من طرف كراكيب الإثنين 29 أبريل 2019 - 7:18
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
الأحداث سنة أربع عشرة
● [ ثم دخلت سنة أربع عشرة ] ●
ذكر ابتداء أمر القادسية
لما اجتمع الناس إلى عمر خرج من المدينة حتى نزل على ماء يدعى صراراً، فعسكر به ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم، وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف، فإن لم يقدر هذان على علم شيء مما يريد ثلثوا بالعباس بن عبد المطلب، فسأله عثمان عن سبب حركته، فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستشارهم في المسير إلى العراق، فقال العامة: سر وسر بنا معك. فدخل معهم في رأيهم وقال: اغدوا واستعدوا فإني سائر إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا. ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأرسل إلى علي، وكان استخلفه على المدينة، فأتاه، إلى طلحة، وكان على المقدمة، فرجع إليه، وإلى الزبير وعبد الرحمن، وكانا على المجنبتين، فحضرا، ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يشتهي فهو الفتح وإلا أعاد رجلاً وبعث آخر ففي ذلك غيظ العدو.
فجمع عمر الناس وقال لهم: إني كنت عزمت على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً فأشيروا علي برجل.
وكان سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوي الرأي والنجدة والسلاح فجاءه كتاب سعد، وعمر يستشير الناس فيمن يبعثه، يقول: قد انتخبت لك ألف فارس كلهم له نجدة ورأي وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم. فلما وصل كتابه قالوا لعمر: قد وجدته. قال: من هو؟ قالوا؟ الأسد عادياً سعد بن مالك، فانتهى إلى قولهم وأحضره وأمره على حرب العراق ووصاه وقال: لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكنه يمحو السيء بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلزمه فالزمه. ووصاه بالصبر وسرحه فيمن اجتمع إليه من نفر المسلمين، وهم أربعة آلاف، فيهم حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق، وعمرو بن معدي كرب، وأبو سبرة بن ذؤيب على مذحج، ويزيد بن الحارث الصدائي على صداء، وحبيب ومسلية وبشر بن عبد الله الهلالي في قيس عيلان.
وخرج إليهم عمر فمر بفتية من السكون مع حصين بن نمير ومعاوية ابن حديج دلمٍ سباطٍ فأعرض عنهم، فقيل له: ما لك وهؤلاء؟ فقال: ما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم. ثم أمضاهم فكان بعد يذكرهم بالكراهة، فكان منهم سودان بن حمران قتل عثمان، وابن ملجم قتل علياً، ومعاوية حديج جرد السيف في المسلمين يظهر الأخذ بثأر عثمان، وحصين بن نمير كان أشد الناس في قتال علي.
ثم إن عمر أخذ بوصيتهم وبعظتهم ثم سيرهم، وأمد عمر سعداً بعد خروجه بألفي يماني وألفي نجدي، وكان المثنى بن حارثة في ثمانية آلاف، وسار سعد والمثنى ينتظر قدومه، فمات المثنى قبل قدوم سعد من جراحة انتقضت عليه، واستخلف على الناس بشير بن الخصاصية وسعد يومئذٍ بزرود وقد اجتمع معه ثمانية آلاف، وأمر عمر بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة، فنزلوا في ثلاثة آلاف، وسار سعد إلى شراف فنزلها ولحقه بها الأشعث بن قيس في ألف وسبعمائة من أهل اليمن، فكان جميع من شهد القادسية بضعة وثلاثين ألفاً، وجميع من قسم عليه فيئها نحو من ثلاثين ألفاً.
