بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرهم ] ●
وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرهم فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات فمن ذلك صفة العقود فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال أحدها أن الأصل في العقود أنها لا تصح إلا بالصيغ و العبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب و القبول سواء في ذلك البيع و الإجارة و الهبة و النكاح و الوقف و العتق و غير ذلك وهذا ظاهر قول الشافعي وهو قول في مذهب أحمد يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل كالبيع و الوقف و يكون تارة رواية مخرجة كالهبة و الإجارة ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها كما في الأخرس و يقيمون الكناية أيضا مقام العبارة عند الحاجة و قد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها كما في الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ومن أخذه ملكه و كذلك الهدية و نحو ذلك لكن الأصل عندهم هو اللفظ لأن الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } و المعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب إذ الأفعال من المعاطاة و نحوها تحتمل وجوها كثيرة و لأن العقود من جنس الأقوال فهي في المعاملات كالذكر و الدعاء في العبادات و القول الثاني أنها تصح بالأفعال فما كثر عقده بالأفعال كالمبيعات المحقرات و كالوقف في مثل من بنى مسجدا و أذن للناس في الصلاة فيه أو سبل أرضا الدفن فيها أو بنى مطهرة و سبلها للناس و كبعض أنواع الإجارة كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجرة أو ركب سفينة ملاح و كالهدية و نحو ذلك فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس و لأن الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم و إلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ بل بالفعل الدال على المقصود وهذا هو الغالب على أصول أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد و وجه في مذهب الشافعي بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ولم يجر به العرف و القول الثالث أن العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل و بكل ما عده الناس بيعا أو إجارة فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حد مستقر لا في شرع ولا في لغة بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تنوعت لغاتهم فإن ألفاظ البيع و الإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة الفرس أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم و إن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك و ظاهر مذهب أحمد و لهذا يصحح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مطلقا و إن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر بأن يقول خذ هذا بدراهم فيأخذه أو يقول أعطني خبزا بدراهم فيعطيه ما يقبضه أو لم يوجد لفظ من أحدهما بأن يضع الثمن و يقبض جزرة البقل أو الحلواء أو غير ذلك كما يتعامل به غالب الناس أو يضع المتاع له ليوضع بدله فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع و كذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة ومثل تجهيز الزوجة بمال يحمل معها إلى بيت زوجها إذا كانت العادة جارية بأنه عطية لا عارية و كذلك الإجارات مثل ركوب سفينة الملاح المكاري و ركوب دابة الجمال أو الحمار أو البغال المكاري على الوجه الذي اعتقد أنه إجارة و مثل الدخول إلى الحمامات التي يدخلها الناس بالأجر و مثل دفع الثوب إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر أو دفع الطعام إلى طباخ أو شواء يطبخ أو يشوي بالأجر سواء شوي اللحم مشروحا أو غير مشروح حتى اختلف أصحابه في الخلع هل يقع بالمعاطاة مثل أن تقول اخلعني بهذه الألف أو بهذا الثوب فيقبض العوض على الوجه المعتاد من أن ذلك رضا منه بالمعاوضة فذهب العكبريون كأبي حفص العكبري و أبي على بن شهاب إلى أن ذلك خلع صحيح و ذكروا من كلام أحمد ومن قبله من السلف من الصحابة و التابعين ما يوافق قولهم و لعله هو الغالب على نصوصه بل لقد نص على أن الطلاق يقع بالقول و بالفعل و احتج على أنه يقع بالكتاب بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ) قال و إذا كتب فقد عمل و ذهب البغداديون الذين كانوا في ذلك الوقت كأبي عبد الله بن حامد ومن اتبعهم كالقاضي أبي يعلى ومن سلك سبيله أنه لا تقع الفرقة إلا بالكلام و ذكروا من كلام أحمد ما اعتمدوه في ذلك بناء على أن الفرقة فسخ النكاح و النكاح يفتقر إلى لفظ فكذلك فسخه و أما النكاح فقال هؤلاء كابن حامد و القاضي و أصحابه مثل أبي الخطاب و عامة المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح و التزويج كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية لأن الكناية تفتقر إلى نية و الشهادة شرط في صحة النكاح و الشهادة على النيه غير ممكنة و منعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك وقال أكثر هؤلاء كابن حامد و القاضي و المتأخرين إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان و إن قدر على تعلمها ففيه وجهان بناء على أنه مختص بهذين اللفظين و أن فيه ثواب التعبد وهذا مع أنه ليس منصوصا عن أحمد فهو مخالف لأصوله ولم ينص أحمد على ذلك ولا نقلوا عنه نصا في ذلك و إنما نقلوا قوله في رواية أبي الحرث إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح فإن الله تعالى قال { خالصة لك من دون المؤمنين } و هذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وهو النكاح بغير مهر بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته أعتقتك و جعلت عتقك صداقك و بقوله جعلت عتقك صداقك أو صداقك عتقك ذكر ذلك في غير موضع من جواباته فاختلف أصحابه فأما أبو عبد الله بن حامد فطرد قياسه و قال لا بد مع ذلك من أن يقول تزوجتها أو نكحتها لأن النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين و أما القاضي أبو يعلى و غيره فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد و أن ذلك من صور الاستحسان و ذكر ابن عقيل قولا في المذهب أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج لنص أحمد بهذا وهذا أشبه بنصوص أحمد و أصوله و مذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه فأن أصحاب مالك اختلفوا هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح و التزويج على قولين و المنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من هبة البضع بغير مهر قال ابن القاسم و إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك فهو عندي جائز و ما ذكره بعض أصحاب مالك و أحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما فإن الحكم مبني على مقدمتين إحداهما أن ما سوي ذلك كناية وأن الكناية مفتقرة إلى النية و مذهبهما المشهور أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة و تقوم مقام إظهار النية و لهذا جعلا الكنايات في الطلاق و القذف و نحوهما مع دلالة الحال كالصريح و معلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك و التحدث بما اجتمعوا له فإذا قال بعد ذلك ملكتكها لك بألف درهم علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الانكاح و قد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا و ملاكا و لهذا روى الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم لخاطب الواهبة الذي التمس فلم يجد خاتما من حديد رووه تارة أنكحتكها بما معك من القرآن و تارة ملكتكها و إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه اقتصر على ملكتكها بل إما أنه قالهما جميعا أو قال أحدهما لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء رووا الحديث تارة هكذا و تارة هكذا ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد و نصوصه و عن أصول الأدلة الشرعية إذ النكاح يصح من الكافر و المسلم و هو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق و الصدقة و معلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي و لا عجمي و كذلك الصدقة و الوقف و الهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها نعم لو قيل تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة لكان متوجها كما قد روي عن مالك و أحمد و الشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع وقد ذكر أصحاب مالك و الشافعي و أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل و المتأخرين أنه يرجع في نكاح الكفار إلى عادتهم فما اعتقدوه نكاحا بينهم جاز إقرارهم عليه إذا أسلموا و تحاكموا إلينا إذا لم يكن حينئذ مشتملا على مانع و إن كانوا يعتقدون أنه ليس بنكاح لم يجز الإقرار عليه حتى قالوا لو قهر حربي حربية فوطئها أو طاوعته و اعتقداه نكاحا أقرا عليه و إلا فلا و معلوم أن كون القول أو الفعل يدل على مقصود العقد لا يختص به المسلم دون الكافر و إنما اختص المسلم بأن الله أمر في النكاح بأن يميز عن السفاح كما قال تعالى { محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } وقال { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } فأمر بالولي الشهود و نحو ذلك مبالغة في تمييزه عن السفاح و صيانة للنساء عن التشبه بالبغايا حتى شرع فيه الضرب بالدف و الوليمة الموجبة لشهرته و لهذا جاء في الأثر المرأة لا تزوج نفسها فإن البغي هي التي تزوج نفسها و أمر فيه بالإشهاد أو بالإعلان أو بهما جميعا فإنه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات في مذهب أحمد ومن اقتصر على الإشهاد علله بأن به يحصل الإعلان المميز له عن السفاح و بأنه يحفظ النسب عند التجاحد فهذه الأمور التي اعتبرها الشارع في الكتاب و السنة و الآثار حكمتها بينة فأما التزام لفظ مخصوص فليس فيه أثر ولا نظر وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل هي التي تدل عليها أصول الشريعة وهي التي تعرفها القلوب وذلك أن الله سبحانه و تعالى قال { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } و قال { وأنكحوا الأيامى منكم } و قال { وأحل الله البيع } وقال { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } وقال { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقال { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إلى قوله { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } و قال { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } وقال { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } وقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وقال { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم } و قال { فتحرير رقبة } وقال { فطلقوهن لعدتهن } وقال { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود إما أمرا و إما إباحة و المنهي فيها عن بعضها كالربا فإن الدلالة فيها من وجوه أحدها أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } و بطيب نفس في التبرع في قوله { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فتلك الآية في جنس المعاوضات وهذه الآية في جنس التبرعات ولم يشترط لفظا معينا ولا فعلا معينا يدل على التراضي وعلى طيب النفس ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم و أفعالهم أنهم يعلمون التراضي و طيب النفس بطرق متعددة من الأقوال و الأفعال فنقول قد وجد التراضي و طيب النفس و العلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود وهو ظاهر في بعضها و إذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن و بعض الناس قد يحمله اللد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس فلا عبرة بجحد مثل هذا فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ولهذا قلنا إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب لأن الفطرة السليمة لا تتفق على الكذب فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب الوجه الثاني أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية وكل اسم فلا بد له من حد فمنه ما يعلم حده باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ومنه ما يعلم بالشرع كالمؤمن والكافر والمنافق وكالصلاة والزكاة والصيام والحج وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس كالقبض المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم ( من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه ) ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا نقل عن أحد من الصحابة و التابعين أنه عين للعقود صفة معينة الألفاظ أو غيرها أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة بل قد قيل إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم و أنه من البدع و ليس لذلك حد في لغة العرب بحيث يقال إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا و الأصل بقاء اللغة و تقريرها لا نقلها و تغييرها فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس و عاداتهم فما سموه بيعا فهو بيع وما سموه هبة فهو هبة الوجه الثالث أن تصرفات العباد من الأقوال و الأفعال نوعان عبادات يصلح بها دينهم و عادات يحتاجون إليها في دنياهم فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع و أما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه و الأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى و ذلك لأن الأمر و النهي هما شرع الله و العبادة لا بد أن يكون مأمور ا بها فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور و لهذا كان أحمد و غيره من فقهاء أهل الحديث يقولون إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله و إلا دخلنا في معنى قوله تعالى { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } و العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه و إلا دخلنا في معنى قوله { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } و لهذا ذم الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله و حرموا ما لم يحرمه في سورة الأنعام من قوله تعالى { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون } فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وهذه قاعدة عظيمة نافعة و إذا كان كذلك فنقول البيع و الهبة و الإجارة و غيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل و الشرب و اللباس فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة فحرمت منها ما فيه فساد و أوجبت ما لا بد منه و كرهت ما لا ينبغي و استحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات و مقاديرها و صفاتها و إذا كان كذلك فالناس يتبايعون و يستأجرون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة كما يأكلون و يشربون كيف شاءوا ما لم تحرم الشريعة و إن كان بعض ذلك قد يستحب أو يكون مكروها وما لم تحد الشريعة في ذلك حدا فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي و أما السنة و الإجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة من أنواع المبايعات و المؤاجرات و التبرعات علم ضرورة أنهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين و الآثار في ذلك كثيرة ليس هذا موضعها إذ الغرض التنبيه على القواعد و إلا فالكلام في أعيان المسائل له موضع غير هذا فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجده و المسلمون بنوا المساجد على عهده و بعد موته ولم يأمر أحدا أن يقول وقفت هذا المسجد ولا ما يشبه هذا اللفظ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ) فعلق الحكم بنفس بنائه وفي الصحيحين أنه لما اشترى الجمل من عبد الله بن عمر بن الخطاب قال هو لك يا عبد الله ابن عمر و لم يصدر من ابن عمر قبول وكان يهدي ويهدي له فيكون قبض الهدية قبولها ولما نحر البدنات قال من شاء اقتطع مع إمكان قسمتها فكان هذا إيجابا و كان الاقتطاع هو القبول وكان يسأل فيعطي أو يعطي من غير سؤال فيقبض المعطى و يكون الإعطاء هو الإيجاب و الأخذ هو القبول في قضايا كثيرة جدا ولم يكن يأمر الآخذين بلفظ ولا يلتزم أن يتلفظ لهم بصيغة كما في إعطائه للمؤلفة قلوبهم و للعباس و غيرهم وجعل إظهار الصفات في المبيع بمنزلة اشتراطها باللفظ في مثل المصراة ونحوها من المدلسات وأيضا فإن التصرفات جنسان عقود وقبوض كما جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى ) ويقول الناس البيع والشراء والأخذ والعطاء والمقصود من العقود إنما هو القبض والاستيفاء فإن المعاقدات تفيد وجوب القبض وجوازه بمنزلة إيجاب الشارع ثم التقابض ونحوه وفاء بالعقود بمنزلة فعل المأمور به في الشرعيات والقبض ينقسم إلى صحيح وفاسد كالعقد وتتعلق به أحكام شرعية كما تتعلق بالقبض فإذا كان المرجع في القبض إلى عرف الناس وعاداتهم من غير حد يستوي فيه جميع الناس في جميع الأحول والأوقات فكذلك العقود وإن حررت عبارته قلت أحد نوعى التصرفات فكان المرجوع فيه إلى عادة الناس كالنوع الآخر ومما يلتحق بهذا أن الإذن العرفي في الإباحة أو التمليك أو التصرف بطريق الوكالة كالإذن اللفظي فكل واحد من الوكالة والإباحة ينعقد بما يدل عليها من قول وفعل والعلم برضي المستحق يقوم مقام إظهاره للرضا وعلى هذا يخرج مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان بيعة الرضوان وكان غائبا وإدخاله أهل الخندق إلى منزل أبي طلحة ومنزل جابر بدون استئذانهما لعلمه أنهما راضيان بذلك ولما دعاه صلى الله عليه وسلم اللحام سادس ستة اتبعهم رجل فلم يدخله حتى استأذن اللحام الداعي وكذلك ما يؤثر عن الحسن البصري أن أصحابه لما دخلوا منزله وأكلوا طعامه قال ذكرتموني أخلاق قوم قد مضوا وكذلك معنى قول أبي جعفر إن الإخوان من يدخل أحدهم يده في جيب صاحبه فيأخذ منه ما شاء ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن استوهبه كبة شعر أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فقد وهبته لك و كذلك إعطاؤه المؤلفة قلوبهم عند من يقول إنه أعطاهم من أربعة الأخماس وعلى هذا خرج الإمام أحمد بيع حكيم بن حزم و عروة بن الجعد لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم في شراء شاه بدينار فاشترى شاتين و باع إحداهما بدينار فإن التصرف بغير استئذان خاص تارة بالمعاوضة و تارة بالتبرع و تارة بالانتفاع مأخذه إما إذن عرفي عام أو خاص
● [ يتم متابعة العقود ] ●
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة