بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ قواعد أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه ] ●
ومن القواعد التي أدخلها قوم من العلماء في الغرر المنهي عنه أنواع من الإجارات و المشاركات كالمساقاة و المزارعة و نحو ذلك فذهب قوم من الفقهاء إلى أن المساقاة و المزارعة حرام باطل بناء على أنها نوع من الإجارة لأنها عمل بعوض و الإجارة لا بد أن يكون الأجر فيها معلوما لأنها كالثمن ولما روى أحمد عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره و عن النجش و اللمس و إلقاء الحجر و أن العوض في المساقاة و المزارعة مجهول لأنه قد يخرج الزرع و الثمر قليلا و قد يخرج كثيرا وقد يخرج على صفات ناقصة وقد لا يخرج فإن منع الله الثمرة كان استيفاء عمل العامل باطلا وهذا قول أبي حنيفة وهو أشد الناس قولا بتحريم هذا و أما مالك و الشافعي فالقياس عندهما ما قاله أبو حنيفة إدخالا لذلك في الغرر لكن جوزا منه ما تدعو إليه الحاجة فجوز مالك و الشافعي في القديم المساقاة مطلقا لأن كراء الشجر لا يجوز لأنه بيع للثمر قبل بدو صلاحه و المالك قد يتعذر عليه سقي شجره و خدمته فيضطر إلى المساقاة بخلاف المزارعة فإنه يمكنه كراء الأرض بالأجر المسمى فيغنيه ذلك عن المزارعة عليه تبعا لكن جوزا من المزارعة ما يدخل في المساقاة تبعا فإذا كان بين الشجر بياض قليل جازت المزارعة عليه تبعا للمساقاة و مذهب مالك أن زرع ذلك البياض للعامل بمطلق العقد فإن شرطاه بينهما جاز وهذا إذا لم يتجاوز الثلث و الشافعي لا يجعله للعامل لكن يقول إذا لم يمكن سقي الشجر إلا بسقيه جازت المزارعة عليه و لأصحابه في البياض إذا كان كثيرا أكثر من الشجر وجهان وهذا إذا جمعهما في صفقة واحدة فإن فرق بينهما في صفقتين فوجهان أحدهما لا يجوز بحال لأنه إنما جاز تبعا فلا يفرد بعقد و الثاني يجوز إذا ساقى ثم زارع لأنه يحتاج إليه حينئذ وأما إذا قدم المزارعة لم يجز وجها واحدا وهذا إذا كان الجزء المشروط فيهما واحدا كالثلث و الربع فإن فاضل بينهما ففيه وجهان وروى عن قوم من السلف منهم طاووس والحسن وبعض الخلف المنع من إجارتها بالأجرة المسماة وإن كانت دراهم أو دنانير وروى حرب عن الأوزاعي أنه سئل هل يصلح اكتراء الأرض فقال اختلف فيه فجماعة من أهل العلم لا يرون باكترائها بالدينار والدرهم بأسا وكره ذلك آخرون منهم وذلك لأن ذلك في معنى بيع الغرر لأن المستأجر يلتزم الأجرة بناء على ما يحصل له من الزرع وقد لا ينبت الزرع فيكون بمنزلة اكتراء الشجرة لاستثمارها وقد كان طاووس يزارع ولأن المزارعة أبعد عن الغرر من المؤاجرة لأن المتعاملين في المزارعة إما أن يغنما جميعا أو يغرما جميعا فتذهب منفعة بدن هذا وبقره ومنفعة أرض هذا وذلك أقرب إلى العدل من أن يحصل أحدهما على شيء مضمون ويبقى الآخر تحت الخطر إذ المقصود بالعقد هو الزرع لا القدرة على حرث على الأرض وبذرها وسقيها وعذر الفريقين مع هذا القياس ما بلغهم من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن المخابرة وعن كراء الأرض كحديث رافع بن خديج وحديث جابر فعن نافع أن ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من إمارة معاوية ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراءالمزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا بما على الأربعاء وشئ من التبن أخرجاه في الصحيحين وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم حتى بلغه في آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد فكان إذا سئل عنها بعد قال زعم رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض قال رافع بن خديج لعبد الله سمعت عمى وكانا قد شهدا بدرا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض قال عبد الله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكري ثم خشى عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يعلمه فترك كراء الأرض رواه مسلم وروى البخاري قول عبد الله الذي في آخره عن رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا فقلت وما ذاك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعون بمحاقلكم فقلت نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو على الأوسق من التمر أو الشعير قال فلا تفعلوا ازرعوها أو ازرعوها أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة أخرجاه في الصحيحين وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه ) ) أخرجاه وعن جابر بن عبد الله قال كانوا يزرعونها بالثلث أو الربع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسك أرضه أخرجاه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها وفي رواية الصحيح ولا يكريها وفي رواية في الصحيح نهى عن كراء الأرض وقد ثبت أيضا في الصحيحين عن جابر قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة وفي رواية في الصحيحين عن زيد ابن أبي أنيسة عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة وأن يشترى النخل حتى يشقه والإشقاه أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شئ والمحاقلة أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم والمزابنة أن يباع النخل بأوساق من التمر والمخابرة الثلث والربع وأشباه ذلك قال زيد قلت لعطاء بن أبي رباح أسمعت جابرا يذكر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم فهذه الأحاديث قد يستدل بها من ينهى عن المؤاجرة والمزارعة لأنه نهى عن كرائها والكراء يعمها لأنه قال فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن لم يفعل فليمسكها فلم يرخص إلا في أن يزرعها أو يمنحها لغيره ولم يرخص في المعارضة عنه لا بمؤاجرة ولا بمزارعة ومن يرخص في المزارعة دون المؤاجرة يقول الكراء هو الإجارة أو المزارعة الفاسدة التي كانوا يفعلونها بخلاف المزارعة الصحيحة التي ستأتي أدلتها والتي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل بها أهل خيبر وعمل بها الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة من بعده يؤيد ذلك أن ابن عمر الذي ترك كراء الأرض لما حدثه رافع كان يروي حديث أهل خيبر رواية من يفتي به وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وجميع ذلك من أنواع الغرر والمؤاجرة أظهر في الغرر من المزارعة كما تقدم ومن يجوز المؤاجرة دون المزارعة يستدل بما رواه مسلم في صحيحه عن ثابت ابن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها فهذا صريح في النهى عن المزارعة والأمر بالمؤاجرة ولأنه سيأتي عن رافع بن خديج الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن كرائها بشيء معلوم مضمون وإنما نهاهم عما كانوا يفعلونه من المزارعة وذهب جميع فقهاء الحديث الجامعون لطرقه كلهم كأحمد بن حنبل وأصحابه كله من المتقدمين والمتأخرين وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة وسليمان بن دواد الهاشمي وأبي خيثمة زهير بن حرب وأكثر فقهاء الكوفيين كسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة والبخاري صاحب الصحيح وأبي داود وجماهير فقهاء الحديث من المتأخرين كابن المنذر وابن خزيمة والخطابي وغيرهم وأهل الظاهر وأكثر أصحاب أبي حنيفة إلى جواز المزارعة والمؤاجرة ونحو ذلك اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه وأصحابه وما عليه السلف وعمل جمهور المسلمين وبينوا معاني الأحاديث التي يظن اختلافها في هذا الباب فمن ذلك معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر وهو وخلفاؤه من بعده إلى أن أجلاهم عمر فعن ابن عمر قال عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع أخرجاه وأخرجا أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أهل خيبر على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما خرج منها هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم لما افتتحت خيبر سألت يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر والزرع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم فيها على ذلك ما شئنا وكان الثمر على السهمان من نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وفي رواية مسلم عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم وللرسول صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر أهلها على النصف نخلها وأرضها رواه الإمام أحمد وابن ماجة وعن طاوس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع فهو يعمل به إلى يومك هذا رواه ابن ماجة وطاوس كان بالمين وأخذ عن أصحاب معاذ الذين باليمن من أعيان المخضرمين وقوله وعمر وعثمان أي كنا نفعل كذلك على عهد عمر وعثمان فحذف الفعل لدلالة الحال عليه لأن المخاطبين كانوا يعلمون أن معاذا خرج من اليمن في خلافة الصديق وقدم الشام في خلافة عمر ومات بها في خلافته قال البخاري في صحيحه وقال قيس ابن مسلم عن أبي جعفر يعني الباقر ما بالمدينة دار هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع قال وزارع علي وسعد ابن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وعامل عمر الناس على انه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وهذه الآثار التي ذكرها البخاري قد رواها غير واحد من المصنفين في الآثار فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزرعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم زارعوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده إلى أن أجلا عمر اليهود إلى تيماء وقد تأول من أبطل المزارعة و المساقاة ذلك بتأويلات مردودة مثل أن قال كان اليهود عبيدا للنبي صلى الله عليه وسلم و المسلمين فجعلوا ذلك مثل المخارجة بين العبد و سيده و معلوم بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم و لم يسترقهم حتى أجلاهم عمر و لم يبعهم ولا مكن أحدا من المسلمين من استرقاق أحد منهم ومثل أن قال هذه معاملة مع الكفار فلا يلزم أن تجوز مع المسلمين وهذا مردود فإن خيبر كانت قد صارت دار إسلام وقد أجمع المسلمون أنه يحرم في دار الإسلام بين المسلمين و أهل العهد ما يحرم بين المسلمين من المعاملات الفاسدة ثم إنا قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل بين المهاجرين و الأنصار و أن معاذ بن جبل عامل على عهده أهل اليمن بعد إسلامهم على ذلك و أن الصحابة كانوا يعاملون بذلك و القياس الصحيح يقتضي جواز ذلك مع عمومات الكتاب و السنة المبيحة أو النافية للحرج ومع الاستصحاب و ذلك من وجوه أحدها أن هذه المعاملة مشاركة ليست مثل المؤاجرة المطلقة فإن النماء الحادث يحصل من منفعة أصلين منفعة العين التي لهذا كبدنه وبقره و منفعة العين التي لهذا كأرضه و شجره كما تحصل المغانم بمنفعة أبدان الغانمين و خيلهم و كما يحصل مال الفيء بمنفعة أبدان المسلمين من قوتهم و نصرهم بخلاف الإجارة فإن المقصود فيها هو العمل أو المنفعة فمن استأجر لبناء أو خياطة أو شق الأرض أو بذرها أو حصاد فإذا وافاه ذلك العمل فقد استوفى المستأجر مقصوده بالعقد و استحق الأجير أجره و لذلك يشترط في الإجارة اللازمة أن يكون العمل مضبوطا كما يشترط مثل ذلك في المبيع وهنا منفعة بدن العامل و بدن بقره وحديده هو مثل منفعة أرض المالك و شجره ليس مقصود واحد منهما استيفاء منفعة الآخر و إنما مقصودهما جميعا ما يتولد من اجتماع المنفعتين فإن حصل نماء اشتركا فيه و إن لم يحصل نماء ذهب على كل منهما منفعته فيشتركان في المغنم و في المغرم كسائر المشتركين فيما يحدث من نماء الأصول التي لهم وهذا جنس من التصرفات يخالف في حقيقته و مقصوده و حكمه الإجارة المحضة وما فيه من شوب المعاوضة من جنس ما في الشركة من شوب المعاوضة فإن التصرفات العدلية في الأرض جنسان معاوضات و مشاركات فالمعاوضات كالبيع و الإجارة و المشاركات شركة الأملاك و شركة العقد و يدخل في ذلك اشتراك المسلمين في مال بيت المال و اشتراك الناس في المباحات كمنافع المساجد و الأسواق المباحة و الطرقات وما يحيا من الموات أو يوجد من المباحات و اشتراك الورثة في الميراث و اشتراك الموصى لهم و الموقوف عليهم في الوصية و الوقف و اشتراك التجار و الصناع شركة عنان أو أبدان ونحو ذلك وهذان الجنسان هما منشأ الظلم كما قال تعالى عن داود عليه السلام 38 24 { وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } و التصرفات الأخرى هي الفضلية كالقرض و العارية و الهبة و الوصية وإذا كانت التصرفات المبنية على المعادلة هي معاوضة أو مشاركة فمعلوم قطعا أن المساقاة و المزارعة و نحوهما من جنس المشاركة ليسا من جنس المعاوضة المحضة و الغرر إنما حرم بيعه في المعاوضة لأنه أكل مال الباطل وهنا لا يأكل أحدهما مال الآخر لأنه لم ينبت الزرع فإن رب الأرض يأخذ منفعة الآخر إذ هو لم يستوفها ولا ملكها بالعقد ولا هي مقصوده بل ذهبت منفعة بدنه كما ذهبت منفعة أرض هذا ورب الأرض لم يحصل له شيء حتى يكون قد أخذه و الآخر لم يأخذ شيئا وبخلاف بيوع الغرر وإجارة الغرر فإن أحد المتعاوضين بأخذ شيئا والآخر يبقى تحت الخطر فيفضي إلى ندم أحدهما و خصومتهما وهذا المعنى نتف في هذه المشاركات التي مبناها على المعادلة المحضة التي ليس فيها ظلم البتة لا في غرر ولا في غير غرر ومن تأمل هذا تبين له مأخذه هذه الأصول وعلم أن جواز هذه أشبه بأصول الشريعة و أعرف في العقول و أبعد عن كل محذور من جواز إجارة الأرض بل ومن جواز كثير من البيوع و الإجارات المجمع عليها حيث هي مصلحة محضة للخلق بلا فساد و إنما وقع اللبس فيها على من حرمها من إخواننا الفقهاء بعد ما فهموه من الآثار من جهة أنهم اعتقدوا هذا إجارة على عمل مجهول لما فيها من عمل بعوض و ليس كل من عمل لينتفع بعمله يكون أجيرا كعمل الشريكين في المال المشترك و عمل الشريكين في شركة الأبدان و كاشتراك الغانمين في المغانم و نحو ذلك مما لا يعد ولا يحصى نعم لو كان أحدهما يعمل بمال يضمنه له الآخر لا يتولد من عمله كان هذا إجارة الوجه الثاني أن هذه من جنس المضاربة فإنها عين تنمو بالعمل عليها فجاز العمل عليها ببعض نمائها كالدراهم و الدنانير و المضاربة جوزها الفقهاء الفقهاء كلهم اتباعا لما جاء فيها عن الصحابة رضي الله عنهم مع أنه لا يحفظ فيها بعينها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد كان أحمد يرى أن يقيس المضاربة على المساقاة و المزارعة لأنها تبتت بالنص فتجعل أصلا يقاس عليه و إن خالف فيها من خالف و قياس كل منهما على الآخر صحيح فإن من ثبت عنده جواز أحدهما أمكنه أن يستعمل فيه حكم الآخر لتساويها فإن قيل الربح في المضاربة ليس من عين الأصل بل الأصل يذهب و يجيء بدله فالمال المقسم حصل بنفس العمل بخلاف الثمر و الزرع فإنه من نفس الأصل قيل هذا الفرق فرق في الصورة وليس له تأثير شرعي فإنا نعلم بالاضطرار أن المال المستفاد إنما حصل بمجموع منفعة بدن العامل و منفعة رأس المال ولهذا يرد إلى رب المال مثل رأس ماله و يقتسمان الربح كما أن العامل يبقى بنفسه التي هي نظير الدراهم و ليست إضافة الربح إلى عمل بدن هذا بأولى من إضافته إلى منفعة مال هذا ولهذا فالمضاربة التي تروونها عن عمر إنما حصلت بغير عقد لما أقرض أبو موسى الأشعري لابني عمر من مال بيت المال فتحملاه إلى أبيهما فطلب عمر جميع الربح لأنه رأى ذلك كالغصب حيث أقرضهما ولم يقرض غيرهما من المسلمين و المال مشترك و أحد الشركاء إذا اتجر في المال المشترك بدون إذن الآخر فهو كالغاصب في نصيب الشريك و قال له ابنه عبد الله الضمان كان علينا فيكون الربح لنا فأشار عليه بعض الصحابة بأن يجعله مضاربة وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل أولهما على ثلاثة أقوال و أحسنها و أقيسها أن يكون مشتركا بينهما كما قضى به عمر لأن النماء متولد عن الأصلين و إذا كان أصل المضاربة الذي اعتمدوا قد عليه راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم و المسلمون بعده القرض منيحة يقال منيحة ورق ويقول الناس أعرني دراهمك يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية و المقترض انتفع بها وردها و سموا المضاربة قراضا لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات ويقال أيضا لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاءه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس لأن النماء إذ حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما و إن قيل الزرع نماء الأرض دون البدن فقد يقال و الربح نماء العامل دون الدراهم أو بالعكس وكل هذا باطل بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب و الماء و الهواء و منفعة بدن العامل و البقر والحديد ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل و يشترط أن يكون معلوما و الأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة وهنا ليس المقصود إلا النماء ولا يشترط معرفة العمل و الأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة و إنما هي بعض ما يحصل من النماء و لهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا أو أجرة معلومة في الذمة وهذا بين في الغاية فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع و العقل و كان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين و إلحاقها بما هي به أشبه أولى وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب الوجه الثالث أن نقول لفظ الإجارة فيه عموم و خصوص فإنها على ثلاث مراتب أحدها أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض فيدخل في ذلك المهر كما في قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم المرتبة الثانية الإجارة التي هي جعالة وهو أن يكون النفع غير معلوم لكن العوض مضمونا فيكون عقدا جائزا غير لازم مثل أن يقول من رد علي عبدي فله كذا فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا الثالثة الإجارة الخاصة وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة بحيث تكون المنفعة معلومة فيكون الأجر معلوما و الإجارة لازمة وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه و الفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة أو قالوا باب الإجارة أرادوا هذا بالمعنى فيقال المساقاة و المزارعة و المضاربة و نحوهن من المشاركات على نماء يحصل من قال هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام فقد صدق ومن قال هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ و إذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين فلا بد أن يكون معلوما وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه كما لو قال الأمير في الغزو من دلنا على حصن كذا فله منه كذا فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه فالشركة أولى و أحرى ويسلك في هذا طريقة أخرى فيقال الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا قياسا على الثمن فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم فلا يجوز إلحاقها بها فتبقى على الأصل المبيح فتحرير المسألة أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة فإن أراد الخاصة لم يصح و إن أراد العامة فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه فضلا عن الفقيه ولن تجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحال و يسلك في هذا طريقة أخرى وهو قياس العكس وهو أن يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل فيقال المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة و نحوها لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل أو ما يذكر من هذا الجنس وهذه المعاني منتفية في الفرع فإذا لم يكن التحريم موجب إلا كذا وهو منتف فلا تحريم وأما الأحاديث حديث رافع بن خديج و غيره فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن نهيا عما فعل هو و الصحابة في عهده و بعده بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه فعن رافع بن خديج قال كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا كنا نكرى الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض قال مما يصاب ذلك و تسلم الأرض ومما تصاب الأرض و يسلم ذلك فنهينا فأما الذهب و الورق فلم يكن يومئذ رواه البخاري وفي رواية له قال كنا أكثر أهل المدينة حقلا وكان أحدنا يكرى أرضه فيقول هذه القطعة لي وهذه لك فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه فنهينا عن ذلك ولم ننه عن الورق وفي صحيح مسلم عن رافع قال كنا أكثر أهل الأمصار حقلا قال كنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك و أما الورق فلم ينهنا وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب و الورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات و أقبال الجداول و أشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا و يهلك هذا و يسلم هذا فلم يكن الناس كراء إلا هذا فلذلك زجر الناس عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به فهذا رافع بن خديج الذي عليه مدار الحديث يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل و هذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة و حرموا نظيره في المضاربة فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات و ذلك أن الأصل في هذه المعاوضات و المقابلات هو التعادل من الجانبين فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه و جعله محرما على عباده فإن كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن و بقي الآخر تحت الخطر لم يجز و لذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم بيع الثمر قبل بدو صلاحه فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب و دخله الخطر و معنى القمار كما ذكره رافع في قوله فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فيفوز أحدهما و يخيب الآخر وهذا معنى القمار و أخبر رافع أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا و أنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من المخاطرة و معنى القمار و أن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة وسأشير إن شاء الله إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها و رافع أعلم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أي شيء وقع وهذا والله أعلم هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر فإنه قال لما حدثه رافع قد علمت أنا كنا نكرى مزارعنا على الأربعاء و بشيء من التبن فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين و كان ابن عمر يفعله لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغه النهي يدل على ذلك أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما و يفتي به و يفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء و أهل بيته أيضا بعد حديث رافع فروى حرب الكرماني قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه حدثنا معتمر بن سليمان سمعت كليب بن وائل قال أتيت ابن عمر فقلت أتاني رجل له أرض و ماء وليس له بذر ولا بقر فأخذتها بالنصف فبذرت فيها بذري و عملت فيها ببقري فناصفته قال حسن وقال حدثنا ابن أخي حزم حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت سالم بن عبد الله و أتاه رجل فقال الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول أجيء ببذري و بقري و أعمل أرضك فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا قال لا بأس به ونحن نصنعه و هكذا أخبر أقارب رافع ففي البخاري عن رافع قال حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل لرافع فكيف بالدينار و الدرهم فقال ليس بأس بالدينار و الدرهم وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال و الحرام لم يجزه لما فيه من المخاطرة وعن أسيد بن ظهير قال كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع و النصف و يشترط ثلاث جداول و القصارة و ما سقى الربيع و كان العيش إذ ذاك شديدا و كان يعمل فيها بالحديد و ما شاء الله و يصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن الحقل ويقول من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع رواه أحمد و ابن ماجة و روى أبو داود قول النبي صلى الله عليه وسلم زاد أحمد و ينهاكم عن المزابنة و المزابنة أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول أخذته بكذا و كذا و سقا من تمر و القصارة ما سقط من السنبل و هكذا أخبر سعد بن أبي وقاص و جابر فأخبر سعد أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع و ما سعد بالماء مما حول البئر فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا ذلك و قال اكروا بالذهب و الفضة رواه أحمد و أبو داود و النسائي فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة و أن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين و عن جابر رضي الله عنه قال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصيب من القصري ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو فليدعها رواه مسلم فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها و العلة التي نهى من أجلها و إذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث أنه نهى عن كراء المزارع مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم و إذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لا تكروا المزارع فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه وهم أعلم بمقصوده و كما جاء مفسرا عنه أنه رخص في غير ذلك الكراء و كما يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة و نحوها و اللفظ و إن كان في نفسه مطلقا فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال أو عقب حكاية حال ونحو ذلك فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب كما لو قال المريض للطبيب إن به حرارة فقال له لا تأكل الدسم فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال وذلك أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود أو حال يقتضيه انصرف إليه و إن كان نكرة كالمتبايعين إذا قال أحدهما بعتك بعشرة دراهم فإنها مطلقة في اللفظ ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ الكراء إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ثم خوطبوا به لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه وكان ذلك من باب التخصيص العرفي كلفظ الدابة إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس أو ذوات الحافر فقال لا تأتني بدابة لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم لهم كان مقيدا بالعرف و بالسؤال وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ( ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها بما على الربيع وعلى الأوسق من التمر والشعير قال لا تفعلوا ازرعوها أو أزرعوها أو أمسكوها ) فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه وأما المزارعة المحضة فلم يتناولها النهي ولا ذكرها رافع و غيره فيما يجوز من الكراء لأنها والله أعلم عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة إما عين و إما دين فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز و كذلك إن كان عينا من غير الزرع و أما إن كان عينا من الزرع لم يجز فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق بل هو شركة محضة إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر و إن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا و لهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز و بين النوع الآخر الذي نهوا عنه ولم يتعرض للشركة لأنها جنس آخر بقي أن يقال فقول النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه و إلا فليمسكها أمر إذا لم يفعل واحدا من الزرع و المنيحة أن يمسكها و ذلك يقتضي المنع من المؤاجرة و من المزارعة كما تقدم فيقال الأمر بهذا أمر ندب و استحباب لا أمر أيجاب أو كان أمر أيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية قال في الآنية التي كانوا يطبخون فيها أهريقوا ما فيها و اكسروها وقال صلى الله عليه وسلم في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها و إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح كما قيل لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه و بين الحرام حاجزا من الحلال كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج لا بتركها جملة فهذا يقع تارة و هذا يقع تارة و لهذا يوجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم لمن خشي منه النفرة عن الطاعة الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم و لمن وثق بإيمانه و صبره النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه و صبره من فعل المستحبات البدنية و المالية كالخروج عن جميع ماله مثل أبي بكر الصديق ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته ثم قال يذهب أحدكم فيخرج ماله ثم يجلس كلا على الناس يدل على ذلك ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة و أمر بالمؤاجرة وقال لا بأس بها وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص أنه نهاهم أن يكروا بزرع موضع معين وقال كروا بالذهب و الفضة و كذلك فهمته الصحابة فإن رافع ابن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه لا بأس بكرائها بالذهب و الفضة و كذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت و ابن عباس ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها قال أي عمرو إني أعطيهم و أعينهم و إن أعلمهم أخبرني يعني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وعن ابن عباس أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة و لكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض رواه مسلم مجملا و الترمذي وقال حديث حسن صحيح فقد أخبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع قال وأنا أعينهم و أعطيهم و أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا و الغرر ومنه مستحب كالعارية و القرض و لهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به فقال لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما وقال من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها فكان الأخ هو الممنوح ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنحهم لا سيما و التبرع إنما يكون عن فضل غني فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم حيث عاملوا عليها المهاجرين وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة كما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت ليطعموا الجياع لأن إطعامهم واجب فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض و أصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ولم يأمرهم بالتبرع عينا كما نهاهم عن الادخار فإن من نهى عن الانتفاع بماله جاد ببذله إذ لا يترك بطالا وقد ينهى النبي صلى الله عليه وسلم بل الأئمة عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي و أما ما رواه جابر من نهيه صلى الله عليه وسلم عن المخابرة فهذه هي المخابرة التي نهى عنها و اللام لتعريف العهد ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه فتركناه من أجله فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر وقد تقدم معنى حديث رافع قال أبو عبيد الخير بكسر الخاء بمعنى المخابرة والمخابرة المزارعة بالنصف والثلث والربع وأقل وأكثر وكان أبو عبيد يقول لهذا سمى الأكار خيبرا لأنه يخابر على الأرض والمخابرة هي المؤاكرة وقد قال بعضهم أصل هذا من خيبر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرها في أيديهم على النصف فقيل خابرهم أي عاملهم في خيبر وليس هذا بشيء فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر وقد فسرا ما كانوا يفعلونه والخبير هو الفلاح سمى بذلك لأنه يخبر الأرض وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة فقالوا المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل والمزارعة على أن يكون البذر من المالك قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة لا المزارعة وهذا أيضا ضعيف فإنا قد ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما في الصحيح من أنه نهى عن المزارعة كما نهى عن المخابرة وكما نهى عن كراء الأرض وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة و الاشتقاق يدل على ذلك
● [ يتم متابعة القاعدة الثانية فى العقود ] ●
رحلات إبن بطوطة الجزء الأول منتدى توتة وحدوتة - البوابة