من طرف كراكيب السبت 24 فبراير 2018 - 3:00
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها وتراجم اعيانها
ووفياتهم ابتداء من ظهور امر الفقارية
{ تابع احداث سنة ست وثمانين ومائة وألف }
من مات في هذه السنة من العظماء
مات السيد الامام العلامة الفقيه المحدث الفهامة الحسيب النسيب السيد علي بن موسى بن مصطفى بن محمد بن شمس الدين بن محب الدين بن كريم الدين بن بهاء الدين داود بن سليمان بن شمس الدين ابن بهاء الدين داود الكبير بن عبد الحفيظ بن أبي الوفاء محمد البدري ابن أبي الحسن علي بن شهاب الدين أحمد بن بهاء الدين داود بن عبد الحافظ ابن محمد بن بدر ساكن وادي النسور بن يوسف بن بدران بن يعقوب بن مطر بن زكي الدين سالم بن محمد بن محمد بن زيد بن حسن بن السيد عريض المرتضى الاكبر ابن الامام زيد الشهيد ابن الامام علي زين العابدين ابن السيد الشهيد الامام الحسين ابن الامام علي بن أبي طالب الحسيني المقدسي الأزهري المصري ويعرف بابن النقيب لأن جدوده تولوا النقابة ببيت المقدس ولد تقريبا سنة 1125 بيت المقدس وبها نشأ وقرأ القرآن على الشيخ مصطفى الاعرج المصري والشيخ موسى كبيبة علي عود ومحمد بن نسبة الفضلي المكي وأخذ العلم عن عم أمه صاحب الكرامات حسين العلمي نزيل لد وأبي بكر بن أحمد العلمي مفتي القدس والشيخ عبد المعطي الخليلي ووصل الى الشام فحضر دروس الشيخ أحمد المتيتي والشيخ اسمعيل العجلوني والشيخ عبد الغني النابلسي واجتمع على الشيخ صالح البشيري الآخذ عن الخضر عليه السلام وعامر ابن نعير وأحمد القطناني ومصطفى بن عمر والدمشقي
وكان من الابدال وأحمد النحلاوي وكان من أرباب الكشف ومحمد بن عميرة الدمشقي وعمران الدمشقي وزيد اليعبداوي وخليفة بن علي اليعبداوي ورضوان الزاوى وأحمد الصفدي المجذوب والشيخ مصطفى بن سوار ودخل حماة فأخذ عن القطب السيد يس القادري وحلب فأخذ بها عن أحمد البني وعبد الرحمن السمان كلاهما من تلاميذ الشيخ أحمد الكتبي وعن الشيخ محمد بن هلال الرامهداني والشيخ عبد الكريم الشرباتي وعاد الى بيت المقدس فاجتمع بالشيخ عبد الغني النابلسي أيضا وبالسيد مصطفى البكري بحلب حين كان راجعا من بغداد فأخذ عنه الطريقة ورغبة في مصر فوردها وحضر على الشمس السجيني ومصطفى العزيزي والسيد علي الضرير الحفني وأحمد بن مصطفى الصباغ والشهابين الملوي والجوهري والشمس الحنفي وأحمد العماوي وشيخ المذهب سليمان المنصوري وأجازه سيدي يوسف بن ناصر الدرعي وأحمد العربي وأحمد بن عبد اللطيف زروق وسيدي محمد العياشي الاطروش والشيخ ابن الطيب في آخرين ورأس في المذهب وتمهر في الفنون ودرس بالمشهد الحسيني في التفسير والفقه والحديث واشتهر أمره وطار صيته
وكان فقيها في المذهب بارعا في معرفة فنونه عارفا بأصوله وفروعه ويستنبط الاحكام بجودة ذهنه وحسن حافظته ويكتب على الفتاوى برائق لفظه
وكانت له في النثر طريقة غريبة لا يتكلف في الاسجاع واذا سئل عن مسألة كتب عليها الجواب أحسن من الروض جاد به الغمام وأغزر من الوبل ساعده نوء النعام
ويكتب في الترسل على سجية بادرة وفكرة على السرعة صاددة وكان ذا جود وسخاء وكرم ومرؤة ووفاء لا يدخل في يده شىء من متاع الدنيا الا وبذله لسائليه وأغدق به على معتفيه وكان منزله الذي قرب المشهد الحسيني مورد الآملين ومحطا لرجال الوافدين مع رغبته في الخيل المنسوبة وحسن معرفته لانسابها وعزوه لاربابها وكان اصطبله دائما لا يخلو من اثنين أو ثلاثة يركب عليها في شرائها لمعرفته بالفروسية في رمي السهام واستعمال السلاح واللعب بالرماح وغير ذلك
ولما ضاق عليه منزله لكثرة الوفاد عليه ولكثرة ميله الى ربط الخيول انتقل الى منزل واسع بالحسينية في طرف البلد بناء على ان الاطراف مساكن الاشراف فسكنه وعمر فيه وفي الزاوية التي قرب بيته وصرف عليها مالا كثيرا
وفي سنة 1177 استخار الله تعالى في التوجه الى دار السلطنة لامور اوجبت رحلته اليها منها انه ركبت عليه الديون وكثر مطالبوها وضاق صدره من عدم مساعدة الوقت له وكان اذ ذاك محل تدريسه بالمشهد الحسيني وعزم عبد الرحمن كتخدا على هدمة وانشائه على هذه الصورة ورأي أن هذه البطالة تستمر أشهرا فوجد فرصة وتوجه اليها وقرأ دروسا في الحديث في عدة جوامع واشتهر هناك بالمحدث وأقبلت عليه الناس أفواجا للتلقي واحبته الامراء وأرباب الدولة وصارت له هناك وجاهة
الا انه كان في درسه ينتقل تارة الى الرد العنيف على أرباب الاموال والاكابر وملوك الزمان وينسبهم الى الجور والعدوان وانحرافهم عن الحق فوشي به الحاسدون فبرز الامر بخروجه من البلد وكان قد تزوج هناك فعاد الى مصر
فلما وصل الى بولاق ذهب اليه جماعة من الفضلاء واستقبلوه
واستقر في منزله وعاد الى دروسه في المشهد وذلك سنة 1183 ولم يترك عادته المألوفة من اكرام الضيوف وبذل المعروف وكان لا يصبر على الجماع وعنده ثلاث نسوة شامية ومصرية ورومية واذا خرج الى الخلاء أو بعض المنتزهات أخذ صحبته من يريدها منهن ونصب لها خيمة وألف الاغتسال مدة اقامته يوما أو يومين أو اكثر
واتفق له في آخر أمره انه ذهب عند محمد بك أبي الذهب وكان في ضائقة فحادثه الامير على سبيل المباسطة وقال له كيف رأيت أهل اسلامبول فقال لم يبق باسلامبول ولا بمصر خير ولا يكرمون الاشرار الخلق وأما أهل العلم والاشراف فانهم يموتون جوعا
ففهم الامير تعريضه وامر له بمائة الف نصف فضة من الضربخانة فقضى منها بعض ديونه وأنفق باقيها على الفقراء وعاش بعدها أربعين يوما وتعلل بخراج أياما واحضروا له رجلا يهوديا فقصده بمشتر قيل انه مسموم فكان سببا لموته
وتوفي عصر يوم الاحد سادس شهر شعبان من السنة وجهز في صبح يوم الاثنين وصلى عليه بالازهر في مشهد حافل ودفن بمقبرة باب النصر على أكمة هناك
ولما أحضر له الناس من الاعيان عدة أكفان وكل منهم يريد أن لا يوضع الا في كفنه فاخذوا من كل كفن قطعة وكفنوه في مجموع ذلك جبرا لخواطرهم
وأعطى الامير محمد بك لاخيه مولانا السيد بدر الدين عندما أخبره بموته خمسمائة ريال لتجهيزه ولوازمه
وجلس مكانه في الدار أخوه السيد بدر المذكور وتصدره مكانه لاملاء درس الحديث النبوي بمسجد المشهد الحسيني وأقبلت عليه الناس والاعيان ومشى على قدم أخيه وسار سيرا حسنا وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الاخلاق واطعام الطعام واكرام الضيفان والتردد الى الاعيان والامراء والسعي في حوائج الناس والتصدي لاهل حارته وخطته في دعاويهم وفصل خصوماتهم وصلحهم والذب عنهم ومدافعة المتعدى عليهم ولو من الامراء والحكام في شكاويهم وتشاجرهم وقضاياهم حتى صار مرجعا وملجأ لهم في أمورهم ومقاصدهم وصار له وجاهة ومنزلة في قلوبهم ويخشون جانبه وصولته عليهم
ثم انه هدم الزاوية وما بجانبها وأنشأها مسجدا نفيسا لطيفا وعمل به منبرا وخطبة ورتب به اماما وخطيبا وخادما وجعل بجانبه ميضاه ومصلى لطيفة يسلك اليهما من باب مستقل وبها كراسي راحة وأنشأ بجانب المسجد دارا نفيسة وانتقل اليها بعياله وترك الدار التي كانت سكنه مع اخيه لانها كانت بالاجرة وبنى لاخيه ضريحا بداخل ذلك المسجد ونقله اليه وذلك سنة 1205
فلما كانت الحوداث في سنة 1213 واستيلاء الفرنسيس على الديار المصرية وقيام سكان الجهة الشرقية من أهلى البلد وهي القومة الاولى التي قتل فيها دبوي قائمقام تحركت في السيد بدر الدين المذكور الحمية وجمع جموعه من اهل الحسينية والجهات البرانية وانتبذ لمحاربة الافرنج ومقاتلتهم وبذل جهده في ذلك
فلما ظهر الافرنج على المسلمين لم يسع المذكور الاقامة وخرج فارا الى جهة البلاد الشامية وبيت المقدس وفحص عنه الافرنج وبثوا خلفه الجواسيس فلم يدركوه فعند ذلك نهبوا داره ودهموا منها طرفا وكل تخريبها أوباش الناحية وخربوا المسجد وصارت في ضمن الاماكن التي خربها الفرنسيس بهدم ما حول السور من الابنية ثم في الواقعة الكبيرة الثانية عندما حضر الوزير والعساكر الرومية ورجعوا بعد نقض الصلح بدون طائل كما يأتي تفصيل ذلك
فلما حضروا ثانيا بمعونة الانكليز وتم الامر وسافر الفرنسيس الى بلادهم ورجع المذكور الى مصر وشاهد ما حصل لداره ومسجده من التخريب أخذ في اسباب تعميرهما وتجديدهما حتى أعادهما أحسن مما كانا عليه قبل ذلك وسكن بها وهو الآن بتاريخ كتابة هذا المجموع سنة 1220 قاطن بها ومحله مجمع شمل المحبين ومحط رحال القاصدين بارك الله فيه
ومات الفقيه المفنن العلامة الشيخ علي ين شمس الدين بن محمد بن زهران بن علي الشافعي الرشيدي الشهير بالخضري ولد بالثغر سنة أربع وعشرين وأمه آمنة بنت الحاج عامر بن أحمد العراقي وأمها صالحة بنت الشريف الشريف الحاج علي زعيتر أحد أعيان التجار برشيد حفظ المترجم الزبد والخلاصة وسبيل السعادة والمنهج الى الديات والجزرية والجوهرة وسمع على الشيخ يوسف القشاشي الجزرية وابن عقيل والقطر وعلى الشيخ عبد الله بن مرعي الشافعي في شوال سنة احدى واربعين جمع الجوامع والمنهج وألقى منه دروسا بحضرته ومختصر السعد واللقاني على جوهرته وشرح ابنه عبد السلام والمناوي على الشمائل والبخاري وابن حجر على الاربعين والمواهب وعلى الشمس محمد بن عمر الزهيرى معظم البخارى دراية والمواهب وابن عقيل والاشموني على الخلاصة وجمع الجوامع والمصنف على أم البراهين ونصف النفراوي على الرسالة والبيضاوي الى قوله تعالى واذا وقع القول فكلمه بعد موته
وفي سنة ثمان وثلاثين وفد على الثغر الشيخ عطية الاجهوري فقرأ عليه العصام في الاستعارات مع الحفيد وعلى الشيخ محمد الادكاوي شرح السيوطي على الخلاصة والشنشوري على الرحبية والتحرير لشيخ الاسلام ثم قدم الجامع الازهر سنة ثلاث وأربعين فجاور ثلاث سنوات فسمع على الشيخ مصطفى العزيزي شرح المنهج مرتين والخطيب والشمائل واجازه بالافتاء والتدريس في رجب سنة ست وأربعين وكان به بارا رحيما شفوقا بمنزلة الوالد حتى بعد الوفاة وجرت له معه وقائع كثيرة تدل على حسن توجهه له دون غيره من الطلبة
وسمع على السيد علي الحنفي الضرير الاشموني وجمع الجوامع والمغني وبعض المنفرجة والقسطلاني على البخاري وتصريف العزى على الشمس محمد الدلجي المغني كله قراءة بحث والخطيب وجمع الجوامع وعلى الشيخ علي قايتباي الخطيب فقط وعلى الشيخ الحفني الخطيب والمنهج وجمع الجوامع والاشموني ومختصر السعد وألفية المصطلح ومعراج الغيطي وعلى أخيه الشيخ يوسف الاشموني والمختصر ورسالة الوضع وعلى الشيخ عطية الاجهوري المنهج والمختصر والسلم وعلى أحمد الشبراملسي الشافعي المختصر والتجرير وبعض العصام ومنظومة في أقسام الحديث الضعيف وعلى الشيخ محمد السجيني الشمائل وموضع من المنهج وأجازه الشيخ الشبراوي بالكتب الستة بعد أن سمع عليه بعضا منها ورجع عن فتواه مرتين في وقفين وعلى الشيخ أحمد بن سابق الزعبلي المنهج كله مرتين وعلى الشيخ أحمد المكودى كبرى السنوسي وبعض مختصره دراية وعلى الشيخ محمد المنور التلمساني شيخ المكودى المذكور أم البراهين دراية وعلى الشيخ أحمد العماوي المالكي بعض سنن أبي داود وجمع الجوامع والمغني والازهرية
ولما رجع الى الثغر لازم الشيخ شمس الدين الغوى خطيب جامع المحلي فسرد عليه معظم متن الزبد والمنهج وشرحه والشنشورى ومتن العباب وهو الذي عرفه به وبطريق تركيب الفتاوى أسئلة وأجوبة
وكان يقول لا بد للمبتلي بالافتاء من العباب لوضوحه واستيعابه
وأجازه الشيخ شلبي البرلسي والشيخ عبد الدائم بن أحمد المالكي وأحمد بن أحمد بن قاسم الوني
وله مؤلفات جليلة منها شرح لقطة العجلان وحاشية على شرح الاربعين النووية للشبشيرى أجاد فيها كل الاجادة وقد رأيت كلا منهما بالثغر عند ولده السيد أحمد توفي في خامس عشرين شعبان من السنة
ومات الشاب الصالح والنجيب الاريب الفالح العلامة المستعد النبيه الذكي الشيخ محمد بن عبد الواحد بن عبد الخالق البناني أبوه وجده وعمه من أعيان التجار والثروة بمصر نشأ في عفة وصلاح وحفظ القرآن والمتون وحبب اليه طلب العلم فتقشف لذلك وتجرد ولازم الحضور والطلب ودأب واجتهد في التحصيل وسهر الليل وكان له حافظة جيدة وفهم حاد وقوة استعدادية وقابلية فأدرك في الزمن اليسير ما لم يدركه غيره في الزمن الكثير ولازم شيخنا الشيخ محمد الجناحي المعروف بالشافعي ملازمة كلية وتلقى عنه غالب تحصيله في الفقه والمعقول والمنطق والاستعارات والمعاني والبيان والفرائض والحساب وشباك ابن الهاثم وغير ذلك وحضر دروس الشيخ الصعيدي والدردير وغيرهم حتى مهر وأنجب ودرس واشتهر بالفضل وعمل الختوم وحضره أشياخ العصر وشهدوا بفضله وغزارة علمه وانتظم في عداد أكابر المحصلين والمفيدين والمستفيدين ولم يزل هذا حاله حتى وافاه الحمام وانمحق بدره عند التمام ومات مطعونا في هذه السنة وهو مقتبل الشبيبة لم يجاوز الثلاثين عوضه الله الجنة وهو ابن عم الامام العلامة الشيخ مصطفى بن محمد بن عبد الخالق من أعيان العلماء المشاهير بمصر الآن بارك الله فيه
ومات الفقيه الفاضل المحقق الشيخ أحمد بن أحمد الحمامي الشافعي الازهري ولد بمصر واشتغل بالعلم من صغره ومال بكليته اليه وحبب اليه مجالسة أهله فلازم الشيخ عيسى البراوى حتى مهر وتفقه عليه وحضر دروس الشمس الحفني والشيخ علي الصعيدي وغيرهما واجازوه وحج في سنة خمس وثمانين مرافقا لشيخنا الشيخ مصطفى الطائي ورجعا الى مصر وتصدر للتدريس والافتاء في حياة شيوخه ودرس وأفاد
وكان أكثر ملازمته لزاوية الشيخ الخضرى ويقرأ درسا بالصرغتمشية وانتفع به جماعة وله حاشية على الشيخ عبد السلام مفيدة وأخرى على الجامع الصغير للسيوطي لم تتم وكان ذا صلاح وورع وخشية من الله وسكون ووقار
توفي يوم الاربعاء تاسع ربيع الاول من السنة ودفن ثاني يوم بمشهد عظيم بالقرب من السادة المالكية
ومات الامام الصوفي العارف المعمر الشيخ علي بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القدوس ابن القطب شمس الدين محمد الشناوي الروحي الاحمدي المعروف ببندق ولد قبل القرن وأخذ عن عميه محمد العالم وعلي المصرى وهما عن عمهما الشمس محمد بن عبد القدوس الشهير بالدناطي عن ابن عمه الشهاب الخامي ومسكنهم بمحلة روح وهو شيخ مشايخ الاحمدية في عصره
وانتهت اليه الرياسة في زمنه وعاش كثيرا حتى جاوز المائة ممتعا بالحواس وكان له خلوة في سطح منزله ولها كوة مستقبلة طندتا بين يديها فضاء واسع يرى منها آثار طندتا وهو مستقبل القبلة في حال جلوسه ونومه ونظره الى تلك الكوة
وأخبرني أولاده انه هكذا هو مستمر على هذه الطريقة من مدة طويلة
توفي في أوائل جمادى الاولى من السنة واجتمع بمشهده غالب أهل البلاد من المشايخ والاعيان والصلحاء من الآفاق والسيد محمد مجاهد الاحمدي والشيخ محمد الموجه والسيد أحمد تقي الدين وغيرهم ودفن عند أسلافه بمحلة روح
ومات الامير خليل بك ابن ابراهيم بك بلفيا تقلد الامارة والصنجقية بعد موت والده وفتح بيتهم وأحيا ما آثرهم وكان أهلا للامارة ومحلا للرئاسة وتقلد امارة الحج في سنة احدى وثمانين ورجع في أمن وسخاء وطلع أيضا في السنة الثانية ومات بالحجاز ورجع بالحج أخوه عبد الرحمن أغا بلفيا
ومات الاجل المكرم الرئيس محمد تابع المرحوم محمد أوده باشه طبال مستحفظان ميسو الجداوى وهو زوج الجدة أم المرحوم الولد تزوج بها بعد موت الجد في سنة 1114 وقطن بها ببندر جدة وأولدها حسينا ومحمدا وتوفي سنة أربع وخمسين عن ولديه المذكورين وأخيهما محمود من أبيهما وعتقائه ومنهم المترجم قرباه ابن سيدة وهو العم حسين فأنجب وعانى التجارة ورئاسة المراكب الكبار ببحر القلزم حتى صار من أعيان النواخيد الكبار واشتهر صيته وذكره وكثر ماله وبنى دارا بمصر بجوار المدارس الصالحية واشترى المماليك والعبيد والجوارى وصار له داربمصر وبجدة ولم يزل حتى توفي بالشام وهو راجع الى مصر ووصل نعيه في سابع عشرين ربيع الثاني رحمه الله
ومات الخواجا الصالح المعمر الحاج محمد بن عبد العزيز البندارى وكان انسانا حسنا وهو الذي عمر العمارة والمساكن بطندتا واشتهرت به
توفي في غرة ربيع أول بعد تعلل رحمه الله تعالى
{ احداث سنة سبع وثمانين ومائة وألف }
فيها تواترت الاخبار والارجافات بمجيء علي بك من البلاد الشامية بجنود الشام وأولاد الظاهر عمر فتهيأ محمد بك للقائه وبرز خيامه الى جهة العادلية ونصب الصيوان الكبير هناك وهو صيوان صالح بك وهو في غاية العظم والاتساع والعلو والارتفاع وجميعه بدوائره من جوخ صاية وبطانته بالاطلس الاحمر وطلائعه وعساكره من نحاس أصفر مموه بالذهب
فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر ووصل الخبر بوصول علي بك بجنوده الى الصالحية فارتحل محمد بك في خامس شهر صفر فالتقيا بالصالحية وتحاربا فكانت الهزيمة على علي بك واصابته جراحة في وجهه فسقط عن جواده فاحتاطوا به وحملوه الى مخيم محمد بك وخرج اليه وتلقاه وقبل يده وحمله من تحت ابطه حتى أجلسه بصيوانه
وقتل علي بك الطنطاوي وسليمان كتخدا وعمر جاويش وغيرهم وذلك يوم الجمعة ثامن شهر ضفر ووصل خبر ذلك الى مصر في صبح يوم السبت وحضروا الى مصر وأنزل محمد بك أستاذه في منزله الكائن بالازبكية بدرب عبد الحق وأجرى عليه الاطباء لمداواة جراحاته
وفي خامس عشر صفر وصل الحجاج ودخلوا الى مصر وأمير الحج ابراهيم بك محمد
وفي تلك الليلة توفي الامير علي بك بعد وصوله بسبعة أيام قيل انه سم في جراحاته فغسل وكفن ودفنوه عند اسلافه بالقرافة
وفي سابع عشر ربيع الاول وصل الوزير خليل باشا والي مصر واطلع الى القلعة في موكب عظيم وذلك يوم الخميس تاسع عشرة وضربوا له مدافع وشنكا من الابراج
وكان وصوله من طريق دمياط فعمل الديوان وخلع الخلع
من مات في هذه السنة
مات في هذه السنة الشيخ الامام الصالح العلامة المفيد الشيخ أحمد ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن الحسن الجوهرى الخادلى الشافعي ولد بمصر سنة 1132 وبها نشأ وسمع الكثير من والده ومن شيخ الكل الشهاب الملوى وآخرين
وتصدر في حياة أبيه للتدريس وحج معه وجاور سنة وكان انسنا حسنا ذا مودة وبر وشهامة ومروءة تامة واخلاق لطيفة
توفي بعد ان تعلل أياما في حادي عشري ربيع الاول وصلي عليه بالجامع الازهر بمشهد حافل ودفن مع والده بالزاوية القادرية بدرب شمس الدولة
ومات المبجل المفضل الامام العارف صاحب المعارف علي بن محمد بن القطب الكامل السيد محمد مراد الحسيني البخاري الاصل الدمشقي الحنفي ويعرف بالمرادى نسبة لجده المذكور ولد بدمشق وأخذ عن أبيه وغيره من العلماء كعلي بن صادق الداغستاني وغيره وكان انسانا عظيم الشأن ساطع البرهان طيب الاعراق كريم الاخلاق منزله مأوى القاصدين ومحط رجال الواردين وهو والد خليل أفندي المفتي بدمشق نزل عنده السيد العيدروس فأكرمه وبره ولم يزل حتى توفي في هذه السنة
وتوفي بعده بشهرين أيضا أخوه حسين أفندي المرادى رحمهما الله
ومات الماهر الاديب الشاعر الكاتب المنشىء الشيخ ابراهيم بن محمد سعيد بن جعفر الحسني الادريسي المنوفي المكي الشافعي ولد في آخر القرن الحادى عشر بمكة وأخذ عن كبار العلماء كالبصرى والنخلي وتاج الدين القلعي والعجمي ثم من الطبقة التي تليه مثل علي السخاوى وابن عقيلة في آخرين من الواردين على الحرمين من آفاق البلاد واعلى ما عنده اجازة الشيخ ابراهيم الكوراني له وله شعر نفيس وقد جمع في ديوان وبينه وبين السيد جعفر البيثي والسيد العيدروس مخاطبات ومحاورات ودخل الهند بسفارة صاحب مكة فأكرم وعاد الى مكة وولي كتابة السر لملكها وكان يكاتب رجال الدولة على لسانه على إختلاف طبقاتهم وكان قلمه كلسانه سيالا وربما شرع في كتابة سورة من القرآن وهو يتلو سورة أخرى بقدرها فلا يغلط في كتابته ولا في قراءته حتى تتما معا وهذا من أعجب ما سمعت
وكان له مهارة ومعرفة في علم الطب واما انشاآته فاليها المنتهي في العذوبة وتناسب القوافي
وأما في نظمه فهو فريد عصره لا يجاريه فيه مجار ولا يطاوله مطاول
ومات البارع المقرىء المجود المحدث الشيخ عبد القادر بن خليل بن عبد الله الرومي المدني المعروف بكدك زاده ولد بالمدينة سنة 1140 وبها نشأ وحفظ القرآن وجوده على شيخ القراء شمس الدين محمد السجاعي نزيل المدينة تلميذ البقرى الكبير وحفظ الشاطبية واشتغل بالعلم على علماء بلده والواردين عليه سمع اكثر كتب الحديث على الشيخين ابن الطيب ومحمد حياة بقراءته عليهما في الاكثر ولازم الشيخ ابن الطيب ملازمة كلية حتى صار معيدا لدروسه وكان حسن النغمة طيب الاداء ولي الخطابة والامامة بالروضة المطهرة وكان اذا تقدم الى المحراب في الصلوات الجهرية تزدحم عليه الخلق لسماع القرآن منه ثم ورد الى مصر فأدرك الشيخ المعمر داود بن سلمان الخربتاى فتلقى منه أشياء واجازه وذلك في سنة 1168 وحضر الشيخ الملوى والجوهرى والحفني والبليدى وحمل عنهم الكثير وتزوج ثم توجه الى الروم ثم عاد الى المدينة فلم يقر له بها قرار ثم أتى الى مصر ودار على الشيوخ البقية ثانيا وأخذ عنهم وأحبه السيد اسمعل بن مصطفى الكماخي وصار يجلس عنده أياما في منزله الملاصق لجامع قوصون فشرع في أخذ خطابته له فاشترى له الوظيفة فخطب به على طريقة المدينة وازدحمت عليه الناس وراج أمره وتزوج ثم توجه الى الروم وباع الوظيفة وانخلع عما كان عليه وجلس هناك مدة وسمع السلطان قراءته في بعض المواضع في حالة التبديل فأحب أن يكون اماما لديه وكاد أن يتم فاحس امام السلطان بذلك فدعاه الى منزله وسقاه شيئا مما يفسد الصوت حسدا عليه فلما أحس بذلك خرج فارا فعاد الى مصر واشتغل بالحديث وشرع في عمل المعجم لشيوخه الذين أدركهم في بلده وفي رحلاته الى البلاد
ودخل حلب فاجتمع بالشيخ أبي المواهب القادرى وقرأ عليه شيئا من الصحيح وأجازه واخذ عن السيد المعمر ابراهيم بن محمد الطرابلسي النقيب ومن درويش مصطفى الملقي ودخل طرابلس الشام وأخذ الاجازة من الشيخ عبد القادر الشكعاوي ودخل خادم ( احدى قرى الروم ) فاجتمع بالشيخ المعروف بمفتي خادم ورام ان يسمع منه الآولية فلم يجد عنده اسنادا وانما هو من أهل المعقول فقط ورجع الى مصر فاجتمع بشيخنا السيد مرتضى وتلقى عنه الحديث واهتم في جمع رجاله وتمهر في الاسناد وجمع من ذلك شيئا كثيرا في مسودات بخطه ثم عاد الى الحريمن ومنهما الى ارض اليمن فاجتمع بمن بقي من الشيوخ وأخذ عنهم ودخل صنعاء ومدح كلا من الوزير والامام بقصيدة فأكرم بها واجتمع على علمائها وتلقى عنهم وصار بينه وبين الشيخ أحمد قاطن أحد علمائها محاورات ثم دخل كوكيان فاجتمع على فريد عصره السيد عبد القادر بن أحمد الحسني من بيت الائمة ودخل شبام فأجتمع على السيد ابراهيم بن عيسى الحسني واللحية فأجتمع بها على الشيخ عيسى زريق وذلك في سنة 1185 وعاد الى مصر بالفوائد الغزار وبما حمل في طول غيبته من النوادر والاسرار وفي هذه الخطرات التي ذكرت دخل الصعيد من طريق القصير واجتمع على مشايخ عربان الهوارة ومدحهم بقصائد طنانة وأكرموه وله ديوان جمع فيه شعره وما مدح به الآكابر والاولياء وكان عنده مسودة بخطه وهذا قبل أن يسافر الى الشام والروم واليمن والصعيد فقد تحصل له في هذه السفرات كلام كثير مفرق لم يلحقه بالديوان وكان كلما نزل في موضع ينشيء فيه قصيدة غريبة في بابها وكان يغوص على المعاني بفكرة الثاقب فيستخرجها ويكسوها حلة الالفاظ ويبرزها أعجوبة تلعب بالعقول وتعمل عمل الشمول فلله دره من بليغ لم يبلغ معاصروه شأوه ولو اقام في موضع كغيره لاطلع ضياه ولكنه الف الغربة وهانت عنده الكربة فلم ينال بخشن ولا لين ولم يكترث بصعب ولا هين وأجازه الشيخ محمد السفاريني أجازه طويلة في خمسة كراريس فيها فوائد جمة
ولم يزل تتنقل به الاحوال حتى سافر الى القدس الشريف فمكث هناك قليلا وزار المشاهد الكرام ومراقد الانبياء عليهم الصلاة والسلام ثم ارتحل الى نابلس فنزل في دار السيد موسى التميمي وهو اذ ذاك قاضي البلد فأكرمه وآواه واحترمه
ومرض اياما وانتقل الى رحمة الله تعالى في سلخ جمادى الثانية منها ووصل نعيه الى مصر وكانت معه كتبه وما جمعه في سفره من شعره والعجم الذي جمعه في الشيوخ والاجراء والاماني التي حصلها وضاع ذلك جميعه ولله في خلقه ما أراد
ومات العمدة الشاب الصالح الشيخ محمد بن حسن الجزايرلي ثم المدني الحنفي الازهري ولد بمكة اذ كان والده يتجر بالحرمين في حدود الستين وقدم به الى مصر فلازم الشيخ حسن المقدسي مفتي الحنفية ملازمة كلية وانضوى اليه فقرأ عليه المتون الفقهية ودرجه في أدنى زمن الى معرفة طرق الفتوى حتى كان معيدا لدروسه وكاتبا لسؤالاته وربما كتب على الفتوى بأذن شيخه
وفي أثناء حضر في المعقول على الشيخ الصعيدي والشيخ البيلي والشيخ محمد الامير وغيرهما من مشايخ الوقت وحصل طرفا من العلوم وصارت له الشهرة في الجملة وأعطاه شيخه تدريس الحديث بالصرغتمشية فكان في كل جمعة يقرأ فيه البخاري وزوجه امرأة موسرة لها بيت بالازبكية
وبعد وفاة شيخه تصدر لللاقراء في محله وصار ممن يشار اليه ولم يزل حتى مات في عنفوان شبابه في هذه السنة ويقال ان زوجته سمته
ومات الامير الكبير علي بك الشهير صاحب الوقائع المذكورة والحوادث المشهورة وهو مملوك ابراهيم كتخدا تابع سليمان جاويش تابع مصطفى كتخدا القازدغلي تقلد الامارة والصنجقية بعد موت استاذه في سنة 1168 وكان قوي المراس شديد الشكيمة عظيم الهمة لا يرضى لنفسه بدون السلطنة العظمى والرياسة الكبرى لا يميل لسوى الجد ولا يحب اللهو ولا المزح ولا الهزل ويحب معالي الامور من صغره
واتفق ان بعض ولاة الامور تشاوروا في تقليده الامارة فنقل اليه مجلسهم وذكر له مساعدة فلان وممانعة فلان فقال انا لا اتقلد الامارة الا بسيفي لا بمعونة أحد
ولم يزل يرقى في مدارج الصعود حتى عظم شأنه وانتشر صيته ونما ذكره وكان يلقب بجن علي ولقب أيضا ببلوط قبان وانضم الى عبد الرحمن كتخدا واظهر له خلوص المحبة واغثر هو ايضا به وظن صحة خلوصه فركن اليه وعضده وساعده ونوه بشأنه ليقوى به على نظرائه من الاختيارية والمتكلمين
واتفق انه وقع بين أحمد جاويش المجنون تابعه وبين أهل وجاقة حادثة نقموا عليه فيها وأوجبوا عليه النفي بحسب قوانينهم واصطلاحهم واعرضوا الامر على عبد الرحمن كتخدا استاذه فعارض في ذلك ولم يسلم لهم في نفي أحمد جاويش ورأى ذلك نقصا في حقه فتلطف به بعضهم وترجوا في اخراجه ولو الى ناحية ترسا بالجيزة أياما قليلة مراعاة وحرمة للوجاق فلم يرض وحنق واحتد
فلما كان في اليوم الثاني واجتمع عليه الامراء والاعيان على عادتهم قال لهم أيها الامراء من انا اجابه الجميع بقولهم أنت استاذنا وابن استاذنا وصاحب ولائنا
قال اذا أمرت فيكم بامر تنفذوه وتطيعوه قالوا نعم
قال علي بك هذا يكون أميرنا وشيخ بلدنا ومن بعد هذا اليوم يكون الديوان والجمعية بداره وانا أول من اطاعه وآخر من عصى عليه
فلم يسعهم الا قبول ذلك بالسمع والطاعة وأصبح راكبا الى بيت علي بك وتحول الديوان والجمعية اليه من ذلك اليوم واستفحل أمره ولم يمض على ذلك الا مدة يسيرة حتى أخرج أحمد جاويش المذكور وحسن كتخدا الشعرواي وسليمان بك الشابوري كما تقدم ثم غدر به أيضا واخرجه الى الحجاز من طريق السويس وأرسل معه صالح بك ليوصله الى ساحل القلزم فلما شيعه هناك أرسل بنفي صالح بك الى غزة ثم رد الى رشيد ومنها ذهب الى منية ابن خصيب وتحصن بها وجرد عليه المترجم التجاريد ولم يزل ممتنعا بها حتى تعصب على المترجم خشداشينه واخرجوه منفيا الى النوسات ثم وجهوه الى السويس بعد قتل حسن بك الأزبكاوى ثم منها الى الجهة القبلية بعد قتل عثمان بك الجرجاوى وانضم الى صالح بك وتعاقد معه وحضر معه الى مصر وقتل الرؤساء من أقرانه ثم غدر بصالح بك أيضا كما تقدم مجمل ذلك ثم نفى باقي الأعيان وفرق جمعهم في القرى والبلدان وتتبعهم خنقا وقتلا وأبادهم فرعا وأصلا وافنى باقيهم بالتشريد وجلوا عن أوطانهم الى كل مكان بعيد واستأصل كبار خشداشينة وقبيلته واقصى صغارهم عن ساحته وسدته
واخرب البيوت القديمة واخرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة والرواتب التي من سالف الدهر كانت منظمة وقتل الرجال واستصفى الأموال وحارب كبار العربان والبوادي وعرب الجزيرة والهنادي واعاظم الشجعان ومقادم البلدان وشتت شملهم وفرق جمعهم واستكثر من شراء المماليك وجمع العسكر من سائر الأجناس واستخلص بلاد الصعيد وقهر رجالها الصناديد ولم يزل يمهد لنفسه حتى خلص له ولأتباعه الأقليم من الأسكندرية الى أسوان ثم جرد عساكره الى البلاد الحجازية ونفذ اغراضه بها ثم التفت الى البلاد الشامية وتابع إرسال البعوث والسرايا والتجاريد اليها وقتل عظماءها وكبراءها وولاتها واستولت اتباعه على البلاد الشامية حتى أنهم أقاموا في حصار يافا أربعة اشهر حتى ملكوها وعمر قلاع الاسكندرية ودمياط وحصنها بعساكره ومنع ورود الولاة العثمانيين وكان يطلع كتب الاخبار والتواريخ وسير الملوك المصرية ويقول لبعض خاصته ان ملوك مصر كانوا مثلنا مماليك الاكراد مثل السلطان بيبرس والسلطان قلاوون وأولادهم وكذلك ملوك الجراكسة وهم مماليك بني قلاون الى آخرهم كانوا كذلك وهؤلاء العثمانية أخذوها بالتغلب ونفاق أهلها
وينوه ويشير بمثل هذا القول بما في ضميره وسريرته ولو لم يخنه مملوكه محمد بك لرد الامور الى أصولها وكان لا يجالس الا أهل الوقار والحشمة والمسنين مثل محمد افندي كاتب كبير الينكجرية ومصطفى افندي توكلي وعبد الله كتخدا محمد باشا الراقم ومرتضى أغا وأحمد افندي يجالسونه بالنوبة في اوقات مخصوصة مع غاية التحرز في الخطاب والمسامرة بوجيز القول وكاتب انشائه العربي الشيخ محمد الهلباوي الدمنهوري وكاتبه الرومى مصطفى افندي الاشقر ونعمان افندي وهو منجمه أيضا ويجل من العلماء المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري والشيخ على العدوى والشيخ أحمد الحماقي وكاتبه القبطي المعلم رزق بلغ في ايامه من العظمة ما لم يبلغه قبطي فيما رأينا ومن مسقاته كرع المعلم ابراهيم الجوهرى وأدرك ما أدركه بعده في ايام محمد بك واتباعه من بعده وتتبع المفسدين والذين يتداخلون في القضايا والدعاوى ويتحيلون على ابطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات وعاقبهم بالضرب الشديد والاهانة والقتل والنفي الى البلاد البعيدة
ولم يراع في ذلك أحدا سواء كان متعمما أو فقيها أو قاضيا أو كاتبا أو غير ذلك بمصر أو غيرها من البناذر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق من العرب وأهل الحوف والزم أرباب الادراك والمقادم بحفظ نواحيهم وما في حوزهم وحدودهم وعاقب الكبار بجناية الصغار فأمنت السبل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وايذائهم بحيث ان الشخص كان يسافر بمفرده ليلا راكبا أو ماشيا ومعه حمل الدراهم والدنانير الى أي جهة ويبيت في الغيط أو البرية آمنا مطمئنا لا يرى مكروها أبدا
وكان عظيم الهيبة اتفق لاناس ماتوا فرقا من هيبته وكثيرا من كان تأخذه الرعدة بمجرد المثول بين يديه فيقول له هون عليك ويلاطفه حتى ترجع له نفسه ثم يخاطبه فيما طلبه بصدده وكان صحيح الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين ولا يحتاج في التفهيم الى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيها أو يمزقها
وألبس سراجينه قواويق فتلى بالفاء من جوخ أصفر تمييزا لهم عن غيرهم من سراجين امرائه ولم يزل منفردا في سلطنة مصر لا يشاركه مشارك في رأيه ولا في احكامه وامرؤها وحكامها مماليكه وأتباعه فلم يقنع بما أعطاه مولاه وخوله من ملك بحريها وقبليها الذي افتخرت به الملوك والفراعنة على غيرها من الملوك وشرهت نفسه وغرته أمانيه وتطلبت نفسه الزيادة وسعة المملكة وكلف امراءه الاسفار وفتح البلاد حتى ضاقت أنفسهم وشموا الحروب والغربة والبعد عن الوطن فخالف عليه كبير امرائه محمد بك ورجع بعد فتح البلاد الشامية بدون استئذان منه واستوحش كل من الآخر فوثب عليه وفر منه الى الصعيد وكان ما كان من رجوعه بمن انضم اليه وخامر معه وكانت وكانت الغلبة له على مخدومه وفر منه الى الشام وجند الجنود وقصد العود لمملكته ومحل سيادته فوصل الى الصالحية
وخرج اليه محمد بك وتلاقيا واصيب المترجم بجراحة في وجهه واخذ أسيرا وقتل من قتل من امرائه ورجع محمد بك وصحبته مخدومه المذكور محمولا في تخت فأنزلوه في داره بدرب عبد الحق فأقام سبعة أيام ومات والله أعلم بكيفية موته
وكان ذلك في منتصف شهر صفر من السنة
فغسل وكفن وخرجوا بجنازته وصلى عليه بمصلى المؤمنين في مشهد حافل ودفن بتربة استاذه ابراهيم كتخدا بالقرافة الصغرى بجوار الامام الشافعي ومدفنهم مشهور هناك وبواجهته سبيل يعلوه قصر مفتح الجوانب
ومن مآثره العمارة العظيمة بطندتا وهي المسجد الجامع والقبة على مقام سيدي أحمد البدوي رضى الله عنه والمكاتب والميضأة الكبيرة والحنفيات وكراسي الراحة المتسعة والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة النافذة من الجهتين وما بها من الحوانيت للتجار وسميت هناك بالغورية لنزول تجار أهل الغورية بمصر في حاونيتها أيام مواسم الموالد المعتادة لبيع الاقمشة والطرابيش والعصائب وكان المشد على تلك العمارة المعلم حسن عبد المعطي وكان من الرجال أصحاب الهمم وولاه سدانة الضريح عوضا عن أولاد سعد الخادم لسوء سيرتهم وظلمهم فنكبهم المترجم واخذ ما امكنه أخذه من مالهم وهو شيء كثير وأنفقه في هذه العمارة ووقف عليها أوقافا ورتب بالمسجد عدة من الفقهاء والمدرسين والطلبة والمجاورين وجعل لهم خبزا وجرايات وشوربة في كل يوم وجدد أيضا قبة الامام الشافعي رضي الله عنه وكشف ما عليها من الرصاص القديم من أيام الملك الكامل الايوبي في القرن الخامس وقد تشعت وصدىء لطول الزمان فجدد ما تحته من خشب القبة البالي بغيره من الخشب النقي الحديث ثم جعلوا عليه صفائح الرصاص المسبوك الجديد المثبت بالمسامير العظيمة وهو عمل كثير
وجدد نقوش القبة من داخل بالذهب واللازورد والاصباغ وكتب بافريزها تاريخا منظوما صالح افندى
وهدم أيضا الميضاة التي كانت من عمارة عبد الرحمن كتخدا وكانت صغيرة مثمنة الاركان ووسعها وعمل عوضها هذه الميضأة الكبيرة وهي مربعة مستطيلة متسعة وبجانبها حنفية وبزابيز يصب منها الماء وحول الميضاة كراسي راحة بحيضان متسعة تجري مياهها الى بعضها وماؤها شديد الملوحة
ومن انشائه أيضا العمارة العظيمة التي أنشأها بشاطىء النيل ببولاق حيث دكك الحطب تحت ربع الخرنوب وهي عبارة عن قيسارية عظمية بباين بين يسلك منها من يجري الى قبلي وبالعكس وخانا عظيما يعلوه مساكن من الجهتين وبخارجه حوانيت وشونه غلال حيث مجرى النيل ومسجد متوسط فحفروا اساس جميع هذه العمارة حتى بلغوا الماء ثم بنوا لها خنازير مثل المنارات من الاحجار والدبش والمؤن وغاصوا بها في ذلك الخندق حتى استقرت على الارض الصحيحة ثم ردموا ذلك الخندق المحتوي على تلك الخنازير بالمؤن ولاحجار واستعلوا عليه بعد ذلك بالبناء المحكم بالحجر النحيت وعقدوا العقود والقواصر والاعمدة والاخشاب المتينة
وكان العمل في ذلك سنة خمس وثمانين
ومات المترجم قبل اتمامها وبناء أعاليها
وكانت هذه العمارة من أشام العمائر لان النيل انحسر بسببها عن ساحل بولاق وبطل تياره واندفع الى ناحية انبابة ولم تزل الارض تعلو والاتربة تزيد فيما بين زاوية تلك العمارة الى شون الغلال ويزيد نموها في كل سنة حتى صار لا يركبها الماء الا في سنين الغرق
ثم فحش الامر وبنى الناس دورا وقهاري في بحري العمارة وسبحوا الى جهة قرب الماء مغربين والقوا أتربة العمائر وما يحفرونه حول ذلك واقتدى بهم الترابة وغيرهم ولم يجدوا مانعا ولا رادعا وكلما فعلوا ذلك هرب الماء وضعف جريانه وربت الارض وعلت وزادت حتى صارت كيمانا تنقبض النفوس من رؤيتها
وتمتلىء المنافس من عجاجها وخصوصا في وقت الهجير
بعد ان كانت نزهة للناظرين
ولقد ادركنا فيمل قبل ذلك تيارا لنيل يندفع من ناحية بولاق التكرور الى تلك الجهة ويمر بقوته تحت جدران الدور والوكائل القبلية وساحل الشون ووكالة الابزار وخضرة البصل وجامع السنانية وربع الخرنوب الى الجيعانية وينعطف الى قصر الحلي والشيخ فرج صيفا وشتاء ولا يعوقه عائق ولا يقدر أحد أن يرمي بساحل النيل شيئاا من التراب فان اطلع الحاكم على ذلك نكل به أو بخفير تلك الناحية وهذا شيء قد تودع منه ومن امثاله وأخر من أدركنا فيه هذا الالتفات والتفقد للامور الجزئية التي يترتب بزيادتها الضرر العام عبد الرحمن أغا مستحفظان فانه كان يحذو طريق الحكام السالفين الى ان ضعفت شوكته بتآمر الاصاغر وقيد حكمه بعد الاطلاق وترك هذا الامر ونسي بموته وتقليد الاغاشم وتضاعف الحال حتى ان بعض الطرق الموصلة الى بولاق سدت بتراكم الاتربة التي يلقيها أهل الاطارف خارج الدروب ولا يجدون من يمنعهم أو يردعهم وقدرت علو الارض بسبب هذه العمارة زيادة عن أربع قامات فاننا كنا نعد درج وكالة الابزاريين من ناحية البحر عندما كنا ساكنين بها قبل هذه العمارة نيفا وعشرين درجة وكذلك سلم قيطون بيت الشيخ عبد الله القمري وقد غابت جميعها تحت الارض وغطتها الاتربة ولله عاقبة الامور
ومن إنشاء المترجم داره المطلة على بركة الازبكية بدرب عبد الحق التي بها والحوض والساقية والطاحون بجوارها وهي الان مسكن الست نفيسة
وبالجملة فأخبار المترجم ووقائعه وسيرته لو جمعت من مبدأ أمره الى اخره لكان مجلدات وقد ذكرنا فيما تقدم لمعا من ذلك بحسب الاقتضاء مما استحضره الذهن القاصر والفكر المشوش الفاتر بتراكم الهموم وكثرة الغموم وتزايد المحن واخطلاط الفتن واختلال الدول وارتفاع السفل ولعل العود يخضر بعد الذبول ويقطع النجم بعد الافول او يبسم الدهر بعد كشارة أنيابه أو يلحظنا من نظره المتغابي في أيابه ... زمن كاحلام تقضى بعده ... زمن نعلل فيه بالأحلام ...
ولله في خلقه من قديم الزمان عادة وانتظار الفرج عبادة نسأله انقشاع المصائب وحسن العواقب
ومات سلطان الزمان السلطان مصطفى بن احمد خان تولى السلطنة في سنة 1171 فكانت مدة سلطنته ست عشرة سنة وكانت له عناية ومعرفة بالعلوم الرياضية والنجومية ويكرم أرباب المعارف
وكان يراسل المرحوم الوالد والشيخ أحمد الدمنهوري ويهاديهما ويرسل اليهما الصلات والكتب وأرسل مرة الى الشيخ الوالد ثلاثة كتب مكلفة من خزانته وهي كتاب القهستاني الكبير وفتاوى انقروي ونور العين في اصلاح جامع الفصولين كلاهما في الفقه الحنفي وله مؤلف في الفن دقيق ينسب اليه
وتولى بعده السطان عبد الحميد خان جعل الله ايامه سعيدة
ومات الامير علي بك الشهير بالطنطاوي وهو من مماليك عي بك المذكور وكان من الشجعان المعروفين والفرسان المشهورين ولم ينافق على سيده مع المنافقين ولم يمرق مع المارقين ولم يزل مع مخدومه فيما وجهه اليه حتى قتل بالصالحية بين يديه
ومات الرئيس المبجل الامير اسماعيل افندي الروزنامجي رئيس الكتبة بمصر وكان انسانا حسنا منور الوجه والشيبة ضابطا محررا خيرا أصيب بوجع عينيه فوعده الحاج سليمان الحكاك بشيء من الكحل وأودعه في ورقه وضعها في طي عمامته وكان بها ورقة أخرى فيها شيء من السليماني لم يتذكرها وهو أبيض والكحل أيضا ابيض فلما حضر عندما خرج الورقة التي بها السليماني من عمامته وأعطاها له وأمره أن يكتحل منها وقت النوم يظنها إنها ورقة الكحل ثم انصرف الى داره
فلما نزع عمامته وقتا النوم رأى ورقة الكحل وتذكر عند ذلك الاخرى فلم يمكنه الذهاب والتدارك ليلا لبعد المكان وفوات الوقت والمسكين صلى العشاء واكتحل من الورقة فزال بصره في الحال واستمر مكفوفا الى ان مات سحر ليلة الاحد سادس عشر ذي الحجة من آخر السنة وصلي عليه من الغد بسبيل المؤمنين ودفن بقبره الذي أعده لنفسه بالقرب من بن أبي جمرة عوضه الله الجنة
ومات الرجل الصالح الامير مراد أغا تابع قيطاس بك القطامشي وكان منجمعا عن الناس راضيا بحاله قانعا بمعيشته ملازما على حضور الجماعة والصلوات في المسجد
توفي يوم الاربعاء سابع عشرين شوال وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن بالقرافة عند الطحاوي
ومات الامير حسن كتخدا مستحفظان القازدغلي الملقب بقرا وكان من الامراء الكبار أصحاب الحل والعقد بمصر في الزمن السابق وانقطع في بيته عن المقارشة والتداخل في الامور وكان مريضا بمرض الاكلة في فمه ولذلك تركه علي بك واهمله حتى مات يوم الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة من السنة عن ذلك المرض وورم في رجليه أيضا ودفن في يومه ذلك بالقرافة
ومات أيضا مصطفى أفندي الاشقر كاتب ديوان علي بك خنقه خليل باشا بالقلعة في سابع عشرين جمادى الاولى بموجب مرسوم من الدولة حضر بطلب رأسه ورأس عبدالله كتخذا ونعمان أفندي ومرتضي أغا فوجد محمد بك امضى الامر في عبد الله كتخدا وقطع رأسه في منزله بيد عبد الرحمن أغا ونعمان افندي ذهب الى الحجاز اثر موت علي بك وكذلك مرتضى أغا اختفى وتغيب وذهب من مصر ولم يعلم له مكان واستمر المترجم فطلبه الباشا فلما حضر اليه أمر بخنقه فخنقوه وسلخوا رأسه ودفنوه بالقرافة وأخذ موجوداته الباشا الى الميرى
ومات الاجل المبجل المجيد الضابط الماهر اسمعيل بن عبد الرحمن الرومي الاصل ثم المصري المكتب الملقب بالوهبي شيخ الخطاطين بمصر كتب الخط وجوده على شيخ عصره السيد محمد النورى وبرع واجتهد واشتغل قليلا بالعلم وكتب بيده المصاحف مرارا
واما نسخ الدلائل والاحزاب والاوراد السبعة فمما لا يحصى كثرة وكان انسانا حسنا بشوشا محبا للناس فيه مكارم الاخلاق وطيب النفس كتب عليه غالب من بمصر من أهل الكتابة وكان صاحب نقش وهمة عالية
وكان يلي منصب سيده في الخدمة العسكرية وكتب عدة ألواح كبار وتوجه بها باشارة بعض امراء مصر الى المدينة المنورة
فعلقها في المواجهة الشريفة بيده ونال بهذه الزيارة الشريفة والخدمة المنيفة سرورا وشرفا
ولما كانت سنة أتى الامر من صاحب الدولة بتوجيه بعض عساكر مصرية تقوية للمجهادين فكان هو من جملة المعينين فيهم رئيسا في طائفتهم فتوجه الى الاسكندرية وركب منها الى الروم وابلى في تلك السفرة بلاء حسنا
وبعد مدة اذن لهم بالانصراف فعاد الى مصر وقد وهنت قواه واعترته الامراض وزاد شكواه وهو مع ذلك يكتب ويفيد ويجيز ويعيد ويحضر مجالس أهل الخط على عادته
وجلس ملازما لفراشه مدة حتى وافاه الحمام ليلة الاحد سادس عشر ذي الحجة فجهز وصلى عليه بمشهد حافل في مصلى المؤمنين ودفن عند ابن أبي جمرة قرب العياشي في قبر كان أعده لنفسه منذ مدة ولم يخلف بعده مثله رحمه الله
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة