بّسم الله الرّحمن الرّحيم
الأنباء فى قصص الأنبياء
قصّة إبراهيم وقصّة لوط
عليهما السلام
قصة إبراهيم عليه السلام
وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام، واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه، فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل، وقيل: بكوثى، وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله، قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش،
إبراهيم عليه السلام والنمروذ
ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملاً للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحاً أرسل إليه، وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكاً برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود، وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ، وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث ابراهيم حجة على خلقه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح، فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إننا نجد غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له ابراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا، فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم ابراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره، فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت،
فلمّا وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلاً الى مغارة وكانت قريبة منها فولدت ابراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت الى بيتها راجعة، ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل، فكان يشبّ في اليوم ما يشبّ غيره في الشهر، وكانت تجده حيّاً يمصّ إبهامه جعل الله رزقه فيها.
وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلاماً فمات، فصدّقها، وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك ، فقال آزر: إنّ لي ابناً قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به? فقالوا: لا، فانطلق فأخرجه من السرب، فلما نظر الى الدواب والى الخلق، ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه، جعل يسأل أباه عما يراه، فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك، فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ ، وكان خروجه بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين، وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهراً، قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم ، قال الله تعالى (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) الأنعام : 77، فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نوراً أعظم من كلّ ما رأى فقال: (هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون) الانعام : 78، ثم رجع ابراهيم الى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك، فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله، فسرّه ذلك.
وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فكان ابراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه ، فلا يشتريها منه أحد، وكان يأخذها وينطلق بها الى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه، حتى فشا ذلك عنه في قومه، غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود، فلمّا بدا لابراهيم أن يدعو قومه الى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه الى التوحيد فلم يجبه، ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت ، قال: ربّ العالمين، قالوا: نمرود ، قال: بل أعبد الذي خلقني، فظهر أمره، وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة، فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك، فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم، أي طعين، ليهربوا منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم، فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم الى العيد وخالف الى أصنامهم وهو يقول: (تالله لأكيدنّ أصنامكم) الأنبياء : 57 فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم، ورجع الى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها الى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله، فلما نظر ابراهيم الى ما بين أيديهم من الطعام قال: (ألا تأكلون) فلما لم يجبه أحد قال: (مالكم لا تنطقون ، فراغ عليهم ضرباً باليمين) الصافات : 91 - 93، فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له ابراهيم) الأنبياء : 59 - 60 يعنون يسبّها ويعيبها، ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا، وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه، فقالوا: (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) الأنبياء : 61 ما نفعل به، وقيل: يشهدون عليه، كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنها يا إبراهيم ، قال بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء : 63، غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها، فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال، ثم قالوا، وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الأنبياء : 65، أي لا يتكلمون، فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك، يقول الله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) في الحجة عليهم لإبراهيم، فقال لهم إبراهيم عند قولهم (ما هؤلاء ينطقون) ، (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء : 67.
ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو الى عبادته ما هو ، قال: (ربي الذي يحي ويميت) البقرة : 258، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: وكيف ذلك ، قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته، فقال ابراهيم: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت) البقرة : 258 عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئاً، ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل ابراهيم فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم) الأنبياء: 68.
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب ، قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتي إن كانت المرأة لتنذر ب : إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها ، فلما رفعوه على رأس البنيان ، رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض، حسبي الله ونعم الوكيل، وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إباهيم ، قال: أما إليك فلا ، فقذفوه في النّار ، فأمرها الله تعالى : (يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) الأنبياء : 96، فلو لم يتبع بردها سلام لمات ابراهيم من شدة بردها.
فمكث نمرود أياماً لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم، فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضاً وإبراهيم جالس وسطها ، فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ، ابنوا لي صرحاً يشرف بي على النار، فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالساً وسطها ، فناداه نمرود: يا ابراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى ، هل تستطيع أن تخرج منها ، قال: نعم، قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك ، قال: لا، فقام ابراهيم فخرج منها ، وآمن مع ابراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم، وآمن له لوط بن هاران، وهو ابن أخي ابراهيم، وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ، وهو أبو بتويل، وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب، ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب، وآمنت به سارة، وهي ابنة عمّه، وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم، وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع ابراهيم.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
هجرة إبراهيم عليه السلام
ثم إنّ ابراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم، فخرج مهاجراً حتي قدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر، وكانت سارة من أحسن النساء وجهاً، وكانت لا تعصي ابراهيم شيئاً، فلما وصفت لفرعون أرسل الى ابراهيم فقال: من هذه التي معك ، قال: أختي، يعني في الإسلام، وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ ، فأمر بذلك ابراهيم، فتزيّنت ، وأرسلها إليه، فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها، وكان ابراهيم حين أرسلها قام يصلّي، فلمّا أهوى إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرّك، فدعت له، فأرسل، فأهوى إليها، فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له، فأرسل، ثمّ فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرّتين، فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر، ففعل، فأقبلت بهاجر، فلما أحسّ ابراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء، وروى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات، اثنتين في ذات الله، قوله: (إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله في سارة: هي أختي}.
