بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من ذكر ميزاب الكعبة الى المجاورين بمكة
● [ ذكر الميزاب المبارك ] ●
والميزاب في اعلى الصفح الذي على الحجر، وهو من الذهب، وسعته شبر واحد، وهو بارز بمقدار ذراعين. والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء. وتحت الميزاب في الحجر هو قبر إسيماعيل عليه السلام، وعليه رخامة خضراء مستطيلة على شكل محراب، متصلة برخامة خضراء مستديرة، وكلتاهما سعتها مقدار شبر، وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر. وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام، وعلامته رخامة خضراء مستديرة سعتها مقدار شبر ونصف وبين القبرين سبعة أشبار.
● [ ذكر الحجر الأسود ] ●
وأما الحجر الأسود فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار ، فالطويل من الناس يتطامن لتقبيله، والصغير يتطاول إليه. وهو ملصق في الركن الذي إلى جهة المشرق، وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، ولا يعلم قدر ما دخل منه في الركن وفيه أربع قطع ملصقة ويقال: إن القرمطي لعنه الله كسره وقيل: إن الذي كسره سواه، ضربه بدبوس فكسره، وتبادر الناس إلى قتله ، وقتل بسببه جماعة من المغاربة. وجوانب الحجر مشدودة بصفيحة من فضة، يلوح بياضها على سواد الحجر الكريم، فتنجلي منه العيون حسناً باهراً، ولتقبيله لذة يتنعم بها الفم، ويود لاثمه أن لا يفارق لثمه، خاصية مودعة فيه، وعناية ربانية به وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه يمين الله في أرضه ، نفعنا الله باستلامه ومصافحته، وأوفد عليه كل شيق إليه. وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود، مما يلي جانبه الموالي ليمين مستلمه، نقطة بيضاء صغيرة مشرقة، كأنها خال في تلك الصحيفة البهية وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط بعضهم على بعض ازدحاماً على تقبيله فقلما يتمكن أحد من ذلك إلا بعد المزاحمة الشديدة، وكذلك يصنعون عند دخول الحرم، ومن عند الحجر الأسود ابتداء الطواف وهو أول الأركان التي يلقاها الطائف، فإذا استلمه تقهقر عنه قليلاً وجعل الكعبة الشريفة عن يساره، ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي، وهو إلى جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشامي، وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى الركن اليماني، وهو إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الحجر الأسود، وهو إلى جهة الشرق.
● [ ذكر المقام الكريم ] ●
إعلم أن بين باب الكعبة شرفها الله وبين الركن العراقي موضعاً طوله اثنا عشر شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك، وارتفاعه نحو شبرين وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه السلام ثم صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وبقي ذلك الموضع شبه الحوض، وإليه ينصب ماء البيت الحرام إذ غسل، وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه. وموضع المقام الشريف يقابل ما بين الركن العراقي والباب الشريف، وهو إلى الباب أميل، وعليه قبة تحتها اشباك حديد، متجافٍ عن المقام الشريف قدر ما تصل أصابع الإنسان إذا أدخل يده من ذلك الشباك إلى الصندوق، والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلى لركعتي الطواف. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد أتى البيت فطاف به سبعاً، ثم أتى المقام فقرأ: ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) وركع خلفه ركعتين وخلف المقام مصلى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك.
● [ ذكر الحجر والمطاف ] ●
دور جدار الحجر تسع وعشرون خطوة، وهي أربعة وتسعون شبراً من داخل الدائرة، وهو بالرخام البديع المجزع المحكم الإلصاق، وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر، وسعته أربعة أشبار ونصف شبر. وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المنظم المعجز الصنعة البديع الإتقان. وبين جدار الكعبة الشريفة الذي تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء أربعون شبراً، وللحجر مدخلان أحدهما بينه وبين الركن العراقي، وسعته ستة أذرع، وهذا الموضع هو الذي تركته قريش من البيت حين بنته، كما جاءت الآثار الصحاح، والمدخل الآخر عند الركن الشامي، وسعته أيضاً ستة أذرع وبين المدخلين ثمانية وأبعون شبراً وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق، وقد اتسعت عن البيت بمقدار تسع خطاً إلا في الجهة التي تقابل المقام الشريف، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به وسائر الحرم مع البلاطات مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة.
