بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة العلوم الشرعية
الأشباه والنظائر للسيوطي
الكتاب الأول في شرح القواعد الخمس
ختام الكتاب الأول من الأشباه والنظائر
● [ القاعدة السادسة ] ●
العادة محكمة
قال القاضي أصلها قوله ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن قال العلائي ولم أجده مرفوعا في شيء من كتب الحديث أصلا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال وإنما هو من قول عبدالله بن مسعود موقوفا عليه أخرجه أحمد في مسنده.
اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعد كثرة فمن ذلك سن الحيض والبلوغ والإنزال وأقل الحيض والنفاس والطهر وغالبها وأكثرها وضابط القلة والكثرة في الضبة والأفعال المنافية للصلاة والنجاسات المعفو عن قليلها وطول الزمان وقصره في موالاة الوضوء في وجه والبناء على الصلاة في الجمع والخطبة والجمعة وبين الإيجاب والقبول والسلام ورده والتأخير المانع من الرد بالعيب وفي الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار المملوكة إقامة له مقام الإذن اللفظي وتناول الثمار الساقطة وفي إحراز المال المسروق وفي المعاطاة على ما اختاره النووي وفي عمل الصناع على ما استحسنه الرافعي وفي وجوب السرج والإكاف في استئجار دابة للركوب والحبر والخيط والكحل على من جرت العادة بكونها عليه وفي الاستيلاء في الغصب وفي رد ظرف الهدية وعدمه وفي وزن أو كيل ما جهل حاله في عهد رسول الله فإن الأصح أنه يراعى فيه عادة بلد البيع وفي إرسال المواشي نهارا وحفظها ليلا ولو اطردت عادة بلد بعكس ذلك اعتبرت العادة في الأصح وفي صوم يوم الشك لمن له عادة وفي قبول القاضي الهدية ممن له عادة وفي القبض والإقباض ودخول الحمام ودور القضاة والولاة والأكل من الطعام المقدم ضيافة بلا لفظ وفي المسابقة والمناضلة إذا كانت للرماة عادة في مسافة تنزل المطلق عليها وفيما إذا اطردت عادة المتبارزين بالأمان ولم يجر بينهما شرط فالأصح أنها تنزل منزلة الشرط وفي ألفاظ الواقف والموصي وفي الأيمان وسيأتي ذكر أمثلة من ذلك ويتعلق بهذه القاعدة مباحث:
● [ المبحث الأول ] ●
فيما تثبت به العادة
فيما تثبت به العادة
وفي ذلك فروع أحدها الحيض قال الإمام والغزالي وغيرهما العادة في باب الحيض أربعة أقسام.
● أحدها ما تثبت فيه بمرة بلا خلاف وهو الاستحاضة لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها وسواء في ذلك المبتدأة والمعتادة والمتحيرة.
● الثاني مالا يثبت فيه بالمرة ولا بالمرات المتكررة بلا خلاف وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء واستمر لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف وإن قلنا باللقط بل نحيضها بما كنا نجعله حيضا بالتلفيق وكذا لو ولدت مرارا ولم تر نفاسا ثم ولدت وأطبق الدم وجاوز ستين يوما فإن عدم النفاس لا يصير عادة لها بلا خلاف بل هذه مبتدأة في النفاس.
● الثالث مالا يثبت بمرة ولا بمرات على الأصح وهو التوقف عن الصلاة ونحوها بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دما ويوما نقاء.
● الرابع ما يثبت بالثلاث وفي ثبوته بالمرة والمرتين خلاف والأصح الثبوت وهو قدر الحيض والطهر الثاني الجارحة في الصيد لا بد من تكرار يغلب على الظن أنه عادة ولا يكفي مرة واحدة قطعا وفي المرتين والثلاث خلاف الثالث القائف لا خلاف في اشتراط التكرار فيه وهل يكتفى بمرتين أو لا بد من ثلاث وجهان رجح الشيخ أبو حامد وأصحابه اعتبار الثلاث وقال إمام الحرمين لا بد من تكرار يغلب على الظن به أنه عارف.
الرابع اختبار الصبي قبل البلوغ بالمماكسة قالوا يختبر مرتين فصاعدا حتى يغلب على الظن رشده.
الخامس عيوب البيع فالزنا يثبت الرد بمرة واحدة لأن تهمة الزنا لا تزول وإن تاب ولذلك لا يحد قاذفه والإباق كذلك قال القاضي حسين وغيره يكفي المرة الواحدة منه في يد البائع وإن لم يأبق في يد المشتري قال الرافعي والسرقة قريب من هذين وأما البول في الفراش فالأظهر اعتبار الاعتياد فيه.
السادس العادة في صوم يوم الشك كما إذا كان له عادة بصوم يوم الاثنين أو الخميس فصادف يوم الشك أحدهما بماذا تثبت العادة قال الشيخ تاج الدين السبكي لم أر فيه نقلا وقال الإمام في الخادم لم يتعرضوا لضابط العادة فيحتمل ثبوتها بمرة أو بقدر يعد في العرف متكررا.
السابع العادة في الإهداء للقاضي قبل الولاية قال ابن السبكي لم أر فيه نقلا بماذا تثبت به قال وكلام الأصحاب يلوح بثبوتها بمرة واحدة ولذلك عبر الرافعي بقوله تعهد منه الهدية والعهد صادق بمرة.
الثامن العادة في تجديد الطهر لمن يتيقن طهرا وحدثا وكان قبلهما متطهرا فإنه يأخذ بالضد إن اعتاد التجديد وبالمثل إن لم يعتده لم يبينوا بم تثبت به العادة لكن ذكر السبكي في شرح المنهاج أن من ثبتت له عادة محققة كمن اعتاده فيأخذ بالضد وظاهر هذا الاكتفاء فيه بالمرة ونحوها.
التاسع إنما يستدل بحيض الخنثى وإمنائه على الأنوثة والذكورة بشرط التكرار ليتأكد الظن ويندفع توهم كونه اتفاقيا قال الأسنوي وجزم في التهذيب بأنه لا يكفي مرتان بل لا بد أن يصير عادة قال ونظير التحاقه بما قيل في كلب الصيد.
● [ المبحث الثاني ] ●
إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا
وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف
إنما تعتبر العادة إذا اطردت فإن اضطربت فلا
وإن تعارضت الظنون في اعتبارها فخلاف
قال الإمام في باب الأصول والثمار كل ما يتضح فيه اطراد العادة فهو المحكم ومضمره كالمذكور صريحا وكل ما تعارض الظنون بعض التعارض في حكم العادة فيه فهو مثار الخلاف انتهى وفي ذلك فروع منها باع شيئا بدراهم وأطلق نزل على النقد الغالب فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان وإلا يبطل البيع ومنها غلبت المعاملة بجنس من العروض أو نوع منه انصرف الثمن عليه عند الإطلاق في الأصح كالنقد ومنها استأجر للخياطة والنسخ والكحل فالخيط والحبر والكحل على من خلاف صحح الرافعي في الشرح الرجوع فيه إلى العادة فإن اضطربت وجب البيان وإلا فتبطل الإجارة ومنها البطالة في المدارس سئل عنها ابن الصلاح فأجاب بأن ما وقع منها في رمضان ونصف شعبان لا يمنع من الاستحقاق حيث لا نص فيه من الواقف على اشتراط الاشتغال في المدة المذكورة وما يقع منها قبلهما يمنع لأنه ليس فيها عرف مستمر ولا وجود لها قطعا في أكثر المدارس والأماكن فإن سبق بها عرف في بعض البلاد واشتهر غير مضطرب فيجري فيها في ذلك البلد الخلاف في أن العرف الخاص هل ينزل في التأثير منزلة العرف العام والظاهر تنزيله في أهله بتلك المنزلة انتهى ومنها المدارس الموقوفة على درس الحديث ولا يعلم مراد الواقف فيها هل يدرس فيها علم الحديث الذي هو معرفة المصطلح كمختصر ابن الصلاح ونحوه أو يقرأ متن الحديثين كالبخاري ومسلم ونحوهما ويتكلم على ما في الحديث من فقه وغريب ولغة ومشكل واختلاف كما هو عرف الناس الآن وهو شرط المدرسة الشيخونية كما رأيته في شرط واقفها وقد سأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه الحافظ أبا الفضل العراقي عن ذلك فأجاب بأن الظاهر اتباع شروط الواقفين فإنهم يختلفون في الشروط وكذلك اصطلاح أهل كل بلد والشام يلقون دروس الحديث كالشيخ المدرس في بعض الأوقات بخلاف المصريين فإن العادة جرت بينهم في هذه الأعصار بالجمع بين الأمرين بحسب ما يقرأ فيه من الحديث.
فصل في تعارض العرف مع الشرع
هو نوعان أحدهما أن لا يتعلق بالشرع حكم فيقدم عليه عرف الاستعمال فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالسمك وإن سماه الله لحما أو لا يجلس على بساط أو تحت سقف أو في ضوء سراج لم يحنث بالجلوس على الأرض وإن سماها الله بساطا ولا تحت السماء وإن سماها الله سقفا ولا في الشمس وإن سماها الله سراجا أو لا يضع رأسه على وتد لم يحنث بوضعها على جبل أو لا يأكل ميتة أو دما لم يحنث بالسمك والجراد والكبد والطحال فقدم العرف في جميع ذلك لأنها استعملت في الشرع تسمية بلا تعلق حكم وتكليف والثاني أن يتعلق به حكم فيقدم على عرف الاستعمال فلو حلف لا يصلي لم يحنث إلا بذات الركوع والسجود أو لا يصوم لم يحنث بمطلق الإمساك أو لا ينكح حنث بالعقد لا بالوطء أو قال إن رأيت الهلال فأنت طالق فرآه غيرها وعلمت به طلقت حملا له على الشرع فإنها فيه بمعنى العلم لقوله إذا رأيتموه فصوموا ولو كان اللفظ يقتضي العموم والشرع يقتضي الخصوص اعتبر خصوص الشرع في الأصح فلو حلف لا يأكل لحما لم يحنث بالميتة أو لا يطأ لم يحنث بالوطء في الدبر على ما رجحه في كتاب الأيمان أو أوصى لأقاربه لم تدخل ورثته عملا بتخصيص الشرع إذ لا وصية لوارث أو حلف لا يشرب ماء لم يحنث بالمتغير كثيرا بزعفران ونحوه.
فصل في تعارض العرف مع اللغة
حكى صاحب الكافي وجهين في المقدم أحدهما وإليه ذهب القاضي حسين الحقيقة اللفظية عملا بالوضع اللغوي والثاني وعليه البغوي الدلالة العرفية لأن العرف يحكم في التصرفات سيما في الأيمان قال فلو دخل دار صديقه فقدم إليه طعاما فامتنع فقال إن لم تأكل فامرأتي طالق فخرج ولم يأكل ثم قدم اليوم الثاني فقدم إليه ذلك الطعام فأكل فعلى الأول لا يحنث وعلى الثاني يحنث انتهى وقال الرافعي في الطلاق إن تطابق العرف والوضع فذاك وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع والإمام والغزالي يريان اعتبار العرف وقال في الأيمان ما معناه إن عمت اللغة قدمت على العرف وقال غيره إن كان العرف ليس له في اللغة وجه ألبتة فالمعتبر اللغة وإن كان له فيه استعمال ففيه خلاف وإن هجرت اللغة حتى صارت نسيا منيسا قدم العرف ومن الفروع المخرجة على ذلك حلف لا يسكن بيتا فإن كان بدويا حنث بالمبنى وغيره لأنه قد تظاهر فيه العرف الكل واللغة لأن يسمونه بيتا وإن كان من أهل القرى فوجهان بناء على الأصل المذكور إن اعتبرنا العرف لم يحنث والأصح الحنث ومنها حلف لا يشرب ماء حنث بالمالح وإن لم يعتد شربه اعتبارا بالإطلاق والاستعمال اللغوي ومنها حلف لا يأكل الخبز حنث بخبز الأرز وإن كان من قوم لا يتعارفون ذلك لإطلاق الاسم عليه لغة ومنها قال أعطوه بعيرا لا يعطى ناقة على المنصوص وقال ابن شريح نعم لاندراجه فيها لغة ومنها قال أعطوه دابة أعطي فرسا أو بغلا أو حمارا على المنصوص لا الإبل والبقر إذ لا يطلق عليها عرفا وإن كان يطلق عليها لغة وقال ابن شريح إن كان ذلك في غير مصر لم يدفع إليه إلا الفرس ومنها حلف لا يأكل البيض أو الرءوس لم يحنث ببيض السمك والجراد ولا برءوس العصافير والحيتان لعدم إطلاقها عليها عرفا ومنها قال زوجتي طالق لم تطلق سائر زوجاته عملا بالعرف وإن كان وضع اللغة يقتضي ذلك لأن اسم الجنس إذا أضيف عم وكذلك قوله الطلاق يلزمني لا يحمل على الثلاث وإن كانت الألف واللام للعموم ومنها أوصي للقراء فهل يدخل من لا يحفظ ويقرأ في المصحف أو لا وجهان ينظر في أحدهما إلى الوضع وفي الثاني إلى العرف وهو الأظهر ومنها أوصى للفقهاء فهل يدخل الخلافيون المناظرون قال في الكافي يحتمل وجهين لتعارض العرف والحقيقة.
تنبيه قال الشيخ أبوزيد لا أدري ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان إن اتبع اللغة فمن حلف لا يأكل الرءوس فينبغي أن يحنث برءوس الطير والسمك وإن اتبع العرف فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا قال الرافعي يتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد وقال ابن عبدالسلام قاعدة الأيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة تنبيه إنما يتجاذب الوضع والعرف في العربي أما الأعجمي فيعتبر عرفه قطعا إذ لا وضع يحمل عليه فلو حلف على البيت بالفارسية لم يحنث ببيت الشعر ولو أوصى لأقاربه لم يدخل قرابة الأم في وصية العرب ويدخل في وصية العجم ولو قال إن رأيت الهلال فأنت طالق فرآه غيرها قال القفال إن علق بالعجمية حمل على المعاينة سواء فيه البصير والأعمى قال والعرف الشرعي في حمل الرؤية على العلم لم يثبت إلا في اللغة العربية ومنع الإمام الفرق بين اللغتين ولو حلف لا يدخل دار زيد فدخل ما سكنه بإجارة لم يحنث وقال القاضي حسين إن حلف على ذلك بالفارسية حمل على المسكن قال الرافعي ولا يكاد يظهر فرق بين اللغتين.
فصل في تعارض العرف العام والخاص
والضابط أنه إن كان المخصوص محصورا لم يؤثر كما لو كانت عادة امرأة في الحيض أقل مما استقر من عادات النساء ردت إلى الغالب في الأصح وقيل تعتبر عادتها وإن كان غير محصور اعتبر كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلا ومواشيهم نهارا فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس وجهان الأصح نعم.
● [ المبحث الثالث ] ●
العادة المطردة
العادة المطردة
في ناحية هل تنزل عادتهم منزلة الشرط فيه صور منها لو جرت عادة قوم بقطع الحصرم قبل النضج فهل تنزل عادتهم منزلة الشرط حتى يصح بيعه من غير شرط القطع وجهان اصحهما لا وقال القفال نعم ومنها لو عم في الناس إعتياد إباحة منافع الرهن للمرتهن فهل ينزل منزلة شرطه حتى يفسد الرهن قال الجمهور لا وقال القفال نعم ومنها لو جرت عادة المقترض برد أزيد مما إقترض فهل ينزل منزلة الشرط فيحرم إقراضه وجهان أصحهما لا ومنها لو اعتاد بيع العينة بأن يشتري مؤجلا بأقل مما باعه نقدا فهل يحرم ذلك وجهان أصحهما لا ومنها لو بارز كافر مسلما وشرط الأمان لم يجز للمسلم إعانة المسلم فلو لم يشرط ولكن اطردت العادة بالمبارزة بالأمان فهل هو كالمشروط وجهان أصحهما نعم فهذه الصور مستثناة ومنها لو دفع ثوبا مثلا إلى خياط ليخيطه ولم يذكر أجرة وجرت عادته بالعمل بالأجرة فهل ينزل منزلة شرط الأجرة خلاف والأصح في المذهب لا واستحسن الرافعي مقابلة.
● [ المبحث الرابع ] ●
العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر
العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر