بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
من بداية خلافة عمر إلى ختام سنة ثلاث عشرة
● [ ذكر استخلافه عمر بن الخطاب ] ●
لما نزل بأبي بكر، رضي الله عنه، الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر. فقال: إنه أفضل من رأيك إلا أنه فيه غلظة. فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، وقد رمقته فكنت إذا غضبت على رجل أراني الرضاء عنه، وإذا لنت له أراين الشدة عليه. ودعا عثمان بن عفان وقال له: أخبرني عن عمر. فقال: سريرته خير من علانيته، وليس فينا مثله. فقال أبو بكر لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئاً، ولو تركته ما عدوت عثمان، والخيرة له أن لا يلي من أموركم شيئاً، ولوددت أني كنت من أموركم خلواً وكنت فيمن مضى من سلفكم.
ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.
ثم إن أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد. ثم أغمي عليه، فكتب عثمان: أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي. فقرأ عليه، فكبر أبو بكر وقال: اراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي. قال: نعم. قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.
فلما كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولى له ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس: أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يألكم نصحاً. فسكن الناس، فلما قرىء عليهم الكتاب سمعوا وأطاعوا، وكان أبو بكر أشرف على الناس وقال: أترضون بمن استخلفت عليكم؟ فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ثم أحضر أبو بكر عمر فقال له: إني قد استخلفتك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بتقوى الله ثم قال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله في النهار، وحقاً في النهار لا يقبله بالليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غداً إلا حق أن يكون ثقيلاً. ألم تر يا عمر أنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان أن يوضع فيه غداً إلا باطل أن يكون خفيفاً. ألم تر يا عمر أنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبةً يلقي فيها بيديه. أو لم تر يا عمر أنما ذكر أهل النار بأسوإ أعمالهم فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم، وأنه إنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه يجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من حاضر من الموت، ولست بمعجزه.
وتوفي أبو بكر فلما دفن صعد عمر بن الخطاب فخطب الناس ثم قال: (إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، وأما أنا فورب الكعبة لأحملنكم على الطريق)! وكان أول كتاب كتبه إلى أبي عبيدة بن الجراح بتولية جند خالد وبعزل خالد لأنه كان عليه ساخطاً في خلافة أبي بكر كلها لوقعته بابن نويرة وما كان يعمل في حربه، وأول ما تكلم به عزل خالد وقال: لا يلي لي عملاً أبداً، وكتب إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو الأمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، وانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله. فذكر ذلك لخالد، فاستشار أخته فاطمة، وكانت عند الحارث بن هشام، فقالت له: والله لا يحبك عمر أبداً وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. فقبل رأسها وقال: صدقت؛ فأبى أن يكذب نفسه، فأمر أبو عبيدة فنزع عمامة خالد وقاسمه ماله، ثم قدم خالد على عمر بالمدينة، وقيل: بل هو أقام بالشام مع المسلمين، وهو أصح.
● [ ذكر فتح دمشق ] ●
قيل: ولما هزم أهل اليرموك استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير ابن كعب الحميري، وسار حتى نزل بالصفر، فأتاه الخبر أن المنهزمين اجتمعوا بفحل، وأتاه الخبر أيضاً بأن المدد قد أتى أهل دمشق من حمص، فكتب إلى عمر في ذلك، فأجابه عمر يأمره بأن يبدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت ملكهم، وأن يشغل أهل فحل بخيل تكون بإزائهم، وإذا فتح دمشق سار إلى فحل، فإذا فتحت عليهم سار هو وخالد إلى حمص وترك شرحبيل ابن حسنة وعمراً بالأردن وفلسطين.
فأرسل أبو عبيدة إلى فحل طائفة من المسلمين فنزلوا قريباً منها، وبثق الروم الماء حول فحل فوحلت الأرض، فنزل عليها المسلمون، فكان أول محصور بالشام أهل فحل ثم أهل دمشق.
وبعث أبو عبيدة جنداً فنزلوا بين حمص ودمشق، وأرسل جنداً آخر فكانوا بين دمشق وفلسطين، وسار أبو عبيدة وخالد فقدموا على دمشق وعليها نسطاس، فنزل أبو عبيدة على ناحية وخالد على ناحية وعمرو على ناحية، وكان هرقل قريب حمص، فحصرهم المسلمون سبعين ليلة حصاراً شديداً وقاتلوهم بالزحف والمجانيق وهم معتصمون بالمدينة يرجعون الغياث، وجاءت خيول هرقل مغيثة دمشق فمنعتها خيول المسلمين التي عند حمص، فخذل أهل دمشق وطمع فيهم المسلمون.
وولد للبطريق الذي على أهلها مولود فصنع طعاماً فأكل القوم وشربوا وتركوا مواقفهم، ولا يعلم بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفى عليه من أمورهم شيء عيونه ذكية، وهو معني بما يليه، وكان قد اتخذ حبالاً كهيئة السلاليم وأوهاقاً، فلما أمسى ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنده الذين قدم عليهم وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثاله وقالوا: إذا سمعتم تكبيراً على السور فارقوا إلينا واقصدوا الباب. فلما وصل هو وأصحابه إلى السور ألقوا الحبال فعلق بالشرف منها حبلان، فصعد فيهما القعقاع ومذعور وأثبتا الحبال بالشرف، وكان ذلك المكان أحصن موضع بدمشق وأكثره ماء وأشده مدخلاً، فصعد المسلمون ثم انحدر خالد وأصحابه وترك بذلك المكان من يحميه وأمرهم بالتكبير، فكبروا، فأتاهم المسلمون إلى الباب وإلى الحبال، وانتهى خالد إلى من يليه فقتلهم وقصد الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة لا يدرون ما الحال، وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، وفتح خالد الباب وقتل كل من عنده من الروم.
فلما رأى الروم ذلك قصدوا أبا عبيدة وبذلوا له الصلح، فقبل منهم وفتحوا له الباب وقالوا له: ادخل وامنعنا من أهل ذلك الجانب، ودخل أهل كل باب بصلح مما يليهم. ودخل خالد عنوةً، فالتقى خالد والقواد في وسطها، هذا قتلاً ونهباً وهذا صفحاً وتسكيناً، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، وكان صلحهم على المقاسمة، وقسموا معهم للجنود التي عند فحل وعند حمص وغيرهم ممن هو ردء للمسلمين.
وأرسل أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فوصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بإرسال جند العراق نحو العراق إلى سعد بن أبي وقاص، فأرسلهم وأمر عليهم هاشم بن عتبة المرقال، وكانوا قد قتل منهم، فأرسل أبو عبيدة عوض من قتل، وكان ممن ارسل الأشتر وغيره، وسار أبو عبيدة إلى فحل.
● [ ذكر غزوة فحلف ] ●
لما فتحت دمشق سار أبو عبيدة إلى فحل واستخلف على دمشق يزيد ابن أبي سفيان، وبعث خالداً على المقدمة، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة، وكان على المجنبتين أبو عبيدة وعمرو بن العاص، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض بن غنم، وكان أهل فحل قد قصدوا بيسان، فهم بها، فنزل شرحبيل بالناس فحلاً، وبينهم وبين الروم تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة ذات الردغة وبيسان وفحل. وأقام الناس ينتظرون كتاب عمر، فاغترهم الروم فخرجوا وعليهم سقلار بن مخراق، فأتوهم والمسلمون حذرون، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية. فلما هجموا على المسلمين لم يناظروهم فاقتتلوا أشد قتال كان لهم ليلتهم ويومهم إلى الليل، وأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزم الروم وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار والذي يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم وركبوهم، ولم تعرف الروم مأخذهم، فانتهت بهم الهزيمة إلى الوحل فركبوه، ولحقهم المسلمون فأخذوهم ولا يمنعون يدلامس فوخزوهم بالرماح، فكانت الهزيمة بفحل والقتل بالرداغ، فأصيب الروم وهم ثمانون ألفاً لم يفلت منهم إلا الشريد، وقد كان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق والوهل، فكانت عوناً لهم على عدوهم وغنموا أموالهم فاقتسموها. وانصرف أبو عبيدة بخالد ومن معه إلى حمص.
وممن قتل في هذه الحرب السائب بن الحارث بن قيس بن عدي السهمي، له صحبة.
فحل بكسر الفاء، وسكون الحاء المهملة، وآخره لام.
● [ ذكر فتح بلاد ساحل دمشق ] ●
لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل دمشق، على مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثيرٌ من أهلها؛ وتولى فتح عرقة معاوية بنفسه في ولاية يزيد. ثم إن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثم رمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع.
ولما ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام وجه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابسل، وهي ثلاث مدن مجتمعة، ثم بنى في مرج على أميال منها حصناً سمي حصن سفيان وقطع المادة عن أهلها من البر والبحر وحاصرهم. فلما اشتد عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا. فلما أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثم يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثم بناه عبد الملك بن مروان وحصنه، ثم نقض أهله أيام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.
● [ ذكر فتح بيسان وطبرية ] ●
لما قصد أبو عبيدة حمص من قحل أرسل شرحبيل ومن معه إلى بيسان فقاتلوا أهلها، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ثم صالحهم من بقي على صلح دمشق فقبل ذلك منهم. وكان أبو عبيدة قد بعث بالأعور إلى طربية يحاصرها، فصالحه أهلها على صلح دمشق أيضاً وأن يشاطروا المسلمين المنازل، فنزلها القواد وخيولها وكتبوا بالفتح إلى عمر.
قال أبو جعفر: وقد اختلفوا في أي هذه الغزوات كان قبل الأخرى، فقيل ما ذكرنا، وقيل: إن المسلمين لما فرغوا من أجنادين اجتمع المنهزمون بفحل فقصدها المسلمون فظفروا بها.
ثم لحق المنهزمون من فحل بدمشق فقصدها المسلمون فحاصروها وفتحوها، وقدم كتاب عمر بن الخطاب بعزل خالد وولاية أبي عبيدة وهم محاصرون دمشق، فلم يعرفه أبو عبيدة ذلك حتى فرغوا من صلح دمشق وكتب الكتاب باسم خالد وأظهر أبو عبيدة بعد ذلك عزله، وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وفتح دمشق في رجب سنة أربع عشرة، وقيل: إن وقعة اليرموك كانت سنة خمس عشرة، ولم تكن للروم بعدها وقعة، وإنما اختلفوا لقرب بعض ذلك من بعض.
ذكر خبر المثنى بن حارثة
وأبي عبيد بن مسعود
وأبي عبيد بن مسعود