ولم يكن أحد أجرأ على أهل فارس من ربيعة، فكان المسلمون يسمونهم ربيعة الأسد إلى ربيعة الفرس، ولم يدع عمر ذا رأيٍ ولا شرف ولا خطيباً ولا شاعراً ولا وجيهاً من وجوه الناس إلا سيره إلى سعد. وجمع سعد من كان بالعراق من المسلمين من عسكر المثنى، فاجتمعوا بشراف، فعبأهم وأمر الأمراء وعرف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة، وولى الحروب رجالاً على ساقتها ومقدمتها ورجلها وطلائعها ومجنباتها، ولم يفصل إلا بكتاب عمر، فجعل على المقدمة زهرة بن عبد الله ابن قتادة بن الحوية، فانتهى إلى العذيب، وكان من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجعل على الميمنة عبد الله بن المعتم، وكان من الصحابة أيضاً، واستعمل على الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي، وجعل خليفته خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس، وجعل عاصم بن عمرو التميمي على الساقة، وسواد بن مالك التميمي على الطلائع، وسلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة، وعلى الرجالة حمال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله ابن ذي السهمين الحنفي، وجعل عمر على القضاء بينهم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وعلى قسمة الفيء أيضاً، وجعل رائدهم وداعيتهم سلمان الفارسي، والكاتب زياد بن أبيه.
وقدم المعنى بن حارثة الشيباني وسلمى بنت خصفة زوج المثنى بشراف، وكان المعنى بعد موت أخيه قد سار إلى قابوس بن قابوس بن المنذر بالقادسية، وكان قد بعثه إليها الفرس يستنفر العرب، فسار إليه المعنى فقفله فأنامه ومن معه، ورجع إلى ذي قار وسار إلى سعد يعلمه برأي المثنى له وللمسلمين يأمرهم أن يقاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب ولا يقاتلوهم بعقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فئة ثم يكونوا أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم. فترحم سعد ومن معه على المثنى، وجعل المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيراً، ثم تزج سعد سلمى زوج المثنى. وكان معه تسعة وتسعون بدرياً وثلاثمائة وبضعة عشر ممن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممن شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة.
وقدم على سعد وهو بشراف كتاب عمر بمثل رأي المثنى، وكتب عمر أيضاً إلى أبي عبيدة ليصرف أهل العراق ومن اختار أن يلحق بهم إلى العراق. وكان للفرس رابطة بقصر ابن مقاتل عليها النعمان بن قبيصة الطائي، وهو ابن عم قبيصة بن إياس صاحب الحيرة، فلما سمع بمجيء سعد سال عنه وعنده عبد الله بن سنان بن خزيم الأسدي، فقيل: رجل من قريش. فقال: والله لأحادنه القتال فإن قريشاً عبيد من غلب، والله لا يخرجون من بلادهم إلا بخفين! فغضب عبد الله بن سنان من قوله وأمهله حتى دخل قبته فقتله ولحق بسعد وأسلم.
وسار سعد من شراف فنزل العذيب، ثم سار حتى نزل القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس أسفل منها بميل. وكتب عمر إلى سعد: (إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان أو بإشارة أو بلسان كان لا يدري الأعجمي ما كلمه به كان عندهم أماناً فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء، فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم. واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شيئاً على المسلمين وسبباً لتوهينهم). فلما نزل زهرة في المقدمة وأمسى بعث سرية في ثلاثين معروفين بالنجدة وأمرهم بالغارة على الحيرة، فلما جازوا السيلحين سمعوا جلبة فمكثوا حتى حاذوهم، وإذا أخت آزادمرد بن آزاذبه مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين، وهو من أشارف العجم، فحمل بكير ابن عبد الله الليثي أمير السرية على شيرزاد بن آزاذبه فدق صلبه وطارت الخيل على وجوهها وأخذوا الأثقال وابنة آزاذبه في ثلاثين أمرأً من الدهاقين ومائة من التوابع ومعهم ما لا يدري قيمته، فاستاق ذلك ورجع فصبح سعداً بعذيب الهجانات، فقسم ذلك على المسلمين وترك الحريم بالعذيب ومعها خيل تحوطها، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي.
ونزل سعد القادسية وأقام بها شهراً لم يأته من الفرس أحد. فأرسل سعد عاصم ابن عمرو إلى ميسان، فطلب غنماً أو بقراً فلم يقدر عليها وتحصن منه من هناك، فأصاب عاصم رجلاً بجانب أجمة، فسأله عن البقر والغنم، فقال: ما أعلم. فصاح ثور من الأجمة: كذب عدو الله، ها نحن! فدخل فاستاق البقر فأتى بها العسكر قسمه سعد على الناس فأخصبوا أياماً. فبلغ ذلك الحجاج في زمانه فأرسل إلى جماعة فسألهم، فشدوا أنهم سمعوا ذلك وشاهدوه، فقال: كذبتم. قالوا: ذلك إن كنت شهدتها وغبنا عنها. قال: صدقتم، فما كنا الناس يقولون في ذلك؟ قالوا: آية تبشر وإنه يستدل بها على رضى الله وفتح عدونا. فقال: ما يكون هذا إلا والجمع أبرار أتقياء. قالوا: ما ندري ما أجنب قلوبهم، فأما ما رأينا فما رأينا قط أزهد في دنيا منهم ولا أشد بغضاً لها، ليس فيهم جبان ولا عار ولا غدار. وذلك يوم الأباقر.
