بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الإسلامية أسباب رفع العقوبة عن العبد
● متابعة الهامش ومن الكبائر عند العلماء : القِمار والسرقة وشرب الخمر وسَبّ السَّلَف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه بأن يسُبّ رجلاً فيَسُبّ ذلك الرجلُ أبويه والسعي في الأرض فساداً ؛ إلى غير ذلك مما يكثر تَعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرّجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملةً وافرة . وقد اختلف الناس في تَعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها ، والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صِحاح وحِسان لم يُقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يُغفر لنصّ الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله؛ لأن فيه تكذيب القرآن؛ إذ يقول وقوله الحق : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له؛ فقد حَجَر واسعاً . هذا إذا كان معتقداً لذلك؛ ولذلك قال الله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط؛ قال الله تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } [ الحجر : 56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتّكل على رحمة الله من غير عمل؛ قال الله تعالى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } [ فصلت : 23 ] وبعده القتل؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدامَ الوجود ، واللِّواطُ فيه قطع النَّسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخَمرُ فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه تركُ إظهار شعائر الإسلام ، وشهادةُ الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بيّن الضرر؛ فكلّ ذنب عظّم الشرْع التوعُّدَ عليه بالعقاب وشدّده ، أو عظّم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم. الثانية قوله تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين «مُدخلا» بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل؛ التقدير وندخلكم فتدخلون مدخَلا ، ودّل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السّجستاني يقول : سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة؛ فقلت له : كيف؟ قال : يقول الله عز وجل { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنّة تُغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدّم . وقد يُغفر لمن مات عليها من المسلمين؛ كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } الآية والمراد بذلك من مات على الذنوب فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى إذ التائب من الشرك أيضاً مغفور له . ورُوي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعاً قوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } وقوله { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس؛ ثمان آيات في سورة النساء ، هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } { والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، الآية ، { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ } [ النساء : 147 ] الآية . وفي تفسير الرازي - (ج 5 / ص 179) اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الاسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه : الحجة الأولى : هذه الآية ، فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر . الحجة الثانية : قوله تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] وقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] . الحجة الثالثة : ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : « الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر . الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني : إجلال من عصى ، فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ النحل : 18 ] وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة . والجواب من وجهين : الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين . أما القول الأول : فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [ النساء : 31 ] الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة . أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه . وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة . وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها . وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير . والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير . والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة . واعلم أن هذا الكلام مبني علىأصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا اذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فان أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضاً باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق . المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالاقدام على تلك الصغائر ، والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : " الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات " وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم . المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام . وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها : قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك . وثالثها : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } [ البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا . ورابعها : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فرهان مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] والاكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن . وسادسها : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء } [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ } [ النساء : 35 ] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن» على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن» على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي . الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الاصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره . والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم . الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه . الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } الكفر؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا ، بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق . المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة . ثم قال تعالى : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ } بالياء في الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع { مُّدْخَلاً } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في { مُدْخَلَ صِدْقٍ } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد المصدر وهو الادخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ } [ الفرقان : 34 ] المسألة الثانية : أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ، فالتقدير : ان أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي ، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] ، والله أعلم.
O متابعة المتن [النساء/31] }، فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ ،وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ ،فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)سورة الزلزلة }(1) __________ (1) -وفي الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4554) و " المثقال " مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة " تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها . والفاء : للتفريع على ما تقدم . أى : فى هذا اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوى أحد على أحد . متجهين إلى موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية . . فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه ، رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة . فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعلى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد . " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبى لا أبالى أن لا أسمع غيرها " وفى صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " . وفى الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقى ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " . وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " . ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى هاتين الآيتين قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يواظبون على فعل الخيرات . وفي تفسير الرازي - (ج 17 / ص 163) وفيه مسائل : المسألة الأولى : { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أي زنة ذرة قال الكلبي : الذرة أصغر النمل ، وقال ابن عباس : إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيراً أو شراً قليلاً أو كثيراً إلا أراه الله تعالى إياه . المسألة الثانية : في رواية عن عاصم : { يَرَهُ } برفع الياء وقرأ الباقون : { يَرَهُ } بفتحها وقرأ بعضهم : { يَرَهُ } بالجزم . المسألة الثالثة : في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة ، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر ، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من الخير والشر؟ . واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه : أحدها : قال أحمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة ، وليس له فيها شيء ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، ويدل على صحة هذا التأويل ما روي أنه عليه السلام قال لأبي بكر : « يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة » وثانيها : قال ابن عباس : ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها : أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره ، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية ورابعها : أن تخصص عموم قوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } ونقول : المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيراً يره ، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شراً يره . المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب : هذا هو الكرم ، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف ، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم ، وإن قل فالكريم لا يضيعه ، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيراً ، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة ، بل اعتبرتها ونظرت فيها ، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركباً به وصلت إلي ، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد ، فإذا كان العمل قليلاً لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب ، وإن كان العمل كثيراً والنية دائرة فالمقصود فائت ، ومن ذلك ما روى عن كعب : لا تحقروا شيئاً من المعروف ، فإن رجلاً دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله ، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت المقدس فدخلت الجنة . وعن عائشة : «كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها ، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها ، فقالت : إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية» ولعلها كان غرضها التعليم ، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة . روي : «أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين ، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس ، فلما أمست قالت : يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز وزيت ، فقيل لها : أما أمسكت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه ، فقالت : لو ذكرتيني لفعلت ذلك» وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، ويقول ما هذا بشيء ، وإنما نؤجر على ما نعطي! وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، ويقول : لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية ترغيباً في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذيراً من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر ، ولهذا قال عليه السلام : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم ، وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (ج 1 / ص 6198) فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } كان ابن عباس يقول : مَن يعمل من الكفار مثقال ذرّة خيراً يَرَهُ في الدنيا ، ولا يُثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عُوقب عليه في الآخرة ، مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يَرَهُ في الدنيا ، ولا يعاقَبْ عليه في الآخرة إذا مات ، ويُتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يُقْبلْ منه ، ويضاعفْ له في الآخرة . وفي بعض الحديث : " الذرّة لا زِنة لها " وهذا مَثَلٌ ضَرَبه الله تعالى : أنه لا يُغْفِل من عمل ابن آدم صغيرةً ولا كبيرة . وهو مِثل قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . وقد تقدم الكلام هناك في الذرّ ، وأنه لا وزن له . وذكر بعض أهل اللغة أن الذرّ : أن يضرب الرجل بيده على الأرض ، فما علِق بها من التراب فهو الذَّرّ ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحد مما لزق من التراب ذَرَّة . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : فمنْ يَعْمَل مِثقْالَ ذَرّة منْ خَيْر من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير . ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مُوْمن ، يرى عُقوبته في الدنيا ، في نفسه وماله وولده وأهله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شرّ . دليله ما رواه العلماء الأثبات من حديث أنس : أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، وإنا لنُرَى ما عَمِلْنا من خير وشرّ؟ قال : " ما رأيت مما تكره فهو مثاقيل ذرّ الشرّ ، ويُدَّخَر لكم مثاقيلُ ذَرّ الخير ، حتى تُعْطَوْه يومَ القِيامة " . قال أبو إدريس : إن مِصْداقه في كتاب الله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . وقال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطِيه التمرة والكِسرة والجوزة . وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكَذبة والغِيبة والنظْرة ، ويقول : إنما أوعد الله النار على الكبائر؛ فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يُعْطُوه؛ فإنه يوشِك أن يكثُر ، ويُحَذِّرهُمْ اليسيرَ من الذنب ، فإنه يوشِك أن يكثُر؛ وقاله سعيد بن جبير . والإِثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء . الثانية : قراءة العامة «يَرَهْ» بفتح الياء فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ والسُّلَمِيّ وعيسى ابن عمر وأبان عن عاصم : «يُرَهْ» بضم الياء؛ أي يُريه اللَّهُ إياه . والأَوْلَى الاختيار؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] الآية . وسكن الهاء في قوله «يَرَه» في الموضعين هشام . وكذلك رواه الكسائي عن أبي بكر وأبي حَيْوة والمغيرة . واختلس يعقوب والزهري والجحدرِي وشيبة . وأشبع الباقون . وقيل «يَرَه» أي يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعُدم فلا يُرَى . وأنشدوا : إنّ منْ يَعْتدِي ويَكْسِبُ إِثْما ... وَزْنَ مِثْقالِ ذرّة سَيَرَاهُ ويُجَازَى بفعله الشرَّ شرا ... وبفعل الجميلِ أيضاً جَزَاهُ هكذا قوله تبارك ربِّي ... في إذا زُلزلت وجَل ثَناه الثالثة : قال ابن مسعود : هذه أحكم آية في القرآن؛ وصَدّق . وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية؛ القائلون بالعموم ومن لَمْ يقل به . وروى كعب الأحبار أنه قال : لقد أنزل الله على محمد آيتين أحْصَتَا ما في التوراة والإنجيل والزَّبور والصُّحُف : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . قال الشيخ أبو مَدْين في قوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } قال : في الحال قبل المآل . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الآية الجامعة الفاذة؛ كما في الصحيح لما سئل عن الحُمُر وسكت عن البغال ، والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كَرّ فيهما ولا فرّ؛ فلما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم ، والثواب المستمر ، سأل السائل عن الحُمُر ، لأنهم لم يكن عندهم يومئذٍ بَغْل ، ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبيّ صلى الله عليه وسلم «الدُّلْدُل» ، التي أهداها له المقوقِس ، فأفتاه في الحَمِير بعموم الآية ، وإن في الحمار مثاقيل ذرّ كثيرة؛ قاله ابن العربيّ . وفي الموطأ : أن مِسْكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عِنَب؛ فقالت لإنسان : خذ حبة فأعطه إياها . فجعل ينظر إليها ويعجب؛ فقالت : أتعجب! كم ترى في هذه الحبَة من مثقال ذرّة . وروي عن سعد بن أبي وَقَّاص : أنه تصدق بتمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال للسائل : ويقبل الله منا مثاقيل الذرّ ، وفي التمرتين مثاقيل ذرّ كثيرة . وروى المُطَّلب بن حَنْطَب : " أن أعرابياً سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقرأُها فقال : يا رسول الله ، أمثقالُ ذرّة! قال : «نعم» فقال الأعرابيّ : واسَوْأَتَاه! مِراراً : ثم قام وهو يقولها؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لقد دَخَلَ قلبَ الأَعْرابيّ الإيمانُ» " وقال الحسن : قَدِم صعصعة عَمّ الفرزدق على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآيات؛ قال : لا أبالي ألا أسمع من القرآن غيرها ، حَسْبي ، فقد انتهت الموعظة؛ ذكره الثعلبي . ولفظ الماوردِيّ : ورُوي أن صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستقرئه ، فقرأ عليه هذه الآية؛ فقال صعصعة : حسبي حسبي؛ إن عَمِلتُ مِثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا رأيتُه . ورَوى مَعمر عن زيد بن أسلم : " أن رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : عَلِّمني مما علمك الله . فدفعه إلى رجل يعلمه؛ فعلمه { إِذَا زُلْزِلَتِ } حتى إذا بلغ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي . فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «دَعُوهُ فإنَّهُ قد فَقُه» " ويحكى أن أعرابياً أخَّر «خَيْراً يَرَهُ» فقيل : قدمت وأخرت . فقال : خذ بطنَ هَرشَى أو قَفاها فإنهُ ... كِلا جانِبي هَرْشَى لهنّ طرِيق.