بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة العقيدة
أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة
الفصل الأول : الإيمان بالملائكة
● [ الباب الثاني : بقية أركان الإيمان ] ●
● [ الفصل الأول : الإيمان بالملائكة ] ●
يشتمل الفصل الأول على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول : تعريف الملائكة وأصل خلقتهم وصفاتهم وبعض خصائصهم.
المبحث الثاني : منزلة الإيمان بهم وكيفيته وأدلة ذلك.
المبحث الثالث : وظائفهم.
[ المبحث الأول ]
تعريف الملائكة وأصل خلقتهم ، وصفاتهم ، وخصائصهم
أولآ : تعريفهم
تعريف الملائكة وأصل خلقتهم ، وصفاتهم ، وخصائصهم
أولآ : تعريفهم
الملائكة : جمع مَلَك . أخذ من (الأَلُوكِ) وهي : الرسالة .
وهم : خلق من مخلوقات الله ، لهم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل والتمثل والتصور بالصور الكريمة ، ولهم قوى عظيمة ، وقدرة كبيرة على التنقل ، وهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله ، قد اختارهم الله واصطفاهم لعبادته والقيام بأمره ، فلا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون.
ثانيآ : أصل خلقهم
والمادة التي خلق الله منها الملائكة هي " النور " . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلقت الملائكة من نور . وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » (1) . والمارج هو : اللهب المختلط بسواد النار.
ثالثآ : صفاتهم
قد تضمن الكتاب والسنة الكثير من النصوص المبينة صفات الملائكة وحقائقها فمن ذلك :
أنهم موصوفون بالقوة والشدة . كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } (التحريم : 6) . وقال تعالى في وصف جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) . وقال في وصفه أيضا { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } (التكوير : 20) .
وهم موصوفون بعظم الأجسام والخلق . ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وقد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى قوله تعالى { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } (التكوير : 23) فقال : « إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض » (2).
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته ، وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم » (3) ، قال الحافظ ابن كثير : إسناده جيد.
وروى أبو داود من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام » (4) قال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح .
ومن صفاتهم أنهم يتفاوتون في الخلق والمقدار فهم ليسوا على درجة واحدة ، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له ستمائة جناح . قال تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } (فاطر : 1) .
ومن صفاتهم الحسن والجمال فهم على درجة عالية من ذلك . قال تعالى في حق جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } (النجم : 5 ، 6) قال ابن عباس رضي الله عنهما ( ذو مرة : ذو منظر حسن) وقال قتادة : (ذو خلق طويل حسن).
وقال تعالى مخبرا عن النسوة عند رؤيتهن ليوسف عليه السلام : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } (يوسف : 31) وإنما قلن ذلك لما هو مقرر عند الناس من وصف الملائكة بالجمال الباهر .
ومن صفاتهم التي وصفهم الله بها أنهم كرام أبرار . قال تعالى { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس : 15 ، 16) . وقال عز وجل { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ }{ كِرَامًا كَاتِبِينَ } (الانفطار : 10 ، 11) .
ومن صفاتهم الحياء لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حق عثمان رضي الله عنه : « ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة » (5) .
ومن صفاتهم أيضا العلم . قال تعالى في خطابه للملائكة { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ }{ ما لا تعلمون } (البقرة : 30) فأثبت الله عز وجل للملائكة علمًا وأثبت لنفسه علمًا لا يعلمونه . وقال تعالى في حق جبريل عليه السلام { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } (النجم : 5) قال الطبري : (علم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن جبريل عليه السلام) أ . هـ ، وهذا متضمن وصف جبريل بالعلم والتعليم.
إلى غير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة من صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة الدالة على علو شأنهم وسمو منازلهم عليهم السلام.
رابعآ : خصائصهم
للملائكة عليهم السلام خصائص وصفات قد اختصهم الله تعالى بها ، وامتازوا بها عن الجن والإنس وسائر المخلوقات . فمنها :
أن مساكنهم في السماء وإنما يهبطون إلى الأرض تنفيذًا لأمر الله في الخلق وما أسند إليهم من تصريف شؤونهم . قال تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } (النحل : 2) وقال تعالى : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } (الزمر : 75) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون » (6) . والنصوص في هذا كثيرة جدًّا يصعب حصرها هنا.
ومن خصائصهم أنهم لا يوصفون بالأنوثة ، قال تعالى منكرا على الكفار ذلك : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } (الزخرف : 19) . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } (النجم : 27) .
ومن خصائصهم أنهم لا يعصون الله في شيء ، ولا تصدر منهم الذنوب ، بل طبعهم الله على طاعته ، والقيام بأمره : كما قال تعالى في وصفهم : { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم : 6) . وقال أيضا { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء : 27).
ومن خصائصهم أيضا أنهم لا يفترون عن العبادة ولا يسأمون . قال تعالى : { وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ }{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } (الأنبياء : 19 ، 20) . وقال في آية أخرى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } (فصلت : 38) .
فهذه بعض خصائص الملائكة التي اختصهم الله بها دون الثقلين من الإنس والجن . وبالجملة فالملائكة جنس آخر ، يتميزون في أصل خلقتهم وتكوينهم عن الإنس والجن . كما أن لكل من الإنس والجن خصائصهما التي يتميز بها أحد الجنسين عن الآخر والله أعلم .
_________
(1) صحيح مسلم برقم (2996) .
(2) صحيح مسلم برقم (177) .
(3) مسند الإمام أحمد : (1 / 395) ، (6 / 294) .
(4) سنن أبي داود : (5 / 96) ، برقم (4727) .
(5) صحيح مسلم برقم (2401) .
(6) صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632) .
[ المبحث الثاني ]
منزلة الإيمان بالملائكة وكيفيته وأدلة ذلك
أولآ : منزلة الإيمان بهم
منزلة الإيمان بالملائكة وكيفيته وأدلة ذلك
أولآ : منزلة الإيمان بهم
الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان في الدين الإسلامي ، لا يتحقق الإيمان إلا به . وقد نص الله على ذلك في كتابه . وأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته .
قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } (البقرة : 285) فأخبر أن الإيمان بالملائكة مع بقية أركان الإيمان مما أنزله على رسوله وأوجبه عليه وعلى أمته وأنهم امتثلوا ذلك .
وقال تعالى في آية أخرى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة : 177) . فجعل الإيمان بهذه الخصال دليل البرِّ- والبرُّ اسم جامع للخير- وذلك أن هذه الأشياء المذكورة هي أصول الأعمال الصالحة ، وأركان الإيمان التي تتفرع منها سائر شعبه.
كما أخبر الله عز وجل في مقابل هذا أن من كفر بهذه الأركان فقد كفر بالله : فقال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } (النساء : 136) فأطلق الكفر على من أنكر هذه الأركان ، ووصفه بالبعد في الضلال . فدل ذلك أن الإيمان بالملائكة ركن عظيم من أركان الإيمان وأن تركه مخرج من الملة.
وقد دلت السنة كذلك على هذا . وهو ما جاء موضحًا في حديث جبريل المشهور الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : « بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . قال : صدقت . قال : فعجبنا له ، يسأله ويصدقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر . وتؤمن بالقدر خيره وشره . قال : صدقت . قال : فأخبرني عن الإحسان . قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة ؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . قال : فأخبرني عن أماراتها ؟ قال : أن تلد الأمة ربَّتها . وأن ترى الْحُفاة العُراة ، العَالة ، رِعاءَ الشاء ، يتطاولون في البنيان . قال : ثم انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي : يا عمر ! أتدري من السائل ؟ قلتَ : الله ورسوله أعلم . قال : فإنه جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم » (1) .
فهذا حديث عظيم اشتمل على أصول الدين ومراتبه كلها وهو منهج فريد في تعليم هذا الدين جاء على طريقة الحوار بين الرسول الملكي ، أفضل الملائكة وهو جبريل عليه السلام وبين الرسول الإنسي أفضل البشر ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فينبغي للمسلمين أن يعنوا بهذا الحديث العظيم وأن يستمدوا منهجهم في التعلم والتعليم منه كما كان على ذلك السلف رضوان الله عليهم . وقد تضمن الحديث ذكر الملائكة وأن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان وهو المقصود هنا . . والله أعلم.
_________
(1) صحيح مسلم برقم (8) .
ثانيآ : كيفية الإيمان بالملائكة
الإيمان بالملائكة يتضمن عدة أمور لا بد للعبد من تحقيقها حتى يتحقق له الإيمان بالملائكة وهي :
1 - الإقرار بوجودهم والتصديق بهم كما دلت على ذلك النصوص المتقدمة من أن الإيمان بهم ركن من أركان الإيمان فلا يتحقق الإيمان إلا بذلك.
2 - الإيمان بأنهم خلق كثير جدًّا لا يعلم عددهم إلا الله تعالى كما دلت على ذلك النصوص . قال تعالى { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (المدثر : 31) .
أي لا يعلم جنود ربك وهم الملائكة إلا هو وذلك لكثرتهم . قال بذلك بعض السلف .
وجاء في حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( . . . « ثم رفع لي البيت المعمور ، فقلت : يا جبريل ! ما هذا ؟ قال : هذا البيت المعمور . يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه آخر ما عليهم » (1) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها » (2) . فدل الحديثان على كثرة الملائكة ، فإذا كان البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه وإنما يأتي غيرهم ، وجهنم يأتي بها يوم القيامة هذا العدد من الملائكة ، فكيف بغيرهم من الملائكة الموكلين بأعمال أخرى ممن لا يعلم عددهم إلا خالقهم تبارك وتعالى.
3 - الإقرار لهم بمقاماتهم العظيمة عند ربهم وكرمهم عليه وشرفهم عنده كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } (الأنبياء : 26 ، 27) . وقال جل وعلا { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }{ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } (عبس : 15 ، 16) . فوصفهم بأنهم مكرمون منه سبحانه . وقال تعالى في حقهم { فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } (فصلت : 38) فوصفهم بأنهم عنده وهذا تشريف لهم ، مع مقام التعبد له بلا سآمة . كما أنه تعالى أقسم بهم في غير موطن من كتابه وهذا لشرفهم عنده . فقال : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا }{ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا }{ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } (الصافات : 1-3) . وقال عز وجل : { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا }{ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا } (المرسلات : 4 ، 5) . وشواهد صور إكرام الملائكة وتنوع أساليبها وتعدد سياقاتها من كتاب الله كثيرة لا تخفى على متدبر مما يحتم تقرير هذا في الشرع والله أعلم.
4 - اعتقاد تفاضلهم وعدم تساويهم في الفضل والمنزلة عند الله على ما دلت على ذلك النصوص : قال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (الحج : 75) . وقال عز وجل : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } (النساء : 172) فأخبر أن منهم مصطفين بالرسالة ومقربين ، فدل على فضلهم على غيرهم . وأفضل الملائكة : المقربون مع حملة العرش . وأفضل المقربين الملائكة الثلاثة الوارد ذكرهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يفتتح به صلاة الليل فيقول : « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة » . . ) (3).
وأفضل الثلاثة جبريل عليه السلام وهو الموكل بالوحي ، فشرفه بشرف وظيفته . وقد ذكره الله في كتابه بما لم يذكر غيره من الملائكة ، وسماه بأشَرف الأسماء ، ووصفه بأحسن الصفات . فمن أسمائه الروح : قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } (الشعراء : 193) . وقال عز وجل : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } (القدر : 4) . وقد ورد هذا الاسم مضافًا إلى الله تعالى إضافة تشريف . قال تعالى : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } (مريم : 17) . وورد مضافًا إلى القدس ، قال تعالى { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } (النحل : 102) والقدس هو الله على الصحيح من أقوال المفسرين . ومما جاء في وصفه قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }{ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }{ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } (التكوير : 19- 21) . وقال تعالى { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى }{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } (النجم : 5 ، 6) فوصفه الله تعالى بأنه رسول وأنه كريم عنده ، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه ، وأنه مطاع في السماوات ، وأنه أمين على الوحي وأنه ذو مرة (أي مظهر حسن) .