وبث سعد الغارات والنهب بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما استكفوا به زماناً؛ وكان بين نزول خالد بن الوليد العراق وبين نزول سعد القادسية والفراغ منها سنتان وشيء، وكان مقام سعد بالقادسية شهرين وشيئاً حتى ظفر.
فاستغاث أهل السواد إلى يزدجرد وأعلموه أن العرب قد نزلوا القادسية ولا يبقى على فعلهم شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ونهبوا الدواب والأطعمة، وإن أبطأ الغياث أعطيناهم بأيدينا، وكتب إليه بذلك الذي لهم الضياع بالطف وهيجوه على إرسال الجنود. فأرسل يزدجرد إلى رستم، فدخل عليه فقال: (إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه وإنما يعد للأمور على قدرها، فأنت رجل فارس اليوم وقد ترى ما حل بالفرس مما لم يأتهم مثله)، فأظهر له الإجابة ثم قال له: دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي، ولعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أمثل من هزيمة بمرة وأشد على عدونا. فأبى عليه، وأعاد رستم كلامه وقال: قد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بداً لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس، فإن تكن لنا فذلك وإلا بعثنا غيره حتى إذا لم نجد بداً صبرنا لهم وقد وهناهم ونحن حامون، فإني لا أزال مرجواً في أهل فارس ما لم أهزم. فأبى إلا أن يسير، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط وأرسل إلى الملك ليعفيه فأبى.
وجاءت الأخبار إلى سعد بذلك، فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: (لا يكربنك ما يأتيك عنهم واستعن بالله وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعلٌ دعاءهم توهيناً لهم).
فأرسل سعد نفراً، منهم: النعمان بن مقرن، وبسر بن أبي رهم، وحملة بن حوية، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيان، وعدي بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة بن النباش الأسدي، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدي كرب، والمغيرة بن شعبة، والمعنى بن حارثة إلى يزدجرد دعاة، فخرجوا من العسكر فقدموا على يزدجرد وطووا رستم واستأذنوا على يزدجرد فحبسوا، وأحضر وزراءه ورستم معهم واستشارهم فيما يصنع ويقول لهم.
واجتمع الناس ينظرون إليهم وتحتهم خيول كلها صهال، وعليهم البرود وبأيديهم السياط، فأذن لهم وأحضر الترجمان وقال له: سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أننا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟ فقال النعمان بن مقرن لأصحابه: إن شئتم تكلمت عنكم، ومن شاء آثرته. فقالوا: بل تكلم. فقال: : (إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة غلا وقاربه منها فرقة وتباعد عنه بها فرقة، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، فبدأ بهم، فدخلوا معه على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمرٌ من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم).
فتكلم يزدجرد فقال: (إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بينٍ منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوننا أمركم لا تغزوكم فارس، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غرر لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان لجهد دعاكم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فأسكت القوم، فقام المغيرة بن زرارة فقال. أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف ويعظم حقهم الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به قالوه، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، فجاوبني لأكون الذي أبلغك وهم يشهدون على ذلك لي؛ فأما ما ذكرت من سوء الحال فهي على ما وصفت وأشد؛ ثم ذكر من سوء عيش العرب وإرسال الله النبي، صلى الله عليه وسلم، إليهم نحو قول النعمان وقتال من خالفهم أو الجزية، ثم قال له: اختر إن شئت الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم! لا شيء لكم عندي. ثم استدعى بوقر من تراب فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم معه في خندق القادسية ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم بأنفسكم بأشد مما نالكم من سابور.
فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب وقال: أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء، فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب وقال لسعد: (أبشر فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم).
واشتد ذلك على جلساء الملك. وقال الملك لرستم، وقد حضر عنده من ساباط: ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جواباً منهم، ولقد صدقني القوم، لقد وعدوا أمراً ليدركنه أو ليموتن عليه، على أني وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التراب على رأسه. فقال رستم: (أيها الملك إنه أعقلهم، وتطير إلى ذلك وأبصرها دون أصحابه). وخرج رستم من عند الملك غضبان كئيباً وبعث في أثر الوفد وقال لثقته: (إن أدركهم الرسول تلافينا أرضنا، وإن أعجزه سلبكم الله أرضكم). فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم، فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شك؛ وكان منجماً كاهناً.
وأغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على النجاف والفراض، فاستقا ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور وأوقرها سمكاً، وصبح العسكر، فقسمه سعد بين الناس، وهذا يوم الحيتان، وكانت السرايا تسري لطلب اللحوم، فإن الطعام كان كثيراً عندهم، فكانوا يسمون الأيام بها: يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سرية أخرى فأغاروا فأصابوا إبلاً لبني تغلب والنمر واستاقوها ومن فيها، فنحر سعد الإبل وقسمها في الناس فأخصبوا. وأغار عمرو بن الحارث على النهرين فاستاق مواشي كثيرة وعاد.
وسار رستم من ساباط وجمع آلة الحرب وبعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفاً، وخرج هو في ستين ألفاً، وفي ساقته عشرون ألفاً، وجعل في ميمنته الهرمزان، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي وعلى ساقته البيرزان، وقال رستم للملك يشجعه بذلك: (إن فتح الله علينا القوم فتوجهنا إلى ملكهم في دارهم حتى نشغلهم في أصلهم وبلادهم إلى أن يقبلوا المسالمة).
وكان خروج رستم من المدائن في ستين ألف متبوع، ومسيره عن ساباط في مائة ألف وعشرين ألف متبوع، وقيل غير ذلك.
ولما فصل رستم عن ساباط كتب إلى أخيه البنذوان: أما بعد فرموا حصونكم وأعدوا واستعدوا، فكأنكم بالعرب قد وردوا بلادكم وقارعوكم عن أرضكم وأبنائكم، وقد كان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود سعودهم نحوساً، فإن السمكة قد كدرت الماء، وإن النعائم قد حسنت، والزهرة قد حسنت، واعتدل الميزان، وذهب بهرام ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما يلينا، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال: لتسيرن إليهم أو لأسيرن بنفسي.
ولقي جابان رستم على قنطرة ساباط، وكانا منجمين، فشكا إليه وقال له: ألا ترى ما أرى؟ فقال له رستم: (أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولا أجد بداً من الانقياد). ثم سار فنزل بكوثى، فأتي برجل من العرب، فقال له: ما جاء بكم وماذا تطلبون؟ فقال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا. قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك! قال: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي منا أنجزه الله ما وعده، فنحن على يقين.
فقال رستم: قد وضعنا إذن في أيديكم! فقال: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك من ترى حولك، فإنك لست تجاول الإنس إنما تجاول القضاء والقدر. فضرب عنقه ثم سار فنزل البرس، فغضب أصحابه الناس أبناءهم وأموالهم ووقعوا على النساء وشربوا الخمور، فضج أهلها إلى رستم وشكوا إليه ما يلقون فقام إليهم فقال: يا معشر فارس والله لقد صدق العربي، والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم لهم حرب أحسن سيرةً منكم، إن الله كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء والإحسان، فإذا تغيرتم فلا أرى الله إلا مغيراً ما بكم، وما أنا بآمن من أن ينزع الله سلطانه منكم. وأتي ببعض من يشكى منه فضرب عنقه.
ثم سار حتى نزل الحيرة ودعا أهلها وتهددهم وهم بهم، فقال له ابن بقيلة: لا تجمع علينا: أن تعجز عن نصرتنا وتلومنا على الدفع عن أنفسنا.
ولما نزل رستم بالنجف رأى كأن ملكاً نزل من السماء ومعه النبي، صلى الله عليه وسلم، وعمر، فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فدفعه النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى عمر، فأصبح رستم حزيناً.
وأرسل سعد السرايا ورستم بالنجف والجالينوس بين النجف والسيلحين، فطافت في السواد، فبعث سواداً وحميضة في مائة مائة، فأغاروا على النهرين، وبلغ رستم الخبر فأرسل إليهم خيلاً، وسمع سعدٌ أن خيله قد وغلت فأرسل عاصم بن عمرو وجابراً الأسدي في آثارهم، فلقيهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلصوا ما بأيديهم، فلما رأته الفرس هربوا ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعدٌ عمرو بن معدي كرب وطليحة الأسدي طليعة، فسارا في عشرة، فلم يسيروا إلا فرسخاً وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطفوف قد ملأوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلا التقدم، فقالوا له: أنت رجل في نفسك غدر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن، فارجع معنا. فأبى، فرجعوا إلى سعد فأخبروه بقرب القوم.
مضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه ويتوسم، فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحل فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به الناس فركبوا في طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة ثم آخر فقتله ثم لحق به ثالث فرأى مصرع صاحبيه، وهما ابنا عمه، فازداد حنقاً، فلحق طليحة فكر عليه طليحة وأسره ولحقه الناس، فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكره، فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارسي وأخبره الخبر، فسأل الترجمان الفارسي، فطلب الأمان، فآمنه سعد، قال: أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي، باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن وسمعت بالأبطال ولم أسمع بمثل هذا أن رجلاً قطع فرسخين إلى عسكر فيه سبعون ألفاً يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند وهتك عليهم البيوت، فلما أدركناه قتل الأول وهو يعد بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره فقتله، ثم أدركته أنا ولا أظن أنني خلفت من بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين فرأيت الموت واستؤسرت. ثم أخبره عن الفرس واسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسية، وسماه سعد مسلماً.
ثم سار رستم وقدم الجالينوس وذا الحاجب، فنزل الجالينوس بحيال زهرة من دون القنطرة، ونزل ذو الحاجب بطيزناباذ، ونزل رستم بالخرارة، ثم سار رستم فنزل بالقادسية؛ وكان بين مسيره من المدائن ووصوله القادسية أربعة أشهر لا يقدم رجاء أن يضجروا بمكانهم فينصرفوا، وخاف أن يلقي ما لقي من قبله، وطاولهم لولا ما جعل الملك يستعجله وينهضه ويقدمه، حتى أقحمه.
وكان عمر قد كتب إلى سعد يأمره بالصبر والمطاولة أيضاً، فأعد للمطاولة. فلما وصل رستم القادسية وقف على العتيق بحيال عسكر سعد ونزل الناس، فما زالوا يتلاحقون حتى أعتموا من كثرتهم والمسلمون ممسكون عنهم. وكان مع رستم ثلاثة وثلاثون فيلاً، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه، فجعل في القلب ثمانية عشر فيلاً، وفي المجنبتين خمسة عشر فيلاً. فلما أصبح رستم من تلك الليلة ركب وساير العتيق نحو خفان حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة، فتأمل المسلمين ووقف على موضع يشرف منه عليهم ووقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فوافقه، فأراده على أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه من غير أن يصرح له بذلك بل يقول له: (كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم، ويخبره عن صنيعهم مع العرب).
فقال له زهرة: (ليس أمرنا أمر أولئك، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لرسوله: إني سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم به منهم وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز).
فقال له رستم: ما هو؟ قال: (أما عموده الذي لا يصلح إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). قال: وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، والناس بنو آدم وحواء إخوة لأب وأم. قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم: أرأيت إن أجبت إلى هذا ومعي قومي كيف يكون أمركم، أترجعون؟ قال: إي والله. قال: صدقتني، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم. فقال زهرة: (نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون بل نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا).
فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فأنفوا فقال: أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبتا. فأرسل إلى سعد: أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا. فدعا سعدٌ جماعة ليرسلهم إليهم. فقال له ربيع بن عامر: إن الأعاجم لهم أراء وأداب ومتى نأتهم جميعاً يروا أنا قد احتفلنا بهم فلا تزدهم على رجل فمالئوه جميعاً على ذلك.
فأرسله وحده، فسار إليهم، فحبسوه على القنطرة. وأعلم رستم بمجيئه فأظهر زينته وجلس على سرير من ذهب وبسط البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب، وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدود بعصب وقد، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها ونزل وربطها بوسادتين شقهما وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التهاون وعرف ما أرادوا، وعليه درع، وأخذ عباءة بعيره فتدرعها وشدها على وسطه. فقالوا: ضع سلاحك. فقال: لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت. فأخبروا رستم، فقال: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه، فلم يدع لهم نمرقاً ولابساطاً إلا أفسده وهتكه. فلما دنا من رستم جلس على الأرض وركز رمحه على البسط، فقيل له: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم. فقال له ترجمان رستم، واسمه عبود من أهل الحيرة: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر. فقال رستم: قد سمعنا قولكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإن مما سن لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إما الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدأك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد الوحد بعضهم من بعض يجيز أدناهم على أعلاهم.
فخلا رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم كلاماً قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب تستخف باللباس وتصون الأحساب، ليسوا مثلكم.
فلما كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن ابعث إلينا ذلك الرجل. فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل في نحو من ذلك الزي ولم ينزل عن فرسه ووقف على رستم راكباً. قال له: انزل. قال: لا أفعل. فقال له: ما جاء بك ولم يجىء الأول؟ قال له: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، وهذه نوبتي. فقال: ما جاء بكم؟ فأجابه مثل الأول. فقال رستم: أو الموادعة إلى يوم ما؟ قال: نعم، ثلاثاً من أمس. فرده وأقبل على أصحابه وقال: ويحكم أما ترون ما أرى؟ جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا، وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو في يمن الطائر يقوم على أرضنا دوننا.
فلما كان الغد أرسل: ابعثوا إلينا رجلاً. فبعث المغيرة بن شعبة، فأقبل إليهم وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه، وقال: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعضٍ، فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحدٌ، وإني لم آتكم ولكم دعوتموني اليوم، علمت أنكم مغلبون وأن ملكاً لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول. فقالت السفلة: صدق والله العربي. وقالت الدهاقين: والله لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة! ثم تكلم رستم فحمد قومه وعظم أمرهم وقال: لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافاً في الأمم، فليس لأحد مثل عزنا وسلطاننا، ننصر عليهم ولا ينصرون علينا إلا اليوم واليومين والشهر للذنوب، فإذا انتقم الله منا ورضي علينا رد لنا الكرة على عدونا، ولم يكن في الأمم أمة أصغر عندنا أمراً منكم، كنتم أهل قشفٍ ومعيشةٍ لا نراكم شيئاً، وكنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم، وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا الجهد في بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكل منكم بوقر تمر وتنصرفون عنا، فإني لست أشتهي أن أقتلكم.
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله خالق كل شيء ورازقه، فمن صنع شيئاً فإنما هو يصنعه، وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن نعرفه، فالله صنعه بكم ووضعه فيكم وهو له دونكم، وأما الذي ذكرت فينا من سوء الحال والضيق والاختلاف فنحن نعرفه ولسنا ننكره، والله ابتلانا به والدنيا دولٌ، ولم يزل أهل الشدائد يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه، ولم يزل أهل الرخاء يتوقعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاتتكم الله لكان شكركم يقصر عما أوتيتم، وأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، ولو كنا فيما باتلينا به أهل كفر لكان عظيم ما بتلينا به مستجلباً من الله رحمةً يرفه بها عنا؛ إن الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولاً. ثم ذكر مثل ما تقدم من ذكر الإسلام والجزية والقتال، وقال له: وإن عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه.
فقال رستم: إذاً تموتون دونها. فقال المغيرة: يدخل منقتل منا الجنة ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقي منا بمن بقي منكم.
فاستشاط رستم غضباً ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصبح غداً حتى نقتلكم أجمعين. وانصرف المغيرة وخلص رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرجال، صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ لما ارادوا منهم، ولئن كانوا صادقين فيما يقوم لهؤلاء شيء! فلجوا وتجلدوا. وقال: والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم، وإن هذا منكم رثاء. فازدادوا لجاجة.
فأرسل رستم رسولاً خلف المغيرة وقال له: إذا قطع القنطرة فأعلمه أن عينه تفقأ غداً، فأعلمه الرسول ذلك، فقال المغيرة: بشرتني بخير وأجر، ولولا أن أجاهد بعد هذا اليوم أشباهكم من المشركين لتمنيت أن الأخرى ذهبت. فرجع إلى رستم فأخبره. فقال: أطيعوني يا أهل فارس، إني لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردها عن أنفسكم.
ثم أرسل إليه سعدٌ بقية ذوي الرأي فساروا وكانوا ثلاثة إلى رستم، فقالوا له: إن أميرنا يدعوك إلى ما هو خيرٌ لنا ولك، العافية أن تقبل ما دعاك إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وداركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا وكنا عوناً لكم على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم، فاتق الله ولا يكونن هلاك قومك على يدك، وليس بينك وبين أن تغبط بهذا الأمر إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.
فقال لهم: إن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم تبصروا: إنكم كنتم أهل جهد وقشفٍ لا تنتصفون ولا تمتنعون فلم نسىء جواركم وكنا نميركم ونحسن إليكم، فلما طعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وصفتم لقومكم ذلك ودعوتموهم ثم أتيتمونا، وإنما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلباً فقال: وما ثعلب! فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم، فلما اجتمعوا إليه سد صاحب الكرم النقب الذي كن يدخلن منه فقتلهن؛ فقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا عنا عامكم هذا ونحن نميركم، فإني لا أشتهي أن أقتلكم، ومثلكم أيضاً كالذباب يرى العسل فيقول: من يوصلني إليه وله درهمان؟ فإذا دخله غرق ونشب، فيقول: من يخرجني وله أربعة دراهم؟ وقال أيضاً: إن رجلاً وضع سلة وجعل طعاماً فيها فأتى الجرذان فخرقن السلة فدخلن فيها، فأراد سدها فقيل له: لا تفعل إذن يخرقنه، لكن انقب بحياله ثم اجعل فيها قصبة مجوفة فإذا دخلها الجرذان وخرجن منها فاقتل كل ما خرج منها؛ وقد سددت عليكم فإياكم أن تقتحموا القصبة فلا يخرج منها أحدٌ إلا قتل، فما دعاكم إلى ما صنعتم ولا أرى عدداً ولا عدة! قال: فتكلم القوم وذكروا سوء حالهم وما من الله به عليهم من إرسال رسوله واختلافهم أولاً ثم اجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأما ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك ولكن سنضرب مثلكم إنما مثلكم كمثل رجل غرس أرضاً واختار لها الشجر وأجرى إليها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها، فخلا الفلاحون في القصور على ما لا يحب فأطال إمهالهم فلم يستحيوا، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا فيها صاروا خولاً لهؤلاء فيسومونهم الخسف أبداً؛ والله لو لم يكن ما نقول حقاً ولم يكن إلا الدنيا لما صبرنا على الذي نحن فيه من لذيذ عيشكم ورأينا من زبرجكم ولقارعناكم حتى نغلبكم عليه! فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل اعبروا إلينا.
ورجعوا من عنده عشياً، وأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم، شأنكم والعبور، فأرادوا القنطرة فقال: لا ولا كرامة! أما شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم. فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بالتراب والقصب والبراذع حتى جعلوه طريقاً، واستتم بعدما ارتفع النهار.
ورأى رستم من الليل كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ قسي أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء، فاستيقظ مهموماً واستدعى خاصته فقصها عليهم وقال: إن الله ليعظنا لو اتعظنا. ولما ركب رستم ليعبر كان عليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه ووثب فإذا هو على فرسه لم يضع رجله في الركاب، وقال: غداً ندقهم دقاً! فقال له رجل: إن شاء الله. فقال: وإن لم يشأ! ثم قال: إما ضغا الثعلب حين مات الأسد - يعني كسرى - وإني أخشى أن تكون هذه سنة القرود! فإنما قال هذه الأشياء توهيناً للمسلمين عند الفرس، وإلا فالمشهور عنه الخوف من المسلمين، وقد أظهر ذلك إلى من يثق به.
● [ ذكر يوم أرماث ] ●
لما عبر الفرس العتيق جلس رستم على سريره وضرب عليه طيارة وعبى في القلب ثمانية عشر فيلاً عليها صناديق ورجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة، وأقام لجالينوس بينه وبين ميمنته، والفيرزان بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين، وكان يزدجرد قد وضع بينه وبين رستم رجالاً على كل دعوة رجلاً، أولهم على باب إيوانه وآخرهم مع رستم، فكلما فعل رستم شيئاً قال الذي معه للذي يليه: كان كذا وكذا، ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وأخذ المسلمون مصافهم. وكان بسعد دماميل وعرق النسا فلا يستطيع الجلوس، وإنما هو مكب على وجهه في صدره وسادة على سطح القصر يشرف على الناس والصف في أصل حائطه، لو أعراه الصف فواق ناقةٍ لأخذ برمته، فما كرثه هول تلك الأيام شجاعة، وذكر ذلك الناس، وعابه بعضهم بذلك فقال:
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعدٌ بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوة سعدٍ ليس فيهن أيم
فبلغت أبياته سعداً فقال: اللهم إن كان هذا كاذباً وقال الذي قاله رياء وسمعةً فاقطع عني لسانه! إنه لواقفٌ في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى. فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضاً، وكذلك غيره، ونزل سعدٌ إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس وعلموا حاله، ولما عجز عن الركوب استخلف خالد عرفطة على الناس، فاختلف عليه فأخذ نفراً ممن شغب عليه فحبسهم في القصر، منهم: أبو محجن الثقفي، وقيدهم، وقيل: بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالداً وإنما يأمرهم خالد، فسمعوا وأطاعوا، وخطب الناس يومئذٍ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة، وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس، وكذلك فعل أمير كل قوم، وأرسل سعد نفراً من ذوي الرأي والنجدة، منهم: المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس الأسدي وغالب وعمرو ابن معدي كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض الناس على القتال، ففعلوا.
وكان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل وثلاثون فيلاً تقاتل، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي الأنفال، فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها. فلما فرغ القراء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم. ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فاعتوروا الطعن والضرب، وقال غالب بن عبد الله الأسدي:
قد علمت واردة المشائح ... ذات اللبان والبيان الواضح
أني سمام البطل المسالح ... وفارج الأمر المهم الفادح
فخرج إليه هرمز، وكام من ملوك الباب والأبواب، وكان متوجاً، فأسره غالب، فجاء به سعداً ورجع وخرج عاصم وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء اللبب ... مثل اللجين إذ تغشاه الذهب
أني امرؤٌ لا من يعيبه السبب ... مثلي على مثلك يغريه العتب
فطارد فارسياً فانهزم، فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم، فحموه، فأخذ عاصم رجلاً على بغل وعاد به، وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصٌ، فأتى به سعداً فنفه أهل موقفه. وخرج فارسي فطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدي كرب، فأخذه وجلد به الأرض، فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلاً، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس. فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك قفي كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها. وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة، وقام الأشعث بن قيس في كندة حين استصرخهم سعد فقال: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون واي هذٍّ يهذون عن موقفهم، أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب. فنهد ونهدوا معه، فأزالوا الذين بأزائهم. فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها.
فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي: يا معشر بني تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله! ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل. وقال: يا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وارتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها ونفس عن أسد وردوا فارساً عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم حامية للناس، وهذا اليوم الأول، وهو يوم أرماث؛ فقال عمرو بن شأس الأسدي:
جلبنا الخيل من أكناف نيقٍ ... إلى كسرى فوافقها رعالا
تركن لهم على الأقسام شجواً ... وبالحقوبين أياماً طوالا
قتلنا رستماً وبنيه قسراً ... تثير الخيل فوقهم الهيالا
الأبيات. وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف، فلما جال الناس يوم أرماث، وكان سعد لا يطيق الجلوس، جعل سعد يتململ جزعاً فوق القصر، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت: وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم! قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه، فلطم وجهها وقال: أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا! يعني أسداً وعاصماً. فقالت: أغيرةً وجبناً ؟ فقال: والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم.