من طرف كراكيب السبت 24 فبراير 2018 - 2:57
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها وتراجم اعيانها
ووفياتهم ابتداء من ظهور امر الفقارية
{ احداث سنة اربع وثمانين ومائة والف }
فيها ورد على علي بك الشريف عبد الله من اشراف مكة وكان من أمره انه وقع بينه وبين ابن عمه الشريف احمد اخي الشريف مساعد منازعة في امارة مكة بعد وفاة الشريف مساعد فتغلب عليه الشريف احمد واستقل بالامارة وخرج الشريف عبد الله هاربا وذهب الى ملك الروم واستنجد به فكتب له مكاتبات لعلي بك بالمعونة والوصية والقيام معه وحضر الى مصر بتلك المكاتبات في السنة الماضية وكان علي بك مشتغلا بتمهيد القطر المصري ووافق ذلك غرضه الباطني وهو طمعه في الاستيلاء على الممالك فانزله في مكان وأكرمه ورتب له كفايته واقام بمصر حتى تمم اغراضه بالقطر وخلص له قبلي وبحري وقتل من قتله وأخرج من أخرجه فالتفت عند ذلك الى مقاصده البعيده وامر بتجهيز الذخائر والاقامات وعمل البقسماط الكثير حتى ملأوا منه المخازن ببولاق ومصر القديمة والقصور البرانية وبيوت الامراء المنافي الخالية ثم عبوا ذلك وارسل مع باقي الاحتياجات واللوازم من الدقيق والسمن والزيت والعسل والسكر والاجبان في البر والبحر واستكتب اصناف العساكر اتراكا ومغاربة وشواما ومتاولة ودروزا وحضارمة ويمانية وسودانا وحبوشا ودلاة وغير ذلك وارسل منهم طوائف في المقدمات والمشاة أنزلوهم من القلزم وصحبتهم الجبخانات والمدافع وآلات الحرب وخرجت التجريدة في شهر صفر بعد دخول الحجاج في تجمل زائد ومهيأ عظيم وساري عسكرها محمد بك ابو الذهب وصحبته حسن بك ومصطفى بك وخلافهم
وفي ثاني عشرين ربيع الاول وردت الاخبار من الاقطار الحجازية بوقوع حرابة عظيمة بين المصريين وعرب الينبع وخلافهم من قبائل العربان والاشراف ووقعت الهزيمة على المذكورين وقتل وزير الينبع المتولي من طرف شريف مكة وقتل معه خلائق كثيرة
وفي تاسع شهر ربيع الاخر وصل نجاب الى مصر من الديار الحجازية وأخبر بدخول محمد بك ومن معه الى مكة وانهزام الشريف احمد وخروجه هاربا ونهب المصريين دار الشريف ومن يلوذ به واخذوا منها أشياء كثيرة من امتعة وجواهر واموال لها قدر وجلس الشريف عبد الله في امارة مكة ونزل حسن بك الى بندر جدة وتولى امارتها عوضا عن الباشا الذي تولاها من طرف ملك الروم ولذلك عرف بالجداوي واقام محمد بك اياما بمكة ثم عزل على المسير والرجوع الى مصر ووصلت الاخبار والبشائر بذلك وأرسلت اليه الملاقاة بالعقبة وخلافها فلما ورد الخبر بوصوله الى العقبة وخرجت الامراء الى بركة الحاج والدار الحمراء لانتظار قدومه فوصل في اوائل شهر رجب ودخل الى مصر في ثامنه في موكب عظيم وأتت اليه العلماء والاعيان للسلام وقصدته الشعراء بالقصائد والتهاني
وفي منصف رجب المذكور عزل علي بك عبد الرحمن اغا مستحفظان وقلد عوضه سليم اغا الوالي وقلد عوض الوالي موسى أغا من اتباعه وأمر عبد الرحمن اغا بالسفر الى ناحية غزة وهي اول حركاته الى جهة الشام وأمره بقتل سليط شيخ عربان غزة فلم يتحيل عليه حتى قتله هو واخوته وأولاده وكان سليط هذا من العصاة العتاة له سير وأخبار
وفيه زاد اهتمام علي بك بالتحرك على جهة الشام واستكثر من جمع طوائف العساكر وعمل البقسماط والبارود والذخائر والمؤن وآلات الحرب وامر بسفر تجريدة وأميرها اسمعيل بك وصحبته علي بك الطنطاوي وعلي بك الحبشي فبرزوا الى جهة العادلية وخرجوا بما معهم من طوائف العسكر والمماليك والاحمال والخيام والجبخانات والعربات والضوبة وقرب الماء الكثيرة على الجمال والكرارات والمطابخ والطبول والرمور والنقاقير وغير ذلك فلما تكامل خروجهم اقاموا بالادلية اياما حتى قضوا لوازمهم وارتحلوا وسافروا الى جهة الشام
وفي حادي عشرينة برزت تجريدة اخرى وعليها سليمان بك وعمر كاشف وحملة كثيرة من العساكر فنزلوا من طريق البحر على دمياط
وفي عاشر شهر القعدة وردت اخبار من جهة الشام واشيع وقوع حرابات بينهم وبين حكام الشام وأولاد العظم
وفي منصفه خرجت تجريدة اخرى وسافرت على طريق البر على النسق
وفي سابع عشره طلب علي بك حسن اغا تابع الوكيل والروزنامجي وباش قلفة واسمعيل اغا الزعيم وآخرون وصادروهم في نحو اربعمائة كيس بعد ما عوفهم اياما
