من طرف كراكيب الإثنين 3 نوفمبر 2014 - 12:36
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من ذكر سلطان بركي الى سلطان كردي بولي
● [ ذكر سلطان بركي ] ●
وهو السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري، وجه نائبه إلي لآتيه، فأشار علي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية، وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة، لا يستطيع الركوب بسببها، وانقطع عن المدرسة، ثم إن السلطان بعث في طلبي ثانية، فشق ذلك على المدرس فقال: أنا لا أستطيع الركوب، ومن غرضي التوجه معك، لأقرر لدى السلطان ما يجب لك. ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقاً، وركب ولم يضع رجله في الركاب. وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل، في طريق قد نحتت وسويت، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال، بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه: خضر بك وعمر بك، فسلما على الفقيه، وأمرهما بالسلام علي ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة " خركاه"، وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح، مثل البادهنج. ويسد متى احتيج إلى شده. وأتوا بالفرش ففرشوه، وقعد الفقيه، وقعدت معه أصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديدة البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني بما اقتضته فضائله، ثم عاد إلي وأعلمني بذلك. وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معاً، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائماً، فسلمنا عليه، وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه. فسألني عن حالي ومقدمي، وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم. ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا، وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام، وكذلك فعل الترك. وأقمنا على تلك الحال أياماً، يبعث إلينا كل يوم، فنحضر طعامه، وأتى يوماً إلينا بعد الظهر، وقعد الفقيه في صدر المجلس، وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول صلى الله عليه وسلم فكتبتها له، وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج، ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إدام ولا خضر. فأمر بعقاب صاحب خزانته، وبعث بالأبزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل، فأدركني الملل وأردت الإنصراف. وكان الفقيه أيضاً قد مل من المقام هنالك، فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر. فلما كان من الغد بعث السلطان نائبه، فتكلم مع المدرس بالتركية، ولم أكن إذ ذاك أفهمها، فأجابه عن كلامه وانصرف. فقال لي المدرس: أتدري ماذا قال:? قلت: لا أعرف ما قال. قال: إن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك. فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا. فقال: إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم، وتنزلا معه غداً إلى داره بالمدينة. ولما كان من الغد بعث فرساً جيداً من مراكبه، ونزل ونحن معه إلى المدينة. فخرج الناس لاستقباله، وفيهم القاضي المذكور آنفاً وسواه، ودخل السلطان ونحن معه، فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة، فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين، صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة. فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان ? قال: هؤلاء فتيان روميون. وصعدنا مع السلطان درجاً كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء، وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه، وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة، وفوق إحداها مرتبة السلطان. فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده، وقعد معنا على الأقطاع، وقعد الفقيه عن يمينه، والقاضي مما يلي الفقيه، وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة، والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه.
ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوءة بالجلاب المحلول، قد عصر فيه ماء الليمون، وجعل فيه كعكات صغار مقسومة، وفيها ملاعق ذهب وفضة، وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك، وفيها ملاعق خشب، فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب. وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه، وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره.
حكاية
وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه، وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة، والقراء أسفل منه. فقلت للفقيه: من هذا الشيخ ? فضحك وسكت. ثم أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه. فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له. فأخذني ما حدث وأبديت الامتعاض. فقلت لليهودي: يا ملعون ابن ملعون، كيف تجلس فوق قراء القرآن، وأنت يهودي ? وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال. ولما انصرفنا قال لي الفقيه: أحسنت بارك الله فيك. إن أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك، ولقد عرفته بنفسه.