ولادة اسماعيل عليه السلام وحمله الى مكة
قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإنّ لهم ذمّة ورحماً)، يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها الى الشام من مصر خوفاً من فرعون، فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيّاً، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئراً ومسجداً، وكان ماء البئر معيناً طاهراً، فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معيناً طاهراً فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء الى الذي هو عليه اليوم، وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.
قال: فلما ولد اسماعيل حزنت سارة حزناً شديداً، فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة، فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة، وظهرت غيرة سارة من هاجر ، فأوحى الله الى ابراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت، فجاء ابراهيم باسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا ابراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس ، قال: ربي أمرني، قالت: فإنّه لن يضيعنا، فلما ولّى قال: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) ابراهيم : 38 يعني من الحزن، وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) الآية ابراهيم : 38.
فلمّا ظميء اسماعيل جعل يدحض الأرض برجله، فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئاً، فلم تر شيئاً، فانحدرت الى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئاً فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فذلك أصل السعي ، ثمّ جاءت الى اسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين، وهي زمزم، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها، قال: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: (يرحمها الله لو تركتها لكانت عيناً سائحة).
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبريل، فإنه نزل الى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي، فجاء بها الى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فتعجلت، فجعلت تفرغ في شنّها، فقال لها: لا تخافي الظمأ.
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاؤوا الى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم، فكانوا معها حتى شبّ اسماعيل وماتت هاجر، فتزوج اسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده، فهم العرب المتعرّبة.
وقدم ابراهيم لمتابعة احوال اسماعيل وقد ماتت هاجر، فذهب الى بيت اسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك ، قالت: ليس ههنا، ذهب يتصيّد، وكان اسماعيل يخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع، قال ابراهيم: هل عندك ضيافة ، قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد، فقال ابراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد ابراهيم، وجاء اسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل عندك أحد ، قالت: جاءني شيخ كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه، قال: فما قال لك ، قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم عاد لزيارة اسماعيل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك ، قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى، فانزل يرحمك الله، فقال لها أعندك ضيافة ، قالت: نعم، فدعا لهم بالبركة ، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك- فلمّا جاء اسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد ، قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم ريحاً ، وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك، قال: ذلك إبراهيم.
عمارة البيت الحرام بمكة
ثم أمر الله ابراهيم ببناء البيت الحرام ، فسار الى مكّة، فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلاً له وراء زمزم، فقال له: يا اسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتاً، قال اسماعيل: فأطع ربّك، فقال ابراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل، قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه واسماعيل يناوله الحجارة، ثمّ قال ابراهيم لاسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علماً، فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة، وقيل: بل جبريل أخبره بالحجر الأسود، فأخذه ووضعه موضعه، وكانا كلّما بنيا دعوا الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة : 127.
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله، فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي ، قال: أذّنْ وعليّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه الى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر، ثمّ سار الى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم الى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام، فوقف به على الأراك، فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به الى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن جبريل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ، ورواه عنه ابن عمر، ولم يزل البيت على ما بناه إبراهيم عليه السلام، إلى أن هدمته السيول فأعادت قريش بنائه سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
الذبيح هو إسماعيل عليه السلام
روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلّهم عن أبن عبّاس أنّه قال: إنّ الذبيح اسماعيل، وقال: زعمت اليهود أنه اسحاق، وكذبت اليهود، وقال أبو الطفيل والشعبيّ: رأيت قرني الكبش في الكعبة. قال محمد بن كعب: إنّ الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه اسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن ابراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنّه اسماعيل، وذلك أنّ الله تعالى حين فرغ من قصّة المذبوح من ابني ابراهيم قال: (وبشرناه بإسحق نبيّاً من الصالحين) الصافات : 100، ويقول: (وبشرناه بإسحاق نبيّاً، ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فلم يكن يأمره بذبح اسحاق، وله فيه من الله عزّ وجلّ ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلاّ اسماعيل؛ فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: إنّ هذا الشيء ما كنتُ أنظر فيه وإنّي لأراه كما قلت.
سبب وصفة الذبح
قيل: أمر الله ابراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنّه دعا الله أن يهب له ولداً ذكراً صالحاً، فقال: (رب هب لي من الصالحين) الصافات : 112، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعي قيل له: أوفِ نذرك الذي نذرت، وهذا على قول من زعم أن الذبيح اسحاق، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا، وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول: إنّ ذلك كان بمكة.
قال محمّد بن اسحاق: إنّ ابراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا الى هذا الشعب لنحتطب لأهلك، فلمّا توجه اعترضه إبليس ليصدّه عن ذلك، فقال: إليك عني يا عدوّ الله فو الله لأمضينّ لأمر الله فاعترض اسماعيل فأعلمه ما يريد ابراهيم يصنع به، فقال: سمعاً لأمر ربيّ وطاعة، فذهب الى هاجر فأعلمها، فقالت: إن كان ربّه أمره بذلك فتسليماً لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصبْ منهم شيئاً.
فلمّا خلا ابراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، الصافات : 102، ثم قال له: يا أبتِ إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبّني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن تردّ قميصي الى هاجر أمّي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل، فقال ابراهيم: نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته (وتلّه للجبين)، ثم ادخل الشفرة لخلقه، فقلبها الله لقفاها ثمّ اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) الصافات : 104، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها . قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً، وقيل: هو الكبش الذي قرّبه هابيل، وقال عليّ ضى الله عنه: كان كبشاً أقرن أعين أبيض، وقال الحسن: ما فُدي إسماعيل إلاّ بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام، وقيل: بمنىً في المنحر.
ما امتحن الله به إبراهيم عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى ابراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنّه ابتلاه بهنّ فقال تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن) البقرة : 124، واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات، فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن): لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا ابراهيم، وقال الله: (وإبراهيم الذي وفّى) النجم : 37، قال: والكلمات عشر في براءة، وهي: (العابدون الحامدون) الآية التوبة: 112، وعشر في الأحزاب، وهي: (إن المسلمين والمسلمات) الآية الاحزاب: 35، وعشر في المؤمنين من أولها الى قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34، وقال آخرون: هي عشر خصال.
قال ابن عباس من رواية طاووس وغيره عنه: الكلمات عشر، وهي خمس في الرأس: قصّ الارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد، وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والحيتان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط ، وقال آخرون: هي مناسك الحج، وقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة : 124 وهو قول أبي صالح ومجاهد، وقال آخرون: هي ستّ، وهي: الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان.
وذبح ابنه، وهو قول الحسن، قال: ابتلاه بذلك فعرف أنّ ربّه دائم لا يزول فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه، وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إليه في التاريخ المختصر، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
قصة لوط عليه السلام
ّّّّّّّّّّّّّ
قد ذكرنا مهاجرة لوط مع ابراهيم عليهما السلام، الى مصر وعودتهما الى الشام ومقام لوط بسدوم. فلمّا أقام بها أرسله الله إلى أهلها، وكانوا قد كفروا بالله تعالى وارتكبوا الفاحشة، كما قال تعال: (إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) ، فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعملون به ذلك العمل الخبيث، وهو اللّواطة، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل : كان يأتي بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً واستعجالاً لعقاب الله إنكاراً منهم لوعيده ويقولون له: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، حتى سأل لوط ربّه النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيّهم. فبعث الله، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله، جبريل وملكين آخرين معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشّروه باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فلمّا نزلوا على إبراهيم، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوماً حتى شقّ ذلك عليه، وكان يضيف من نزل به، وقد وسّع الله عليه الرزق، فرح بهم ورأى ضيفاً لم ير مثلهم حسناً وجمالاً، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلاّ أنا بيدي، فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنّذه، أي أنضجه، فقرّبه إليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ، وامرأته قائمة فضحكت ) لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) فقالت، وصكّت وجهها: (أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (حميد مجيد)، وكانت ابنة تسعين سنة وابراهيم ابن عشرين ومائة.
فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبريل في قوم لوط، فقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين ، قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين ، قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذّبهم ، قال: وأربعون، قالوا: وأربعون ، قال: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كان فيهم عشرة ، قال: ما قم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إنّ فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين).
ثمّ مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط، فلمّا انتهوا إليها لقوا لوطاً في أرض له يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: (لاتهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فأتوه فقالوا إنّا متضيفوك اللّيلة)، فانطلق بهم، فلّما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ، والله ما أعلم على ظهر الأرض إنساناً أخبث منهم، حتى قال ذلك أربع مرّات.
وقيل: بل لقوا ابنته فقالوا: يا جارية هل من منزل ، قالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، خافت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوهاً منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة، فجاءه قومه يهرعون إليه، فقال: يا قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، فنهاهم ورغبّهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) مما تريدون، (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) هود : 79 (أولم ننهك عن العالمين) الحجر : 70، فلما لم يقبلوا منه (قال لو أنّ لي بكم قوّة أو اوي الى ركن شديد) هود : 80 يعني لو أنّ لي أنصاراً أو عشيرة يمنعوني منكم، فلمّا قال ذلك رد عليه الرسل فقالوا: إنّ ركنك لشديد ، ولم يبعث الله نبياً إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته، وأغلق لوط الباب، فعالجوه، وفتح لوط الباب، فدخلوا، واستأذن جبريل ربّه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون: النجاء النجاء فنّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط: (إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود : 81 (واتبع أدبارهم وامضوا حيث تؤمرون) الحجر : 65
فأخرجهم الله الى الشام وقال لوط: أهلكوهم الساعة؛ فقالوا: لن نؤمر إلاّ بالصبح، (أليس الصبح بقريب) هود : 81، فلما كان الصبح أدخل جبريل، وقيل ميكائيل، جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل المساء صياح ديكتهم ونباح كلابهم، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، فأهلكت من لم يكن بالقرى، وسمعت امرأة لوط الهدّة فقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، ونجّى الله لوطاً وأهله إلاّ امرأته، وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف، وكان ابراهيم يتشرّف عليها ويقول: سدوم يوماً هالك، ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة، وسدوم هي القرية العظمى.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
وفاة سارة
لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيّت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان، وقيل: عاشت هاجر بعد سارة مدّة، والصحيح أن هاجر توفيّت قبل سارة، كما ذكرنا في مسير إبراهيم الى مكّة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فلمّا ماتت سارة تزوج بعدها قطوراً ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستّة نفر: نفشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح، وكان جميع أولاد ابراهيم مع اسماعيل واسحاق ثمانية نفر، وكان اسماعيل بكره؛ وقيل في عدد أولاده غير ذلك، فالبربر من ولد نفشان، وأهل مدين قوم شعيب من ولد مديان.
وقيل: تزوج بعد قطورا امرأة اخرى اسمها حجون ابنة اهير.
وفاة إبراهيم عليه السلام
وقد مات إبراهيم وهو ابن مائتي سنة. وقيل مائة وخمس وسبعين سنة ، أما عن عدد ما أنزل عليه ، فقد روى أبو ذرّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: وأنزل الله على ابراهيم عشر صحائف ، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم ، قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وكان فيها أمثال، منها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوده لمعاده ومرَّمة لمعاشه ولذّة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بأمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه.
وإبراهيم عليه السلام هو أوّل من اختتن، وأوّل من أضاف الضيف، وأوّل من اتخذ السراويل، إلى غير ذلك من الأقاويل.
خبر ولد اسماعيل عليه السلام
قد ذكرنا فيما مضى سبب إسكان إسماعيل الحرم وتزوّجه امرأة من جرهم وفراقه إيّاها بأمر إبراهيم ثمّ تزوّج أخرى، وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي، وهي التي قال لها: قولي لزوجك: قد رضيت لك عتبة بابك، فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلاً: نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآذر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعاً وثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدار ابني اسماعيل نشر الله العرب، وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن، وقد ينطق أولاد اسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت، ولما حضرت اسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، ودفن عند قبر أمّه هاجر بالحجر.
قيل: ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيصاً ويعقوب توأمين، وإن عيصاً كان أكبرهما، وكان عمر إسحاق لما ولد له ستين سنة، ثمّ نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه اسماعيل فولدت له الروم بن عيص، وكلّ بني الأصفر من ولد، وزعم بعض الناس أنّ اشبان من ولده.
ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو اسرائيل - ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً.
قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع تأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما الى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي ، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها وقرّبها الى أبيك ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك.
وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم.
وهرب يعقوب خوفاً من أخيه الى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) النساء : 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع الى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم.
وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام.
مقتبس: من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير
وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام، واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه، فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل، وقيل: بكوثى، وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله، قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش،
إبراهيم عليه السلام والنمروذ
ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملاً للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحاً أرسل إليه، وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكاً برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود، وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ، وسنذكر بطلان هذا القول.
فلما أراد الله أن يبعث ابراهيم حجة على خلقه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح، فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إننا نجد غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له ابراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا، فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم ابراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره، فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت،
فلمّا وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلاً الى مغارة وكانت قريبة منها فولدت ابراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت الى بيتها راجعة، ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل، فكان يشبّ في اليوم ما يشبّ غيره في الشهر، وكانت تجده حيّاً يمصّ إبهامه جعل الله رزقه فيها.
وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلاماً فمات، فصدّقها، وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك ، فقال آزر: إنّ لي ابناً قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به? فقالوا: لا، فانطلق فأخرجه من السرب، فلما نظر الى الدواب والى الخلق، ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه، جعل يسأل أباه عما يراه، فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك، فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ ، وكان خروجه بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين، وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهراً، قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم ، قال الله تعالى (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) الأنعام : 77، فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نوراً أعظم من كلّ ما رأى فقال: (هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون) الانعام : 78، ثم رجع ابراهيم الى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك، فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله، فسرّه ذلك.
وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فكان ابراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه ، فلا يشتريها منه أحد، وكان يأخذها وينطلق بها الى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه، حتى فشا ذلك عنه في قومه، غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود، فلمّا بدا لابراهيم أن يدعو قومه الى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه الى التوحيد فلم يجبه، ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت ، قال: ربّ العالمين، قالوا: نمرود ، قال: بل أعبد الذي خلقني، فظهر أمره، وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة، فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك، فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم، أي طعين، ليهربوا منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم، فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم الى العيد وخالف الى أصنامهم وهو يقول: (تالله لأكيدنّ أصنامكم) الأنبياء : 57 فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم، ورجع الى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها الى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله، فلما نظر ابراهيم الى ما بين أيديهم من الطعام قال: (ألا تأكلون) فلما لم يجبه أحد قال: (مالكم لا تنطقون ، فراغ عليهم ضرباً باليمين) الصافات : 91 - 93، فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.
فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له ابراهيم) الأنبياء : 59 - 60 يعنون يسبّها ويعيبها، ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا، وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه، فقالوا: (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) الأنبياء : 61 ما نفعل به، وقيل: يشهدون عليه، كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنها يا إبراهيم ، قال بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء : 63، غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها، فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال، ثم قالوا، وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الأنبياء : 65، أي لا يتكلمون، فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك، يقول الله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) في الحجة عليهم لإبراهيم، فقال لهم إبراهيم عند قولهم (ما هؤلاء ينطقون) ، (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء : 67.
ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو الى عبادته ما هو ، قال: (ربي الذي يحي ويميت) البقرة : 258، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: وكيف ذلك ، قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته، فقال ابراهيم: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت) البقرة : 258 عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئاً، ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل ابراهيم فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم) الأنبياء: 68.
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب ، قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتي إن كانت المرأة لتنذر ب : إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها ، فلما رفعوه على رأس البنيان ، رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض، حسبي الله ونعم الوكيل، وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إباهيم ، قال: أما إليك فلا ، فقذفوه في النّار ، فأمرها الله تعالى : (يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) الأنبياء : 96، فلو لم يتبع بردها سلام لمات ابراهيم من شدة بردها.
فمكث نمرود أياماً لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم، فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضاً وإبراهيم جالس وسطها ، فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ، ابنوا لي صرحاً يشرف بي على النار، فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالساً وسطها ، فناداه نمرود: يا ابراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى ، هل تستطيع أن تخرج منها ، قال: نعم، قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك ، قال: لا، فقام ابراهيم فخرج منها ، وآمن مع ابراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم، وآمن له لوط بن هاران، وهو ابن أخي ابراهيم، وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ، وهو أبو بتويل، وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب، ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب، وآمنت به سارة، وهي ابنة عمّه، وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم، وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع ابراهيم.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
هجرة إبراهيم عليه السلام
ثم إنّ ابراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم، فخرج مهاجراً حتي قدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر، وكانت سارة من أحسن النساء وجهاً، وكانت لا تعصي ابراهيم شيئاً، فلما وصفت لفرعون أرسل الى ابراهيم فقال: من هذه التي معك ، قال: أختي، يعني في الإسلام، وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ ، فأمر بذلك ابراهيم، فتزيّنت ، وأرسلها إليه، فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها، وكان ابراهيم حين أرسلها قام يصلّي، فلمّا أهوى إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرّك، فدعت له، فأرسل، فأهوى إليها، فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له، فأرسل، ثمّ فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرّتين، فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر، ففعل، فأقبلت بهاجر، فلما أحسّ ابراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء، وروى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات، اثنتين في ذات الله، قوله: (إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله في سارة: هي أختي}.
ولادة اسماعيل عليه السلام وحمله الى مكة
قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإنّ لهم ذمّة ورحماً)، يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها الى الشام من مصر خوفاً من فرعون، فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيّاً، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئراً ومسجداً، وكان ماء البئر معيناً طاهراً، فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معيناً طاهراً فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء الى الذي هو عليه اليوم، وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.
قال: فلما ولد اسماعيل حزنت سارة حزناً شديداً، فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة، فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة، وظهرت غيرة سارة من هاجر ، فأوحى الله الى ابراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت، فجاء ابراهيم باسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا ابراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس ، قال: ربي أمرني، قالت: فإنّه لن يضيعنا، فلما ولّى قال: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) ابراهيم : 38 يعني من الحزن، وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) الآية ابراهيم : 38.
فلمّا ظميء اسماعيل جعل يدحض الأرض برجله، فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئاً، فلم تر شيئاً، فانحدرت الى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئاً فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فذلك أصل السعي ، ثمّ جاءت الى اسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين، وهي زمزم، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها، قال: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: (يرحمها الله لو تركتها لكانت عيناً سائحة).
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبريل، فإنه نزل الى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي، فجاء بها الى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فتعجلت، فجعلت تفرغ في شنّها، فقال لها: لا تخافي الظمأ.
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاؤوا الى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم، فكانوا معها حتى شبّ اسماعيل وماتت هاجر، فتزوج اسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده، فهم العرب المتعرّبة.
وقدم ابراهيم لمتابعة احوال اسماعيل وقد ماتت هاجر، فذهب الى بيت اسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك ، قالت: ليس ههنا، ذهب يتصيّد، وكان اسماعيل يخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع، قال ابراهيم: هل عندك ضيافة ، قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد، فقال ابراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد ابراهيم، وجاء اسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل عندك أحد ، قالت: جاءني شيخ كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه، قال: فما قال لك ، قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم عاد لزيارة اسماعيل ، فجاء إبراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك ، قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى، فانزل يرحمك الله، فقال لها أعندك ضيافة ، قالت: نعم، فدعا لهم بالبركة ، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك- فلمّا جاء اسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد ، قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم ريحاً ، وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك، قال: ذلك إبراهيم.
عمارة البيت الحرام بمكة
ثم أمر الله ابراهيم ببناء البيت الحرام ، فسار الى مكّة، فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلاً له وراء زمزم، فقال له: يا اسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتاً، قال اسماعيل: فأطع ربّك، فقال ابراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل، قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه واسماعيل يناوله الحجارة، ثمّ قال ابراهيم لاسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علماً، فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة، وقيل: بل جبريل أخبره بالحجر الأسود، فأخذه ووضعه موضعه، وكانا كلّما بنيا دعوا الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة : 127.
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله، فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي ، قال: أذّنْ وعليّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه الى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر، ثمّ سار الى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم الى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام، فوقف به على الأراك، فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به الى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن جبريل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ، ورواه عنه ابن عمر، ولم يزل البيت على ما بناه إبراهيم عليه السلام، إلى أن هدمته السيول فأعادت قريش بنائه سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
الذبيح هو إسماعيل عليه السلام
روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلّهم عن أبن عبّاس أنّه قال: إنّ الذبيح اسماعيل، وقال: زعمت اليهود أنه اسحاق، وكذبت اليهود، وقال أبو الطفيل والشعبيّ: رأيت قرني الكبش في الكعبة. قال محمد بن كعب: إنّ الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه اسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن ابراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنّه اسماعيل، وذلك أنّ الله تعالى حين فرغ من قصّة المذبوح من ابني ابراهيم قال: (وبشرناه بإسحق نبيّاً من الصالحين) الصافات : 100، ويقول: (وبشرناه بإسحاق نبيّاً، ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فلم يكن يأمره بذبح اسحاق، وله فيه من الله عزّ وجلّ ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلاّ اسماعيل؛ فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: إنّ هذا الشيء ما كنتُ أنظر فيه وإنّي لأراه كما قلت.
سبب وصفة الذبح
قيل: أمر الله ابراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنّه دعا الله أن يهب له ولداً ذكراً صالحاً، فقال: (رب هب لي من الصالحين) الصافات : 112، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعي قيل له: أوفِ نذرك الذي نذرت، وهذا على قول من زعم أن الذبيح اسحاق، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا، وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول: إنّ ذلك كان بمكة.
قال محمّد بن اسحاق: إنّ ابراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا الى هذا الشعب لنحتطب لأهلك، فلمّا توجه اعترضه إبليس ليصدّه عن ذلك، فقال: إليك عني يا عدوّ الله فو الله لأمضينّ لأمر الله فاعترض اسماعيل فأعلمه ما يريد ابراهيم يصنع به، فقال: سمعاً لأمر ربيّ وطاعة، فذهب الى هاجر فأعلمها، فقالت: إن كان ربّه أمره بذلك فتسليماً لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصبْ منهم شيئاً.
فلمّا خلا ابراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، الصافات : 102، ثم قال له: يا أبتِ إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبّني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن تردّ قميصي الى هاجر أمّي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل، فقال ابراهيم: نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته (وتلّه للجبين)، ثم ادخل الشفرة لخلقه، فقلبها الله لقفاها ثمّ اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) الصافات : 104، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها . قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً، وقيل: هو الكبش الذي قرّبه هابيل، وقال عليّ ضى الله عنه: كان كبشاً أقرن أعين أبيض، وقال الحسن: ما فُدي إسماعيل إلاّ بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام، وقيل: بمنىً في المنحر.
ما امتحن الله به إبراهيم عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى ابراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنّه ابتلاه بهنّ فقال تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن) البقرة : 124، واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات، فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن): لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا ابراهيم، وقال الله: (وإبراهيم الذي وفّى) النجم : 37، قال: والكلمات عشر في براءة، وهي: (العابدون الحامدون) الآية التوبة: 112، وعشر في الأحزاب، وهي: (إن المسلمين والمسلمات) الآية الاحزاب: 35، وعشر في المؤمنين من أولها الى قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34، وقال آخرون: هي عشر خصال.
قال ابن عباس من رواية طاووس وغيره عنه: الكلمات عشر، وهي خمس في الرأس: قصّ الارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد، وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والحيتان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط ، وقال آخرون: هي مناسك الحج، وقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة : 124 وهو قول أبي صالح ومجاهد، وقال آخرون: هي ستّ، وهي: الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان.
وذبح ابنه، وهو قول الحسن، قال: ابتلاه بذلك فعرف أنّ ربّه دائم لا يزول فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه، وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إليه في التاريخ المختصر، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب.
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
قصة لوط عليه السلام
ّّّّّّّّّّّّّ
قد ذكرنا مهاجرة لوط مع ابراهيم عليهما السلام، الى مصر وعودتهما الى الشام ومقام لوط بسدوم. فلمّا أقام بها أرسله الله إلى أهلها، وكانوا قد كفروا بالله تعالى وارتكبوا الفاحشة، كما قال تعال: (إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) ، فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعملون به ذلك العمل الخبيث، وهو اللّواطة، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل : كان يأتي بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً واستعجالاً لعقاب الله إنكاراً منهم لوعيده ويقولون له: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، حتى سأل لوط ربّه النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيّهم. فبعث الله، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله، جبريل وملكين آخرين معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشّروه باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.
فلمّا نزلوا على إبراهيم، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوماً حتى شقّ ذلك عليه، وكان يضيف من نزل به، وقد وسّع الله عليه الرزق، فرح بهم ورأى ضيفاً لم ير مثلهم حسناً وجمالاً، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلاّ أنا بيدي، فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنّذه، أي أنضجه، فقرّبه إليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ، وامرأته قائمة فضحكت ) لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) فقالت، وصكّت وجهها: (أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (حميد مجيد)، وكانت ابنة تسعين سنة وابراهيم ابن عشرين ومائة.
فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبريل في قوم لوط، فقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين ، قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين ، قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذّبهم ، قال: وأربعون، قالوا: وأربعون ، قال: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كان فيهم عشرة ، قال: ما قم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إنّ فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين).
ثمّ مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط، فلمّا انتهوا إليها لقوا لوطاً في أرض له يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: (لاتهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فأتوه فقالوا إنّا متضيفوك اللّيلة)، فانطلق بهم، فلّما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ، والله ما أعلم على ظهر الأرض إنساناً أخبث منهم، حتى قال ذلك أربع مرّات.
وقيل: بل لقوا ابنته فقالوا: يا جارية هل من منزل ، قالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، خافت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوهاً منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة، فجاءه قومه يهرعون إليه، فقال: يا قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، فنهاهم ورغبّهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) مما تريدون، (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) هود : 79 (أولم ننهك عن العالمين) الحجر : 70، فلما لم يقبلوا منه (قال لو أنّ لي بكم قوّة أو اوي الى ركن شديد) هود : 80 يعني لو أنّ لي أنصاراً أو عشيرة يمنعوني منكم، فلمّا قال ذلك رد عليه الرسل فقالوا: إنّ ركنك لشديد ، ولم يبعث الله نبياً إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته، وأغلق لوط الباب، فعالجوه، وفتح لوط الباب، فدخلوا، واستأذن جبريل ربّه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون: النجاء النجاء فنّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط: (إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود : 81 (واتبع أدبارهم وامضوا حيث تؤمرون) الحجر : 65
فأخرجهم الله الى الشام وقال لوط: أهلكوهم الساعة؛ فقالوا: لن نؤمر إلاّ بالصبح، (أليس الصبح بقريب) هود : 81، فلما كان الصبح أدخل جبريل، وقيل ميكائيل، جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل المساء صياح ديكتهم ونباح كلابهم، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، فأهلكت من لم يكن بالقرى، وسمعت امرأة لوط الهدّة فقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، ونجّى الله لوطاً وأهله إلاّ امرأته، وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف، وكان ابراهيم يتشرّف عليها ويقول: سدوم يوماً هالك، ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة، وسدوم هي القرية العظمى.
ّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ
وفاة سارة
لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيّت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان، وقيل: عاشت هاجر بعد سارة مدّة، والصحيح أن هاجر توفيّت قبل سارة، كما ذكرنا في مسير إبراهيم الى مكّة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فلمّا ماتت سارة تزوج بعدها قطوراً ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستّة نفر: نفشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح، وكان جميع أولاد ابراهيم مع اسماعيل واسحاق ثمانية نفر، وكان اسماعيل بكره؛ وقيل في عدد أولاده غير ذلك، فالبربر من ولد نفشان، وأهل مدين قوم شعيب من ولد مديان.
وقيل: تزوج بعد قطورا امرأة اخرى اسمها حجون ابنة اهير.
وفاة إبراهيم عليه السلام
وقد مات إبراهيم وهو ابن مائتي سنة. وقيل مائة وخمس وسبعين سنة ، أما عن عدد ما أنزل عليه ، فقد روى أبو ذرّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: وأنزل الله على ابراهيم عشر صحائف ، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم ، قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وكان فيها أمثال، منها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوده لمعاده ومرَّمة لمعاشه ولذّة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بأمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه.
وإبراهيم عليه السلام هو أوّل من اختتن، وأوّل من أضاف الضيف، وأوّل من اتخذ السراويل، إلى غير ذلك من الأقاويل.
خبر ولد اسماعيل عليه السلام
قد ذكرنا فيما مضى سبب إسكان إسماعيل الحرم وتزوّجه امرأة من جرهم وفراقه إيّاها بأمر إبراهيم ثمّ تزوّج أخرى، وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي، وهي التي قال لها: قولي لزوجك: قد رضيت لك عتبة بابك، فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلاً: نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآذر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعاً وثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدار ابني اسماعيل نشر الله العرب، وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن، وقد ينطق أولاد اسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت، ولما حضرت اسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، ودفن عند قبر أمّه هاجر بالحجر.
قيل: ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيصاً ويعقوب توأمين، وإن عيصاً كان أكبرهما، وكان عمر إسحاق لما ولد له ستين سنة، ثمّ نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه اسماعيل فولدت له الروم بن عيص، وكلّ بني الأصفر من ولد، وزعم بعض الناس أنّ اشبان من ولده.
ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو اسرائيل - ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً.
قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع تأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما الى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي ، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها وقرّبها الى أبيك ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك.
وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم.
وهرب يعقوب خوفاً من أخيه الى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) النساء : 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع الى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم.
وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام.
مقتبس: من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير