بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
التفسير الميسر للقرآن الكريم
{ تفسير سورة الرحمن }
{ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) }
الرحمن علَّم الإنسان القرآن؛ بتيسير تلاوته وحفظه وفهم معانيه.
{ خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) }
خلق الإنسان، علَّمه البيان عمَّا في نفسه تمييزًا له عن غيره.
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) }
الشمس والقمر يجريان متعاقبَين بحساب متقن، لا يختلف ولا يضطرب.
{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) }
والنجم الذي في السماء وأشجار الأرض، تعرف ربها وتسجد له، وتنقاد لما سخرَّها له مِن مصالح عباده ومنافعهم.
{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) }
والسماء رفعها فوق الأرض، ووضع في الأرض العدل الذي أمر به وشرعه لعباده.
{ أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) }
لئلا تعتدوا وتخونوا مَن وَزَنتم له، وأقيموا الوزن بالعدل، ولا تُنْقِصوا الميزان إذا وَزَنتم للناس.
{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) }
والأرض وضعها ومهَّدها؛ ليستقر عليها الخلق. فيها فاكهة النخل ذات الأوعية التي يكون منها الثمر، وفيها الحب ذو القشر؛ رزقًا لكم ولأنعامكم، وفيها كل نبت طيب الرائحة.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) }
فبأي نِعَم ربكما الدينية والدنيوية- يا معشر الجن والإنس- تكذِّبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، فكلما مر بهذه الآية، قالوا: "ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب، فلك الحمد"، وهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه، أن يُقرَّ بها، ويشكر الله ويحمده عليها.
{ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) }
خلق أبا الإنسان، وهو آدم من طين يابس كالفَخَّار، وخلق إبليس، وهو من الجن من لهب النار المختلط بعضه ببعض.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }
فبأي نِعَم ربكما- يا معشر الإنس والجن- تكذِّبان؟
{ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) }
هو سبحانه وتعالى ربُّ مشرقَي الشمس في الشتاء والصيف، ورب مغربَيها فيهما، فالجميع تحت تدبيره وربوبيته.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) }
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) }
خلط الله ماء البحرين - العذب والملح- يلتقيان. بينهما حاجز، فلا يطغى أحدهما على الآخر، ويذهب بخصائصه، بل يبقى العذب عذبًا، والملح ملحًا مع تلاقيهما.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) }
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) }
يخرج من البحرين بقدرة الله اللؤلؤ والمَرْجان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) }
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (24) }
وله سبحانه وتعالى السفن الضخمة التي تجري في البحر بمنافع الناس، رافعة قلاعها وأشرعتها كالجبال.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) }
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) }
كل مَن على وجه الأرض مِن الخلق هالك، ويبقى وجه ربك ذو العظمة والكبرياء والفضل والجود. وفي الآية إثبات صفة الوجه لله تعالى بما يليق به سبحانه، دون تشبيه ولا تكييف.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) }
يسأله مَن في السموات والأرض حاجاتهم، فلا غنى لأحد منهم عنه سبحانه. كل يوم هو في شأن : يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويعطي ويَمْنع.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) }
سنفرُغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكما التي عملتموهما في الدنيا، أيها الثقلان- الإنس والجن-، فنعاقب أهل المعاصي، ونُثيب أهل الطاعة.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) }
فبأيِّ نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) }
يا معشر الجن والإنس، إن قَدَرْتم على النفاذ من أمر الله وحكمه هاربين من أطراف السموات والأرض فافعلوا، ولستم قادرين على ذلك إلا بقوة وحجة، وأمر من الله تعالى(وأنَّى لكم ذلك وأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا؟). فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) }
يُرْسَل عليكم لهب من نار، ونحاس مذاب يُصَبُّ على رؤوسكم، فلا ينصر بعضكم بعضًا يا معشر الجن والإنس. فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) }
فإذا انشقت السماء وتفطرت يوم القيامة، فكانت حمراء كلون الورد، وكالزيت المغلي والرصاص المذاب؛ من شدة الأمر وهول يوم القيامة.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) }
فبأي نِعَم ربكما- أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) }
ففي ذلك اليوم لا تسأل الملائكة المجرمين من الإنس والجن عن ذنوبهم.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ (41) }
تَعرِف الملائكة المجرمين بعلاماتهم، فتأخذهم بمقدمة رؤوسهم وبأقدامهم، فترميهم في النار.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) }
يقال لهؤلاء المجرمين -توبيخًا وتحقيرًا لهم-: هذه جهنم التي يكذِّب بها المجرمون في الدنيا: تارة يُعذَّبون في الجحيم، وتارة يُسقون من الحميم، وهو شراب بلغ منتهى الحرارة، يقطِّع الأمعاء والأحشاء.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) }
ولمن اتقى الله من عباده من الإنس والجن، فخاف مقامه بين يديه، فأطاعه، وترك معاصيه، جنتان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) }
الجنتان ذواتا أغصان نضرة من الفواكه والثمار.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) }
في هاتين الجنتين عينان من الماء تجريان خلالهما.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) }
في هاتين الجنتين من كل نوع من الفواكه صنفان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) }
وللذين خافوا مقام ربهم جنتان يتنعمون فيهما، متكئين على فرش مبطَّنة من غليظ الديباج، وثمر الجنتين قريب إليهم.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) }
في هذه الفرش زوجات قاصرات أبصارهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم متعلقات بهم، لم يطأهن إنس قبلهم ولا جان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) }
كأن هؤلاء الزوجاتِ من الحور الياقوتُ والمَرْجانُ في صفائهن وجمالهن.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) }
هل جزاء مَن أحسن بعمله في الدنيا إلا الإحسان إليه بالجنة في الآخرة؟ فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) }
ومن دون الجنتين السابقتين جنتان أخريان. فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) }
هاتان الجنتان خضراوان، قد اشتدَّت خضرتهما حتى مالت إلى السواد. فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) }
فيهما عينان فوَّارتان بالماء لا تنقطعان. فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) }
في هاتين الجنتين أنواع الفواكه ونخل ورمان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) }
في هذه الجنان الأربع زوجات طيبات الأخلاق حسان الوجوه.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) }
حور مستورات مصونات في الخيام.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) }
لم يطأ هؤلاء الحور إنس قبل أزواجهن ولا جان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) }
متكئين على وسائد ذوات أغطية خضر وفرش حسان.
{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) }
فبأي نِعَم ربكما -أيها الثقلان- تكذِّبان؟
{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (78) }
تكاثرت بركة اسم ربك وكثر خيره، ذي الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام لأوليائه.
● [ تم بحمد الله تفسير سورة الرحمن ] ●
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
التفسير الميسر للقرآن الكريم
{ تفسير سورة الواقعة }
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) }
إذا قامت القيامة، ليس لقيامها أحد يكذِّب به، هي خافضة لأعداء الله في النار، رافعة لأوليائه في الجنة.
{ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) }
إذا حُرِّكت الأرض تحريكًا شديدًا، وفُتِّتت الجبال تفتيتًا دقيقًا، فصارت غبارًا متطايرًا في الجو قد ذَرَتْه الريح.
{ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) }
وكنتم- أيها الخلق- أصنافًا ثلاثة:
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) }
فأصحاب اليمين، أهل المنزلة العالية، ما أعظم مكانتهم ! وأصحاب الشمال، أهل المنزلة الدنيئة، ما أسوأ حالهم !
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) }
والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة، أولئك هم المقربون عند الله، يُدْخلهم ربهم في جنات النعيم.
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) }
يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة، وغيرهم من الأمم الأخرى، وقليل من آخر هذه الأمة على سرر منسوجة بالذهب، متكئين عليها يقابل بعضهم بعضًا.
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ (19) }
يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون، بأقداح وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة، لا تُصَدَّعُ منها رؤوسهم، ولا تذهب بعقولهم.
{ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) }
ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه، وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة، كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26) }
لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه، إلا قولا سالمًا من هذه العيوب، وتسليم بعضهم على بعض.
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) }
وأصحاب اليمين، ما أعظم مكانتهم وجزاءهم!! هم في سِدْر لا شوك فيه، وموز متراكب بعضه على بعض، وظلٍّ دائم لا يزول، وماء جار لا ينقطع، وفاكهة كثيرة لا تنفَد ولا تنقطع عنهم، ولا يمنعهم منها مانع، وفرشٍ مرفوعة على السرر.
{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) }
إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأة كاملة لا تقبل الفناء، فجعلناهن أبكارًا، متحببات إلى أزواجهن، في سنٍّ واحدة، خلقناهن لأصحاب اليمين.
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ (40) }
وهم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين.
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) }
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم ! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم، وماء حار يغلي، وظلٍّ من دخان شديد السواد، لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر.
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) }
إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام، معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) }
وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته، ولا ينوون التوبة من ذلك.
{ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) }
وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.
{ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48) }
أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا، قد تفرَّق في الأرض؟
{ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) }
قل لهم -أيها الرسول-: إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد، وهو يوم القيامة.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) }
ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده، لآكلون من شجر من زقوم، وهو من أقبح الشجر، فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع، فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ، فشاربون منه بكثرة، كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.
{ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) }
هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أُعدَّ لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكُّم بهم.
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) }
نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئًا، فهلا تصدِّقون بالبعث.
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) }
أفرأيتم النُّطَف التي تقذفونها في أرحام نسائكم، هل أنتم تخلقون ذلك بشرًا أم نحن الخالقون؟
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) }
نحن قَدَّرنا بينكم الموت، وما نحن بعاجزين عن أن نغيِّر خلقكم يوم القيامة، وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) }
ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئًا، فهلا تذكَّرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى.
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) }
أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه هل أنتم تُنبتونه في الأرض؟ بل نحن نُقِرُّ قراره وننبته في الأرض. لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيمًا، لا يُنتفع به في مطعم، فأصبحتم تتعجبون مما نزل بزرعكم، وتقولون: إنا لخاسرون معذَّبون، بل نحن محرومون من الرزق.
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) }
أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به، أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض، أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟
{ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) }
لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة، لا يُنتفع به في شرب ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) }
أفرأيتم النار التي توقدون، أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار، أم نحن الموجدون لها؟
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) }
نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }
فنزِّه -أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) }
أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء، وإنه لَقَسم لو تعلمون قَدَره عظيم.
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) }
إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع، كثير الخير، غزير العلم، في كتاب مَصُون مستور عن أعين الخلق، وهو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. لا يَمَسُّ القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب، ولا يَمَسُّه أيضًا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.
{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) }
وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين، فهو الحق الذي لا مرية فيه.
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) }
أفبهذا القرآن أنتم -أيها المشركون- مكذِّبون؟
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) }
وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذِّبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.
{ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) }
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع، وأنتم حضور تنظرون إليه، أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك، ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا، ولكنكم لا ترونهم.
{ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) }
وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم أن تعيدوا الروح إلى الجسد، إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها.
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) }
فأما إن كان الميت من السابقين المقربين، فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه، وله جنة النعيم في الآخرة.
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) }
وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين، فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) }
وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث، الضالين عن الهدى، فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة، والنار يحرق بها، ويقاسي عذابها الشديد.
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }
إن هذا الذي قصصناه عليك -أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، فسبِّح باسم ربك العظيم، ونزِّهه عما يقول الظالمون والجاحدون، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
● [ تم بحمد الله تفسير سورة الواقعة ] ●
التفسير الميسر للقرآن الكريم
إعداد مجموعة من العلماء
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
منتديات الرسالة الخاتمة ـ البوابة
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرآن
التفسير الميسر للقرآن الكريم
{ تفسير سورة الواقعة }
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) }
إذا قامت القيامة، ليس لقيامها أحد يكذِّب به، هي خافضة لأعداء الله في النار، رافعة لأوليائه في الجنة.
{ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) }
إذا حُرِّكت الأرض تحريكًا شديدًا، وفُتِّتت الجبال تفتيتًا دقيقًا، فصارت غبارًا متطايرًا في الجو قد ذَرَتْه الريح.
{ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً (7) }
وكنتم- أيها الخلق- أصنافًا ثلاثة:
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) }
فأصحاب اليمين، أهل المنزلة العالية، ما أعظم مكانتهم ! وأصحاب الشمال، أهل المنزلة الدنيئة، ما أسوأ حالهم !
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) }
والسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الدرجات في الآخرة، أولئك هم المقربون عند الله، يُدْخلهم ربهم في جنات النعيم.
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) }
يدخلها جماعة كثيرة من صدر هذه الأمة، وغيرهم من الأمم الأخرى، وقليل من آخر هذه الأمة على سرر منسوجة بالذهب، متكئين عليها يقابل بعضهم بعضًا.
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ (19) }
يطوف عليهم لخدمتهم غلمان لا يهرمون ولا يموتون، بأقداح وأباريق وكأس من عين خمر جارية في الجنة، لا تُصَدَّعُ منها رؤوسهم، ولا تذهب بعقولهم.
{ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) }
ويطوف عليهم الغلمان بما يتخيرون من الفواكه، وبلحم طير ممَّا ترغب فيه نفوسهم. ولهم نساء ذوات عيون واسعة، كأمثال اللؤلؤ المصون في أصدافه صفاءً وجمالا؛ جزاء لهم بما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا (26) }
لا يسمعون في الجنة باطلا ولا ما يتأثمون بسماعه، إلا قولا سالمًا من هذه العيوب، وتسليم بعضهم على بعض.
{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) }
وأصحاب اليمين، ما أعظم مكانتهم وجزاءهم!! هم في سِدْر لا شوك فيه، وموز متراكب بعضه على بعض، وظلٍّ دائم لا يزول، وماء جار لا ينقطع، وفاكهة كثيرة لا تنفَد ولا تنقطع عنهم، ولا يمنعهم منها مانع، وفرشٍ مرفوعة على السرر.
{ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) }
إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأة كاملة لا تقبل الفناء، فجعلناهن أبكارًا، متحببات إلى أزواجهن، في سنٍّ واحدة، خلقناهن لأصحاب اليمين.
{ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ (40) }
وهم جماعة كثيرة من الأولين، وجماعة كثيرة من الآخرين.
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) }
وأصحاب الشمال ما أسوأ حالهم جزاءهم ! في ريح حارة من حَرِّ نار جهنم تأخذ بأنفاسهم، وماء حار يغلي، وظلٍّ من دخان شديد السواد، لا بارد المنزل، ولا كريم المنظر.
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) }
إنهم كانوا في الدنيا متنعِّمين بالحرام، معرِضين عما جاءتهم به الرسل.
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) }
وكانوا يقيمون على الكفر بالله والإشراك به ومعصيته، ولا ينوون التوبة من ذلك.
{ وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) }
وكانوا يقولون إنكارًا للبعث: أنُبعث إذا متنا وصرنا ترابًا وعظامًا بالية؟ وهذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له.
{ أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48) }
أنُبعث نحن وآبناؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا، قد تفرَّق في الأرض؟
{ قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) }
قل لهم -أيها الرسول-: إن الأولين والآخرين من بني آدم سيُجمَعون في يوم مؤقت بوقت محدد، وهو يوم القيامة.
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) }
ثم إنكم أيها الضالون عن طريق الهدى المكذبون بوعيد الله ووعده، لآكلون من شجر من زقوم، وهو من أقبح الشجر، فمالئون منها بطونكم ; لشدة الجوع، فشاربون عليه ماء متناهيًا في الحرارة لا يَرْوي ظمأ، فشاربون منه بكثرة، كشرب الإبل العطاش التي لا تَرْوى لداء يصيبها.
{ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) }
هذا الذي يلقونه من العذاب هو ما أُعدَّ لهم من الزاد يوم القيامة. وفي هذا توبيخ لهم وتهكُّم بهم.
{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) }
نحن خلقناكم- أيها الناس- ولم تكونوا شيئًا، فهلا تصدِّقون بالبعث.
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) }
أفرأيتم النُّطَف التي تقذفونها في أرحام نسائكم، هل أنتم تخلقون ذلك بشرًا أم نحن الخالقون؟
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) }
نحن قَدَّرنا بينكم الموت، وما نحن بعاجزين عن أن نغيِّر خلقكم يوم القيامة، وننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات والأحوال.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) }
ولقد علمتم أن الله أنشأكم النشأة الأولى ولم تكونوا شيئًا، فهلا تذكَّرون قدرة الله على إنشائكم مرة أخرى.
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) }
أفرأيتم الحرث الذي تحرثونه هل أنتم تُنبتونه في الأرض؟ بل نحن نُقِرُّ قراره وننبته في الأرض. لو نشاء لجعلنا ذلك الزرع هشيمًا، لا يُنتفع به في مطعم، فأصبحتم تتعجبون مما نزل بزرعكم، وتقولون: إنا لخاسرون معذَّبون، بل نحن محرومون من الرزق.
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) }
أفرأيتم الماء الذي تشربونه لتحْيَوا به، أأنتم أنزلتموه من السحاب إلى قرار الأرض، أم نحن الذين أنزلناه رحمة بكم؟
{ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) }
لو نشاء جعلنا هذا الماء شديد الملوحة، لا يُنتفع به في شرب ولا زرع، فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم.
{ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) }
أفرأيتم النار التي توقدون، أأنتم أوجدتم شجرتها التي تقدح منها النار، أم نحن الموجدون لها؟
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) }
نحن جعلنا ناركم التي توقدون تذكيرًا لكم بنار جهنم ومنفعة للمسافرين.
{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) }
فنزِّه -أيها النبي- ربك العظيم كامل الأسماء والصفات، كثير الإحسان والخيرات.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) }
أقسم الله تعالى بمساقط النجوم في مغاربها في السماء، وإنه لَقَسم لو تعلمون قَدَره عظيم.
{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (79) }
إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لقرآن عظيم المنافع، كثير الخير، غزير العلم، في كتاب مَصُون مستور عن أعين الخلق، وهو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. لا يَمَسُّ القرآن إلا الملائكة الكرام الذين طهرهم الله من الآفات والذنوب، ولا يَمَسُّه أيضًا إلا المتطهرون من الشرك والجنابة والحدث.
{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) }
وهذا القرآن الكريم منزل من رب العالمين، فهو الحق الذي لا مرية فيه.
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) }
أفبهذا القرآن أنتم -أيها المشركون- مكذِّبون؟
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) }
وتجعلون شكركم لنعم الله عليكم أنكم تكذِّبون بها وتكفرون؟ وفي هذا إنكار على من يتهاون بأمر القرآن ولا يبالي بدعوته.
{ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) }
فهل تستطيعون إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع، وأنتم حضور تنظرون إليه، أن تمسكوا روحه في جسده؟ لن تستطيعوا ذلك، ونحن أقرب إليه منكم بملائكتنا، ولكنكم لا ترونهم.
{ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) }
وهل تستطيعون إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم أن تعيدوا الروح إلى الجسد، إن كنتم صادقين؟ لن ترجعوها.
{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) }
فأما إن كان الميت من السابقين المقربين، فله عند موته الرحمة الواسعة والفرح وما تطيب به نفسه، وله جنة النعيم في الآخرة.
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) }
وأما إن كان الميت من أصحاب اليمين، فيقال له: سلامة لك وأمن; لكونك من أصحاب اليمين.
{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) }
وأما إن كان الميت من المكذبين بالبعث، الضالين عن الهدى، فله ضيافة من شراب جهنم المغلي المتناهي الحرارة، والنار يحرق بها، ويقاسي عذابها الشديد.
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }
إن هذا الذي قصصناه عليك -أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه، فسبِّح باسم ربك العظيم، ونزِّهه عما يقول الظالمون والجاحدون، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
● [ تم بحمد الله تفسير سورة الواقعة ] ●