من طرف كراكيب الأحد 3 أكتوبر 2021 - 22:43
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
الأصول في النحو
● [ شرح الرابع من الأسماء المرتفعة ] ●
الرابع من الأسماء المرتفعة هو المفعول الذي لم يسم من فَعَلَ به إذا كان الإسم مبنياً على فعلٍ بني للمفعول ولم يذكر من فعلَ به فهو رفع وذلك قولك : ضرب بكر وأخرج خالد واستخرجت الدراهم فبني الفعل للمفعول على ( فعل ) نحو : ( ضُرِبَ ) وأفعلَ نحو : ( أكرِمَ ) وتفعل نحو : تضرب ونفعل نحو : نضرب فخولف بينه وبين بناءِ الفعل الذي بني للفاعل لئلا يلتبس المفعول بالفاعل وارتفاع المفعول بالفعل الذي تحدثت به عنه كإرتفاع الفاعل إذا كان الكلام لا يتم إلا به ولا يستغني دونه ولذلك قلت : إذا كان مبنياً على فعلٍ بني للمفعول أردت به ما أردت في الفاعل من أن الكلام لا يتم إلا به وقلت ولم تذكر من فعل به لأنك لو ذكرت الفاعل ما كان المفعول إلا نصباً وإنما ارتفع لما زال الفاعل وقام مقامه
واعلم : أن الأفعال التي لا تتعدى لا يبنى منها فعل للمفعول لأن ذلك محال نحو : قام وجلس
لا يجوز أن تقول : قيم زيد ولا جلس عمرو إذ كنت إنما تبني الفعل للمفعول فإذا كان الفعل لا يتعدى إلى مفعول فمن أين لك مفعول تبنيه له فإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد نحو : ضربت زيداً أزلت الفاعل وقلت : ضرب زيد فصار المفعول يقوم مقام الفاعل وبقي الكلام بغير اسم منصوب لأن الذي كان منصوباً قد ارتفع وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين نحو : أعطيت زيداً درهماً فرددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أُعطي زيد درهماً فقامَ أحد المفعولين مقامَ الفاعلِ وبقيَ منصوب واحد في الكلام وكذلك إن كان الفعل يتعدى إلى ثلاثة مفعولين نحو : أعلم الله زيداً بكراً خير الناس إذا رددته إلى ما لم يسم فاعله قلت : أعلم زيد بكراً خير الناس
فقام أحد المفعولين مقام الفاعل
وبقي في الكلام اسمان منصوبان فعلى هذا يجري هذا الباب
وإن كان الفعل لا يتعدى لم يجز ذلك فيه وإن كان يتعدى إلى مفعول واحدٍ بقي الفعل غير متعمدٍ وإن كان يتعدى إلى اثنين بقي الفعل متعدياً إلى واحد وإن كان يتعدى إلى ثلاثة بقي الفعل يتعدى إلى إثنين فعلى هذا فقس متى نقلت ( فعل ) الذي هو للفاعل مبني إلى ( فُعِلَ ) الذي هو مبني للمفعول فانقص من المفعولات واحداً
وإذا نقلت ( فَعَلَت ) إلى أفعلتَ فإن كان الفعل لا يتعدى في ( فعلت ) فعدهِ إلى واحدٍ إذا نقلته إلى أفعلت تقول قمت فلا يتعدى إلى مفعول فإن قلت أفعلت منه قلت أقمت زيدا وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعول واحد فنقلته من ( فعلت ) إلى ( أفعلت ) عديته إلى إثنين نحو قولك : رأيت الهلال هو متعدٍ إلى مفعول واحدٍ فإن قلت : أريت زيداً الهلال فيتعدى إلى إثنين وإن كان الفعل يتعدى إلى مفعولين فعلت إلى أفعلت تعدي إلى ثلاثة مفعولين تقول علمت بكراً خير الناس فإن قلت : أعلمتُ قلت : أعلمتُ بكراً زيداً خير الناس فتعدى إلى ثلاثة فهذان النقلان مختلفان إذا نقلت ( فعلتُ ) إلى ( فعلتُ ) نقصت من المعفولات واحداً أبداً وإذا نقلت ( فعلت ) إلى ( أفعلت ) زدت في المفعولات واحداً أبداً فتبين ذلك فإني إنما ذكرت ( فعّلتُ ) وإن لم يكن من هذا الباب لأن الأشياء تتضح بضمها إلى أضدادها واسم المفعول الجاري على فعله يعمل عمل الفعل نحو قولك : مضروب ومعط يعمل عمل أعطى ونعطي تقول : زيد مضروب أبوه فترفع ( وأبوه ) بمضروب كما كنت ترفعه بضاربٍ إذا قلت : زيد ضارب أبوه عمراً وتقول : زيد معط أبوه درهماً ( فترفع الأب ) ( بمعط ) وتقول : دفَع إلى زيد درهم فترفع الدرهم لأنك جررت زيداً فقام الدرهم مقام الفاعل ويجوز أن تقول : سير بزيد فتقيم ( بزيد ) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعاً ولا يمنعه حرف الجر من ذلك كما قال : ما جاءني من أحد فأحد فاعل وإن كان مجروراً ( بمن ) وكذلك قوله تعالى : ( أن ينزل عليكم من خير من ربكم )
فإن أظهرت زيداً غير مجرور قلت : أعطى زيد درهماً وكسى زيد ثوباً فهذا وجه الكلام ويجوز أن تقول : أعطى زيداً درهم وكسى زيداً ثوب كما كان الدرهم والثوب مفعولين وكان لا يلبس على السامع الآخذ من المأخوذ جاز ولكن لو قلت : أعطى زيد عمراً وكان زيد هو الآخذ لم يجز أن تقول : أعطى عمرو زيداً لأن هذا يلبس إذ كان يجوز أن يكون كل واحد منهما آخذاً لصاحبه وهو لا يلبس في الدرهم وما أشبه لأن الدرهم لا يكون إلا مأخوذاً وإنما هذا مجاز والأول الوجه
ومن هذا : أدخل القبر زيداً وألبستُ الجبة زيداً ولا يجوز على هذا ضرب زيداً سوطٌ لأن سوطاً في موضع قولك : ضربةً بسوطٍ فهو مصدر
واعلم : أنه يجوز أن تقيم المصادر والظروف من الأزمنة والأمكنة مقام الفاعل في هذا الباب إذا جعلتها مفعولات على السعة وذلك نحو قولك : سير بزيد سير شديد وضرب من أجل زيد عشرون سوطاً واختلف به شهران ومضى به فرسخان وقد يجوز نصبهما على الموضع وإن كنت لم تقم المجرور مقام الفاعل أعني قولك : بزيد على أن تحذف ما يقوم مقام الفاعل وتضمره وذلك المحذوف على ضربين إما أن يكون الذي قام مقام الفعل مصدراً استغنى عن ذكره بدلالة الفعل عليه وإما أن يكون مكاناً دلَّ الفعل عليه أيضاً إذ كان الفعل لا يخلو من أن يكون في مكان كما أنه لا بد من أن يكون مشتقاً من مصدره نحو قولك : سير بزيد فرسخاً أضمرت السير لأن ( سير ) يدل على السير فكأنك قلت : سير السير بزيد فرسخاً ثم حذفت السير فلم تحتج إلى ذكره معه كما تقول : من كذب كان شراً له تريد : كان الكذب شراً له
ولم تذكر الكذب لأن ( كذب ) قد دل عليه ونظيره قوله تعالى : ( لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم )
يعني البخل الذي دل عليه ( يبخلون ) وأما الذي يدل عليه الفعل من المكان فأن تضمر في هذه المسألة ما يدل عليه ( سير ) نحو الطريق وما أشبهه من الأمكنة
ألا ترى أن السير لا بد أن يكون في طريق فكأنك قلت : سير عليه الطريق فرسخاً ثم حذفت لعلم المخاطب بما تعني فقد صارَ في ( سيرَ بزيدٍ ) ثلاثة أوجه : أجودها أن تقيم ( بزيد ) مقام الفاعل فيكون موضعه رفعاً وإن كان مجروراً في اللفظ وقد أريناك مثل ذلك
والوجه الثاني : الذي يليه في الجودة أن تريد المصدر فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه
والوجه الثالث : وهو أبعدها أن تريد المكان فتقيمه مقام الفاعل وتحذفه
واعلم : أنك إذا قلت : سير يزيد سيراً فالوجه النصب في ( سير ) لأنك لم تفد بقولك ( سيراً ) شيئاً لم يكن في ( سير ) أكثر من التوكيد فإن وصفته فقلت : شديداً أو هيناً فالوجه الرفع لأنك لما نعته قربته من الأسماء وحدثت فيه فائدة لم تكن في ( سير ) والظروف بهذه المنزلة لو قلت : سير بزيد مكاناً أو يوماً لكان الوجه النصب فإن قلت : يوم كذا أو مكاناً بعيداً أو قريباً أختير الرفع والتقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار في الإسم الذي قام مقام الفاعل ولم يسم من فعل به مثله في الفاعل يجوز فيه ما جاز في ذلك لا فرق بينهما في جميع ذلك وتقول : كيف أنت إذا نحى نحوك ونحوك على ما فسرنا فإن قلت : نحى قصدك فالإختيار عند قوم من النحويين النصب لمخالفة لفظ الفعل لفظ المصدر والمصادر والظروف من الزمان والمكان لا يجعل شيء منها مرفوعاً في هذا الباب حتى يقدر فيه أنه إذا كان الفاعل معه أنه مفعول صحيح فحينئذ يجوز أن يقام مقام الفاعل إذا لم تذكر الفاعل
فأما الحال والتمييز فلا يجوز أن يجعل واحد منهما في محل الفاعل إذا قلت : سير بزيد قائماً أو تصبب بدن عمرو عرقاً لا يجوز أن تقيم ( قائماً وعرقاً ) مقام الفاعل لأنهما لا يكونان إلا نكرة فالفاعل وما قام مقامه يضمر كما يظهر والمضمر لا يكون إلا معرفة وكذلك المصدر الذي يكون علة لوقوع الشيء نحو : جئتك ابتغاء الخير لا يقوم مقام الفاعل ابتغاء الخير لأن المعنى لإبتغاء الخير ومن أجل ابتغاء الخير فإن أقمته مقام الفاعل زال ذلك المعنى وقد أجاز قوم في ( كان زيد قائماً ) أن يردوه إلى ما لم يسم فاعله فيقولون : كين قائم
قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز من قبل أن ( كان ) فعل غير حقيقي وإنما يدخل على المبتدأ والخبر فالفاعل فيه غير فاعل في الحقيقة والمفعول غير مفعول على الصحة فليس فيه مفعول يقوم مقام الفاعل لأنهما غير متغايرين إذ كان إلى شيء واحد لأن الثاني هو الأول في المعنى
وقد نطق بما لم يسم فاعله في أحرف ولم ينطق فيها بتسمية الفاعل فقالوا : أنيخت الناقة وقد وضع زيد في تجارته ووكس وأغرى به وأولع به وما كان من نحو هذا مما أَخذ عنهم سماعاً وليس بباب يقاس عليه
● [ شرح الخامس من الأسماء المرتفعة ] ●
الخامس من الأسماء المرتفعة هو المشبه بالفاعل في اللفظ : المشبه بالفاعل على ضربين :
ضرب منه ارتفع ( بكان وأخواتها )
وضرب آخر ارتفع بالحروف المشبهة بالأفعال
وأخوات ( كان ) : صار وأصبح وأمسى وظل وأضحى وما دام وما زال وليس وما أشبه ذلك مما يجيىء عبارة عن الزمان فقط وما كان في معناهن مما لفظه لفظ الفعل وتصاريفه تصاريف الفعل تقول : كان ويكون وسيكون وكائن فشبهوها بالفعل لذلك فأما مفارقتها للفعل الحقيقي فإن الفعل الحقيقي يدل على معنى وزمان نحو قولك : ضرب يدل على ما مضى من الزمان وعلى الضرب الواقع فيه وكان إنما يدل على ما مضى من الزمان فقط ( ويكون ) تدل على ما أنت فيه من الزمان وعلى ما يأتي فهي تدل على زمان فقط فأدخلوها على المبتدأ وخبره فرفعوا بها ما كان مبتدأ تشبيهاً بالفاعل ونصبوا بها الخبر تشبيهاً بالمفعول فقالوا : كان عبد الله أخاك كما قالوا : ضرب عبد الله أخاك إلا أن المفعول في ( كان ) لا بد من أن يكون هو الفاعل لأن أصله المبتدأ وخبره كما كان خبر المبتدأ لا بد من أن يكون هو المبتدأ فإذا قالوا ( كان زيد قائماً ) فإنما معناه : زيد قام فيما مضى من الزمان فإذا قالوا : أصبح عبد الله منطلقاً فإنما المعنى : أتى الصباح وعبد الله منطلق فهذا تشبيه لفظي وكثيراً ما يعملون الشيء عمل الشيء إذا أشبهه في اللفظ وإن لم يكن مثله في المعنى وسترى ذلك إن شاء الله فقد بان شبه ( كان وأخواتها ) بالفعل إذ كنت تقول : كان يكون وأصبح يصبح وأضحى ويضحى ودام يدوم وزال يزال فأما ليس فالدليل على أنها فعل وإن كانت لا تتصرف تصرف الفعل قولك : لست كما تقول : ضربت ولستما كضربتما ولسنا كضربنا ولسن كضربن ولستن كضربتن وليسوا كضربوا ولسيت أمة الله ذاهبة كقولك : ضربت أمة الله زيداً