وفي اواخره عمل علي بك دراهم على القرى وقرر على كل بلد مائة ريال وثلاثمائة ريال حق طريق فضجت الناس من ذلك وطلب من النصارى القبط مائة الف ريال ومن اليهود اربعين الفا وقبضت جميعها في اسرع وقت
من مات في هذه السنة
مات الشيخ العمدة الفاضل الكامل الاديب الماهر الناظم الناثر الشيخ عبد الله بن عبد الله بن سلامة الادكاوي المصري الشافعي الشهير بالمؤذن ولد بادكو وهي قرية قرب رشيد سنة 1104 كما اخبر من لفظه وبها حفظ القران وورد الى مصر فحضر دروس علماء عصره وادرك الطبقة الاولى واشتهر بفن الادب وانضوى الى فخر الادباء في عصره السيد على افندي برهان زاده نقيب الساده الاشراف فأنزله عنده في اكرام واحتفل به وكفاه المؤنة من كل وجه وصار يعاطيه كؤوس الآداب ويصافيه بمطارحة أشهى من ارتشاف الرضاب وحج بصحبته بيت الله الحرام وزار قبر نبيه عليه الصلاة و السلام وذلك سنة 1147 وعاد الى مصر واقبل على تحصيل الفنون الادبية فنظم ونثر ومهر وبهر ورحل الى رشيد وفوة والاسكندرية مرارا واجتمع على اعيان كل منها وطارحهم ومدحهم وفي سنة تسع وثمانين من نظمه بيتين بخطه في جدار جامع بن نصر الله بقوة تاريخ كتابتهما سنة خمس واربعين وبعد وفاة السيد النقيب تزوج وصار صاحب عيال وتنقلت به الاحوال وصار يتأسف على ما سلف من عيشه الماضي في ظل ذلك السيد قدس سره فلجأ الى أستاذ عصره الشيخ الشبراوي ولازمه واعتنى به وصار لا ينفك عنه ومدحه بغرر قصائده وكان يعترف بفضله ويحترمه ولما توفي انتقل الى شيخ وقته الشمس الحفني فلازمه سفرا وحضرا ومدحه بغرر قصائده فحصلت له العناية والاعانة وواساه بما به حصلت الكفاية والصيانة وله تصانيف كلها غرر ونظم نظامه عقود الدرر فمنها الدرة الفريدة والمنح الربانية في تفسير آيات الحكم العرفانية والقصيدة للزدية في مدح خير البرية ألفها لعلي باشا الجكيم ومختصر شرح بانت سعاد للسيوطي والفوائح الجنانية في المدائح الرضوانية جمع فيها اشعار المادحين للمذكور ثم أورد خاتمتها ماله من الامداح فيه نظما ونثرا وهداية المتهومين في كذب المنجمين والنزهة الزهية بتضمين الرحبية نقلها من الفرائض الى الغزل وعقود الدرر في أوزان الابحر الستة عشر التزم في كل بيت منها الاقتباسات الشريفة والدر الثمين في محاسن التضمين وبضاعة الاريب في شعر الغريب وذيلها بذيل يحكي دمية القصر وله المقامة التصحيفية والمقامة القمذية في المجون وله تخميس بانت سعاد صدرها بخطبة بديعة وجعلها تأليفا مستقلا وديوانه المشهور على حروف التهجي وغير ذلك وقد كتب بخطه الفائق كثيرا من الكتب الكبار ودواوين الاشعار وكل عدة اشياء من غرائب الاسفار رأيت من ذلك كثيرا وقاعدة خطه بين اهل مصر مشهورة لا تخفى ورأيت مما كتب كثيرا فمن الدواوين ديوان حسان رضي الله عنه رأيته بخطه وقد أبدع في تنميقه وكتب على حواشيه شرح الالفاظ الغريبة ونزهة الالباب الجامع لفنون الآداب وله مطارحات لطيفة مع شعراء عصره والواردين على مصر ولم يزل على حاله حتى صار أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه ولما توفي الاستاذ الحفني اضمحل حاله ولعب بلباله واعترته الامراض ونصب روض عزه وغاض وتعلل مدة ايام حتى وافاه الحمام في نهار الخميس خامس جمادى الاولى من السنة واخرج بصباحه وصلى عليه بالازهر ودفن بالمجاورين فسرب تربة الشيخ الحفني وفي سنة ثلاث وسبعين ومائة والف لما اختلفت خدام المشهد النفيسي وكبيرهم اذ ذاك الشيخ عبد اللطيف في امر العنز وذلك انهم أظهروا عنزا صغيرة مدرة زعموا ان جماعة من الاسرى ببلاد الافرنج توسلوا بالسيدة نفيسة واحضروا تلك العنز وعزموا على ذبحها في ليلة يجتمعون فيها يذكرون ويدعون ويتوسلون في خلاصهم ونجاتهم من الاسر فاطلع عليم الكافر فزجوهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز وبات تلك الليلة فرأى رؤيا هالته فلما اصبح اعتقهم واطلقهم واعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين ونزلوا في مركب وحضروا الى مصر وصحبتهم تلك العنز وذهبوا الى المشهد النفيسي بتلك العنز وذكروا في تلك العنز غير ذلك من اختلاقهم وخورهم كقولهم انهم يوم كذا اصبحوا فوجدوها عند المقام او فوق المنارة وسمعوها تتكلم أو ان السيدة تكلمت واوصت عليها وسمع الشيخ المذكور كلامها من داخل القبر وابرزها للناس واجلسها بجانبه ويقول للناس ما يقوله من الكذب والخرافات التي يستجلب بها الدنيا وتسامع الناس بذلك فأقبل الرجال والنساء من كل فج لزيارة تلك العنزة وأتوا اليها بالندور والهدايا وعرفهم انها لا تأكل الا قلب اللوز والفستق وتشرب ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك فأتوه باصناف ذلك بالقناطير وعمل النساء للعنز القلائد الذهب والاطواق والحلي ونحو ذلك وافتتنوا بها وشاع خبرها في بيوت الامراء وأكابر النساء وارسلن على قدر مقامهن من النذور والهدايا وذهبن لزيارتها ومشاهدتها وازدحمن عليها فارسل عبد الرحمن كتخدا الى الشيخ عبد اللطيف المذكور والتمس منه حضوره اليه بتلك العنز ليتبرك بها هو وحريمه فركب المذكور بغلته وتلك العنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجسم الغفير من الناس ودخل بها بيت الامير المذكور على تلك الصورة وصعد بها الى مجلسه وعنده الكثير من الامراء والاعيان فزارها وتملس بها ثم أمر بادخالها الى الحريم ليتبركن بها وقد كان أوصى الكلارجي قبل حضوره بذبحها وطبخها فلما أخذوها ليذهبوا بها الى جهة الحريم ادخلوها الى المطبخ وذبحوها وطبخها قيمة وحضر الغداء وتلك العنز في ضمنه فوضعوها بين ايديهم واكلوا منها والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها والكتخدا يقول كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا للرميس السيمن فيأكل منها ويقول والله انه طيب ومستو ونفيس وهو لا يعلم انه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون فلما فرغوا من الاكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ العنز فعرفه الامير انها هي التي كانت بين يديه في الصحن وأكلها فبهت فبكته الامير ووبخه وامره بالانصراف وان يوضع جلد العنز على عمامته ويذهب به كما جاء بجمعيته وبين يديه الطبول والاشاير ووكل به من اوصله محله على تلك الصورة ولم يزل المترجم حتى تلعل بالامراض والاسقام واضمحل منه الجسم والقوى بالآلام حتى وافاه الحمام في يوم الخميس خامس جمادى الاولى من السنة رحمه الله وابنه العلامة السيد احمد المعروف بكتيكت مفتي الشافعية بثغر سكندرية والسيد هلال الكتبي توفيا بعده بسنين والشيخ صالح الصحاف موجود مع الاحياء أعانه الله على وقته
ومات الامام الفصيح البارع الفقيه الشيخ جعفر بن حسن بن عبد الكريم ابن محمد بن رسول الحسيني البرزنجي المدني مفتي الشافعية بها ولد بالمدينة وأخذ عن والده والشيخ محمد حيوة السندي وأجازه السيد مصطفى البكري وكان يقرأ دروس الفقه داخل باب السلام وكان عجيبا في حسن الالقاء والتقرير ومعرفة فروع المذهب تولى الافتاء والخطابة مدة تزيد على عشرين سنة كان قوالا بالحق امارا بالمعروف واجتمع به الشيخ سليمان بن يحيى شيخ المشايخ وذكره في رحلته وأثنى عليه وله مؤلفات منها البر العاجل باجابة الشيخ محمد غافل والقبض اللطيف باجابة نائب الشرع الشريف وفتح الرحمن على أجوبة السيد رمضان توفي في شهور هذه السنة قيل مسموما والله اعلم
ومات الولي العارف احد المجاذيب الصادقين الاستاذ الشيخ احمد ابن حسن النشرتي الشهير بالعريان كان من ارباب الاحوال والكرامات ولد في اول القرن وكان اول امره الصحو ثم غلب عليه السكر فأدركه المحو وكانت له في بدايته امور غريبة وكان كل من دخل عليه زائرا يضربه بالجريد وكان ملازما للحج في كل سنة ويذهب الى موالد سيدي احمد البدوي المعتادة وكان اميا لا يقرأ ولا يكتب واذا قرأ قارىء بين يديه وغلط يقول له قف فانك غلطت وكان رجلا جلاليا يلبس الثياب الخشنة وهي جبة صوف وعمامة صوف حمراء يعتم بها على لبدة من صوف ويركب بغلة سريعة العدو وملبسه دائما على هذه الصفة شتاء وصيفا وكان شهير الذكر يعتقده الخاصة والعامة وتأتي الامراء والاعيان لزيارته والتبرك به ويأخذ منهم دراهم كثيرة ينفقها على الفقراء المجتمعين عليه وانشأ مسجده تجاه الزاهد جوار داره وبنى بجواره صهريجا وعمل لنفسه مدفنا وكذلك لاهله وأقاربه واتباعه واتحد به شيخنا السيد أحمد العروسي واختص به اختصاصا زائدا فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا وزوجه احدى بناته وهي ام أولاده وبشره بمشيخة الجامع الازهر والرئاسة فعادت عليه بركته وتحققت بشارته وكان مشهورا بالاستشراف على الخواطر توفي رحمه الله في منتصف ربيع الاول وصلى عليه بالازهر ودفن بقبره الذي اعده لنفسه في مسجده نفعنا الله به وبعباده الصالحين
ومات الفقيه الصالح الشيخ علي بن احمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي روى عن ابيه عن البابلي توفي في غاية ربيع الثاني من السنة
ومات الشيخ المبجل الصالح المفضل الدرويش الشيخ احمد المولوي شيخ المولوية بتكية المظفر وكان انسانا حسنا لا باس به مقبلا على شأنه منجمعا عن خلطة كثير من الناس الا بحسب الدواعي توفي في سابع عشرين ربيع الآخر من السنة ولم يخلف بعده مثله
ومات المقدام الخير الكريم صاحب الهمة العالية والمروءة التامة شمس الدين حمودة شيخ ناحية برمة بالمنوفية اخذ عن الشيخ الحفني وكان كثير الاعتقاد فيه والاكرام له ولاتباعه وله حب في اهل الخير واعتقاد في اهل الصلاح ويكرم الوافدين والضيفان وكان جميل الصورة طويلا مهيبا حسن الملبس والمركب
توفي يوم الخميس حادي عشر رجب من السنة وخلف اولادا منهم محمد الحفني الذي سماه على اسم الشيخ لمحبته فيه واحمد وشمس الدين
ومات بقية السلف ونتيجة الخلف الشيخ احمد سبط الاستاذ الشيخ عبد الوهاب الشعراني وشيخ السجادة كان انسانا حسنا وقورا مالكا منهج الاحتشام والكمال منجما عن خلطة الناس الا بقدر الحاجة
توفي يوم السبت ثامن صفر من السنة وخلف ولده سيدي عبد الرحمن مراهقا تولى بعده على السجادة مع مشاركة قريبة الشيخ احمد الذي تزوج بوالدته
ومات الامام العلامة الفقيه الصالح الناسك صائم الدهر الشيخ محمد الشوبري الحنفي تفقه على الشيخ الاسقاطي والشيخ سعودي وبعد وفاة المذكورين لازم الشيخ الوالد وتلقى عنه كثيرا وكان انسانا حسنا وجيها لا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلا على شأنه صائم الدهر وملازما لداره بعد حضور درسه وكان بيته بقنطرة الامير حسين مطلا على الخليج
{ احداث سنة خمس وثمانين ومائة والف }
اخرج علي بك تجريدة عظيمة وسر عسكرها واميرها محمد بك ابو الذهب وايوب بك ورضوان بك وغيرهم كشاف وارباب مناصب ومماليكهم وطوائفهم واتباعهم وعساكر كثيرة من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة وخرجوا في تجمل زائد واستعداد عظيم ومهيأ كبير ومعهم الطبول والزمور والذخائر والاحمال والخيام والمطابخ والكرارات والمدافع والجيخانات ومدافع الزنبلك على الجمال وأجناس العالم الوفا مؤلفة وكذلك أنزلوا الاحتياجات والاثقال وشحنوا بها السفن وسافرت من طريق دمياط في البحر
فلما وصلوا الى الديار الشامية فحاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها بعد أيام كثيرة ثم توجهوا الى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة وهزموهم وقتلوهم وفروا من وجوههم واستولوا على المماليك الشامية الى حد حلب ووردت البشائر بذلك فنودي بالزينة فزينت مصر وبولاق ومصر العتيقة زينة عظيمة ثلاثة أيام بلياليها وتفاخروا في ذلك الى الغاية وعملت وقدات واحمال قناديل وشموع بالاسواق وسائر الجهات وعملوا ولائم ومغاني وآلات وطبولا وشنكا وحراقات وغير ذلك وذلك في شهر ربيع اول من السنة
وتعاظم علي بك في نفسه ولم يكتف فارسل الى محمد بك يأمره بتقليد الامراء والمناصب والولايات على البلاد التي افتتحوها وملكوها وان يستمر في سيره ويتعدى الحدود ويستولي على المماليك الى حيث شاء وهو يتابع اليه ارسال الامدادات واللوازم والاحتياجات ولا يثنون عنانهم عما يامرهم به
فعند ذلك جمع محمد بك امراءه وخشداشينه الكبار في خلوة وعرض عليهم الاوامر فضاقت نفوسهم وسئموا الحرب والقتال والغربة وذلك ما في نفس محمد بك أيضا
ثم قال لهم ما تقولون قالوا وما الذي تقوله والرأي لك فانت كبيرنا ونحن تحت أمرك واشارتك ولا نخالفك فيما تأمر به
فقال ربما يكون رأيي مخالفا لامر استاذنا
قالوا ولو مخالفا لامره فنحن جميعا لا نخرج عن امرك واشارتك فقال لا أقول لكم شيئا حتى نتحالف جميعا ونتعاهد على الرأي الذي يكون بيننا
ففعلوا ذلك وتعاهدوا وحلفوا على السيف والكتاب
ثم انه قال لهم ان أستاذكم يريد ان تقطعوا اعماركم في الغربة والحرب والاسفار والبعد عن الاوطان وكلما فرغنا من شيء فتح علينا غيره فرأيي ان نكون على قلب رجل واحد ونرجع الى مصر ولا نذهب الى جهة من الجهات وقد فرغنا من خدمتنا وان كان يريد غير ذلك من المماليك يولي امراء غيرنا ويرسلهم الى ما يريد ونحن يكفينا هذا القدر ونرتاح في بيوتنا وعند عيالنا
فقالوا جميعا ونحن على رايك
واصبحوا راحلين وطالبين الى مصر فحضروا في أواخر شهر رجب على خلاف مراد مخدومهم وبقي الامر على السكوت
ثم ان علي بك قلد ايوب بك امارة جرجا وقضى اشغاله وسافر الى الصعيد بطائفته واتباعه
وانقضى شهر شعبان ورمضان وعلي بك مصمم على رجوع محمد بك الى جهة الشام وذلك مصمم على خلاف ذلك وبدت بينهما الوحشة الباطنية
فلما كان ليلة رابع شهر شوال بيت علي بك مع علي بك الطنطاوي وخلافه واتفق معهم على غدر محمد بك فركبوا عليه ليلا واحاطوا بداره ووقفت له العساكر بالاسلحة في الطرق فركب في خاصته وخرج من بينهم وذهب الى ناحية البساتين وارتحل الى الصعيد
فحضر اليه بعض الامراء أصحاب المناصب وعلي كاشف تابع سليمان افندي كاشف شرق أولاد يحيى وقدموا له ما معهم من الخيام والمال والاحتياجات
ولم يزل في سيره حتى وصل الى جرجا واجتمع عليه أيوب بك خشداشه وأظهر به المصافاة والمؤاخاة وقدم له هدايا وخيولا وخياما فلم يلبث الا وقد أحضر عيون محمد بك الذين أرصدهم بالطريق رجلا ومعه مكاتبة من علي بك خطابا لايوب بك يأمره ويستحثه على عمل الحيلة وقتل محمد بك باي وجه أمكنه ويعده امارته وبلاده وغير ذلك
فلما قرأ المراسلة وفهم مضمونها أكرم الرجل وقال له تذهب اليه بالكتاب وأثنى بجوابه ولك مزيد الاكرام فذهب ذلك الساعي واوصل الكتاب الى أيوب بك وطلب منه رد الجواب وأعطاه الجواب وذكر فيه أنه مجتهد في تتميم الغرض ومترقب حصول الفرصة
فحضر به الى محمد بك فعند ذلك استعد محمد بك وتحقق خيانته ونفاقه فاتفق مع خاصته وامرائه بالاستعداد والوثوب وانه اذا حضر اليه أيوب بك أخذ أرباب المناصب نظراءهم وتحفظوا عليهم
فلما حضر في صبحها أيوب بك جلس معه في خلوة وأخذ كل من الخازندار والكتخدا والجوخدار والسلحدار نظراءهم من جماعة محمد بك ثم قال محمد بك يخاطب أيوب بك يا هل ترى نحن مستمرون على الاخوة والمصافاة والصداقة والعهد واليمين الذي تعاقدنا عليه بالشام قال نعم وزيادة
قال ومن نكث ذلك وخان اليمين ونقض العهد قال يقطع لسانه الذي حلف به ويده التي وضعها على المصحف
فعند ذلك قال له بلغني أنه أتاك كتاب من أستاذنا علي بك
فجمد ذلك فقال لعل ذلك صحيح وكتبت له الجواب أيضا
قال لم يكن ذلك ابدا ولو اتاني منه جواب لأطلعتك عليه ولا يصح اني أكتمه عنك أو أرد له جوابا
فعند ذلك أخرج له الجواب من جيبه وأحضر اليه ذلك الرسول فسقط في يده وأخذ ينتنصل ببادر العذر
فعند ذلك قال له حينئذ لا تصح مرافقتك معي وقم فأذهب الى سيدك وأمر بالقبض عليه وأنزلوه الى المركب وأحاط بوطاقه وأسبابه وتفرقت عنه جموعه
فلما صار وحيدا في قبضته أحضر عبد الرحمن أغا وكان إذ ذاك بناحية قبلي وانضم الى محمد بك فقال له اذهب الى أيوب بك واقطع يده ولسانه كما حكم على نفسه بذلك
فأخذ معه المشاعلي وحضر اليه في السفينة وقطعوا يمينه ثم شبكوا في لسانه سنارة وجذبوه ليقطعوه فتخلص منهم والقى بنفسه الى البحر فغرق ومات
وكان قصد محمد بك أن يفعل به ذلك ويرسله على هذه الصورة الى سيده بمصر
ثم انهم أخرجوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه
فعندما وقع ذلك أقبلت الامراء والاجناد المتفرقون بالاقاليم على محمد بك وتحققوا عند ذلك الخلاف بينه وبين سيده وقد كانوا متجمعين عن الحضور اليه ويظنون خلاف ذلك
وحضر اليه جميع المنافي وأتباع القاسمية والهوارة الذين شردهم علي بك وسلب نعمتهم فانعم عليهم واكرمهم وتلقاهم بالبشاشة والمحبة واعتذر لهم وواساهم وقلدهم الخدم والمناصب وهم أيضا تقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته
ووصلت الاخبار بذلك الى مصر وحضر اليه كثير من مماليك أيوب بك واتباعه سوى من انضم منهم والتجأ الى محمد بك واتباعه فعند ذلك نزل بعلي بك من القهر والغيظ المكظوم ما لا يوصف وشرع في تشهيل تجريدة عظيمة وأميرها وسر عسكرها اسمعيل بك واحتفل بها احتفالا كثيرا وامر بجمع أصناف العساكر واجتهد في تنجيز أمرها في أسرع وقت وسافروا برا وبحرا في اواخر ذي القعدة
فلما التقى الجمعان خامر اسمعيل بك وانضم بمن معه من الجموع الى محمد بك وصاروا حزبا واحدا ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل الى مصر
فعند ذلك اشتد الامر بعلي بك ولاحت على دولته لوائح الزوال وكاد يموت من الغيظ والقهر وقلد سبع صناجق والكل مزلقون وسماهم أهل مصر السبع بنات وهم مصطفى بك وحسن بك ومراد بك وحمزة بك ويحيى بك وخليل بك كوسه ومصطفى بك اود باشه وعمل لهم برقا وداقما ولوازم وطبلخانات في يومين وضم اليهم عساكر وطوائف ومماليك وأتباعا وبرز بنفسه الى جهة البساتين وشرع في تشهيل تجريدة أخرى وأميرها علي بك الطنطاوي وأخرج الجبخانات والمدافع الكثيرة وأمر بعمل متاريش من البحر الى جهة الجبل وانقضت السنة
من مات في هذه السنة ممن له ذكر
مات الامام الفقيه الصالح الخير الشيخ علي بن صالح ابن موسى بن احمد بن عمارة الشاوري المالكي مفتي فرشوط قرأ بالازهر العلوم ولازم العلامة الشيخ علي العدوي وتفقه عليه وسمع الحديث من الشيخ أحمد ابن مصطفى السكندري وغيره ورجع الى فرشوط فولي افتاء المالكية بها فسار فيها سيرا مقتصدا ولما ورد عليه الشيخ ابن الطيب راجعا من الروم تلقى عنه شيئا من الكتب وأجازه وكان لشيخ العرب همام بن يوسف في حقه عناية شديدة وصحبة أكيدة وكانت شفاعات العلماء مقبولة عنده بعناية ولذلك راج امره واشتهر ذكره وطار صيته وكان حسن المذاكرة والمحاورة محتشما في نفسه مجملا في ملابسه وجيها معتبرا في الاعين
والف شيخنا السيد محمد مرتضى باسمه نشق الغوالي من المرويات العوالي وذلك ايام رحلته الى فرشوط ونزوله عنده ورفع من شأنه عند شيخ العرب واكرمه اكراما كثيرا ولما تغيرت احوال الصعيد قدم الى مصر مع ابن مخدومه وما زال بها حتى توجه الى طندتا وكان يعتريه حصر البول فيجلس اياما وهو ملازم للفراش فزار وعاد
توفي يوم دخوله الى بولاق نهار الثلاثاء ثالث عشر شعبان من السنة وكان يوما مطير اذا رعد وبرق فوصل خبره الى الجامع الازهر فخرج اليه الشيخ علي الصعيدي وكثير من العلماء وتخلف من تخلف لذلك العذر فجهزوه هناك وكفنوه وأتوا به الى الازهر وأراد الشيخ الصعيدي دفنه في مدفن عبد الرحمن كتخدا لصعوبة الذهاب به الى القرافة ثم دفنوه بالمجاورين بجانب تربة الشيخ الصعيدي التي دفن فيها
ومات الفقية الفاضل العلامة الشيخ علي بن عبد الرحمن بن سليمان ابن عيسى بن سليمان الخطيب الجديمي العدوي المالكي الازهري الشهير بالخرائطي ولد في اول القرن الجامع الازهر فحضر دروس جامعة من فضلاء العصر ولازم بلدية الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية ودرس بالازهر ونفع الطلبة وكان انسانا حسنا منور الشيبة ذا خلق حسن وتودد وبشساشة ومروءة كاملة له ميل تام في علم الحديث ويتأسف على فوات اشتغاله به ويحب كلام السلف ويتأمل في معانيه مع سلامة الاعتقاد وكثرة الاخلاص
توفي عشية يوم الاربعاء ثاني المحرم افتتاح سنة 1185
ومات الامام العلامة الفاضل المحقق الدراك المتفنن الشيخ محمد ابن اسمعيل بن محمد بن إسمعيل بن خضر النقراوي المالكي وكان والده من اهل العلم والصلاح والزهد عن جانب عظيم وعمر كثيرا حتى جاوز المائة وانحنى ظهره وتوفي سنة 1178
تربى المترجم في حجر ابيه وحفظ القران والمتون وحضر دروس الشيخ سالم النقراوي والشيخ خليل المالكي وغيرهما وتفقه وحضر المعقول على كثير من الفضلاء ومهر وانجب درس وكان جيد الحافظة قوي الفهم والغوص على عويصات المسائل ودقائق العلوم مستحضرا للمسائل الفقهية والعقلية ولما بلغ المنتهى في العلوم المشهورة تاقت نفسه للعلوم الحكمية والرياضية فاحضره والده للشيخ الوالد سنة 1171 والتمس منه مطالعته عليه فأجابه الى ذلك ورحب به وكان عمره اذ ذاك نيفا وعشرين سنة
ولما رأى ما فيه من الذكاء والنجابة والقوة الاستعدادية والجد في الطلب اغتبط به كثيرا وصرف اليه همته وأقبل عليه بكليته وأعطاه مفتاح خزانة بالمنزل يضع فيها كتبه ومتاعه واشترى له حمارا ورتب له مصروفا وكسوة ولازمه ليلا ونهارا ذهابا وايابا حتى اشتهر بنسبته اليه فكان يرسله في مهماته واسراره الى اكابر مصر واعيانها مثل علي بك وعبد الرحمن كتخدا وغيرهما فيحسن الخطاب والجواب مع الحشمة وحسن المخاطبة مع معرفتهم بفضله وعلمه وكانوا يكرمونه
ومدحهم بقصائد لم أعثر على شيء منها للاهمال وطول العهد فكان لا يذهب الى داره الا في النادر بعد حصة من الليل ويرجع في الفجر وينزل إلى الجامع بعد طلوع النهار فيقرأ درسين ثم يعود في الصخوة الكبرى فيقيم الى العصر فيذهب الى الجامع فيقرأ درسا في المعقول ثم يعود
وهكذا كان دأبه الى أن مات
تلقى عنه فن الميقات والهيئة والهندسة وهداية الحكمة وشرحها القاضي زاده والجغميني والمبادي والغابات والمقاصد في أقل زمن مع التحقيق والتدقيق وحضر عليه المطول والمواقف والزيلعي في الفقه برواق الجبرت بالازهر وغير ذلك كل ذلك بقراءته وعانى علم الاوفاق وتلقاه عن الشيخ المرحوم حتى أدرك أسراره وأقبلت عليه روحانيته
وأجازه الملوي والجوهري والحنفي والعفيفي وغيرهم ولما نفي علي بك الى النوسات أرسل الى الشيخ فطلب منه أشياء يرسلها اليه مع المترجم فأرسله اليه وأقام عنده أياما ورجع من غير أن يعلم أحد بذهابه ورجوعه وكان يكتب الخط الجيد وجوده على الشيخ أحمد حجاج المعروف بابي العز
وكتب بخطه كثيرا وألف حاشيه على شرح العصام على السمرقندية وأجوبة عن الاسئلة الخمسة التي أوردها الشيخ أحمد الدمنهوري على علماء العصر وأعطاها الى علي بك وقال له أعطها للعلماء الذين يترددون عليك يجيبوني عنها ان كانوا يزعمون انهم علماء فاعطاها علي بك للشيخ الوالد وأخبره بمقابلة الشيخ الدمنهوري فقال له هذه وان كانت من عويصات المسائل يجيب عنها ولدنا الشيخ محمد النقراوي
والخسة الاسئلة المذكورة الاول في ابطال الجزء الذي لا يتجزأ
ا الثاني في قول ابن سينا ذات الله نفس الوجود المطلق ما معناه
الثالث في قول أبي منصور الماتريدي معرفة الله واجبة بالعقل مع ان المجهول من كل وجه يستحيل طلبه
الرابع في قول البرجلي ان من مات من المسلمين لسنا نتحقق موته على الاسلام
الخامس في الإستثناء في الكلمة المشرقة هل هو متصل أو منفصل
فأجاب عنها بأجوبة منطوية على مطارح الانظار دلت على رسوخه وسعة اطلاعه وغوصه ومعرفته بدقائق كلام أذكياء الحكماء والمتكلمين وفضلاء الاشعرية والماتريدية
وعانى الرسم فرسم عدة بسائط ومنحرفات وحسب كثيرا من الاصول والدساتير وتصدى لتعليم الطلبة الذين كانوا يردون من الآفاق لطلب العلوم الغريبة وكتب شرحا على متن نور الايضاح في الفقه الحنفي باسم الامير عبد الرحمن كتخدا وله رسالة سماها الطراز المذهب في بيان معنى المذهب وهي عبارة عن جواب على سؤال ورد من ثغر سكندرية نظما وكان له سليقة جيدة في النثر والنظم ولما ورد الى مصر محمد أفندي سعيد قاضيا في سنة 1181 امتدحه بقصيدة بليغة لم أعثر عليها وكان به حدة طبيعة وهي التي كانت سببا لموته وهو انه حصل بينه وبين الشيخ البجرمي منافسة فشكاه الى الشيخ الدمنهوري وهو إذ ذاك الشيخ الجامع فارسل اليه فلما حضر عنده في مجلسه بالازهر فتحامل عليه فقام من عنده وقد أثر فيه القهر ومرض أياما وتوفي في شهر جمادى الثانية من السنة
واغتم عليه الشيخ المرحومي غما شديدا وتأثر لفراقه وحزن لموته وتوعك أياما بسبب ذلك
ومات الامام الفقيه العلامة المفتي الشيخ ابراهيم بن الشيخ عبد الله الشرقاوي الشافعي تفقه على علماء عصره وحضر دروس الاشياخ المتقدمين كالملوي والحفني والبراوي والشيخ أحمد رزة والشيخ عطية الاجهوري وأنجب في الاصول والفروع الفقهية وتصدر ودرس وانقطع والافتاء والقضاء بين المتخاصمين من اهل القرى للافادة واكثرهم من أهل بلاده وكان لا يفارق محل درسه بالازهر من الشروق الى الغروب
وانفرد بالافتاء مدة طويلة على مذهبه وقلما يرى فتوى وليس عليها جوابه
ولم يزل هذا دأبه حتى تعلل أياما وتوفي ثالث ربيع الثاني من السنة
ومات أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر من جمع متفرقات الفضائل وحاز أنواع الفواضل الصالح الرحلة الشيخ علي بن محمد الجزائرلي المعروف بابن الترجمان ولد بالجزائر سنة 1100 وكان ينتمي الى الشرف وزاحم العلماء بمناكبه في تحصيل انواع العلوم واجازه الشيخ سيدي محمد المنور التلمساني رحمه الله ودخل الروم مرارا وحظي بارباب الدولة واتى الى مصر وابتنى بها دارا حسنة قرب الازهر وكان يخبر عن نفسه انه لا يستغنى عن الجماع في كل يوم فلذلك ما كان يخلو عن امرأة او اثنتين حتى في أسفاره
ولما ورد الامير احمد اغا امينا على دار الضرب بمصر المحروسة الذي صار فيما بعد باشا كان مختصا بصحبته لا يفارقه ليلا ولا نهارا وله عليه اغداقات جميلة وهو حسن العشرة يعرف في لسانهم قليلا وتوجه الى دار السلطنة وكانت اذ ذاك حركة السفر الى الجهاد كتب هذا عرضحالا الى السلطان مصطفى صورته ان من قرأ استغاثة ابي مدين الغوت في صف الجهاد حصلت النصرة
