، وهو من أهل جبل بدخشان الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد، والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري، وملك زاده الترمذي، وشهاب الدين الكازروني، التاجر الذي قدم تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.
● [ ذكر دخول السلطان إلى حضرته ] ●
وما أمر لنا به من المراكب
وما أمر لنا به من المراكب
وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرساً من مراكب السلطان، عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان لدخول حضرته، وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان، وزينت الفيلة أمام السلطان، وجعلت عليها الأعلام، ورفعت عليها ستة عشر شطراً، منها مزركشة، ومنها مرصعة، ورفع فوق رأس السلطان شطرٌ منها، وحملت أمامه الغاشية، وهي ستارة مرصعة، وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار، فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة، قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك. ولم يزالوا ينثرونها إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.
● [ ذكر دخولنا اليه ] ●
وما أنعم به من الإحسان والولاية
وما أنعم به من الإحسان والولاية
ولما كان يوم الجمعة، ثاني يوم دخول السلطان، أتينا باب المشور، فجلسنا في سقائف الباب الثالث، ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول، وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي، فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا، وأذن لهم في دخولنا، ودخول بعض أصحابنا، وعين للدخول معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا، ثم جاءوا بالبدر والقبان، وهو الميزان، وقعد قاضي القضاة والكتاب، ودعوا من بالباب من الأعزة وهم الغرباء، فعينوا لكل نصيبه من تلك البدر، فحصل لي خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار، تصدقت به أم السلطان لما قدم ابنها، وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه، ويسأل عن أحوالنا، ويخاطبنا بأجمل الكلام ولقد قال لنا في بعض الأيام: أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم فالكبير منكم مقام والدي، والكهل مقام أخي، والصغير مقام ولدي، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.
ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة، وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل، إحداهما قرية جوزة، والثانية قرية ملك بور، وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده، وغياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا: إن خوند عالم يقول لكم: من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاة أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك فسكت الجميع لأنهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم، وتكلم أمير بخت ابن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي، وغير ذلك لا أعرفه.
وتكلم هبة الله الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خداوند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي ? وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان، تعظيماً للعرب، فقلت له: أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي، وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب، فلما بلغ ذلك السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام، فبعث عنا، فأكلنا بين يديه، وهو يأكل، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون، فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس، فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي، واعتذر واله عني بعد صلاة العصر، فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة، ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خداوند زاده ضياء الدين، وهو أكبر الإخوة المذكورين، فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار، فجلس بمجلس القاضي. فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه، وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة، عين له مجاشر فائدها ذلك المقدار، فأمر له بخمسين ألفاً عن يدٍ، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير، ومعناه صورة السبع، لأنه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذهب، وأمر له بفرس من الجنس الأول، والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر، ويكسون أعظمها بالفضة المذهبة، ثم دخل أمير بخت، فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده، ويقف على محاسبات الدواوين وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك، وأعطى أربعين ألفاً عن يد، وأعطى فرساً مجهزاً، وخلع عليه كخلعة الذي قبله، ولقب شرف الملك.
ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار، ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك وأعطى أربعة وعشرين ألفاً عن يد وأعطى فرساً مجهزاً وخلعة، وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستنداً إلى السرير، والوزير خواجه جهان بين يديه، والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه، قال لي الملك الكبير: أخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي، وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة، وعين لك مجاشر بمقدارها، وأمر لك باثني عشر ألفاً نقداً تأخذها من الخزانة غداً إن شاء الله، وأعطاك فرساً بسرجه ولجامه، وأمر لك بخلعة محاربي، وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب، فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان، فقال لي السلطان: لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال، هو أكبر الأشغال عندنا، وكنت أفهم قوله، ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه، فقلت له: يا مولانا أنا على مذهب مالك،، وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف إنساناً فقال لي: قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك، وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي، بل أنت سيدنا ومخدومنا، تواضعاً منه وفضلاً وإيناساً، ثم قال لشرف الملك أمير بخت، إن كان الذي ترتب له لا يكفيه لأنه كثير الإنفاق، فأنا أعطيه زاوية إن قجر على إقامة حال الفقراء، وقال: قل له هذا بالعربي، وكان يظن أنه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له: برو ويكجا بخصبي " بخسبي " وآن حكاية بروابكوي وتفهيم كني " بكني " تافردا إن شاء الله بيش من بيايي " و" جواب أو بكري " بكوي " معناه: امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد، وفهمه هذه الحكاية، فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء إلي وتعلمني بكلامه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل، وقد ضربت النوبة. والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج، وخرجنا معه، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتننا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي، بزقاق يعرف بسرابور خان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان. ولما كان بالغد بعث عنا، فقبضنا الأموال والخيل والخلع، وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال، فجعلها على كاهله، ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا، وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها، بعد أن جعلت عليها الخرق، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم، ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابه بألفي دينار وعشر خلع، ولم يعط لأصحاب أحد سواي شيئاً وكان أصحابي لهم رواء ومنظر، فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.
● [ ذكر عطاء ثان أمر لي به وتوقفه مدة ] ●
وكنت يوماً بالمشور، بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ، فأتى بعض الحجاب فدعا مولانا ناصر الدين، فدخل إلى السلطان، فخلع عليه، وأعطاه مصحفاً مكللاً بالجوهر، ثم أتاني بعض الحجاب فقال: أعطني شيئاً وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفاً، أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي، وهو مجد في كلامه، فقال بعض الأصحاب: أنا أعطيه، فأعطاه دينارين أو ثلاثة، وجاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوباً بتعريف الحاجب، ومعناه أمر خوند عالم أن يعطي من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه، ويكتب المبلغ اسمه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء: وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان، والخريطة دار وهو صاحب وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام، والأمير نكبية الدوادار صاحب الدواة، فإذا كتب كل واحد منهم خطه، تذهب البراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم، ثم تثبت في ديوان الأشراف، ثم تثبتا في ديوان النظر، ثم تكتب البراونة، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء، ثم يثبتها الخازن في ديوانه، ويكتب تلخيصاً في كل يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال، ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك، ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفاً ستة أشهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألفٍ، أعطي تسعين ألفاً، أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.
● [ ذكر طلب الغرماء ما لهم قبلي ومدحي للسلطان ] ●
وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة
وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة
وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالاً أنفقته في طريقي، وما صنعت به الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:
إليك أمير المؤمنين المبجلا . أتينا نجد السير نحوك في الفلا
فجئت محلاً من علائك زائراً . ومغناك كهفٌ للزيارة أهلا
فلو أن فوق الشمس للمجد رتبةً . لكنت لأعلاها إماماً مؤهلاً
فأنت الإمام الماجد الأوحد الذي . سجاياه حتماً أن يقول ويفعلا
ولي حاجة من فيض جودك أرتجي . قضاها وقصدي عند مجدك سهلاً
أأذكرها أم قد كفاني حياؤكم . فإن حياكم ذكره كان أجملا
فعـجل لمن واقى محلك زائراً . قضا دينه إن الغريم تعجلا
فقدمتها بين يديه، وهو قاهد على كرسي، فجعلها على ركبته، وأمسك طرفها بيده، وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتاً منها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيد ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت، وهنأني الناس بذلك، وأقمت مدة، وكتبت رفعاً، وهم يسمونه عرض داشت، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند، فدفعه للسلطان فقال له: امض إلى خواجه جهان فقل له: يعطي دينه فمضى إليه وأعلمه، فقال: نعم وأبطأ ذلك أياماً وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد، وسافر الوزير، فلم آخذ شيئاً منها إلا بعد مدة. والسبب الذي توقف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنه لما عزم الذي كان لهم علي الدين إلى السفر، قلت لهم: إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنهم متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد الدخول قال له: دروهي، وحق رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني، فلا يمكنه ان يبرح من مكانه حتى يخلصه، أو يرغب إليه في تأخيره. فاتفق يوماً أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه، ونزل بقصر هنالك فقلت لهم: هذا وقتكم، فلما أردت الدخول، وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا. وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان، فخرج حاجب قصة شمس الدين، وكان من كبار الفقهاء، فسألهم لأي شيء درهتموه، فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فأعلمه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين، فقالوا له خمس وخمسون ألف دينار، فعاد إليه فأعلمه فأمره أن يعود إليهم، ويقول لهم: إن خوند عالم يقول لكم: المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون، ويأتي أهل الدين بعقودهم، وينظروا إليها، ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود، فضحك وقال: ممازحاً: أنا أعلم أنه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خداوند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد، فبعثت إليه مائتي تنكة، فردها ولم يأخذها وقال لي عنه بعض خدامه: إنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك، فأعلم به أباه وأعلمه الوزير، وكانت بينه وبين خداوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك، وذكر له كثيراً من أفعال خداوند زاده، فغير خاطر السلطان عليه، فأمر بحبسه في المدينة وقال: لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خداوند زاده شيئاً إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.
● [ ذكر خروج السلطان إلى الصيد ] ●
وخروجي معه وما صنعت في ذلك
وخروجي معه وما صنعت في ذلك
ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص، وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه، وعملت ترتيب أهل الهند، فاشتريت سراجة، وهي أفراج. وضربها هنالك مباح ولا بد منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء، وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق، واشتريت الصيوان، وهو الذي يظل به داخل السراجة، ويرفع على عمودين كبيرين ويجعل ذلك الرجال على أعناقهم، ويقال لهم اليكوانية والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية، وقد ذكرناهم، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدواب لأنهم لا يطعمونها التبن ويكتري الكهارين، وهم الذين يحملون أواني المطبخ، ويكتري من يحمله في الدولة، وقد ذكرناها، ويحملها فارغة، ويكتري الفراشين، وهم الذين يضربون السراجة، ويفرشونها، ويرفعون الأحمال على الجمال، ويكتري الدوادوية، وهم الذين يمشون بين يديه، ويحملون المشاعل بالليل، فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم، وأظهرت القوة والهمة، وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة، فلما كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج، ومن أبطأ وجلس خارج السراجة على كرسي، فجئت وسلمت ووقفت في موقفي بالميمنة، فبعث إلي الملك الكبير قبولة سرجامدار، وهو الذي يشرد الذباب عنه، فأمرني بالجلوس عناية بي، ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثم أتى بالفيل، وألصق به سلم فركب عليه، ورفع الشطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة، ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب، ان يركب الأمراء أفواجاً كل أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرناياته يسمون ذلك المراتب، ولا يركب أمام السلطان، إلا الحجاب وأهل الطرق والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار، والذين يضربون الصرنايات. ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلاً، وعن يساره مثل ذلك، منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة، وكنت أنا من أهل ميمنته، ويكون بين يديه المشاءون والأدلاء، ويكون خلفه علاماته، وهي من الحرير المذهب، والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه، وأهل دخلته، وخلفهم الأمراء وجميع الناس، ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول، ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته، ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون، كل واحد في منزله خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجار، وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد، ويحضر أبناء الملوك في يد كل واحد منهم سفود، ويوقدون النار ويشوون ذلك، ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها، ويؤتى بالطعام، ويستدعي من شاء فيأكل معه، وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها، فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي، وهو متغير فقال لماذا، فقال: بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك فإن طلب مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم. وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال: يا خوند عالم كل يوم وهو يكلمني بالعربية ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا، وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك، فامض أنت يا أومار، ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوند زاده حاضراً، فقال يا خوند عالم إنه كثير الإنفاق، وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين. وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام، ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين: أشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه: أشكر لخداوند زاده. وفي بعض تلك الأيام، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة، وكان طريقه على منزلي وكان معه في الميمنة وأصحابي في الساقة، وكان لي خباء عند السراجة، فوقف أصحابي عندها، وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسأل لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما: لفلان أخبراه ذلك فتبسم. فلما كان بالغد، نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد، فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.
● [ ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان ] ●
وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل، فقلت: نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملاً منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير، وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف، وصنعت له ركباً وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء، فصنع منها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال: يا خوند عالم رأيت العجب قال: وما ذلك، قال: فلان بعث جملاً عليه سرج فقال: ائتوا به. فأدخل الجمل داخل السراجة، وأعجب به السلطان، وقال لراجلي: اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة، وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.
● [ ذكر الجملين اللذين أهديتهما إليه والحلواء ] ●
وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك
وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك
ولما عاد إلي راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخره مكسواً بصفائح الفضة المذهبة وكسوتها بالملف وصنعت رسناً مصفحاً بصفائح الفضة المذهبة، وجعلت لهما جلين من زردخانة مبطنين، بالكمخا، وجعلت للجملين الخلاخيل من الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفوراً، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير، فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومه بموضع جلوسه العام، غدوت عليه بالجمال، فأمر بها، فحركت بين يديه، وهرولت فطار خلخال أحدهما فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري " جه داري " درآن طبقها حلوا است، معنى ذلك: ما معك في تلك الأطباق، حلواء هي، فقلت له: نعم فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ: ما أكلت قط، ولا رأيت مثل الحلواء التي بعثها الينا ونحن بالمعسكر، ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه، واستدعاني، وأمر بالطعام، فأكلت ثم سألني عن نوع الحلواء الذي بعثت له: فقلت له: يا خوند عالم، تلك الحلواء أنواعها كثيرة، ولا أدري عن أي نوع تسألون منها فقال: إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقاً، فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنها، فقال: عن هذا سألتك، وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له: هذه يقال لها المقرصة، ثم أخذ نوعاً آخر فقال: وما اسم هذه، فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري، وينتسب إلى آل العباس رضي الله تعالى عنه، وهو كثير المال ويقول له السلطان والدي، فحسدني وأراد أن يخجلني فقال: ليست هذه لقيمات القاضي، بل هي هذه وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكان كثيراً ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال: يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق. فقال له السلطان: وكيف ذلك، فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته، فإنه أتى بها فضحك السلطان وقال: صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وأخذنا التنبول وانصرفنا فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال: ابعث أصحابك يقبضون المال، فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة، وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفاً التي هي دين علي، وصرف الاثني عشر ألفاً التي أمر لي بها فيما تقدم، بعد حط العشر على عادتهم وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.
● [ ذكر خروج السلطان ] ●
وأمره لي بالإقامة بالحضرة
وأمره لي بالإقامة بالحضرة