وإنما امتنعت من التصرف لأنك إذا قلت ( كان ) دللت على ما مضى وإذا قلت ( يكون ) دللت على ما هو فيه وعلى ما لم يقع وإذا قلت : ليس زيد قائماً الآن أو غداً أدت ذلك المعنى الذي في يكون فلما كانت تدل على ما يدل عليه المضارع استغني عن المضارع فيها ولذلك لم تبن بناء الأفعال التي هي من بنات الياء مثل باع وبات
وإذا اجتمع في هذا الباب معرفة ونكرة فاسم ( كان ) المعرفة كما كان ذلك في الإبتداء هو المبتدأ لا فرق بينهما في ذلك تقول : كان عمرو منطلقاً وكان بكر رجلاً عاقلاً وقد يكون الإسم معرفة والخبر معرفة كما كان ذلك في الإبتداء أيضاً تقول : كان عبد الله أخاك وكان أخوك عبد الله أيهما شئت جعلته اسم ( كان ) وجعلت الآخر خبراً لها والشعراء قد يضطرون فيجعلون الإسم نكرة والخبر معرفة لعلمهم أن المعنى يؤول إلى شيء واحد فمن ذلك قول حسان :
( كأنَّ سلافةً منْ بيت رأسٍ ... يكون مزاجَها عسَل وماءُ )
وقال القطامي :
( قفي قبل التفرقِ يا ضباعا ... ولا يك موقف منكِ الوداعا )
وقد مضى تفسير هذا وقد تخبر في هذا الباب بالنكرة عن النكرة إذا كان فيه فائدة وذلك قولك : ما كان أحد مثلك وليس أحد خيراً منك وما كان رجل قائماً مقامك وإنما صلح هذا هنا لأن قولك : ( رجل ) في موضع الجماعة إذا جعلوا رجلاً رجلاً يدلك على ذلك قولك : ما كان رجلان أفضل منهما
والمعول في هذا الباب وغيره على الفائدة كما كان في المبتدأ والخبر
فما كانت فيه فائدة فهو جائز فأنت إذا قلت : ليس فيها أحد فقد نفيت الواحد والإثنين وأكثر من ذلك ومثل هذا لا يقع في الإيجاب ونظير أحد عريب وكتيع وطوريء وديار قال الراجز :
( وبلدة ليس بها ديار ... )
ومن هذه الأسماء ما يقع بعد ( كل ) لعمومها تقول : يعلم هذا كل أحد وأما قول الشاعر :
( حتى ظهرت فما تخفى على أحدٍ ... إلا على أحدٍ لا يعرف القمرا )
فقد فسر هذا البيت على ضربين : أحدهما : أن يكون ( أحد ) في معنى واحد كأنه قال : إلا على واحد لا يعرف القمرا فأحد هذه هي التي تقع في قولك : أحد وعشرون وتكون على قولك ( أحد ) التي تقع في النفي فتجريه في هذا الموضع على الحكاية لتقديم ذكره إياه ونظير ذلك أن يقول القائل : أما في الدار أحد فتقول مجيباً بلى وأحد إنما هو حكاية للفظ ورد عليه وتقول : ما كان رجل صالح فمشبه زيداً في الدار إذا جعلت في الدار خبراً ومعنى هذا الكلام أن زيداً صالح فمشبهه مثله
فإن نصبت ( مشبهاً ) فقد ذممت زيداً أو أخبرت أن ما كان صالحاً غير تشبيه
فإذا قلت : ما كان أحد مثلك وما كان مثلك أحد فكلها نكرات لأن ( مثل وشبه ) يكن نكرات وإن أَضفن إلى المعارف لأنهن لا يخصصن شيئاً بعينه لأن الأشياء تتشابه من وجوه وتتنافى من وجوه فإن أردت ( بمثلك ) المعروف ( بشبهك ) خاصة كان معرفة كأخيك
وتقول : ما كان في الدار أحد مثل زيد إذا جعلت ( في الدار ) الخبر وإن جعلت ( في الدار ) لغواً نصبت المثل قال الله تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد )
والظروف يجوز أن يفصل بها بين ( كان ) وما عملت فيه لإشتمالها على الأشياء فتقديمها وهي ملغاة بمنزلة تأخيرها واعلم : أن جميع ما جاز في المبتدأ وخبره من التقديم والتأخير فهو جائز في ( كان ) إلا أن يفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه فإن فصلت بظرف ملغى جاز فأما ما يجوز فقولك : كان منطلقاً عبد الله وكان منطلقاً اليوم عبد الله وكان أخاك صاحبنا وزيد كان قائماً غلامه والزيدان كان قائماً غلامهما تريد كان غلامهما قائماً وكذلك : أخوات ( كان ) قال الله تعالى ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