5 - موالاتهم والحذر من عداوتهم لقوله تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } (التوبة : 71) فدخل الملائكة في هذه الآية لأنهم مؤمنون قائمون بطاعة ربهم كما أخبر الله عنهم { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم : 6) . وأخبر جل وعلا عن موالاة الملائكة لرسوله وللمؤمنين فقال : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } (التحريمَ : 4) وقال عز وجل : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } (الأحزاب : 43) . وقال : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } (فصلتَ : 30) . فوجبت موالاة الملائكة على المؤمنين لموالاتهم لهم ونصرهم وتأييدهم واستغفارهم لهم . وقد حذر الله تعالى من عداوة الملائكة فقال : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة : 98) . فأخبر أن عداوة الملائكة موجبة لعداوة الله وسخطه ، وذلك لأنهم إنما يصدرون عن أمره وحكمه ، فمن عاداهم فقد عادى ربه.
6 - الاعتقاد بأن الملائكة خلق من خلق الله لا شأن لهم في الخلق والتدبير وتصريف الأمور ، بل هم جند من جنود الله يعملون بأمر الله ، والله تعالى هو الذي بيده الأمر كله لا شريك له في ذلك . كما أنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لهم ، بل يجب إخلاص العبادة لخالقهم وخالق الخلق أجمعين ، الذي لا شريك له في ربوبيته وألوهيته ولا مثيل له في أسمائه وصفاته . وقد بين الله تعالى ذلك فقال عز من قائل : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران : 80) . وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }{ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } (الأنبياء : 26-29) . فأخبر سبحانه أنه لم يأمر بعبادتهم وكيف يأمر بعبادتهم وهي كفر بالله العظيم ثم أبطل تعالى دعوى من زعم أن الملائكة بنات الله ونزه نفسه عن ذلك ، وبين أنهم عباد مكرمون بكرامته لهم عاملون بأمره مشفقون من خشيته وأنهم لا يملكون الشفاعة لأحد إلا من رضي الله عنه من أهل التوحيد . ثم ختم السياق ببيان جزاء من ادعى الألوهية منهم وأن جزاءه جهنم ، فظهر من ذلك أهم عباد مربوبون لا حول لهم ولا قوة إلا بربهم وخالقهم .
7 - الإيمان المفصل بمن جاء التصريح بذكرهم من الملائكة على وجه الخصوص في الكتاب والسنة : كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ومالك ، وهاروت وماروت ، ورضوان ، ومنكر ونكير ، وغيرهم ممن جاءت النصوص بتسميتهم . وكذلك من جاءت النصوص بالإخبار عنه بالوصف : كرقيب وعتيد ، أو بذكر وظيفته : كملك الموت وملك الجبال ، أو من جاءت النصوص بذكر وظائفهم في الجملة : كحملة العرش ، والكرام الكاتبين والموكلين بحفظ الخلق ، والموكلين بحفظ الأجنة والأرحام ، وطواف البيت المعمور ، والملائكة السياحين ، إلى آخر من أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم.
فيجب الإيمان بذلك إيمانا مفصلا على نحو ما جاء في النصوص من أسمائهم وصفاتهم ، ووظائفهم ، وأخبارهم ، والتصديق بكل ذلك مما سيأتي بيانه في المبحث القادم إن شاء الله تعالى .
فهذه جملة ما يجب اعتقاده في حق الملائكة الكرام مما دلت عليه النصوص الشرعية والله تعالى أعلم.
_________
(1) صحيح البخاري برقم (3207) ، ومسلم برقم (164) ، واللفظ لمسلم .
(2) صحيح مسلم برقم (2842) .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند : 6 / 156 ، والنسائي في السنن : 3 / 173 ، برقم (1625) ، ونحوهما مسلم في الصحيح ، برقم (770) ، وابن ماجه ، برقم (1357).
[ المبحث الثالث ]
وظائف الملائكة
وظائف الملائكة