وقدمه الى السلطان فاستحسن ان يكون صاحب هذا العرض هو الذي يتوجه بنفسه ويقرأ هذه الاستغاثة تبركا ففاجاءه الامر من حيث لا يحتسب واخذ في الحال وكتب مع المجاهدين وتوجه رغما عن انفه ووصل الى معسكر المسلمين وصار يقرأ فقدر الله الهزيمة على المسلمين لسوء تدبير امراء العسكر فاسر مع من اسر وذهب به الى بلاد موسقو وبقي اسيرا مده ولم يغثه احد بخلاصه منهم لاشتغال الناس بما هو اهم حتى توفي هناك شهيدا غريبا في هذه السنة رحمه الله
ومات الشيخ الصالح العلامة علي الفيومي المالكي شيخ رواق أهل بلاده حضر دروس الشيخ ابراهيم الفيومي وشيخنا الشيخ علي الصعيدي ودرس برواقهم وكان سريع الادراك متين الفهم له في على الكلام باع طويل
وتزوج ابنة الشيخ احمد الحماقي الحنفي وتوفي ثاني شهر رمضان من السنة ودفن بالمجاورين
ومات الشيخ الفاضل الصالح علي الشيبني الشافعي نزيل جرجا قرأ على جماعة من مشايخ عصره وتكمل في العربية والفقه وتوجه الى الصعيد فخالط أولاد تمام من الهوارة في بيج القرمون فأحبوه وسكن عندهم مدة ثم سكن جرجا
وكان يتردد أحيانا الى مصر وكان كثير الاجتماع بصهرنا علي أفندي درويش المكتب وكان يحكي لي عنه أشياء كثيرة من مآثره من الصلاح والعلم وحسن المعاشرة ومعرفة التجويد ووجوه القراءات
فلما تغيرت أحوال الصعيد اتى المترجم الى مصر وكان حسن المذاكرة والمرافقة مع مداومة الذكر وتلاوة القرآن غالبا
توفي تاسع عشر رمضان في بيت بعض احبابه بعلة البطن وصلى عليه الشيخ احمد بن محمد الراشدي ودفن بالمجاورين
ومات العمدة الفاضل اللغوي الماهر المنشىء الاديب الشيخ عبد الله ابن منصور التلباني الشافعي المعروف بكاتب المقاطعة وهو بن أخت الشيخ المعمر أحمد بن شعبان الزعبلي ولد سنة 1098 تقريبا وأدرك الطبقة الاولى من الشيوخ العزيزي والعشماوي والنفراوى
وكانت له معرفة تامة بعلم اللغة والقراءة واقتنى كتبا نفيسة في سائر الفنون وكان سموحا باعارتها لاهلها وكان يعرف مظنات المسائل في الكتب
وكان الاشياخ يجلونه ويعرفونه مقامه ولما دخل الشيخ ابن الطيب أحبه واغتبط به وبصحبته وحصل حاشيته على القاموس في مجلدين حافلين استكتابا وقرظ على شرح البديعية لعلي بن تاج الدين القلعي ذكر فيه من نوع وسع الاطلاع له
ولم يزل حتى فأجاته المنون في ثالث عشرين شعبان من السنة وصلي عليه بالجامع الازهر ودفن شرقي مقام سيدي عبد الله المتوفي بالمجاورين رحمه الله
ومات الامير الجليل ابراهيم افندي الهياتم جمليان مطعونا في نهار الاربع ثالث عشرين المحرم من السنة
{ احداث سنة ست وثمانين ومائة وألف }
فيها في المحرم خرج علي بك الى جهة البساتين كما تقدم في أواخر العام الماضي وعمل متاريس ونصب عليها المدافع من البحر الى الجبل واجتهد في تشهيل تجريدة وأميرها علي بك الطنطاوي وصحبته باقي الامراء الذين قلدهم والعسكر فعدوا في منتصفه لمحاربة محمد بك أبي الذهب واسمعيل بك ومن معهما
وكانوا سائرين يريدون مصر فتلاقوا معهم عند بياضة ووقعت بينهم معركة قوية ظهر فيها فضل القاسمية وخصوصا أباع صالح بك وعلي أغا المعمار ووقعت الهزيمة على عسكر علي بك وساق خلفهم القبالي مسافة فمانعوا عن أنفسهم وعدوا على دير الطين وكان علي بك مقيما به فلما حصل ما حصل اشتد القهر بالمذكور وتحير في أمره وأظهر التجلد وأمر بالاستعداد وترتيب المدافع وأقام الى آخر النهار وتفرق عنه غالب عساكره من المغاربة وغيرهم
وحضر محمد بك الى البر المقابل لعلي بك ونصب صيوانه وخيامه تجاهه فتفكر علي بك في أمره وركب عند الغروب وسار الى جهة مصر ودخل من باب القرافة وطلع الى باب العزب فأقام به حصة من الليل
وأشيع بالمدينة ان مراده المحاصرة بالقلعة
ثم انه ركب الى داره وحمل حموله وأمواله وخرج من مصر وذهب الى جهة الشام وذلك ليلة الخامس والعشرين من شهر المحرم وصحبته علي بك الطنطاوي وباقي صناجقه ومماليكه وأتباعه وطوائفه
فلما أصبح يوم الخميس سادس عشرينه عدى محمد بك الى بر مصر وأوقدوا النار في ذلك اليوم في الدير بعد ما نهبوه ودخل محمد بك الى مصر وصار أميرها ونادى أصحاب الشرطة على اتباعه بان لا أحد ياؤيهم ولا يتاويهم فكاننت مدة غيبته سبعين يوما
وأرسل عبد الرحمن اغا مستحفظان الى عبد الله كتخدا الباشا فذهب اليه بداره وقبض عليه وقطع رأسه ونادى بابطال المعاملة التي ضربها المذكور بيد رزق النصراني وهي قروش مفرد ومجوز وقطع صغار تصرف بعشرة أنصاف وخمسة انصاف ونصف قرش
وكان أكثرها نحاسا وعليها علامة علي بك
● [ لأحداث هذا السنة بقية فتابعها ] ●
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة