من طرف كراكيب الجمعة 21 مايو 2021 - 3:30
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة العلمية
المناظر لابن الهيثم
المقالة الثالثة
أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها
الجزء السادس من الفصل السابع
● [ غلط البصر من أجل شفيف الهواء ] ●
[ البعد ]
فأما كيف يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال فإن ذلك يكون في المبصرات التي يدركها البصر في الضباب أو القتام. وذلك يعرض عند غشيان الضباب للموضع وقبل أن يصل إلى موضع البصر، أو إذا كان القتام في موضع من الأرض والبصر خارج عن ذلك الموضع. وإدراك المبصرات في الضباب يعرض كثيراً لسكان الجبال والمواضع الشديدة البرد، فإن الضباب يغشاهم كثيراً في الشتاء، وقد يكون في السهول أيضاً وفي المواضع المعتدلة الهواء في بعض الأوقات.
فإذا أدرك البصر المبصر في الضباب أو في القتام فليس يتيقن مقدار بعده وإن كان بعده مسامتاً لأجسام مرتبة متصلة. وذلك لأنه ربما لم يدرك البصر وجه الأرض في الضباب أو القتام، وإن أدرك وجه الأرض فليس يدركه إدراكاً صحيحاً ولا يتحقق صورة ما بعد عن قدميه في الأرض، ولا يتحقق وضع المبصر أيضاً إذا كان مائلاً على خطوط الشعاع، ولا يفرق بين سطح المبصر المائل وبين سطح المبصر المواجه إذا أدركه في الضباب أو القتام، وخاصة إذا كان المبصر في الضباب أو القتام وكان البصر في هواء لطيف. وإذا أدرك البصر المبصر ولم يتحقق مقدار بعده فربما ظنه بعيداً ويكون ذلك المبصر قريباً، وذلك في المبصرات المألوفة، لأنه يدرك صورة المبصر في الضباب وفي القتام مشتبهة غير بينة. وربما ظن بالمبصر أنه قريب، ويكون المبصر بعيداً، كالجبال والروابي. فإن البصر إذا أدرك الجبال من وراء الضباب والهواء ا لغليظ فإنه يظنها قريبة وهي مع ذلك بعيدة. وذلك لعظم صورتها، لأن البصر إذا أدرك عظمها فليس يدرك سطح الأرض القريب منه الذي بينه وبينها إدراكاً صحيحاً، لأن عظمها إنما هو لقربها. وإذا ظن البصر بالمبصر القريب أنه بعيد وبالبعيد أنه قريب فهو غالط في بعده.
[ الوضع ]
وكذلك إذا أدرك البصر المبصر في الضباب وفي القتام، وكان مائلاً على خطوط الشعاع، فإنه يظنه مواجهاً، لأنه إذا أدركه في الضباب وفي القتام فليس يدرك صورته إدراكاً محققاً، وليس يدرك اختلاف أبعاد أطرافه لأنه ليس يتحقق مقدار بعده. وإذا لم يدرك اختلاف أبعاد أطرافه فليس يدرك ميل سطحه، وإذا لم يدرك ميل سطحه فإنه يدركه كأنه مواجه. وإذا أدرك البصر المبصر المائل كأنه مواجه فهو غالط في وضعه.
[ الشكل ]
وكذلك إذا كان في سطح المبصر تحديب يسير أو تقعير يسير أو أجزاء مختلفة الوضع فإن البصر لا يدرك التحديب اليسير الذي يكون في سطح المبصر ولا التقعير اليسير إذا أدركه في الضباب وفي القتام، ولا يتحقق صورته، ولا يفرق بين السطح المحدب إذا كان تحديبه يسيراً وبين السطح المسطح. وكذلك لا يفرق بين التقعير اليسير والتسطيح. وإذا ظن البصر بالسطح المحدب أو المقعر أنه مسطح فهو غالط. وكذلك إذا كان المبصر ذا زوايا صغار وزوائد صغار فليس يدركها البصر في الضباب الغليظ والقتام ولا يتحقق شكل المبصر الذي بهذه الصفة.
[ العظم ]
وإذا أراد البصر المبصر في الضباب والقتام، وكان البصر في هواء لطيف، فإنه يدرك مقداره أعظم من مقداره الحقيقي كما يدرك المبصرات التي تكون في الماء. وإذا أدرك البصر مقدار المبصر أعظم من مقداره الحقيقي فهو غالط في عظمه.
[ التفرق ]
وإذا أدرك البصر المبصر في الضباب أو في القتام، وكان ذلك المبصر من الأجسام الخشنة، وكان في ذلك المبصر خطوط سود أو مظلمة اللون، فإن البصر ربما ظن بتلك الخطوط أنها شقوق وفصول إذا لم يكن قد تقدم علم الناظر بتلك الأجسام. وكذلك إذا أدرك البصر الحيطان في الضباب، وكان في تلك الحيطان خطوط سود أو مظلمة اللون، فإنه ربما ظنها شقوقاً. وكذلك إذا أدرك البصر أجساماً منطبقاً بعضها على بعض، وكانت مواضع فصولها في غاية الدقة، فليس يدرك البصر فصولها التي بهذه الصفة إذا كانت المبصرات في الضباب أو القتام.
وإذا ظن البصر الخطوط أنها شقوق فهو غالط فيما يدركه من تفرقها. وإذا لم يحس بمواضع الفصول من الأجسام المتطابقة فهو يدرك تلك المبصرات كأنها جسم واحد متصل. وإذا أدرك البصر المبصرات المتطابقة جسماً واحداً متصلاً فهو غالط في الاتصال، وغالط في العدد أيضاً.
جميع المعاني السابقة وقد يعرض للبصر الغلط في جميع هذه المعاني إذا حدث في الهواء دخان قوي وكان البصر خارجاً من الدخان: فإن المبصرات التي يدركها البصر من وراء الدخان ليس يتحقق مقدار بعده، ولا يتحقق وضعها، ولا المعاني التي تكون فيها، ويدرك أعظامها أعظم من مقدارها الحقيقي إذا كان البصر خارجاً من الدخان ومائلاً عنه لأن الدخان أغلظ من الهواء وأقل شفيفاً.
والغلط في جميع هذه المعاني هو غلط في القياس، لأن جميع هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي يدركها البصر في الهواء الغليظ الذي يعرض له الغلظ فيها إذا أدركها البصر في الهواء اللطيف فإنه يدرك كل واحد من المعاني التي فيها على ما هو عليه، ولا يعرض له الغلط في شيء منها، إذا كانت المعاني الباقية التي فيها في عرض الاعتدال.
[ الحركة ]
وقد يعرض الغلط في الحركة أيضاً من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا أدرك مبصرين متحركين على الاستقامة وعلى سمت المقابلة، وكان المتحركان متحاذيين في جهة التباعد كفارسين يتحاربان، وكانت حركتاهما مختلفة، وكان الاختلاف الذي بينهما يسيراً، فإن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة في الضباب أو في القتام فإن البصر لا يحس باختلاف حركتي المتحركين اللذين على هذه الصفة، ويظن بحركتيهما أنهما متساويتان، ما لم يكن الاختلاف الذي بينهما متفاوتاً. وذلك لأن البصر إذا أدرك المبصرين اللذين بهذه الصفة في الضباب أو في القتام فإنه ليس يدرك وجه الأرض في تلك الحال إدراكاً محققاً لغلظ القتام أو الضباب. وإذا لم يدرك البصر وجه الأرض فليس يدرك مقدار بعدي المتحركين. وإذا لم يدرك مقدار بعدي المتحركين فليس يدرك اختلاف مقداري المسافتين اللتين يقطعهما انك المتحركان إذا كان الاختلاف الذي بينهما يسيراً. وليس يدرك البصر من المتحركين اللذين بهذه الصفة إلا تباعدهما فقط بالتباس صورتيهما عند التباعد وباختلاف ما يسامتانه من الأرض من قياس البصر لهما بالأجزاء المتفاوتة العظم من أجزاء الأرض، لا بالأجزاء الصغار من الأرض ، لأن الأجزاء الصغار من الأرض ليس تتم في الهواء المسرف الغلظ. فإن كان الاختلاف الذي بين الحركتين متفاوتاً، وأطال البصر النظر إلى المتحركين، أحس باختلاف الحركتين. وإن لم يكن الاختلاف الذي بينهما متفاوتاً حكم لهما بتساوي الحركة مع اختلاف حركتيهما إذا كان الاختلاف الذي بينهما يسيراً.
وإذا ظن البصر بالمتحركين المختلفين في حركتيهما أنهما متساويا الحركة فهو غالط فيما يظنه من كيفية حركتيهما وفي سرعة أسرعهما وبطء أبطأهما ويكون غلطه غلطاً في القياس، لأن الحركات واختلاف الحركات ليس يدرك إلا بالقياس. ويكون علة غلطه هو خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال، لأن البصر إذا أدرك المبصرين الذين على هذه الصفة في الهواء النقي الصافي فإنه يدرك مقداري المسافتين اللتين يقطعهما المتحركان، ويدرك اختلاف حركتيهما، ويفرق بين أسرعهما وأبطأهما، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذينك المبصرين في عرض الاعتدال.
[ السكون ]
وقد يعرض الغلط في السكون أيضاً من اجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن البصر إذا نظر إلى ماءٍ جارٍ، وكان الهواء نقياً صافياً، وأدرك جرية الماء وأدرك حركته، ثم غشي ذلك الموضع ضباب قوي وشمل ذلك الضباب سطح الماء، فإن البصر إذا نظر إلى ذلك الماء في حال اشتمال الضباب عليه وأدركه فإنه لا يدرك جريته إذا لم يكن الماء شديد الجرية، وإنما يدركه كما يدرك الماء الواقف الساكن. وذلك لن جرية الماء يدركها البصر من إدراكه لتكاسير سطح الماء في حال جريته، وتكاسير سطح الماء من المعاني اللطيفة التي يدركها البصر، لأن تكاسير سطح الماء إنما يدركها البصر من إدراكه لاختلاف أوضاع أجزاء سطح الماء، وسطح الماء متشابه اللون، واختلاف أوضاع أجزائه ليس تكون في غاية البيان. والمبصرات التي يدركها البصر في الضباب ليس يدرك صورتها إدراكاً محققاً ولا يدرك المعاني اللطيفة التي تكون فيها. فالبصر إذا نظر إلى الماء الجاري، وكان الضباب مشتملاً على سطح ذلك الماء، فإنه يدرك ذلك الماء كأنه ساكن ولا يحس بجريته.
وإذا أدرك البصر الماء الجاري ساكناً فهو غالط في سكونه. ويكون غلطه غلطاً في القياس، لأن السكون يدرك بالقياس. وعلة هذا الغلط هو غلط الهواء، لأن البصر إذا نظر إلى ذلك الماء وكان الهواء نقياً صافياً فإنه يدرك جرية ذلك الماء على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في ذلك الماء، التي بها يتم إدراك المبصرات على ما هي عليه، في عرض الاعتدال.
[ الخشونة والملاسة والشفيف ]
وقد يعرض الغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف وفي الكثافة وفي الظل والظلمة من أجل غلظ الهواء. وذلك أن المبصر الذي يدركه البصر في الضباب وفي الدخان وفي القتام الكثيف، إذا كان في سطحه خشونة يسيرة، فليس يدرك البصر الخشونة التي تكون فيه لأنه لا يتحقق صورة السطح الذي يدرك في الضباب وفي الدخان وفي الغبار الكثيف. وكذلك إذا كان صقيلاً فإنه لا يدرك صقاله. وإذا لم يتحقق البصر الخشونة التي في سطح المبصر ولا الصقال وشدة الملاسة فإنه ربما شبه المبصر الخشن السطح بمبصر أملس السطح، وربما شبه المبصر الأملس بمبصر خشن السطح إذا كان ذلك المبصر شبيهاً به في المعاني الظاهرة التي يدركها من ذلك المبصر. وإذا كان ذلك كذلك كان البصر غالطاً فيما يظهر من خشونة الخشن وملاسة الأملس.
وكذلك إذا كان المبصر مشفاً. وكان شفيفه يسيراً، وأدركه البصر في الضباب أو في الدخان أو في الغبار الكثيف، فإنه لا يدرك شفيفه، أو يدرك شفيفه أقل مما هو . فإن أدرك شفيف المبصر أقل مما هو عليه فهو غالط في شفيفه. وإن لم يدرك شفيفه فهو يظنه كثيفاً ويكون غالطاً في كثافته.
وكذلك إذا أدرك البصر جداراً بعضه نقي البياض وبعضه ترابي اللون، وكان على ذلك الجدار ضوء النار في ظلمة الليل، وكان في وجه ذلك الجدار دخان أو غبار قوي، فإن البصر ربما ظن بالمواضع الترابي اللون من الجدار أنه ظل مع إشراق الضوء عليه كإشراقه على المواضع النقي البياض. وإذا ظن البصر بالموضع الذي لا ظل فيه أنه مستظل فهو غالط فيما يدركه من استظلاله.
وكذلك إذا أدرك البصر جداراً من وراء الدخان أو الغبار، وكان في ذلك الجدار مواضع سود، فإن البصر ربما ظن بتلك المواضع السود أنها ثقوب، وأن السواد الذي يظهر فيها إنما هو ظلمة تلك الثقوب، فيكون غالطاً فيما يدركه من الظلمة.
والغلط في الخشونة وفي الملاسة وفي الشفيف والكثافة وفي الظل والظلمة هي أغلاط في القياس لأن هذه المعاني تدرك بالقياس. وعلة هذه الأغلاط على الصفة التي وصفناها هي خروج شفيف الهواء المتوسط بين البصر والمبصر عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي وصفناها إذا كانت في هواء نقي صافي الشفيف فإن البصر يدرك جميع المعاني التي فيها على ما هي عليه، إذا كانت المعاني الباقية التي في هذه المبصرات في عرض الاعتدال.
[ الحسن والقبح ]
وقد يعرض الغلط في الحسن والقبح أيضاً من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال. وذلك أن المبصر إذا كان شكله مستحسناً، أو لونه أو أشكال أجزائه أو أحد المعاني الظاهرة التي تكون فيه أو مجموعها، وكان فيه مع ذلك معان لطيفة كسائر أجزاء الصورة إن كانت من الحيوان وكالوشوم وسوء ترتيب الأجزاء وتباينها أيضاً إذا كانت من الجمادات، فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات التي بهذه الصفة في الضباب وفي القتام فإن البصر يدرك المعاني الظاهرة التي في ذلك المبصر التي هي مستحسنة، ولا يدرك المعاني اللطيفة التي فيها تقبح تلك الصورة، ولا يدرك الصورة إدراكاً محققاً. وإذا أدرك البصر المبصر المستقبح حسناً فهو غالط في حسنه.
وكذلك إذا كانت المعاني الظاهرة التي في الصورة مستقبحة، وكانت المعاني اللطيفة التي فيها مستحسنة، كتناسب أعضاء الحيوان والمعاني اللطيفة التي تكون فيها، وكالنقوش الدقيقة والألوان المختلفة المتناسبة التي تكون في الجمادات، فإن البصر إذا أدرك مبصراً من المبصرات في الهواء الغليظ الخارج عن الاعتدال فإنه يدرك صورته مستقبحة، لأنه يدرك المعاني الظاهرة التي هي مستقبحة في تلك الصورة ولا يدرك المعاني اللطيفة التي بها تحسن تلك الصورة. وإذا أدرك البصر الصورة المستحسنة فبيحة فهو غالط في قبحها.
وكذلك إذا أدرك البصر مبصرين يتشابهان في المعاني الظاهرة ويختلفان في معان لطيفة، وكان إدراكه لهما في هواء غليظ كالضباب والقتام والدخان، فإنه يدرك المعاني الظاهرة التي فيهما ولا يدرك المعاني الخفية التي تكون فيهما. وإذا كان المبصران يتشابهان في المعاني الظاهرة، ويختلفان في المعاني الخفية، فهو يدركهما متشابهين ولا يدرك اختلافهما ولا يحكم لهما بشيء من الاختلاف. وإذا أدرك البصر المبصرين المختلفين متشابهين على الإطلاق فهو غالط في تشابههما.
وكذلك إذا كان المبصران يختلفان في المعاني الظاهرة ويتشابهان في المعاني الخفية فإن البصر يدركهما في الهواء الغليظ مختلفين ولا يحس بتشابههما. وإذا أدرك البصر المبصرين المتشابهين مختلفين على الإطلاق فهو غالط في اختلافهما.
والغلط في الحسن وفي القبح وفي التشابه وفي الاختلاف هي أغلاط في القياس لأن المعاني تدرك بالقياس، ولأن هذه الأغلاط إنما هي لتعويل البصر على المعاني الظاهرة وسكونه إلى نتائجها. وعلة هذه الأغلاط هي خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال، لأن المبصرات التي بهذه الصفة إذا أدركها البصر في هواء لطيف متشابه الشفيف فإنه يدرك كل واحد منها على ما هو عليه، ويدرك الحسن حسناً والقبيح قبيحاً والمتشابهين متشابهين والمختلفين مختلفين، ولا يعرض له الغلط في شيء من المعاني التي فيها، إذا كانت المعاني الباقية التي في تلك المبصرات في عرض الاعتدال.
فعلى هذه الصفات وأمثالها يكون غلط البصر في القياس من أجل خروج شفيف الهواء عن عرض الاعتدال.
كتاب : المناظر ● تأليف : ابن الهيثم
منتدى نافذة ثقافية . البوابة