حكاية آخرى
وسألني السلطان في هذا المجلس، فقال لي هل رأيت حجراً نزل من السماء ? فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به. فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء. ثم دعا رجالاً وأمرهم أن يأتوا بالحجر، فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة، له بريق. قدرت أن زنته تبلغ قنطاراً. وأمر السلطان بإحضار القطاعين، فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه، فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد، فلم يؤثروا فيه شيئاً، فعجبت من أمره. وأمر برده إلى حيث كان. وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان، صنع صنيعاً عظيماً، ودعا الفقراء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة، فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان، وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة. وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة. ثم بعث إلي مائة مثقال ذهباً وألف درهم وكسوة كاملة وفرساً ومملوكاً رومياً يسمى ميخائيل، وبعث لكل من أصحابي كسوة ودراهم. كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين، جزاه الله تعالى خيراً، وودعنا، وانصرفنا. وكانت مدة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوماً. ثم قصدنا مدينة تيرة وهي من بلاد هذا السلطان، " وضبط اسمها بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء " مدينة حسنة ذات انهار وبساتين فواكه. نزلنا منها بزاوية الفتى محمد، وهو من كبار الصالحين، صائم الدهر، وله أصحاب على طريقته. فأضافنا ودعا لنا. وسرنا إلى مدينة أياسلوق " وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف " مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم، وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة، ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فما دونها، منحوتة أبدع نحت. والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا، لا نظير له في الحسن، وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد، فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجداً جامعاً، وحيطانه من الرخام الملون، وفرشه الرخام الأبيض، وهو مسقف بالرصاص، وفيه إحدى عشرة قبة منوعة، في وسط كل قبة صهريج ماء، والنهر يشقه، وعلى جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين. وله خمسة عشر باباً. وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها. فسلمت عليه، وأنا راكب، فكره ذلك مني، وكان سبب حرماني لديه. فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك. ولم يبعث إلي إلا ثوباً واحداً من الحرير المذهب يسمونه النخ " بفتح النون وخاء معجم ". واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكراً بأربعين ديناراً ذهباً، ثم سرنا إلى المدينة يزمير " وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة وياء مد وراء " مدينة كبيرة على ساحل البحر، معظمها خراب. ولها قلعة متصلة بأعلاها. نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب، وهو من الأحمدية، صالح فاضل. ولقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعي، ومعه زاده الأخلاطي من كبار المشايخ، ومعه مائة فقير من المولهين. وقد ضرب لهم الأمير الأخية، وصنع الشيخ يعقوب ضيافة، وحضرتها، واجتمعت بهم. وأمير هذه المدينة عمر بك ابن السلطان محمد بن آيدين المذكور آنفاً، وسكناه بقلعتها، وكان حين قدومنا عليها عند أبيه، ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها. فكان من مكارمه أن أتى إلي بالزاوية فسلم علي واعتذر، وبعث ضيافة عظيمة، وأعطاني بعد ذلك مملوكاً رومياً خماسياً اسمه نقوله، وثوبين من الكمخا، وهي ثياب حرير تصنع ببغداد وتبريز ونيسابور وبالصين، وذكر لي الفقيه الذي يؤم به أن الأمير لم يبق له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كرمه رحمه الله، وأعطى أيضاً للشيخ عز الدين ثلاثة أفراس مجهزة، وآنية فضية كبيرة تسمى عندهم المشربة مملوءة دراهم، وثياباً من الملف والمرعز والقسي والكمخا وجواري وغلماناً. وكان هذا الأمير كريماً صالحاً كثير الجهاد، له أجفان غزوية يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم، ويفني ذلك كرماً وجوداً، ثم يعود إلى الجهاد، إلى أن اشتدت على الروم وطأته فرفعوا أمرهم إلى البابا فأمر نصارى جنوة وإفرانسة بغزوه. وجهز جيشاً من رومية، وطرقوا مدينته ليلاً في عدد كثير من الأجفان، وملكوا المرسى والمدينة. ونزل إليهم الأمير عمر من القلعة فقاتلهم واستشهد هو وجماعة من ناسه، واستقر النصارى بالبلد، ولم يقدروا على القلعة لمنعتها. ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة مغنيسية " وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة نسكنة ونون مكسورة وياء مد وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة " نزلنا بها عشي يوم عرفة بزاوية رجل من الفتيان، وهي مدينة كبيرة حسنة، في سفح جبل، وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.
● [ ذكر سلطان مغنيسية ] ●
وسلطانها يسمى صاروخان، ولما وصلنا إلى هذه البلدة، وجدناه بتربة ولده، وكان قد توفي منذ أشهر، فكان هو وأم الولد ليلة العيد وصبيحتها بتربته، والولد قد صبر، وجعل في تابوت خشب مغشى بالحديد المقزدر، وعلق في قبة لا سقف لها لتذهب رائحته، وحينئذ تسقف القبة، ويجعل تابوته ظاهراً على وجه الأرض، وتجعل ثيابه عليه. وهكذا رأيت غيره أيضاً من الملوك فعل، وسلمنا عليه بذلك الموضع، وصلينا معه صلاة العيد، وعدنا إلى الزاوية. فأخذ الغلام الذي كان لي أفراسنا، وتوجه مع غلام لبعض الأصحاب برسم سقيها، فأبطأ. ثم لما كان العشي لم يظهر لهما أثر. وكان بهذه المدينة الفقيه المدرس الفاضل مصلح الدين، فركب معي إلى السلطان وأعلمناه بذلك. فبعث في طلبهما، فلم يوجدا، واشتغل الناس في عيدهم وقصدا مدينة للكفار على ساحل البحر تسمى فوجة على مسيرة يوم من مغنيسية. وهؤلاء الكفار في بلد حصين. وهم يبعثون هدية في كل سنة إلى سلطان مغنيسية فيقنع منهم بها، لحصانة بلدهم. فلما كان بعد الظهر أتى بهما بعض الأتراك وبالأفراس، وذكروا أنهما اجتازا بهم عشية النهار، فأنكروا أمرهما واشتدوا عليهما حتى أقرا بما عزما عليه من الفرار. ثم سافرنا من مغنيسية، وبتنا ليلة عند قوم من التركمان قد نزلوا في مرعى لهم، ولم نجد عندهم ما نعلف به دوابنا تلك الليلة، وبات أصحابنا يحترسون مداولة بينهم خوف السرقة. فأتت نوبة الفقيه عفيف الدين التوزري. فسمعته يقرأ سورة البقرة فقلت له: إذا أردت النوم فأعلمني لأنظر من يحرس، ثم نمت، فما أيقظني إلا الصباح. وقد ذهب السراق بفرس لي كان يركبه عفيف الدين بسرجه ولجامه، وكان من جياد الخيل اشتريته بأياسلوق. ثم رحلنا من الغد فوصلنا إلى مدينة، برغمة " وضبط اسمها بباء موحدة مفتوحة وراء مسكنة وغين معجمة مفتوحة وميم مفتوحة " مدينة خربة، لها قلعة عظيمة منيعة بأعلى جبل. ويقال: إن أفلاطون الحكيم من أهل هذه المدينة، وداره تشتهر باسمه إلى الآن. ونزلنا منها بزاوية فقير من الأحمدية. ثم جاء أحد كبراء المدينة فنقلنا إلى داره وأكرمنا إكراماً كثيراً.
● [ ذكر سلطان برغمة ] ●
وسلطانها يسمى يخشي خان بكسر الشين، وخان عندهم هو السلطان ويخشي " بباء آخر الحروف وخاء معجم وشين مكسور " ومعناه جيد، صادفناه في مصيف له، فأعلم بقدومنا فبعث بضيافة وثوب قدسي، ثم اكترينا من يدلنا على الطريق، وسرنا في جبال شامخة وعرة، إلى أن وصلنا إلى مدينة بلي كسري " وضبط اسمها باء موحدة مفتوحة ولام مكسورة وياء مد وكاف مفتوح وسين مهمل مسكن وراء مكسور وياء " مدينة حسنة كثيرة العمارات مليحة الأسواق، ولا جامع لها يجمع فيه. وأرادوا بناء جامع خارجها متصل بها، فبنوا حيطانه ولم يجعلوا له سقفاً. وصاروا يصلون به ويجتمعون تحت ظلال الأشجار، ونزلنا من هذه المدينة بزاوية الفتى أخي سنان وهو من أفاضلهم، وأتى إلينا قاضيها وخطيبها الفقيه موسى.
● [ ذكر سلطان بلي كسري ] ●
ويسمى دمورخان، ولا خير فيه. وأبوه هو الذي بنى هذه المدينة، وكثرت عمارتها بمن لا خير فيه، في مدة ابنه هذا، والناس على دين الملك، ورأيته. وبعث إلي ثوب حرير. واشتريت بهذه المدينة جارية رومية تسمى مر غليظة، ثم سرنا إلى مدينة برصا " وضبط اسمها بضم الباء الموحدة وإسكان الراء وفتح الصاد المهمل " مدينة كبيرة عظيمة حسنة الأسواق فسيحة الشوارع، تحفها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية. وبخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة، وقد بني عليها بيتان: أحدهما للرجال والآخر للنساء، والمرضى يستشفون بهذه الحمة، ويأتون إليها من أقاصي البلاد. وهنالك زاوية للواردين ينزلون بها ويطعمون مدة مقامهم وهي ثلاثة أيام. عمّر هذه الزاوية أحد ملوك التركمان. ونزلنا في هذه المدينة بزاوية الفتى أخي شمس الدين من كبار الفتيان. ووافقنا عنده يوم عاشوراء. فصنع طعاماً كثيراً، ودعا وجوه العسكر وأهل المدينة ليلاً، وأفطروا عنده، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة، وحضر الفقيه الواعظ مجد الدين القونوي. ووعظ وذكر وأحسن، ثم أخذوا في السماع والرقص. وكانت ليلة عظيمة الشأن. وهذا الواعظ من الصالحين يصوم الدهر ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام، ولا يأكل إلا من كدّ يمينه. ويقال: إنه لم يأكل طعام أحد قط، ولا منزل له ولا متاع إلا ما يستتر به، ولا ينام إلا في المقبرة. ويعظ في المجالس ويذكر فيتوب على يديه في كل مجلس الجماعة من الناس. وطلبته بعد هذه الليلة فلم أجده، وأتيت الجبانة فلم أجده. ويقال: إنه يأتيها بعد هجوع الناس.
حكاية
لما حضرنا ليلة عاشوراء بزاوية شمس الدين، وعظ بها مجد الدين آخر الليل. فصاح أحد الفقراء صيحة غشي عليه منها. فصبوا عليه ماء الورد فلم يفق، فأعادوا عليه ذلك فلم يفق، واختلفت الناس فيه، فمن قائل إنه ميت، ومن قائل إنه مغشي عليه. وأتم الواعظ كلامه وقرأ القراء وصلينا الصبح وطلعت الشمس، فاختبروا حال الرجل فوجدوه فارق الدينا رحمه الله. فاشتغلوا بغسله وتكفينه. وكنت فيمن حضر الصلاة عليه ودفنه. وكان هذا الفقير يسمى الصياح. وذكروا أنه كان يتعبد بغار هنالك في جبل. فمتى علم أن الواعظ مجد الدين يعظ قصده، وحضر وعظه، ولم يأكل طعام أحد. فإذا وعظ مجد الدين يصيح ويغشى عليه ثم يفيق، فيتوضأ ويصلي ركعتين. ثم إذا سمع الواعظ صاح يفعل ذلك مراراً في الليلة وسمي الصياح لأجل ذلك. وكان أعذر اليد والرجل، لا قدرة له على الخدمة، وكانت له والدة تقوته من غزلها. فلما توفيت اقتات من نبات الأرض. ولقيت بهذه المدينة الشيخ الصالح عبد الله المصري السائح وهو من الصالحين، جال الأرض، إلا أنه لم يدخل الصين ولا جزيرة سرنديب ولا المغرب ولا الأندلس ولا بلاد السودان، وقد زدت عليه بدخول هذه الأقاليم.
● [ ذكر سلطان برصا ] ●
سلطانها اختيار الدين أرخان بك، وأرخان " بضم الهمزة وخاء معجم " ابن السلطان عثمان جوق " وجوق بجيم معقود مضموم وآخره قاف " وتفسيره بالتركية الصغير. وهذا السلطان أكبر ملوك التركمان وأكثر مالاً وبلاداً وعسكراً، له من الحصون ما يقارب مائة حصن. وهو في أكثر أوقاته لا يزال يطوف عليها، ويقيم بكل حصن منها أياماً لإصلاح شؤونه وتفقد حاله. ويقال: إنه لم يقم قط شهراً كاملاً ببلد، ويقاتل الكفار ويحاصرهم. وواله هو الذي استفتح مدينة برصا من أيدي الروم، وقبره بمسجدها. وكان مسجدها كنيسة للنصارى. ويذكر أنه حاصر مدينة برتيك نحو عشرين سنة ومات قبل فتحها، فحاصرها ولده هذا الذي ذكرناه اثني عشرة سنة وافتتحها. وبها كان لقائي له. وبعث إلي بدراهم كثيرة. ثم سافرنا إلى مدينة يزنيك " وضبط اسمها بفتح الياء آخر الحروف وإسكان الزاي وكسر النون وياء مد وكاف " وبتنا قبل الوصول إليها ليلة بقرية تدعى كرله، بزاوية فتى من الأخية. ثم سرنا من هذه القرية يوماً كاملاً في أنهار ماء على جوانبها أشجار الرمان الحلو والحامض، ثم وصلنا إلى بحيرة ماء تنبت القصب، على ثمانية أميال من يزنيك. لا يستطاع دخولها إلا على طريق واحد مثل الجسر، لا يسلك عليها إلا فارس واحد. وبذلك امتنعت هذه المدينة، والبحيرة محيطة بها من جميع الجهات، وهي خاوية على عروشها. لا يسكن بها إلا أناس قليلون من خدام السلطان، وبها زوجته بيون خاتون، وهي الحاكمة عليهم امرأة صالحة فاضلة، وعلى المدينة أسوار أربعة. بين كل سورين خندق وفيه الماء، ويدخل إليها على جسور خشب، متى أرادوا رفعها رفعوها. وبداخل المدينة البساتين والدور والأرض والمزارع، فلكل إنسان داره ومزرعته وبستانه مجموعة. وشربها من آبار قريبة، وبها من جميع أصناف الفواكه والجوز. والقسطل عندهم كثير جداً رخيص الثمن. ويسمون القسطل قسطنة بالنون. والجوز القوز بالقاف. وبها العنب العذاري لم أر مثله في سواها، متناهي الحلاوة وعظيم الجرم. صافي اللون رقيق القشر، للحبة منه نواة واحدة. أنزلنا بهذه المدينة الفقيه الإمام الحاج المجاور علاء الدين السلطانيوكي، وهو شيخ الفضلاء الكرماء، ما جئت قط لزيارته إلا أحضر الطعام، وصورته حسنة وسيرته أحسن. وتوجه معي إلى الخاتون المذكورة، فأكرمت وأضافت وأحسنت. وبعد قدومنا بأيام وصل إلى هذه المدينة السلطان أرخان بك الذي ذكرناه. وأقمت بهذه المدينة نحو أربعين يوماً بسبب مرض فرس لي. فلما طال علي المكث تركته وانصرفت، ومعي ثلاثة من أصحابي وجارية وغلامان. وليس معنا من يحسن اللسان التركي ويترجم عنا. وكان لنا ترجمان فارقنا بهذه المدينة. ثم خرجنا منها فبتنا بقرية يقال لها مكجا " بفتح الميم والكاف والجيم " بتنا عند فقيه أكرمنا وأضافنا. وسافرنا من عنده وتقدمتنا امرأة من الترك على فرس ومعها خديم لها، وهي قاصدة مدينة ينجا، ونحن في اتباع أثرها، فوصلت إلى وادٍ كبير يقال له سقري كأنه نسب إلى سقر، أعاذنا الله منها، فذهبت تجوز الوادي فلما توسطته، كادت الدابة تغرق بها ورمتها عن ظهرها، وأراد الخديم الذي كان معها استخلاصها، فذهب الوادي بهما معاً. وكان في عدوة الوادي قوم رموا بأنفسهم في أثرها سباحة، فأخرجوا المرأة وبها من الحياة رمق، ووجدوا الرجل قد قضى نحبه رحمه الله. وأخبرنا أولئك الناس أن المعدية أسفل من ذلك الموضع. توجهنا إليها، وهي أربع خشبات مربوطة بالحبال، يجعلون عليها سروج الدواب والمتاع، ويجذبها الرجال من العدوة الأخرى، ويركب عليها الناس. وتجاز الدواب سباحة وكذلك فعلنا. ووصلنا تلك الليلة إلى كاوية واسمها على مثال فاعلة من الكي نزلنا منها بزاوية أحد الأخية فكلمناه بالعربية فلم يفهم عنا، وكلمنا بالتركية فلم نفهم عنه، فقال: اطلبوا الفقيه فإنه يعرف العربية. فأتى الفقيه فكلمنا بالفارسية وكلمناه بالعربية فلم يفهمها منا فقال: للفتى ايشان عربي كهنا ميقوان ميكو يندو من عربي نوميدانم. وايشان معناه هؤلاء، وكهنا قديم، وميقوان يقولون، ومن أنا، ونو جديد، وميدانم تعرف. وإنما أراد الفقيه بهذا الكلام ستر نفسه عن الفضيحة حين ظنوا أنه يعرف اللسان العربي وهو لا يعرفه. فقال لهم: هؤلاء يتكلمون بالكلام العربي القديم، وأنا لا أعرف إلا العربي الجديد فظن الفتى أن الأمر على ما قاله الفقيه . ونفعنا ذلك عنده وبالغ في إكرامنا وقال: هؤلاء تجب كرامتهم، لأنهم يتكلمون باللسان العربي القديم وهو لسان النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً وأصحابه. ولم نفهم كلام الفقيه إذ ذاك لكنني حفظت لفظه. فلما تعلمت اللسان الفارسي فهمت مراده. وبتنا تلك الليلة بالزاوية، وبعث معنا دليلاً إلى ينجا وضبط اسمها " بفتح الياء آخر الحروف وكسر النون وجيم " بلدة كبيرة حسنة. بحثنا بها عن زاوية الأخي فوجدنا بها أحد الفقراء المولهين، فقلت له: هذه زاوية الأخي، فقال لي: نعم. فسرت عند ذلك إذ وجدت من يفهم اللسان العربي. فلما اختبرته أبرز الغيب أنه لا يعرف من اللسان العربي إلا كلمة نعم خاصة. ونزلنا بالزاوية وجاء إلينا أحد الطلبة بطعام. ولم يكن الأخي حاضراً، وحصل الأنس بهذا الطالب، ولم يكن يعرف اللسان العربي، ولكنه تفضل وتكلم مع نائب البلدة فأعطاني فارساً من أصحابه، وتوجه معنا إلى كبنوك " وضبط اسمها بفتح الكاف وسكون الباء وضم النون " وهي بلدة صغيرة يسكنها كفار الروم تحت ذمة المسلمين، وليس بها غير بيت واحد من المسلمين، وهم الحكام عليهم. وهي من بلاد السلطان أرخان بك، فنزلنا بدار عجوز كافرة، وذلك إبان الثلج والشتاء، فأحسنا إليها وبتنا عندها تلك الليلة، وهذه البلدة لا شجر بها ولا دوالي العنب ولا يزرع بها إلا الزعفران، وأتتنا هذه العجوز بزعفران كثير، وظنت أننا تجار نشتريه منها .ولما كان الصباح ركبنا وأتانا الفارس الذي بعثه الفتى معنا من كاوية، فبعث معنا فارساً غيره ليوصلنا إلى مدينة مطرني. وقد وقع في تلك الليلة ثلج كثير عفى عن الطريق ، فتقدمنا ذلك الفارس فاتبعنا أثره إلى أن وصلنا في نصف النهار إلى قرية للتركمان، فأتوا بطعام فأكلنا منه، وكلمهم ذلك الفارس فركب معنا أحدهم، وسلك بنا أوعاراً وجبالاً ومجرى ماء تكرر لنا جوازه أزيد من الثلاثين مرة. فلما خلصنا من ذلك قال لنا ذلك الفارس: أعطوني شيئاً من الدراهم. فقلنا له: إذا وصلنا إلى المدينة نعطيك ونرضيك فلم يرض ذلك منا، أو لم يفهم عنا. فأخذ قوساً لبعض أصحابي ومضى غير بعيد ثم رجع فرد إلينا القوس فأعطيته شيئاً من الدراهم، فأخذها وهرب عنا وتركنا لا نعرف أين نقصد ولا طريق لنا، فكنا نتلمح أثر الطريق تحت الثلج ونسلكه، إلى أن بلغنا عند غروب الشمس إلى جبل يظهر الطريق به لكثرة الحجارة، فخفت الهلاك علي ومن معي وتوقعت نزول الثلج ليلاً ولا عمارة هنالك. فإن نزلنا عن الدواب هلكنا، وإن سرينا ليلتنا لا نعرف أين نتوجه. وكان لي فرس من الجياد فعملت على الخلاص، وقلت في نفسي: إذا سلمت لعلي أحتال في سلامة أصحابي، فكان كذلك. واستودعتهم الله تعالى وسرت. وأهل تلك البلاد يبنون على القبور بيوتاً من الخشب يظن رائيها أنها عمارة، فيجدها قبوراً. فظهر لي منها كثير. فلما كان بعد العشاء وصلت إلى البيوت فقلت: اللهم اجعلها عامرة، فوجدتها عامرة، ووفقني الله تعالى إلى باب دار، فرأيت عليها شيخاً فكلمته بالعربي فكلمني بالتركي، وأشار إلي بالدخول. فأخبرته بشأن أصحابي فلم يفهم عني، وكان من لطف الله أن تلك الدار زاوية للفقراء، والواقف بالباب شيخها. فلما سمع الفقراء الذين بداخل الزاوية كلامي مع الشيخ خرج بعضهم. وكانت بيني وبينه معرفة فسلم علي، وأخبرته خبر أصحابي وأشرت إليه بأن يمضي مع الفقراء لاستخلاص الأصحاب، ففعلوا ذلك وتوجهوا معي إلى أصحابي، وجئنا جميعاً إلى الزاوية وحمدنا الله تعالى على السلامة، وكانت ليلة جمعة، فاجتمعوا أهل القرية وقطعوا ليلتهم بذكر الله تعالى. وأتى كل منهم بما تيسر له من الطعام وارتفعت المشقة. ورحلنا عند الصباح فوصلنا مدينة مطرني عند صلاة الجمعة " وضبط اسمها بضم الميم والطاء المكهملة واسكان الراء وكسر النون وياء مد "، فنزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية، وبها جماعة من المسافرين، ولم نجد مربطاً للدواب. فصلينا الجمعة ونحن في قلق لكثرة الثلج والبرد وعدم المربط، فلقينا أحد الحجاج من أهلها فسلم علينا، وكان يعرف اللسان العربي فسررت برؤيته، وطلبت منه أن يدلنا على مرابط للدواب بالكراء. فقال: أما ربطها فهي في منزل فلا يتأتى، لأن أبواب دور هذه البلدة صغار، لا تدخل منها الدواب، ولكنني أدلكم على سقيفة بالسوق يربط فيهم المسافرون دوابهم، والذين يأتون لحضور السوق، فدلنا عليها وربطنا بها دوابنا، ونزل أحد الأصحاب بحانوت خال إزاءها ليحرس الدواب.
حكاية
وكان من غريب ما اتفق لنا أني بعثت أحد الخدام ليشتري التبن للدواب، وبعثت أحدهم يشتري السمن. فأتى أحدهما بالتبن، والآخر دون شيء، وهو يضحك. فسألناه عن سبب ضحكه فقال: إنا وقفنا على دكان بالسوق فطلبنا منه السمن، فأشار إلينا بالوقوف. وكلم والده فدفعنا له الدراهم، فأبطأ ساعة وأتى بالتبن فأخذناه منه، وقلنا له: إنا نريد السمن، فقال: هذا السمن، وأبرز الغيب أنهم يقولون للتبن سمن بلسان الترك. أما السمن فيسمى عندهم رباغ. ولما اجتمعنا بهذا الحاج الذي يعرف اللسان العربي رغبنا منه أن يسافر معنا إلى قصطومنية، وبينها وبين هذه البلدة عشرة، وكسوته ثوباً مصرياً من ثيابي، وأعطيته نفقه تركها لعياله، وعينت له دابة لركوبه، ووعدته الخير. وسافر معنا، فظهر لنا من حاله أنه صاحب مال كثير، وله ديون على الناس، غير أنه ساقط الهمة خسيس الطبع سيء الأفعال وكنا نعطيه الدارهم لنفقتنا فيأخذ ما يفضل من الخبز ويشتري به الأبراز والخضر والملح ويمسك ثمن ذلك لنفسه. وذكر لي أنه كان يسرق من دارهم النفقة دون ذلك، وكنا نحتمله لما كنا نكابده من عدم المعرفة بلسان الترك، وانتهت حاله إلى أن فضحناه، وكنا نقول له في آخر النهار يا حاج، كم سرقت اليوم من النفقة ، فيقول: كذا فنضحك منه ونرضى بذلك. ومن أفعله الخسيسة أنه مات لنا فرس في بعض المنازل، فتولى سلخ جلده بيده وباعه. ومنها أنا نزلنا ليلة عند أخت له في بعض القرى فجاءت بطعام وفاكهة من الأجاص والتفاح والمشمش والخوخ، كلها ميبسة وتجعل في الماء حتى ترطب فتؤكل ويشرب ماؤها. فأردنا أن نحسن إليها فعلم بذلك فقال: لا تعطوها شيئاً، وأعطوا ذلك لي فأعطيناه إرضاء له، وأعطيناه إحساناً في خفية بحيث لم يعلم بذلك. ثم وصلنا إلى مدينة بولي " وضبط اسمها بياء موحدة مضموة وكسر اللام "، ولما انتهينا إلى قريب منها وجدنا وادياً يظهر في رأي العين صغيراً، فلما دخله بعض أصحابنا وجدوه شديد الجرية والانزعاج، فجاوزه جميعاً. وبقيت جارية صغيرة خافوا في تجويزها، وكان فرسي خيراً من أفراسهم فأردفتها، وأخذت في جواز الوادي فلما توسطته وقع بي الفرس ووقعت الجارية، فأخرجها أصحابي وبها رمق وخلصت أنا. ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية، ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام الشتاء أبداً. يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقد النار، ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان، ولا يؤذي الزاوية. ويسمونها البخاري واحدها بخيري. قال ابن جزي: وقد أحسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلي في قوله في التورية، وتذكرته بذكر البخيري:
إن البخيري مذ فارقتموه غدا . يحثو الرماد على كانونه الترب
لو شئتم أنه يمسي أبا لهبٍ . جاءت بغالكم حمـالة الـحـطـب
قال: فلما دخلنا للزاوية وجدنا النار موقودة، فنزعت ثيابي ولبست ثياباً سواها، واصطليت بالنار. وأتى الأخي بالطعام والفاكهة أكثر من ذلك. فلله درهم من طائفة ! ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم وأعظم سفقتهم على الغريب وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه وأجملهم أحتفالاً بأمره. فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحب أهله إليه. وبتنا تلك الليلة بحال مرضية، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي " وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مد ولام مكسورة وياء "، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة، متسعة الشوارع وألسواق، من أشد البلاد برداً. وهي محلات مفترقة، كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.
● [ ذكر سلطان كردي بولي ] ●
وهو السلطان شاه بك، من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة، والسيرة جميل الخلق قليل العطاء. صلينا بهذه المدينة صلاة الجمعة ونزلنا منها، ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي، وهو من مستوطنيها من سنين، وله بها أولاد. وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه، ومسموع الكلام عنده. ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية، فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا. فشكرته على فعله، واستقبلت السلطان فسلمت عليه وجلس. فسألني عن حالي وعن مقدمي وعمن لقيته من السلاطين، فأخبرته بذلك كله. وأقام ساعة ثم انصرف، وبعث بدابة مسرجة وكسوة وانصرفنا إلى مدينة برلو " وضبط اسمها بضم الباء الموحد وإسكان الراء وضم اللام "، وهي مدينة صغيرة على تل، تحتها خندق، ولها قلعة بأعلى شاهق. نزلنا منها بمدرسة. وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرستها وطلبتها، ويحضر معهم الدرس. وهو على علاته من الطلبة حنفي المذهب. ودعانا أمير هذه البلدة وهو علي بك ابن السلطان المكرم سليمان باد شاه ملك قصطمونية وسنذكره، فصعدنا إليه إلى القلعة، فسلمنا عليه، فرحب بنا وأكرمنا، وسألني عن أسفاري وحالي، فأجبته عن ذلك، وأجلسني إلى جانبه. وحضر قاضيه وكاتبه الحاج علاء الدين محمد وهو من كبار الكتاب، وحضر الطعام فأكلنا ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة وانصرفنا. وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية " وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسور وياء آخر الحروف "، وهي من أعظم المدن وأحسنها، كثيرة الخيرات، رخيصة الأسعار. نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف الأطروش لثقل سمعه. ورأيت منه عجباً، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء، وتارة في الأرض بإصبعه، فيفهم عنه ويجيبه، ويحكي له بذلك، الحكايات فيفهمها. وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوماً فكنا نشتري طابق اللحم الغنمي السمين بدرهمين، ونشتري خبزاً بدرهمين فيكفينا ليومنا، ونحن عشرة. ونشتري حلواء العسل بدرهمين، فتكفينا أجمعين. ونشتري جوزاً بدرهم وقشطلاً بمثله، فنأكل منها أجمعون، ويفضل باقيها. ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد، وذلك أوان البرد الشديد، ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعاراً منها. ولقيت بها الشيخ الإمام العالم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدة، وقرأ بدمشق، وجاور بالحرمين قديماً. ولقيت بها العلم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي من أهل فنيكة من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل، ولقيت بها الشيخ المعمر الصالح دادا أمير علي، دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل، فوجده ملقى على ظهره، فأجلسه بعض خدامه، ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما، وكلمني بالعربي الفصيح، وقال: قدمت خير مقدم، وسألته عن عمره فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله، وتوفي وأنا ابن ثلاثين سنة. وعمري الآن مائة وثلاث وستون سنة، فطلبت منه الدعاء فدعا لي وانصرف.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
منتدى توتة وحدوتة - البوابة