وتقول : من كان أخاك إذا كانت ( من ) مرفوعة كأنك قلت : أزيد كان أخاك وتقول : من كان أخوك إذا كانت ( من ) منصوبة كأنك قلت : أزيداً كان أخوك وهذا كقولك : من ضرب أخاك ومن ضرب أخوك فما أجزته في المبتدأ والخبر من التقديم والتأخير فأجزه فيها ولكن لا تفصل بينها وبين ما عملت فيه بما لم تعمل فيه ولا تقل : كانت زيداً الحمى تأخذ ولا : كان غلامه زيد يضرب لا تجز هذا إذا كان ( زيد والحمى ) أسمين لكان
فإن أضمرت في ( كان ) الأمر أو الحديث أو القصة وما أشبه ذلك وهو الذي يقال له المجهول
كان ذلك المضمر اسم ( كان ) وكانت هذه الجملة خبرها فعلى ذلك يجوز كان زيداً الحمى تأخذ وعلى هذا أنشدوا :
( فَأَصْبَحُوا والنَّوى عَالي مُعَرّسِهم ... وَلَيَس كُلَّ الّنوى يَلقَى المَسَاكِين )
كأنه قال : وليس الخبر يلقى المساكين كل النوى ولكن هذا المضمر لا يظهر وأصحابنا يجيزون : غلامه كان زيد يضرب فينصبون الغلام ( بيضرب ) ويقدمونه لأن كلَّ ما جاز أن يتقدم من الأخبار جاز تقديم مفعوله فلو قلت : غلامه ضرب زيد كان جيداً فكان هذا بمنزلة : ضرب زيد غلامه
ولو رفعت الغلام كان غير جائز لأنه إضمار قبل الذكر فلا يجوز أن ينوى به غيره فإن قال قائل : فأنت إذا نصبت فقد ذكرته قبل الإسم قيل له : إذا قدم ومعناه التأخير فإنما تقديره والنية فيه أن يكون مؤخراً وإذا كان في موضعه لم يجز أن تعني به غير موضعه ألا ترى أنك تقول : ضرب غلامه زيد لأن الغلام في المعنى مؤخراً والفاعل على الحقيقة قبل المفعول ولكن لو قلت : ضرب غلامه زيداً لم يجز لأن الغلام فاعل وهو في موضعه فلا يجوز أن تنوي به غير ذلك الموضع وتقول : كان زيد قائماً أبوه وكان زيد منطلقة جارية يحبها والتقديم والتأخير في الأخبار المجملة بمنزلتها في الأخبار المفردة ما لم تفرقها تقول : أبوه منطلق كان زيد تريد كان زيد أبوه منطلق وقائمة جارية يحبها كان زيد تريد : كان زيد قائمة جارية يحبها
وفي داره ضرب عمرو خالداً كان زيد
فإن قلت : كان في داره زيد أبوه وأنت تريد : كان زيد في داره أبوه لم يجز لأن الظرف للأب فليس من كان في شيء وقد فصلت به بينها وبين خبرها ولو قلت : كان في داره أبوه زيد صلح لأنك قدمت الخبر بهيئته وعلى جملته فصار مثل قولك : كان منطلقاً زيد ومثل ذلك : كان زيداً أخواك يضربان هذا لا يجوز فإن قدمت : ( يضربان زيداً ) جاز وتجوز هذه المسألة إذا أضمرت في ( كان ) مجهولاً وتقول : زيد كان منطلقا أبوه فزيد مبتدأ وما بعده خبر له وفي ( كان ) ضمير زيد وهو اسمها ومنطلقاً أبوه ( خبره ) وإن شئت رفعت ( أبا ) ب ( كان ) وجعلت ( منطلقاً ) خبره وتقول : زيد منطلقاً أبوه كان تريد : زيد كان منطلقاً أبوه
مثل المسألة التي قبلها
وقال قوم : أبوه قائم كان ( زيد ) خطأ لأن ما لا تعمل فيه ( كان ) لا يتقدم قبل ( كان ) والقياس ما خبرتك به إذ كان قولك : أبوه قائم في موضع قولك : ( منطلقاً ) فهو بمنزلته فإذا لم يصح سماع الشيء عن العرب لُجىءَ فيه إلى القياس ولا يجيزون أيضاً : كان أبوه قائم زيد
وكان أبوه زيد أخوك وكان أبوه يقوم أخوك
هذا خطأ عندهم لتقديم المكنى على الظاهر
وهذا جائز عندنا لأنك تقدم المكنى على الظاهر في الحقيقة وقد مضى تفسير المكنى : أنه إذا كان في غير موضعه وتقدم جاز تقدمه لأن النية فيه أن يكون متأخراً والذي لا يجوز عندنا أن يكون قد وقع في موقعه وفي مرتبته فحينئذ لا يجوز أن ينوى به غير موضعه ولأصول التقديم والتأخير موضع يذكر فيه إن شاء الله
ولا يحسن عندي أن تقول : ( آكلاً كان زيد طعامك ) من أجل أنك فرقت بين آكل وبين ما عمل فيه بعامل آخر ومع ذلك فيدخل لبس في بعض الكلام وإنما يحسن مثل هذا في الظروف نحو قولك : راغباً كان زيد فيك لإتساعهم في الظروف وأنهم جعلوا لها فضلاً على غيرها في هذا المعنى ولا أجيز أيضاً : آكلاً كان زيد أبوه طعامك أريد به : كان زيد آكلا أبوه طعامك للعلَّة التي ذكرت لك بل هو ها هنا أقبح لأنك فرقت بين ( آكل ) وبين ما أرتفع به وفي تلك المسألة إنما فرقت بينه وبين ما انتصب به والفاعل ملازم لا بد منه والمفعول فضلة وقوم لا يجيزون : كان خلفك أبوه زيد وهو جائز عندنا وقد مضى تفسيره ويقولون : لا يتقدم ( كان ) فعل ماضٍ ولا مستقبل
وما جاز أن يكون خبراً فالقياس لا يمنع من تقديمه إذا كانت الأخبار تقدم إلا أني لا أعلمه مسموعاً من العرب ولا يتقدم خبر ( ليس ) قبلها لأنها لم تصرف تصرف ( كان ) لأنك لا تقول : منها يفعل ولا فاعل وقد شبهها بعض العرب ب ( ما ) فقال : ليس الطيب إلا المسك فرفع وهذا قليل فإذا أدخلت على ( ليس ) ألف الإستفهام كانت تقريراً ودخلها معنى الإيجاب فلم يجىء معها أحد لأن أحداً إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول : أليس أحد في الدار لأن المعنى يؤول إلى قولك : أحد في الدار وأحد لا يستعمل في الواجب ولذلك لا يجوز أن تجيء إلا مع التقرير لا يجوز أن تقول فيها لأن المعنى يؤول إلى قولك : زيد إلا فيها وذا لا يكون كلاماً وقد أدخلوا الباء في خبر ( ليس ) توكيداً للنفي تقول : ألست بزيد ولست بقائم : وقالوا : أليس إنما قمت
ولا يجيء ( إنما ) إلا مع إدخال الألف كذا حكى وتقول : ليس عبد الله بحسن ولا كريماً فتعطف ( كريماً ) على ( بحسن ) لأن موضعه نصب وإنما تدخل الباء هنا تأكيداً للنفي
وتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارج عمرو على أن تجعل عمراً ( مبتدأ ) وخارجاً خبره ولك أن تنصب فتقول : ليس عبد الله بذاهب ولا خارجاً عمرو على أنه معطوف على خبر ( ليس ) قبل الباء ولا يحسن ليس عبد الله بذاهب ولا خارج زيد فتجر بالباء ويرتفع زيد ب ( ليس ) لا يجوز هذا لأنك قد عطفت بالواو على عاملين وإنما تعطف حروف العطف على عامل واحد ولكن تقول : ليس زيد بخارج ولا ذاهب أَخوه فتجري ( ذاهباً ) على ( خارج ) وترفع الأخ ب ( ذاهب ) لأنه ملبس ب ( زيد ) وهو من سببه فكأنك قلت : ليس زيد ذاهب ولا خارج ولو حملت ( الأخ ) على ( ليس ) لم يجز من أجل أنك تعطف على عاملين على ( ليس ) وهي عاملة وعلى ( الباء ) وهي عاملة وقالوا : ما كان عبد الله ليقوم ولم يكن ليقوم فأدخلوا اللام مع النفي ولا يجوز هذا في أخوات ( كان )
ولا تقول : ما كان ليقوم وهذا يتبع فيه السماع
واعلم : أن خبر ( كان ) إذا كنيت عنه جاز أن يكون منفصلاً ومتصلاً والأصل أن يكون منفصلاً إذ كان أصله أنه خبر مبتدأ تقول : كنت إياه وكان إياي هذا الوجه لأن خبرها خبر ابتداء وحقه الإنفصال ويجوز كأنني وكنته كقولك : ( ضربني وضربته ) لأنها متصرفة تصرف الفعل فالأول استحسن للمعنى والثاني لتقديم اللفظ قال أبو الأسود :
( فإنْ لا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فإنَّهُ ... أَخُوها غَذَتهُ أُمهُ بِلِبَانِهَا )
و ( لكان ) ثلاثة مواضع : الأول : التي يكون لها اسم وخبر
الثاني : أن يكون بمعنى وقع وخلق فتكتفي بالإسم وحده ولا تحتاج إلى خبر وذلك قولك : أنا أعرفه مذ كان زيد أي : مذ خلق وقد كان الأمر أي : وقع وكذلك أمسى وأصبح تكون مرة بمنزلة ( كان ) التي لها خبر ومرة بمنزلة استيقظ ونام فتكون أفعالاً تامة تدل على معان وأزمنة
ولا ينكر أن يكون لفظ واحد لها معنيان وأكثر فإن ذلك في لغتهم كثير
من ذلك قولهم وجدت عليه من الموجدة ووجدت يريدون
وجدان الضالة وهذا أكثر من أن يذكر هنا
الثالث : أن تكون توكيداً زائدة نحو قولك : زيد كان منطلق إنما معناه : زيد منطلق وجاز الغاؤها لإعتراضها بين المبتدأ والخبر
[ ذكر الضرب الثاني : وهو ما ارتفع بالحروف المشبهة بالأفعال ]
فمن ذلك ( ما ) وهي تجري مجرى ( ليس ) في لغة أهل الحجاز شبهت بها في النفي خاصة لأنها نفي كما أنها نفي يقولون : ما عمرو منطلقاً فإن خرج معنى الكلام إلى الإيجاب لم ينصبوا كقولك : ما زيد إلا منطلق وإن قدموا الخبر على الإسم رفعوا أيضاً فقالوا : ( ما منطلق زيد ) فتجتمع اللغة الحجازية والتميمية فيهما معاً لأن بني تميم لا يعملونها في شيء ويدعون الكلام على ما كان عليه قبل النفي يعني الإبتداء فإذا قلت : ما يقوم زيد فنفيت ما في الحال حسن
فإن قلت : ما يقوم زيد غداً كان أقبح لأن هذا الموضع خصت به ( لا ) يعني نفي المستقبل
ولو قلت : ( ما قام زيد ) كان حسناً كأنه قال : ( قام ) فقلت أنت : ما قام فإن أخرت فقلت : ما زيد قام أو يقوم كان حسناً أيضاً وتقول : ما زيد بقائم فتدخل الباء كما أدخلتها في خبر ( ليس ) فيكون موضع ( بقائم ) نصباً فإن قدمت الخبر لم يجز لا تقول : ما بقائم زيد من أجل أن خبرها إذا كان منصوباً لم يتقدم والمجرور كالمنصوب ولو قلت : ما زيد بذاهب ولا بخارج أخوه : وأنت تريد أن تحمل ( الأخ ) على ما لم يكن كلاماً لأن ( ما ) لا تعمل في الإسم إذا قدم خبره وتقول : ما كل يوم مقيم فيه زيد ذاهب فيه عمرة منطلقاً فيه خالد تجعل ( مقيماً ) صفةً ( ليوم ) وذاهب فيه صفة ( لكل ) و ( منطلقاً ) موضع الخبر هذا على لغة أهل الحجاز وتقول : ما كل ليلة مقيماً فيها زيد وإذا قلت : ما طعامك زيد آكل وما فيك زيد راغب ترفع الخبر لا غير من أجل تقديم مفعوله فقد قدمته في التقدير لأن مرتبة العامل قبل المعمول فيه ملفوظاً به أو مقدراً وقوم يجيزون إدخال الباء في هذه المسألة فيقولون : ما طعامك زيد بآكل وما فيك زيد براغب
إلا أنهم يرفعون الخبر إذا لم تدخل الباء ولا يجيزون نصب الخبر في هذه المسألة
وتقول : ما زيد قائماً بل قاعد لا غير لأن النفي نصبه ومن أجل النفي شبهت ( ما ) بليس فلا يكون بعد التحقيق إلا رفعاً وتقول زيد ما قام وزيد ما يقوم ولا يجوز : زيد ما قائماً ولا زيد ما قائم ولا زيد ما خلفك حتى تقول : ما هو قائماً وهو خلفك لأن ( ما ) حقها أن يستأنف بها ولا يجوز أن تضمر فيها إذ كانت حرفاً ليس بفعل وإنما يضمر في الأفعال ولا يجوز : طعامك ما زيد آكل أبوه على ما فسرت لك وقد حكي عن بعض من تقدم من الكوفيين إجازته ويجوز إدخال من على الإسم الذي بعدها إذا كان نكرةً تقول : ما من أحد في الدار وما من رجل فيها
ويجوز أن تقول : ما من رجل غيرك وغيرك بالرفع والجر ويكون موضع رجل رفعا قال الله تعالى : ( ما لكم من إله غيره ) وغيره على المعنى وعلى اللفظ
وإنما تدخل ( من ) في هذا الموضع لتدل على أنه قد نفى كل رجل وكل أحد
ولو قلت : ما رجل في الدار لجاز أن يكون فيها رجلان وأكثر وإذا قلت : ما من في الدار لم يجز أن يكون فيها أحد البتة
وقال الأخفش : إن شئت قلت وهو رديء : ما ذاهبا إلا أخوك وما ذاهبا إلا جاريتك تريد : ما أحد ذاهباً وهذا رديء لا يحذف ( أحد ) وما أشبهه حتى يكون معه كلام نحو : ما منهما مات حتى رأيته يفعل كذا وكذا و ( مات ) في موضع نصب على مفعول ( ما ) في لغة أهل الحجاز وفي كتاب الله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به )
والمعنى : ما من أهل الكتاب أحد ( وإن منكم إلا واردها )
أي : وإن أحد منكم ومعنى : ( إن ) معنى : ( ما ) فقد بان أن في ( ما ) ثلاث لغات : ما زيد قائماً وما زيد بقائم وما زيد قائم والقرآن جاء بالنصب وبالباء ومما شبه من الحروف ب ( ليس ) ( لات ) شبهها بها أهل الحجاز وذلك مع الحين خاصة قال الله تعالى : ( ولات حين مناص ) قال سيبويه : تضمر فيها مرفوعاً قال : نظير ( لات ) في أنه لا يكون إلا مضمراً فيها ( ليس ) و ( لا يكون ) في الإستثناء إذا قلت : أتوني ليس زيداً ولا يكون بشراً قال : وليست لات ك ( ليس ) في المخاطبة والإِخبار عن غائب تقول : لست وليسوا
وعبد الله ليس منطلقاً ولا تقول : عبد الله لات منطلقاً ولا قومك لاتوا منطلقين
قال : وزعموا : أن بعضهم قرأ : ولات حين مناص وهو عيسى بن عمر وهي قليلة كما قال بعضهم في قول سعيد بن مالك :
( مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرانِهَا ... فَأَنَا ابْنُ قَيْسٍ لا بَراحُ )
فجعلها بمنزلة ( ليس ) قال : و ( لات ) بمنزلة ( لا ) في هذا الموضع في الرفع ولا يجاوز بها الحين يعني : إذا رفعت ما بعدها تشبيهاً ( بليس ) فلم يجاوز بها الحين أيضاً وأنها لا تعمل إلا في ( الحين ) رفعت أو نصبت وقال الأخفش الصغير أبو الحسن سيعد بن مسعدة : إنها لا تعمل في القياس شيئاً
قال أبو بكر : والذي قال سيبويه : أنه يضمر في ( لات ) إن كان يريد أن يضمر فيها كما يضمر في الأفعال فلا يجوز لأنها حرف من الحروف والحروف لا يضمر فيها وإن كان يريد أنه حذف الإسم بعدها وأضمره المتكلم كما فعل في قوله في ( ما ) ما منهما مات أراد ( أحداً ) فحذف وهو يريده فجائز
وقوم يدخلون في باب ( كان ) عودة الفعل كقولك : لأن ضربته لتضربنه السيد الشريف وقولك : عهدي بزيد قائماً وهذا يذكر مع المحذوف والمحذوفات ومما شبه ايضاً بالفاعل في اللفظ أخبار الحروف التي تدخل على المبتدأ وخبره فتنصب الإسم وترفع الخبر وهي إن وأخواتها وسنذكرها مع ما ينصب وهذه الحروف أعني ( إن واخواتها ) خولف بين عملها وبين عمل الفعل بأن قدم فيها المنصوب على المرفوع
وإنما أعملوا ( ما ) على ( ليس ) لأن معناها معنى ليس لأنها نفي كما أنها نفى ومع ذلك فليس كل العرب يعملها عمل ( ليس ) إنما روي ذلك عن أهل الحجاز وكان حق ( ما ) أن لا تعمل شيئاً إذ كانت تدخل على الأسماء والأفعال ورأيناهم إنما أعملوا من الحروف في الأسماء ما لا يدخل على الأفعال وأعملوا منها في الأفعال ما لا يدخل على الأسماء
فأما ما يدخل على الأسماء والأفعال منها فألغوه من العمل وقد بين هذا فيما مضى وإذ قد ذكرنا ما يرتفع من الأسماء فكان ما يرتفع منها بأنه مبتدأ وخبر ومبتدأ معنيان فقط لا يتشعب منهما فنون كما عرض في الفعل أن منه متصرفاً أو غير متصرف ومنه أسماء شبهت بالفعل وقد ذكرنا الفعل المتصرف فلنذكر الفعل الذي هو غير متصرف ثم نتبعه بالأسماء إن شاء الله
كتاب : الأصول في النحو
المؤلف : أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي
منتدى الرسالة الخاتمة - البوابة