● [ ذكر زمزم ] ●
وقبة بئر زمزم تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة والمقام الشريف عن يمين القبة. ومن ركنها إليه عشر خطاً. وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر المباركة في وسط القبة، مائلاً إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة. وهو من الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص. ودوره أربعون شبراً، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر، وعمق البئر إحدى عشرة قامة وهم يذكرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة وباب القبة إلى جهة الشرق وقد استدارات بداخل سقاية سعتها شبر، وعمقها مثل لك، وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء ويلي قبة زمزم قبة الشراب المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه، وبابها إلى جهة الشمال. وهي الآن يجعل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق، وكل دورق له مقبض واحد وتترك بها ليبرد فيها الماء، فيشربه الناس وبها اختزان المصاحف الشريفة، والكتب التي للحرم الشريف وبها خزان تحتوي على تابوت مبسوط متسع، فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا هذا المصحف الشريف، وفتحوا باب الكعبة، ووضعوه على العتبة الشريفة، ووضعوه في مقام إبراهيم عليه وسلم، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم، داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام الشريف، فلا ينفصلون إلا وقد تداركهم الله برحمته، وتغمدهم بلطفه. ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها القبة المعروفة بقبة اليهودية.
● [ ذكر أبواب المسجد الحرام ] ●
وأبواب المسجد الحرام شرفه الله تعالى تسعة عشر باباً، وأكثرها مفتحة على أبواب كثيرة، فمنها باب الصفا، وهو مفتح على خمسة أبواب، وكان قديماً يعرف بباب بني مخزوم، وهو أكبر أبواب المسجد، ومنه يخرج إلى المسعى، ويستحب للوافد على مكة أن يدخل المسجد الحرام شرفه الله من باب بني شيبة، ويخرج بعد طوافه من باب الصفا جاعلاً طريقه بين الأسطوانتين اللتين اقامهما أمير المؤمنين المهدي رحمه الله، علماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، ومنها باب أجياد الأصغر مفتح على بابين ومنها باب الخياطين مفتح على بابين ومنها باب العباس رضي الله عنه مفتح على ثلاثة أبواب، ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم مفتح على بابين، ومنها باب بني شيبة، وهو في ركن الجدار الشرقي من جهة الشمال، أمام باب الكعبة الشريفة متياسراً، وهو مفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء، ومنها باب صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له، وقيل: يسمى باب الرباط، لأنه يدخل منه لرباط السدرة، ومنها باب الندوة ويسمى بذلك ثلاثة أبواب: اثنان منتظمان، والثالث في الركن الغربي من دار الندوة، ودار الندوة قد جعلت مسجداً شارعاً في الحرم مضافاً إليه، وهي تقابل الميزاب، ومنها باب صغير لدار العجلة محدث، ومنها باب السدرة واحد، وباب العمرة واحد، وهو من أجمل أبواب الحرم، وباب إبراهيم واحد، والناس مختلفون في نسبته، فبعضهم ينسبه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، والصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم الخوزي من الأعاجم، وباب الحزورة مفتح على بابين، وباب ثالث ينسب إليه مفتح على بابين، ويتصل لباب الصفا ومن الناس من ينسب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين.
● [ صوامع المسجد الحرام ] ●
وصوامع المسجد الحرام خمس: إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب الصفا، والأخرى على ركن باب بني شيبة، والثالثة على باب دار الندوة، والرابعة على ركن باب السدرة، والخامسة على ركن أجياد.
● [ ما دار بالمسجد الحرام من المشاهد ] ●
بمقربة من باب العمرة مدرسة عمرها السلطان المعظم يوسف بن رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر التي تنسب إليه الدراهم المظفرية باليمن، وهو كان يكسو الكعبة، إلى أن غلبه على ذلك الملك المنصور قلاوون.
وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل.
وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو، قد صنع في داخلها من غرائب صنع الجص ما يعجز عنه الوصف. وبإزاء هذا الباب عن يمين الداخل إليه كان يقعد الشيخ العابد جلال الدين محمد بن أحمد الأفشهري، وخارج باب إبراهيم بئر تنسب كنسبته، وعنده أيضاً دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه. وبمقربة منه رباط الموفق، وهو من أحسن الرباطات، سكنته أيام مجاورتي بمكة المعظمة. وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح الطيار سعادة الجراني، ودخل يوماً إلى بيته بعد صلاة العصر فوجد ساجداً مستقبل الكعبة الشريفة ميتاً من غير مرض كان به رضي الله عنه وسكن به الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحواً من أربعين سنة. وسكن به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين دخلت عليه يوماً فلم يقع بصري في بيته على شيء سوى حصير فقلت له في ذلك فقال لي: أستر على ما رأيت.
وحول الحرم الشريف دور كثيرة لها مناظر وسطوح يخرج منها إلى سطح الحرم، وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام، ودور لها أبواب تفضي إلى الحرم، منها دار زبيدة زوجة الرشيد أمير المؤمنين، ومنها دار العجلة، ودار الشرابي وسواها. ومن المشاهد المقدسة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت قبة صغيرة حيث ولدت فاطمة عليها السلام، وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقابلها جدار مبارك فيه حجر مبارك بارز، طرفه من الحائط يستلمه الناس ويقال: إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فنطق ذلك الحجر، وقال: يا رسول الله إنه ليس بحاضر.
● [ ذكر الصفا والمروة ] ●
من باب الصفا الذي هو من أبواب المسجد الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة، وسعة الصفا سبع عشرة خطوة، وله اربع عشرة درجة علياهن كأنها مسطبة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة، منها من الصفا إلى الميل الأخضر ثلاث وتسعون خطوة، ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس وسبعون خطوة، ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس وعشرون خطوة. وللمروة خمس درجات، وهي ذات قوس واحد كبير وسعة المروة سبع عشرة خطوة. والميل الأخضر هو سارية خضراء مثبتة مع ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي إلى المروة، والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب علي من أبواب الحرم، أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من الباب، والأخرى تقابلها، وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين يكون الرمل ذاهباً وعائداً،
وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة، يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه. والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب شيبة
وبين الصفا والمروة دار العباس رضي الله عنه. وهي الآن رباط يقطنه المجاورون عمره الملك الناصر رحمه الله، وبنى أيضاً دار وضوء فيما بين الصفا والمروة سنة ثمان وعشرين، وجعل لها بابين أحدهما في السوق المذكور والآخر في العطارين. وعليها ربع يسكنه خدامها، وتولى بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال، وعن يمين المروة دار أمير مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي وسنذكره.
● [ ذكر الجبانة ] ●
وجبانة مكة خارج باب المعلى، ويعرف ذلك الموضع بالحجون ، وبهذه الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين والأولياء، إلا أن مشاهدهم دثرت، وذهب عن أهل مكة علمها فلا يعرف منها إلا القليل، فمن المعروف منها قبر أم المرمنين، ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم ما عدا إبراهيم، وجدة السبطين الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه ، وفيها الموضع الذي صلب فيه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وكان به بنية هدمها أهل الطائف غيرة منهم لما كان يلحق حجاجهم المبير ، من اللعن وعن يمين مستقبل الجبانة مسجد خراب، يقال إنه المسجد الذي بايعت الجن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق.
● [ ذكر بعض المشاهد خارج مكة ] ●
● منها الحجون
وقد ذكرناه، ويقال أيضاً: إن الحجون هو الجبل المطل على الجبانة ومنها المحصب، وهو أيضاً الأبطح ، وهو يلي الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ذو الطوى وهو وادٍ يهبط على قبور المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء، ويخرج منه إلى الأعلام الموضوعة حجزاً بين الحل والحرام. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا قدم مكة شرفها الله تعالى يبيت بذي طوى ثم يغتسل منه ويغدو إلى مكة، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
● ومنها ثنية كدي " بضم الكاف "
وهي بأعلى مكة، ومنها دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى مكة.
● ومنها ثنية كداء " بفتح الكاف "
ويقال لها الثنية البيضاء، وهي بأسفل مكة، ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الوداع، وهي بين جبيلين. وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق، وكل من يمر به يرجمه بحجر. ويقال: إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب. وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزله الركب إذا صدروا عن منى، وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شرفها الله مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مصطبة يعلوه حجر آخر، كان فيه نقش فدثر رسمه. يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بذلك الموضع مستريحاً عند مجيئه من عمرته. فيتبرك الناس بتقبيله ويستندون إليه.
● ومنها التنعيم
وهو على فرسخ من مكة، ومنه يعتمر أهل مكة، وهو أدنى الحل إلى الحرام، ومنه اعتمرت أم المرمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه، وأمره أن يعمرها من التنعيم. وبنيت هنالك مساجد ثلاثة على الطريق تنسب كلها إلى عائشة رضي الله عنها. وطريق التنعيم طريق فسيح، والناس يتحرون كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب. لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافياً. وفي هذا الطريق الآبار العذبة التي تسمى الشبيكة،
● ومنها الزاهر
وهو على نحو ميلين من مكة، على طريق التنعيم، وهو موضع على جانبي الطريق فيه أثر دور وبساتين وأسواق.
وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الشرب وأواني الوضوء، يملأها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر، وهي بعيدة القعر جداً. والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب والوضوء، وذو طوى يتصل بالزاهر.
● [ ذكر الجبال المطيفة بمكة ] ●
● فمنها جبل أبي قبيس
وهو في جهة الجنوب والشسرق من مكة حرسها الله، وهو أحد الأخشبين، وأدنى الجبال من مكة شرفها الله، ويقابل ركن الحجر الأسود. وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة. وكان الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره. وهو مطل على الحرم الشريف، وعلى جميع البلد. ومنه يظهر حسن مكة شرفها الله وجمال الحرم واتساعه والكعبة المعظمة. ويذكر أن جبل أبي قبيس هو أول جبل خلقه الله، وفيه استودع الحجر زمان الطوفان. وكانت قريش تسمية الأمين لأنه أدى الحجر الذي استودع فيه إلى الخليل إبراهيم عليه السلام. ويقال: إن قبر آدم عليه السلام به. وفي جبل أبي قبيس موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انشق له القمر.
● ومنها قعيقان
وهو أحد الأخشبين
● ومنها الجبل الأحمر
وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله،
● ومنها الخندمة
وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر،
● ومنها جبل الطير
وهو على أربعة عن جهتي طريق التنعيم، يقال إنها الجبال التي وضع عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما نص الله في كتابه العزيز، عليه أعلام من حجارة،
● ومنها جبل حراء
وهو في الشمال من مكة شرفها الله تعالى على نحو فرسخ منها، وهو مشرف على منى، ذاهب في الهواء عالي القنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه كثيراً قبل المبعث، وفيه أتاه الحق من ربه وبدأ الوحي، وهو الذي اهتز تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: إثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد ، واختلف فيكمن كان معه يومئذ. وروي أن العشرة كانوا معه.
وقد روي أيضاً أن جبل ثبير اهتز تحته أيضاً،
● ومنها جبل ثور
وهو على قدر فرسخ من مكة شرفها الله تعالى على طريق اليمن، وفيه الغار الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خروجه مهاجراً من مكة شرفها الله، ومعه الصديق رضي الله عنه، حسبما ورد في الكتاب العزيز. ذكر الأزرقي في كتابه: أن الجبل المذكور نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إليّ يا محمد إليّ إليّ، فقد أويت قبلك سبعين نبياً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار واطمأن به وصاحبه الصديق معه، نسجت العنكبوت من حينها على باب الغار، وصنعت الحمامة عشاً وفرخت فيه بإذن الله تعالى، فانتهى المشركون ومعهم قصاص الأثر إلى الغار، فقالوا ها هنا انقطع الأثر ورأوا العنكبوت قد نسج على فم الغار والحمام مفرخة، فقالوا: ما دخل أحد هنا، وانصرفوا. فقال الصديق: يا رسول الله لو لجوا علينا منه، قال: كنا نخرج من هنا. وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه باب بقدرة الملك الوهاب .
والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً بذلك. فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه، حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله. وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشده دخله، ومن كان لزينة لم يقدر على دخوله. ولهذا يتحاماه كثير من الناس لأنه مخجل فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يدخل منه حجراً كبيراً معترضاً. فمن دخل من ذلك الشق منبطحاً على وجهه وصل راسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقياً على ظهره أمكنه، لأنه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه، واستوى قاعداً، فكان ظهره مستنداً إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائماً بداخل الغار.
● [ ذكر أهل مكة وفضائلهم ] ●
ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران، حيث يطبخ الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق، ومع كل واحد منهم قفتان: كبرى وصغرى وهم يسمون القفة مكتلاً فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق، فيشتري الحبوب واللحم والخضر، ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه، واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يذكر أن أحداً من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على ما أتم الوجوه. ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبداً ناصعة ساطعة. ويستعملون الطيب كثيراً ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيباً. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقاً. ولأهل مكة عوائد حسنة وغيره سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا فرغنا من ذكر فضائلها ومجاوريها.
● [ ذكر قاضي مكة وخطيبها ] ●
وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها
وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها