بّسم الله الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
الإسكندر ذي القرنين
وملوك الفرس بعده
ذكر الإسكندر ذي القرنين
كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية، كان ملكاً عليها وعلى بلاد أخرى، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة، فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئاً، وكان الخراج الذي يحمله بيضاً من ذهب، فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج، وبعث إليه بصولجان وكرة ويترك الملك، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر الى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة الى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وأعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها الى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن زحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله الى الرومية.
وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.
فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً الى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها الى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فأحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني ، قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر . فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك ، قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين ، قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة ، قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك ، قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت ، قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها.
فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: (ثمَّ أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين) الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين - (وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً ، قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) الكهف: 93 - 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: (آتوني زبر الحديد) الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصّدفين)، وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج الى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف: 97.
فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان العبد الصالح على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّآ وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية.
وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية.
فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها . وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك . وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب . وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب، فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة، وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره . فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها.
ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج الى بين الصفّين وأمر منادياً فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء، فاتّهمت الفرس بعضها بعضاً واضطربوا.
ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة، فنفرت خيلُ أصحابه عنها، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها، ثمّ عاد الى الهند، فخرج إليهم ملك الهند، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة، فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند، فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء، فعاد عنها فأرسل إليها قوماً على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به، فسار الإسكندر إليهم، فلم يمتنعوا عليه.
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة، وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة، فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك، فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس، والغدر من دناءة النفس وخسّتها، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة، وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر، وعاقب بدون القتل تكن قادراً على العفو، فما أحسن العفو من القادر، وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة، ولا تؤثر نفسك على أصحابك، فليس مع الاستئثار محبّة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضاً لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلاً ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة، وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق، وأنّه لا يأمن، إ سافر عنهم فأفرغهم، وثوبهم، وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم، فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس، فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته، ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لأنّك تكون قد وترتهم في غير حرب، وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكاً برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك، ففعل الإسكندر ذلك، فهم ملوك الطوائف، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب، ونحن نذكره إن شاء الله.
ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندر
لما مات الاسكندر عُرض الملك على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار العبادة، فملك اليونان فيما قيل بطلميوس بن لاغوس، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلوذفوس، وكان ملكه أربعين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس أوراغاطس أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوش افيفانس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الاخشندر إحدى عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين، ثمّ ملكت بعده قالو بطرى سبع عشرة سنة، وكانت من الحكماء؛ وهؤلاء كلّهم من اليونان، وكلّ من كان بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أنّ بطلميوس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك، وإنّما كان أيّام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ ملك الشام فيما بعد ملوك الروم، فكان أوّل من ملك منهم جايوس يولوس خمس سنين، ثمّ ملك بعده أغسطوس ستّاً وخسمين سنة، فلمّا مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة وُلد عيسى بن مريم، عليه السلام، وقيل: كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة وثلاث سنين.
● [ ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر ] ●لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف، وقد تقدّم ذكر السبب في تمليكهم، وقيل: كان السبب في ذلك أنّ الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل الى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إنّي قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتّفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا، وقد هممتُ أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم، فما ترى .
فكتب إليه: إنّك إن قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال، والسّفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا، وما يخشى من معرّتهم أكثر، والرأي أن تجمع أبناء الملوك فتملّك كلّ واحد منهم بلداً واحداً وكورة واحدة، فإنّ كلّ واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفاً على ما بيده فتتولّد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرّغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسّم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة، وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس، واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم، وكان الإسكندر يصدر عن رأيه، وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها، ومعناه رأس السباع، وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس، إلاّ أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدّة مسائل، فلمّا قيل له في ذلك قال: أفلاطون صديق والحقّ صديق، إلاّ أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الاسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، فقال هشام بن الكلبيّ وغيره: ملك بعد الاسكندر بلاقس سلبقس، ثمّ أنطيخس، وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعاً وخمسين سنة، وكانوا يتطرّقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.
ذكر ملك أشك بن أشكان
ثمّ خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأه بالريّ، فجمع جمعاً كبيراً وسار يريد أنطيخس، وزحف رليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الريّ أصبهان، وعظّمته سائر ملوك الطوائف لسنّه وشرفه وفعله، وبدأوا به كتبهم، وسمّوه ملكاً من غير أن يعزل أحداً منهم، ثمّ ملك بعده ابنه سابور بن أشك.
ذكر ملك جوذرز
ثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان، وهو الذي غزا بني اسرائيل في المرّة الثانية.
وسبب تسليط اللّه إيّاه عليهم قتلهم يحيى بن زكريّاء، فأكثر القتل فيهم، فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله منهم النبوة ونزل بهم الذّلّ، وقيل: إنّ الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم، فقتلهم وسباهم وخرّب بيت المقدس، وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس، وملك بابل حينئذٍ بلاش أبو أردوان الذي قتله أردشير بن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنّه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعاً.
فوجّه كلّ ملك من ملوك الطوائف الى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوّته، فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولّى عليهم صاحب الحضر، وكان له ما بين السواد والجزيرة، فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم، وذلك الذي هيّج الروم على بناء القسطنطينيّة ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الرّوم وأجلى من بقي من بني اسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم، وأخذ الخشبة التي يزعمون أنّهم صلبوا المسيح عليها، فظّمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم، ولم يزل مُلك فارس متفرّقاً حتى ملك أردشير بن بابك، ولم يبيّن هشام مدّة ملكهم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بلادهم بعد الإسكندر ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كلّ من ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانيّون الذين يُدعون ملوك الطوائف، وكان ملكهم مائتي سنة، وقيل: كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة، ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة، ثمّ ابنه سابور ستين سنة، وفي إحدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، وإنّ تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك المدينة وقتل وسبى وأخرب المدينة، ثمّ ملك جودرز بن أشغانان الأكبر عشر سنين، ثمّ ملك بيرن الأشغانيّ اربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة، ثمّ ملك أردوان الأشغانيّ اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك كسرى الأشغانيّ أربعين سنة ثمّ ملك بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرّق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرّد بكلّ ناحية من ملك عليها من حين ملّكه عليها ما خلا السواد، فإنّّ كان أربعاً وخسمين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان، ثمّ غلب ولده بعد ذلك على السواد، وكانوا ملوكاً عليها، وعلى الماهات والجبال، وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأنّ العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قُصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم، فكانت مدة ملوك الطوائف مائتّي سنة وستين سنة، وقيل: ثلاثمائة وأربعاً وأربعين سنة، وقيل: خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة، والله أعلم.
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه، وهو من ولد إسفنديار بن بشتاسب في قول، وبعض الفرس زعم أنّ أشك بن دارا، قال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، هو من ولد كيكاووس، وكان ملكه عشرين سنة، ثمّ ملك بعده أشك ابنه إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك ابنه سابور ثلاثين سنة، ثمّ ملك ابنه جودرز عشر سنين، ثمّ ملك ابنه بيرن إحدى وعشرين سنة، ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة، ثم ابنه نرسي أربعين سنة، ثم هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة، ثمّ أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة، ثمّ كسرى ابن أشكان أربعين سنة، ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة، وكان أعظم ملوك الأشكانيّة وأظهرهم وأعزّهم قهراً للملوك، ثمّ ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عدّ بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة الى إلى الإطالة بذكره، وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.
فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر الى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة الى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وأعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها الى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن زحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله الى الرومية.
وقذ ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.
فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً الى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها الى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فأحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني ، قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر . فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك ، قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين ، قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة ، قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك ، قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت ، قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لايسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها.
فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: (ثمَّ أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين) الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين - (وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً؛ قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً ، قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) الكهف: 93 - 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: (آتوني زبر الحديد) الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض (حتى إذا ساوى بين الصّدفين)، وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج الى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً) الكهف: 97.
فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان العبد الصالح على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّآ وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية.
وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية.
فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها . وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك . وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب . وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب، فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة، وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره . فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها.
ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج الى بين الصفّين وأمر منادياً فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء، فاتّهمت الفرس بعضها بعضاً واضطربوا.
ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة، فنفرت خيلُ أصحابه عنها، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها، ثمّ عاد الى الهند، فخرج إليهم ملك الهند، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة، فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند، فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء، فعاد عنها فأرسل إليها قوماً على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به، فسار الإسكندر إليهم، فلم يمتنعوا عليه.
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة، وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة، فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك، فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس، والغدر من دناءة النفس وخسّتها، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة، وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر، وعاقب بدون القتل تكن قادراً على العفو، فما أحسن العفو من القادر، وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة، ولا تؤثر نفسك على أصحابك، فليس مع الاستئثار محبّة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضاً لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلاً ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة، وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق، وأنّه لا يأمن، إ سافر عنهم فأفرغهم، وثوبهم، وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم، فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس، فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته، ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لأنّك تكون قد وترتهم في غير حرب، وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكاً برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك، ففعل الإسكندر ذلك، فهم ملوك الطوائف، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب، ونحن نذكره إن شاء الله.
ذكر من ملك من قومه بعد الاسكندر
لما مات الاسكندر عُرض الملك على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار العبادة، فملك اليونان فيما قيل بطلميوس بن لاغوس، وكان ملكه ثمانياً وثلاثين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلوذفوس، وكان ملكه أربعين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس أوراغاطس أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوش افيفانس اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الاخشندر إحدى عشرة سنة، ثمّ ملك بعده بطلميوس الذي اختفى عن ملكه ثماني سنين، ثمّ ملكت بعده قالو بطرى سبع عشرة سنة، وكانت من الحكماء؛ وهؤلاء كلّهم من اليونان، وكلّ من كان بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس كما كانت تدعى ملوك الفرس أكاسرة وملوك الروم قياصرة.
وقد ذكر بعض العلماء أنّ بطلميوس صاحب المجسطي وغيره من الكتب لم يكن من هؤلاء الملوك، وإنّما كان أيّام ملوك الروم على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثمّ ملك الشام فيما بعد ملوك الروم، فكان أوّل من ملك منهم جايوس يولوس خمس سنين، ثمّ ملك بعده أغسطوس ستّاً وخسمين سنة، فلمّا مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة وُلد عيسى بن مريم، عليه السلام، وقيل: كان بين مولده وقيام الإسكندر ثلاثمائة وثلاث سنين.
● [ ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الاسكندر ] ●
لما مات الإسكندر ملك بلاد الفرس بعده ملوك الطوائف، وقد تقدّم ذكر السبب في تمليكهم، وقيل: كان السبب في ذلك أنّ الإسكندر لما ملك بلاد الفرس ووصل الى ما أراد كتب إلى أرسطاطاليس الحكيم: إنّي قد وترت جميع من في بلاد المشرق وقد خشيت أن يتّفقوا بعدي على قصد بلادنا وإيذاء قومنا، وقد هممتُ أن أقتل أولاد من قتلت من الملوك وألحقهم بآبائهم، فما ترى .فكتب إليه: إنّك إن قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السفل والأنذال، والسّفل إذا ملكوا قذروا وإذا قدروا طغوا وبغوا وظلموا، وما يخشى من معرّتهم أكثر، والرأي أن تجمع أبناء الملوك فتملّك كلّ واحد منهم بلداً واحداً وكورة واحدة، فإنّ كلّ واحد منهم يقوم في وجه الآخر يمنعه عن بلوغ غرضه خوفاً على ما بيده فتتولّد العداوة بينهم فيشتغل بعضهم ببعض فلا يتفرّغون إلى من بعد عنهم.
فعندها قسّم الإسكندر بلاد المشرق على ملوك الطوائف ونقل عن بلدانهم النجوم والحكمة، وكان من حالهم بعد الإسكندر ما ذكره أرسطاطاليس، واشتغلوا عن قصد اليونان.
وكان أرسطاطاليس من أفضل الحكماء وأعلمهم، وكان الإسكندر يصدر عن رأيه، وأخذ الحكمة عن أفلاطون تلميذ سقراط، وسقراط تلميذ أوسيلاوس في الطبيعيات دون غيرها، ومعناه رأس السباع، وكان أوسيلاوس تلميذ انكساغورس، إلاّ أن أرسطاطاليس خالف أستاذه في عدّة مسائل، فلمّا قيل له في ذلك قال: أفلاطون صديق والحقّ صديق، إلاّ أنّ الحقّ أولى بالصداقة منه.
وقد اختلف العلماء في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الاسكندر وعدد ملوك الطوائف الذين ملكوا إقليم بابل، فقال هشام بن الكلبيّ وغيره: ملك بعد الاسكندر بلاقس سلبقس، ثمّ أنطيخس، وهو الذي بنى مدينة أنطاكية، وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة أربعاً وخمسين سنة، وكانوا يتطرّقون الجبال وناحية الأهواز وفارس.
ذكر ملك أشك بن أشكان
ثمّ خرج رجل يقال له أشك، وهو من ولد دارا الأكبر، وكان مولده ومنشأه بالريّ، فجمع جمعاً كبيراً وسار يريد أنطيخس، وزحف رليه أنطيخس والتقيا ببلاد الموصل، فقتل أنطيخس وملك أشك السواد وصار بيده من الموصل إلى الريّ أصبهان، وعظّمته سائر ملوك الطوائف لسنّه وشرفه وفعله، وبدأوا به كتبهم، وسمّوه ملكاً من غير أن يعزل أحداً منهم، ثمّ ملك بعده ابنه سابور بن أشك.
ذكر ملك جوذرز
ثم ملك بعد سابور جودرز بن أشكان، وهو الذي غزا بني اسرائيل في المرّة الثانية.
وسبب تسليط اللّه إيّاه عليهم قتلهم يحيى بن زكريّاء، فأكثر القتل فيهم، فلم يعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله منهم النبوة ونزل بهم الذّلّ، وقيل: إنّ الذي غزا بني إسرائيل طيطوس بن اسفيانوس ملك الروم، فقتلهم وسباهم وخرّب بيت المقدس، وقد كانت الروم غزت بلاد فارس يطلبون ثأر أنطيخس، وملك بابل حينئذٍ بلاش أبو أردوان الذي قتله أردشير بن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما أجمعت عليه الروم من غزو بلادهم وما حشدوا وجمعوا وأنّه إن عجز عنهم ظفروا بهم جميعاً.
فوجّه كلّ ملك من ملوك الطوائف الى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوّته، فاجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولّى عليهم صاحب الحضر، وكان له ما بين السواد والجزيرة، فلقي الروم وقتل ملكهم واستباح عسكرهم، وذلك الذي هيّج الروم على بناء القسطنطينيّة ونقل الملك من رومية إليها، وكان الذي أنشأها قسطنطين الملك، وهو أوّل من تنصّر من ملوك الرّوم وأجلى من بقي من بني اسرائيل عن فلسطين والشام لقتلهم عيسى بزعمهم، وأخذ الخشبة التي يزعمون أنّهم صلبوا المسيح عليها، فظّمها الروم وأدخلوها خزائنهم وهي عندهم إلى اليوم، ولم يزل مُلك فارس متفرّقاً حتى ملك أردشير بن بابك، ولم يبيّن هشام مدّة ملكهم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بلادهم بعد الإسكندر ملوك من غير الفرس كانوا يطيعون كلّ من ملك بلاد الجبل، وهم الأشغانيّون الذين يُدعون ملوك الطوائف، وكان ملكهم مائتي سنة، وقيل: كان ملكهم ثلاثمائة وأربعين سنة، ملك من هذه السنين أشك بن أشكان عشرين سنة، ثمّ ابنه سابور ستين سنة، وفي إحدى وأربعين سنة من ملكه ظهر المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، وإنّ تيطوس بن اسفيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع المسيح بنحو من أربعين سنة فملك المدينة وقتل وسبى وأخرب المدينة، ثمّ ملك جودرز بن أشغانان الأكبر عشر سنين، ثمّ ملك بيرن الأشغانيّ اربعين سنة ثم ملك هرمز الأشغاني سبع عشرة سنة، ثمّ ملك أردوان الأشغانيّ اثنتين وعشرين سنة، ثمّ ملك كسرى الأشغانيّ أربعين سنة ثمّ ملك بلاش الأشغاني أربعاً وعشرين سنة، ثمّ ملك أردوان الأصغر ثلاث عشرة سنة، ثمّ ملك أردشير بن بابك.
وقال بعضهم: ملك بلاد الفرس بعد الإسكندر ملوك الطوائف الذين فرّق الإسكندر المملكة بينهم، وتفرّد بكلّ ناحية من ملك عليها من حين ملّكه عليها ما خلا السواد، فإنّّ كان أربعاً وخسمين سنة بعد هلاك الإسكندر في يد الروم، وكان في ملوك الطوائف رجل من نسل الملوك قد ملك الجبال وأصبهان، ثمّ غلب ولده بعد ذلك على السواد، وكانوا ملوكاً عليها، وعلى الماهات والجبال، وأصبهان كالرئيس على سائر ملوك الطوائف، لأنّ العادة جرت بتقديمه وتقديم ولده، ولذلك قُصد لذكرهم في كتب سير الملوك، فاقتصرنا على ذكرهم دون غيرهم، فكانت مدة ملوك الطوائف مائتّي سنة وستين سنة، وقيل: ثلاثمائة وأربعاً وأربعين سنة، وقيل: خمسمائة وثلاثاً وعشرين سنة، والله أعلم.
فمن الملوك الذين ملكوا الجبال ثم تهيأت بعد أولادهم الغلبة على السواد أشك بن جزه، وهو من ولد إسفنديار بن بشتاسب في قول، وبعض الفرس زعم أنّ أشك بن دارا، قال بعضهم: أشك بن أشكان الكبير، هو من ولد كيكاووس، وكان ملكه عشرين سنة، ثمّ ملك بعده أشك ابنه إحدى وعشرين سنة، ثمّ ملك ابنه سابور ثلاثين سنة، ثمّ ملك ابنه جودرز عشر سنين، ثمّ ملك ابنه بيرن إحدى وعشرين سنة، ثم ملك ابنه جودرز الأصغر تسع عشرة سنة، ثم ابنه نرسي أربعين سنة، ثم هرمز بن بلاش بن أشكان سبع عشرة سنة، ثمّ أردوان الأكبر بن أشكان اثنتي عشرة سنة، ثمّ كسرى ابن أشكان أربعين سنة، ثم أردوان الأصغر بن بلاش ثلاث عشرة سنة، وكان أعظم ملوك الأشكانيّة وأظهرهم وأعزّهم قهراً للملوك، ثمّ ملك أردشير بن بابك وجمع مملكة الفرس على ما نذكره إن شاء الله.
وقد عدّ بعضهم في أسماء الملوك غير ما ذكرنا لا حاجة الى إلى الإطالة بذكره، وقد ذكرنا بعض ما قيل عند ملك أردشير بن بابك.