بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الضحك والبكاء وحياة البخلاء
قصة أهل البصرة من المسجديين
قال أصحابنا من المسجديين: اجتمع ناس في المسجد ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة، والتنمية للمال، من أصحاب الجمع والمنع. وقد كان هذا المذهب صار عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب، وكان الذي يجمع على التناصر. وكانوا إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب، وتطارحوة وتدارسوه.
فقال شيخ منهم: ماء بئرنا - كما قد علمتم - ملح أجاج لا يقربه الحمار، ولا تسيغه الإبل، وتموت عليه النخل. والنهر منا بعيد. وفي تكلف العذب علينا مؤنة. فكنا نمزج منه للحمار، فاعتل عنه، وانتفض علينا من أجله. فصرنا بعد ذلك نسقيه العذب صرفاً. وكنت أنا والنعجة كثيراً ما نغتسل بالعذب، مخافة أن يعتري جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار. فكان ذلك الماء العذب الصافي يذهب باطلاً.
ثم انفتح لي باب من الإصلاح، فعمدت إلى ذلك المتوضأ، فجعلت في ناحية منه حفرة، وصهرجتها وملستها، حتى صارت كأنها صخرة منقورة. وصوبت إليها المسيل. فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافياً، لم يخالطه شيء. والحمار أيضاً لا تقزز له منه. وليس علينا حرج في سقيه منه. وما علمنا أن كتاباً حرمه، ولا سنة نهت عنه. فربحنا هذه منذ أيام، وأسقطنا مؤنة عن النفس والمال، مال القوم. وهذا بتوفيق الله ومنه.
فأقبل عليهم شيخ فقال: هل شعرتم بموت مريم الصناع، فإنها كانت من ذوات الاقتصاد، وصاحبة إصلاح. قالوا: فحدثنا عنها. قال: نوادرها كثيرة، وحديثها طويل. ولكني أخبركم عن واحدة فيها كفاية. قالوا: وما هي، قال: زوجت ابنتها، وهي بنت اثنتي عشرة، فحلتها الذهب والفضة، وكستها المروى والوشي والقز والخز، وعلقت المعصفر، ودقت الطيب، وعظمت أمرها من قدرها عند الأحماء.
فقال لها زوجها: أنى هذا يا مريم، قالت: هو من عند الله. قال: دعي عنك الجملة، وهاتي التفسير. والله ما كنت ذات مال قديماً، ولا ورثته حديثاً. وما أنت بخائنة في نفسك، ولا في مال بعلك. إلا أن تكوني قد وقعت على كنز وكيف دار الأمر فقد أسقطتى عني مؤنة، وكفيتني هذه النائبة.
قالت: اعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها، كنت أرفع من دقيق كل عجنة حفنة. وكنا - كما قد علمت - نخبز في كل يوم مرة. فإذا اجتمع من ذلك مكوك بعته.
قال زوجها: ثبت الله رأيك وأرشدك، ولقد أسعد الله من كنت له سكناً، وبارك لمن جعلت له إلفاً، ولهذا وشبهه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الذود إلى الذود إبل. وإني لأرجو أن يخرج ولدك على عرقك الصالح، وعلى مذهبك المحمود. وما فرحي بهذا منك بأشد من فرحي بما يثبت الله بك في عقبي من هذه الطريقة المرضية.
فنهض القوم بأجمعهم إلى جنازتها، وصلوا عليها. ثم انكفؤا إلى زوجها، فعزوه على مصيبته، وشاركوه في حزنه.
ثم اندفع شيخ منهم فقال: يا قوم، لا تحقروا صغار الأمور، فإن كل كبير صغير. ومتى شاء الله أن يعظم صغيراً عظمه، وأن يكثر قليلاً كثره. وهل بيوت الأموال إلا درهم إلى درهم، وهل الذهب إلا قيراط إلى جنب قيراط، وليس كذلك رمل عالج وماء البحر، وهل اجتمعت أموال بيوت إلا بدرهم من هاهنا ودرهم من هاهنا، فقد رأيت صاحب سفط قد اعتقد مائة جريب في أرض العرب، ولربما رأيته يبيع الفلفل بقيراط، الحمص بقيراط، فأعلم أنه لم يربح في ذلك الفلفل إلا الحبة والحبتين من خشب الفلفل. فلم يزل يجمع من الصغار الكبار، حتى اجتمع ما اشترى به مائة جريب.
ثم قال: اشتكيت أياماً صدري من سعال كان أصابني، فأمرني قوم بالفانيذ السكري. وأشار على آخرون بالحريرة تتخذ من النشاستج والسكر ودهن اللوز، وأشباه ذلك. فاستثقلت المؤنة، وكرهت الكلفة، ورجوت العافية. فبينا أنا أدافع اِلأيام، إذ قال لي بعض الموفقين: عليك بماء النخالة فاحسه حاراً. فحسوت، فإذا هو طيب جداً، وإذا هو يعصم: فما جعت ولا اشتهيت الغذاء في ذلك اليوم إلى الظهر. ثم ما فرغت من غدائي وغسل يدي حتى قاربت العصر. فلما قرب وقت غدائي من وقت عشائي طويت العشاء، وعرفت قصدي. فقلت للعجوز: لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة، فإن ماءها جلاء للصدر، وقوتها غذاء وعصمة؛ ثم تجففين بعد النخالة، فتعود كما كانت. فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول، ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين، قالت: أرجو أن يكون الله قد جمع بهذا السعال مصالح كثيرة، لما فتح الله لك بهذه النخالة التي فيها صلاح بدنك معاشك، وما أشك أن تلك المشهورة كانت من التوفيق،
قال القوم: صدقت، مثل هذا لا يكتسب بالرأي، ولا يكون إلا سماويا.
ثم أقبل عليهم شيخ فقال: كنا نلقي من الحراق والقداحة جهداً، لأن الحجارة كانت إذا انكسرت حروفها واستدارت، كلت ولم تقدح قدح خير، وأصلدت فلم تتور، وربما أعجلنا المطر والوكف. وقد كان الحجر أيضاً يأخذ من حروف القداحة، حتى يدعها كالقوس. فكنت أشتري المرقشيتا بالغلاء، والقداحة الغليظة بالثمن الموجع. وكان علينا أيضاً في صنعة الحراق وفي معالجة القطنة مؤنة، وله ريح كريهة. والحراق لا يجيء من الحرق المصبوغة، ولا من الحرق الوسخة، ولا من الكتان، ولا من الخلقان. فكنا نشتريه بأغلى الثمن. فتذاكرنا منذ أيام أهل البدو والأعراب، وقدحهم النار بالمرخ والعفار.فزعم لنا صديقنا الثوري وهو - ما علمت - أحد المرشدين، أن عراجين الأعذاق تنوب عن ذلك أجمع. وعلمني كيف تعالج. ونحن نؤتى بها من أرضنا بلا كلفة. فالخادم اليوم لا تقدح ولا توري إلا بالعرجون.
قال القوم: قد مرت بنا اليوم فوائد كثيرة. ولهذا قال الأول: مذاكرة الرجال تلقح الألباب. ثم اندفع شيخ منهم فقال: لم أرى في وضع الأمور في مواضعها، وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية. قالوا: وما شان معاذة هذه،
قال: أهدى إليها العام ابن عم لها أضحية. فرأيتها كئيبة حزينة، مفكرة مطرقة. فقلت لها: مالك يا معاذة? قالت: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيم. ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي. وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه. وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة. ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا غيرها شيئاً لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة. ولست أخاف من تضييع القليل، إلا أنه يجر تضييع الكثير.
أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل كالخطاف، ويسمر في جذع من جذوع السقف، فيعلق عليه الزبل والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير، وبنات وردان والحيات، وغير ذلك. وأما المصران فإنه لأوتار المندفة. وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. وأما قحف الرأس واللحيان وسائر العظام، فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ. فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة، ولغير ذلك. ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها. فلم يرى الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منها. وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر، لقلة ما يخالطها من الدخان. وأما الإهاب فالجلد نفسه حراب. وللصوف وجوه لا تدفع. وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب.
ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم. وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها. وإن أنا لم أقع على علم ذلك، حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كية في قلبي، وقدي في عيني، وهما لا يزال يعاودني. فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت. فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل، ذكرت أن عندي قدوراً شامية جدداً. وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها، من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه، قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك الشاة، قالت: بأبي أنت، لم يجيء وقت القديد بعد، لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش، ولكل شيء إبان، فقبض صاحب الحمار والماء العذب قبضة من حصى، ثم ضرب بها الأرض. ثم قال: لا تعلم أنك من المسرفين، حتى تسمع بأخبار الصالحين.
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ
قال أصحابنا من المسجديين: اجتمع ناس في المسجد ممن ينتحل الاقتصاد في النفقة، والتنمية للمال، من أصحاب الجمع والمنع. وقد كان هذا المذهب صار عندهم كالنسب الذي يجمع على التحاب، وكان الذي يجمع على التناصر. وكانوا إذا التقوا في حلقهم تذاكروا هذا الباب، وتطارحوة وتدارسوه.
فقال شيخ منهم: ماء بئرنا - كما قد علمتم - ملح أجاج لا يقربه الحمار، ولا تسيغه الإبل، وتموت عليه النخل. والنهر منا بعيد. وفي تكلف العذب علينا مؤنة. فكنا نمزج منه للحمار، فاعتل عنه، وانتفض علينا من أجله. فصرنا بعد ذلك نسقيه العذب صرفاً. وكنت أنا والنعجة كثيراً ما نغتسل بالعذب، مخافة أن يعتري جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار. فكان ذلك الماء العذب الصافي يذهب باطلاً.
ثم انفتح لي باب من الإصلاح، فعمدت إلى ذلك المتوضأ، فجعلت في ناحية منه حفرة، وصهرجتها وملستها، حتى صارت كأنها صخرة منقورة. وصوبت إليها المسيل. فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافياً، لم يخالطه شيء. والحمار أيضاً لا تقزز له منه. وليس علينا حرج في سقيه منه. وما علمنا أن كتاباً حرمه، ولا سنة نهت عنه. فربحنا هذه منذ أيام، وأسقطنا مؤنة عن النفس والمال، مال القوم. وهذا بتوفيق الله ومنه.
فأقبل عليهم شيخ فقال: هل شعرتم بموت مريم الصناع، فإنها كانت من ذوات الاقتصاد، وصاحبة إصلاح. قالوا: فحدثنا عنها. قال: نوادرها كثيرة، وحديثها طويل. ولكني أخبركم عن واحدة فيها كفاية. قالوا: وما هي، قال: زوجت ابنتها، وهي بنت اثنتي عشرة، فحلتها الذهب والفضة، وكستها المروى والوشي والقز والخز، وعلقت المعصفر، ودقت الطيب، وعظمت أمرها من قدرها عند الأحماء.
فقال لها زوجها: أنى هذا يا مريم، قالت: هو من عند الله. قال: دعي عنك الجملة، وهاتي التفسير. والله ما كنت ذات مال قديماً، ولا ورثته حديثاً. وما أنت بخائنة في نفسك، ولا في مال بعلك. إلا أن تكوني قد وقعت على كنز وكيف دار الأمر فقد أسقطتى عني مؤنة، وكفيتني هذه النائبة.
قالت: اعلم أني منذ يوم ولدتها إلى أن زوجتها، كنت أرفع من دقيق كل عجنة حفنة. وكنا - كما قد علمت - نخبز في كل يوم مرة. فإذا اجتمع من ذلك مكوك بعته.
قال زوجها: ثبت الله رأيك وأرشدك، ولقد أسعد الله من كنت له سكناً، وبارك لمن جعلت له إلفاً، ولهذا وشبهه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الذود إلى الذود إبل. وإني لأرجو أن يخرج ولدك على عرقك الصالح، وعلى مذهبك المحمود. وما فرحي بهذا منك بأشد من فرحي بما يثبت الله بك في عقبي من هذه الطريقة المرضية.
فنهض القوم بأجمعهم إلى جنازتها، وصلوا عليها. ثم انكفؤا إلى زوجها، فعزوه على مصيبته، وشاركوه في حزنه.
ثم اندفع شيخ منهم فقال: يا قوم، لا تحقروا صغار الأمور، فإن كل كبير صغير. ومتى شاء الله أن يعظم صغيراً عظمه، وأن يكثر قليلاً كثره. وهل بيوت الأموال إلا درهم إلى درهم، وهل الذهب إلا قيراط إلى جنب قيراط، وليس كذلك رمل عالج وماء البحر، وهل اجتمعت أموال بيوت إلا بدرهم من هاهنا ودرهم من هاهنا، فقد رأيت صاحب سفط قد اعتقد مائة جريب في أرض العرب، ولربما رأيته يبيع الفلفل بقيراط، الحمص بقيراط، فأعلم أنه لم يربح في ذلك الفلفل إلا الحبة والحبتين من خشب الفلفل. فلم يزل يجمع من الصغار الكبار، حتى اجتمع ما اشترى به مائة جريب.
ثم قال: اشتكيت أياماً صدري من سعال كان أصابني، فأمرني قوم بالفانيذ السكري. وأشار على آخرون بالحريرة تتخذ من النشاستج والسكر ودهن اللوز، وأشباه ذلك. فاستثقلت المؤنة، وكرهت الكلفة، ورجوت العافية. فبينا أنا أدافع اِلأيام، إذ قال لي بعض الموفقين: عليك بماء النخالة فاحسه حاراً. فحسوت، فإذا هو طيب جداً، وإذا هو يعصم: فما جعت ولا اشتهيت الغذاء في ذلك اليوم إلى الظهر. ثم ما فرغت من غدائي وغسل يدي حتى قاربت العصر. فلما قرب وقت غدائي من وقت عشائي طويت العشاء، وعرفت قصدي. فقلت للعجوز: لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة، فإن ماءها جلاء للصدر، وقوتها غذاء وعصمة؛ ثم تجففين بعد النخالة، فتعود كما كانت. فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول، ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين، قالت: أرجو أن يكون الله قد جمع بهذا السعال مصالح كثيرة، لما فتح الله لك بهذه النخالة التي فيها صلاح بدنك معاشك، وما أشك أن تلك المشهورة كانت من التوفيق،
قال القوم: صدقت، مثل هذا لا يكتسب بالرأي، ولا يكون إلا سماويا.
ثم أقبل عليهم شيخ فقال: كنا نلقي من الحراق والقداحة جهداً، لأن الحجارة كانت إذا انكسرت حروفها واستدارت، كلت ولم تقدح قدح خير، وأصلدت فلم تتور، وربما أعجلنا المطر والوكف. وقد كان الحجر أيضاً يأخذ من حروف القداحة، حتى يدعها كالقوس. فكنت أشتري المرقشيتا بالغلاء، والقداحة الغليظة بالثمن الموجع. وكان علينا أيضاً في صنعة الحراق وفي معالجة القطنة مؤنة، وله ريح كريهة. والحراق لا يجيء من الحرق المصبوغة، ولا من الحرق الوسخة، ولا من الكتان، ولا من الخلقان. فكنا نشتريه بأغلى الثمن. فتذاكرنا منذ أيام أهل البدو والأعراب، وقدحهم النار بالمرخ والعفار.فزعم لنا صديقنا الثوري وهو - ما علمت - أحد المرشدين، أن عراجين الأعذاق تنوب عن ذلك أجمع. وعلمني كيف تعالج. ونحن نؤتى بها من أرضنا بلا كلفة. فالخادم اليوم لا تقدح ولا توري إلا بالعرجون.
قال القوم: قد مرت بنا اليوم فوائد كثيرة. ولهذا قال الأول: مذاكرة الرجال تلقح الألباب. ثم اندفع شيخ منهم فقال: لم أرى في وضع الأمور في مواضعها، وفي توفيتها غاية حقوقها، كمعاذة العنبرية. قالوا: وما شان معاذة هذه،
قال: أهدى إليها العام ابن عم لها أضحية. فرأيتها كئيبة حزينة، مفكرة مطرقة. فقلت لها: مالك يا معاذة? قالت: أنا امرأة أرملة، وليس لي قيم. ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي. وقد ذهب الذين كانوا يدبرونه ويقومون بحقه. وقد خفت أن يضيع بعض هذه الشاة. ولست أعرف وضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد علمت أن الله لم يخلق فيها ولا غيرها شيئاً لا منفعة فيه. ولكن المرء يعجز لا محالة. ولست أخاف من تضييع القليل، إلا أنه يجر تضييع الكثير.
أما القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يجعل كالخطاف، ويسمر في جذع من جذوع السقف، فيعلق عليه الزبل والكيران، وكل ما خيف عليه من الفأر والنمل والسنانير، وبنات وردان والحيات، وغير ذلك. وأما المصران فإنه لأوتار المندفة. وبنا إلى ذلك أعظم الحاجة. وأما قحف الرأس واللحيان وسائر العظام، فسبيله أن يكسر بعد أن يعرق، ثم يطبخ. فما ارتفع من الدسم كان للمصباح وللإدام وللعصيدة، ولغير ذلك. ثم تؤخذ تلك العظام فيوقد بها. فلم يرى الناس وقوداً قط أصفى ولا أحسن لهباً منها. وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القدر، لقلة ما يخالطها من الدخان. وأما الإهاب فالجلد نفسه حراب. وللصوف وجوه لا تدفع. وأما الفرث والبعر فحطب إذا جفف عجيب.
ثم قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم. وقد علمت أن الله عز وجل لم يحرم من الدم المسفوح إلا أكله وشربه، وأن له مواضع يجوز فيها ولا يمنع منها. وإن أنا لم أقع على علم ذلك، حتى يوضع موضع الانتفاع به، صار كية في قلبي، وقدي في عيني، وهما لا يزال يعاودني. فلم ألبث أن رأيتها قد تطلقت وتبسمت. فقلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لك باب الرأي في الدم. قالت: أجل، ذكرت أن عندي قدوراً شامية جدداً. وقد زعموا أنه ليس شيء أدبغ ولا أزيد في قوتها، من التلطيخ بالدم الحار الدسم. وقد استرحت الآن، إذ وقع كل شيء موقعه، قال: ثم لقيتها بعد ستة أشهر، فقلت لها: كيف كان قديد تلك الشاة، قالت: بأبي أنت، لم يجيء وقت القديد بعد، لنا في الشحم والألية والجنوب والعظم المعروق وغير ذلك معاش، ولكل شيء إبان، فقبض صاحب الحمار والماء العذب قبضة من حصى، ثم ضرب بها الأرض. ثم قال: لا تعلم أنك من المسرفين، حتى تسمع بأخبار الصالحين.
مختصر: كتاب البخلاء للجاحظ