بّسم الله الرّحمن الرّحيم مكتبة الثقافة الأدبية أخبار الحمقى والمغفلين
● [ الباب التاسع ] ● في ذكر أخبار جماعة من العقلاء صدرت عنهم أفعال الحمقى
وأصروا عليها مستصوبين لها فصاروا بذلك الاصرار حمقى ومغفلين. فأول القوم ابليس فانه كان متعبدا مؤذنا للملائكة فظهر منه من الحمق والغفلة ما يزيد على كل مغفل فانه لما رأى آدم مخلوق من طين اضمر في نفسه لئن فضلت عليه لاهلكنه ولئن فضل علي لأعصينه ولو تدبر الامر لعلم انه كان الاختيار قد سبق لآدم لم يطق مغالبته ولكنه جهل القدر ونسى المقدار ثم لو وقف على هذه الحالة لكان الامر يحمل على الحسد ولكنه خرج الى الاعتراض على المالك بالتخطئة للحكمة فقال أرأيتك هذا الذي كرمت علي والمعنى لم كرمته ثم زعم انه أفضل من آدم بقوله خلقتنى من نار وخلقته من طين ومجموع المندرج في كلامه أني أحكم من الحكيم وأعلم من العليم وأن الذي فعله من تقديم آدم ليس بصواب هذا وهو يعلم أن علمه مستفاد من العالم الاكبر فكأنه يقول يا من علمني أنا أعلم منك ويا من قدر تفضيل هذا علي ما فعلت صوابا فلما أعيته الحيل رضى باهلاك نفسه فأوثق عقد اصراره ثم أخذ يجتهد في اهلاك غيره ويقول لاغوينهم وجهله في قوله لاغوينهم من وجهين أحدهما انه اخرج ذلك مخرج القاصد لتأثر المعاقب له وجهل أن الحق سبحانه لا يتأثر ولا يؤذيه شىء ولا ينفعه لانه الغني بنفسه والثاني نسى أنه من أريد حفظه لم يقدر على إغوائه ثم انتبه لذلك فقال إلا عبادك منهم المخلصين فإذا كان فعله لا يؤثر واضلاله لا يكون لمن قدرت له الهداية فقد ذهب علمه باطلا ثم رضى لخساسة همته بمدة يسيرة يعلم سرعة انقضائها فقال انظرني إلى يوم يبعثون وصارت لذته في ايقاع المعاصي بالذنب كأنه يغيظ بذلك ولجهله بالحق انه يتأثر ثم نسي قرب عقابه الدائم فلا غفلة كغفلته ولا جهالة كجهالته وما أعجب قول القائل في ابليس عجبت من ابليس في نخوته وخبث ما أظهر من نيته تاه على آدم في سجدة وصار قوادا لذريته وما رأيت من غير ابليس وزاد عليه في الجنون والتغفيل مثل ابى الحسين ابن الرواندي فإنه له كتبا يزرى فيها على الانبياء عليهم السلام ويشتمهم ثم عمل كتابا يرد فيه على القرآن ويبين ان فيه لحنا وقد علم ان هذا الكتاب العزيز قد عاداه خلق كثير ما فيهم من تعرض لذلك منه ولا قدر فاستدرك هو بزعمه على الفصحاء كلهم ثم عمل كتاب الدامغ فانا استعصم ان اذكر بعض ما ذكر فيه من التعريض للرد على الخالق سبحانه وذكره اياه باقبح ما يذكر به آدمي مثل أن يقول منه الظلم ومنه الشر في عبارات اقبح من هذه قد ذكرت بعضها قي التاريخ فالعجب ممن يعترض على الخالق بعد اثباته فاما الجاحد فقد استراح اتراه خلق لهؤلاء عقولا كاملة وفي صفاته هو نقص تعالى الله عن تغفيل هؤلاء فصل ثم اتبع ابليس في الغفلة والحمق قابيل فان من أعظم التغفيل قوله لمن قبل قربانه لاقتلنك وهذا من اسمج الأشياء لانه لو فهم لنظر سبب قبول قربان أخيه ورد قربانه ثم من التغفيل انه حمله على ظهره ولم يهتد لدفنه ومثل هذا التغفيل حرقوه وانصروا آلهتكم ومثله أن امشوا واصبروا على آلهتكم ومن جنسه أنا أحيي وأميت ومثله أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي فافتخر بساقية لا هو أجراها ولا يدري منتهاها ولا مبتداها ونسي أمثالها مما ليس تحت حكمه وليس في الحمق أعظم من ادعاء فرعون انه الآله وقد ضرب الحكماء له مثلا فقالوا أدخل ابليس على فرعون فقال من أنت قال ابليس قال ما جاء بك قال جئت أنظر اليك فأعجب من جنونك قال وكيف قال أنا عاديت مخلوقا مثلي وامتنعت من السجود له فطردت ولعنت وأنت تدعي انك أنت الآله هذا والله الجنون البارد. ومن أعجب التغفيل اتخاذ الاصنام آلهة فالآله ينبغي أن يفعل لا أن يفعل ومن التغفيل بنيان نمرود الصرح ثم رمييه بنشابه ليقتل بزعمه اله السماء أتراه لو كان خصمه في مكان فرأى قوسا موتورة إلى جهته أما كان يمكنه أن ينزوى عنها ومن أعظم التغفيل ما جرى لأخوة يوسف في قولهم أكله الذئب ولم يشقوا قميصه وقصتهم مع يوسف في قوله إن الصاع يخبرني بكذا وكذا ومن التغفيل ادعاء هاروت وماروت الاستعصام عن الوقوع في الذنب ومقاومة الأقدار فلما نزلا من السماء على تلك النية نزلا ومن عجيب التغفيل قول بني اسرائيل لموسى وقد جاوز بهم البحر اجعل لنا إلها وقول النصارى إن عيسى اله أو ابن اله ثم يقرون ان اليهود صلبوه فادعاؤهم الالهية في بشر لم يكن فكان ولا يبقى إلا بأكل الطعام والآله من قامت به الأشياء لا من قام بها فظنهم انه ابن الاله والبنوة تقتضي البعضية والمثلية وكلاهما مستحيل على الآله وقولهم إنه قتل وصلب فيقرون عليه بالعجز عن الدفع عن نفسه وكل هذه الاشياء تغفيل قبيح ومن أعجب التغفيل اعتقاد المشبهة الذين يزعمون ان المعبود ذو أبعاض وجوارح وانه يشبه خلقه مع علمهم ان المؤلف لا بد له من مؤلف ومن أعجب التغفيل أن الرافضة يعلمون إقرار علي بيعة أبي بكر وعمر واستيلاده الحنفية من سبي أبي بكر وتزويجه أم كلثوم ابنته من عمر وكل ذلك دليل على رضاه ببيعتهما ثم فيهم من يكفرهما وفيهم من يسبهما ويطلبون بذلك على زعمهم حب علي وموافقته وقد تركوها وراء ظهورهم. ومثل هذا الجنس كثير إذا تتبعته رأيته وإنما أشرنا بهذه النبذة إليه ليفكر في جنسه ولم نر بسط القصص فيه لأن المقصود الاكبر في هذا الكتاب غير ذلك عن أحمد بن حنبل أنه قال لو جاءني رجل فقال إني قد حلفت بالطلاق ان لا أكلم يومي هذا أحمق فكلم رافضيا أو نصرانيا لقلت ما حنث قال فقال له الدينوري أعزك الله تعالى لم صارا أحمقين قال لأنهما خالفا الصادقين عندهما أما الصادق الاول فانه المسيح عليه السلام قال للنصارى اعبدو الله وقال إني عبد الله فقالوا لا ليس هو يعبد بل هو إله وأما علي رضى الله عنه فقد روى عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي بكر وعمر هذان سيدا كهول أهل الجنة ثم سبهما هذا وتبرأ منهما هذا هذا ومن أعجب تغفيل القدماء ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعبد رجل في صومعة فأمطرت السماء فأعشبت الأرض فرأى حمارا يرعى فقال يا رب لو كان لك حمارا رعيته مع حماري فبلغ ذلك نبيا من أنبياء بني اسرائيل فأراد أن يدعو عليه فأوحى الله تعالى اليه إنما أجزي العباد على قدر عقولهم فصل وقد جرى من خلق كثير من العقلاء ما يشبه التغفيل إلا أنهم لم يقصدوا ذلك فذكرت منهم طرفا لشبهه بالتغفيل فمن ذلك ما حكي عن بعض المغنين قال حضرت عند أمير لأغنيه فجرى حديث بعض الوزراء فذكرت من محاسنه وكرمه شيئا لأحركه به ليفعل مثله ثم غنيته قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا فقال لي قبحك الله ما هذه المعاشرة فاستيقظت وحلفت أني ما قصدته ومثل هذا ما جرى لعبد الله بن حسن فانه كان يساير السفاح وينظر إلى مدينته التي بناها ظاهر مدينة الأنبار فأنشده ألم تر مالكا أضحى يبني بيوتا نفعها لبني بقيله يرحى أن يعمر عمر نوح وأمر الله يأتي كل ليله فغضب فاعتذر اليه وبينا عيسى بن موسى يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور تمثل عيسى فقال سيأتيك ما أفنى القرون التي مضت وما حل في أكباد عاد وجرهم فقال أبو مسلم هذا مع الأمان الذي أعطيت فقال عيسى اعتقت ما أملك إن كان هذا شيئا أضمرته ولما حوصر الأمين قال لجاريته غني فغنت كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم فاشتد ذلك عليه ثم قال غني غير هذا فغنت شكت فراقهم عيني فارقها إن التفرق للأحباب بكاء فقال لعنك الله أما تعرفين غير هذا فغنت ما اختلف الليل والنهار وما دارت نجوم السماء في الفلك الا لنقل السلطان من ملك قد غاب تحت الثرى إلى ملك فقال قومي فقامت فعثرت بقدح بلور فكسرته فإذا قائل يقول قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ولما دخل المأمون على زبيدة ليعزيها في الأمين قالت أرأيت ان تسليني في غدائك اليوم عندي فتغدى وأخرجت اليه من جواري الأمين من تغنيه فغنت هم قتلوه كي يكونوا مكانه كما فعلت يوما بكسرى مرازبه فوثب مغضبا فقالت له يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علمت أو دسست اليها فصدقها ولما فرغ المعتصم من بناء قصره دخل الناس عليه فاستأذنه إسحاق بن إبراهيم أن ينشده فأنشده شعرا في صفته وصفة المجلس أوله يا دار غيرك البلى ومحاك يا ليت شعري ما الذي أبلاك فتطير المعتصم وعجب الناس من إسحاق كيف فعل هذا مع فهمه فقاموا وخرب القصر وما اجتمع فيه بعد ذلك اثنان وأنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة مديحا له من قصيدة يقول فيها ضممت على أبناء تغلب تاءها فتغلب ما كر الجيدان تغلب فتطير عضد الدولة من قوله تغلب وقال نعوذ بالله فتيقظ الصاحب لقوله وتغير لونه وقال اسحاق المهلبي دخلت على الواثق فقال غنني صوتا عربيا فقلت يا دار إن كان البلى محاك فانه يعجبنى أراك قال فتبينت الكراهية في وجهه وندمت ودخل أبو النجم على هشام بن عبد الملك فأنشده أبياتا حتى بلغ فيها ذكر الشمس فقال وهي على الأفق كعين الأحول فأمر أن يوحأ في عنقه وأخرج. ودخل أرطأة على عبد الملك بن مروان وكان شيخا كبيرا فاستنشده ما قاله في طول عمره فأنشده رأيت المرء تأكله الليالي كأكل الأرض ساقطة الحديد وما ينبغي المنية حين تأتي على نفس ابن آدم من مزيد فأعلم أنها ستكر حتى توفي نذرها بأبي الوليد فارتاع عبد الملك وظن أنه عناه وعلم أرطأة أنه زل فقال يا أمير المؤمنين إني أكنى بأبي الوليد وصدقه الحاضرون ودخل ذو الرمة على عبد الملك فأنشده ما بال عينيك منها الدمع ينسكب كأنه من كلى مفرية سرب واتفق أن عيني عبد الملك كانتا تسيلان فظن أنه عرض به فغضب وقطع انشاده وأخرجه ودخل شاعر على طاهر بن عبد الله فانشده شب بالابل من عزيزة نار أوقدتها وأين منك المزار وكان اسم والدة طاهر عزيزة فتغامز الحاضرون وأعلموه بهفوته فأمسك ودخل رجل على عقبة بن مسلم الازدى فانشده يا ابنة الازدي قلبي كئيب مستهام عندكم ما يؤوب ولقد لاموا فقلت دعوني إن من تلحون فيه حبيب فتغير وحه عقبة فنظر الشاعر فقطع. ودخل الرئيس أبو علي العلوي يوما على بعض الرؤساء فتحادثا فجاء غلام لذلك الرجل فقال يا سيدي أي الخيل نسرج اليوم فقال اسرجوا العلوي فقال له أبو علي أحسن اللفظ يا سيدي فاستحيا وقال هفوة واجتاز المرتضى أبو القاسم نقيب العلويين يوم جمعة على باب جامع المنصور عند المكان الذي يباع فيه الغنم فسمع المنادي يقول نبيع هذا التيس العلوي بدينار فظن أنه قصده بذلك فعاد متألما من المنادي فكشف عن الحال فوجد أن التيس إن كان في رقبته حلمتان سمي علويا نسبة لشعرتي العلوي المسبلتين على رقبته ونحو هذا ما جرى لابى الفرج العلوي فانه كان أعرج أحول فسمع مناديا ينادي على تيس كم عليكم في هذا العلوي الأعرج الأحول فلم يشك أنه عناه فراغ عليه ضربا إلى أن تبين أن التيس أحول أعرج فضحك الحاضرون مما اتفق وقال أبو الحسن الصابي دخل بعض أصدقائنا إلى رجل قد ابتاع دارا في جواره فسلم عليه وأظهر الانس بقربه وقال هذه الدار كانت لصديقنا وأخينا إلا أنك بحمد الله أوفى منة وكرما وأوسع نفس وصدرا والحمد لله الذى بدلنا به من هو خير منه وأنشد بدل بالبازي غراب أبقع فضحك منه الرجل حتى استلقى وخجل وصارت نادرة يولع الرجل بها.
أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي منتدى بنات بنوتات ـ البوابة