من طرف كراكيب الثلاثاء 3 يوليو 2018 - 9:19
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة التاريخ
عجائب الآثار
الجزء الأول
{ الفصل الثاني }
في ذكر حوادث مصر وولاتها واعيانها ووفيات
من طاعون 1228 وحتى ختام الجزء الأول
{ احداث شهر المحرم سنة 1231 }
واستهلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين والف
استهل شهر المحرم بيوم السبت وحاكم مصر وصاحبها واقطاعها وثغورها وكذلك بندر جدة ومكة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولاظ محمد الذي هو كتخدا بك قائمقامه هو المتصدر لاجراء الاحكام بين الناس عن امر مخدومه وابراهيم اغا اغات الباب والدفتردار محمد افندي صهر الباشا ولروزنامجي مصطفى افندي تابع محمد افندي باش جاكرت سابقا وغيطاس افندي سرجي وسليمان افندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه احمد افندي باش زعيم مصر وهو الوالي واغات التبديل احمد اغا وهو اخو حسن اغا قلفة وصالح بك السلحدار وحسن اغا اغات الينكجرية وعلي اغا الشعراوي المذكور وكاتب الخزينة ولي خوجة ورئيس كتبة الاقباط المعلم غالي واولاده الباشا ابراهيم باشا حاكم الصعيد وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز واسمعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا ايضا على ابنته بالجيزة احمد اغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الاقاليم واكابر اعيانهم مثل دبوس اوغلي وحسن اغا سرششمة وحجو بك ومحو بك وخلافهم
وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وامر بحبسه وكذلك اخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان وذلك عن امر مخدومه من الاسكندرية لانه حول عليه الطلب بستة الاف كيس تأخر اداؤها اياه من حسابه القديم فاعتذر بعدم القدرة على ادائها في الحين لانها بواقي على اربابها وهو ساع في تحصيلها ويطلب المهلة الى رجوع الباشا من غيبته فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره الى الباشا وانتبذ طائفة من الاقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه انه اذا حوسب يظهر عليه ثلاثون الف كيس فقال لهم وان لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به الى الخزينة فأجابوه الى ذلك فأرسل يعرف الباشا بذلك فورد الامر بالقبض عليه وعلى اخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة اولا ثم حسابه بعد ذلك فأحضر المرافعين عليه وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البتنوني وحنا الطويل والبسهم خلعا على رياسة الكتاب عوضا عن غالي ومن يليه واستمر غالي في الحبس ثم احضره مع اخيه وخازنداره فضربوا اخاه امامه ثم امر بضربه فقال وانا ضرب ايضا قال نعم ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج ورفع وكرر عليه الضرب وضرب سمعان الف كرباج حتى اشرف على الهلاك ووجدوا في جيبه الف شخص بندقي ومائتي محبوب عنها اثنان وعشرون الف قرش ثم بعد ايام افرجوا عن اخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن اخيه العقاب لئلا يموتا
وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من الاسكندرية واول ما بادا به اخراج العساكر مع كبرائهم الى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية واخذوا صحبتهم مدافع وبارودا والات الحرب واستمر خروجهم في كل يوم وذلك من مكايده معهم وابعادهم عن جزاء فعلتهم التقدمه فخرجوا ارسالا
{ أحداث شهر صفر سنة 1231 }
واستهل شهر صفر الخير وفيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي واخذه من الحبس الى داره والعساكر مستمرون في التشهيل والخروج وهم لايعلمون المراد بهم وكثرت الروايات والاخبار والايهامات والظنون ومعنى الشعر في بطن الشاعر
{ أحداث شهر ربيع الاول سنة 1231 }
واستهل شهر ربيع الاول وفيه سافر طوسون باشا واخوه اسمعيل باشا الى ناحية رشيد ونصبوا عرضيهما عند الحماد وناحية ابي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل حسن اغا زجنلي ومحو بك وصارى جلة وحجو بك جهة البحيرة وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه اخراج حتى اولاده العزاز للمحافظة وكذلك الكثير من كبرائهم الى جهة البحر الشرقي ودمياط
وفي ثاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري احضروا خلعة والبسوها له على منصب نقابة الاشراف عوضا عن السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى ان يقلده اياه فاعتذر السيد محمد المحروقي واستعفى وقال انا متقيد بخدمة افندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز فقال قد قلدتك اياها فأعطها لمن شئت فذكر انها كانت مضافة للشيخ البكري وهو اولى من غيره فلما حضروا وتكاملوا لبسوه الخلعة واستصوب الجماعة ذلك وانصرفوا وفي الحال كتب فرمان بإخراج الدواخلي منفيا الى قرية دسوق فنزل اليه السيد احمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان فدخلوا اليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشئ مما جرى فخرج اليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه واجاب بالطاعة وامروه بالركوب فركب بغلته وسارا به الى بولاق الى المنزل الذي كان شراه بعد موت ولده والشيخ سالم الشرقاوي وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين وتفرق الجمع الذي كان حوله وشرع الاشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله وان ذلك بترجيهم والتماسهم عزله ونفيه ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الاشراف بدار السلطنة لان الذي يكون نقيبا بمصر نيابة عنه ويرسل اليه الهدية في كل سنة فالذي نقموه عليه من الذنوب انه تطاول على حسين افندي شيخ رواق الترك وسبه وحبسه من غير جرم وذلك انه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفرانسة فلما اقبضه الثمن اعطاه بدلها قروشا بدون الفرط الذي بين المعاملتين فتوقف السيد حسين وقال اما تعطيني العين التي وقع عليها الانفصال او تكمل فرط النقص وتشاحا وادى ذلك الى سبه وحبسه وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الاتراك بالازهر وهذه القضية سابقة على حادثة نفيه بنحو سنتين
ومنها ايضا انه تطاول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت اليه وهي ان امرأة وقفت وقفا في مرض موتها وافتى بصحة الوقت على قول ضعيف فسبه في ملا من الجميع واراد ضربه ونزع عمامته من اعلى رأسه
ومنها ايضا انه يعارض القاضي في احكامه وينقص محاصيله ويكتب في بيته وثائق قضايا صلحا ويسب اتباع القاضي ورسل المحكمة ويعارض شيخ الجامع الازهر في اموره ونحو ذلك وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم وارسلوا الى اسلامبول على ان جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة بل ولا علم له بها ولا التفات وانما هي اشياء وراء ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها وذلك ان الباشا يحب الشوكة ونفوذ اوامره في كل مرام ولايصطفى ويحب الا من لايعارضه ولو في جزئية او يفتح له بابا يهب منه ريح الدراهم والدنانيراويدله على ما فيه كسب او ربح من أي طريق او سبب من أي ملة كان ولما حصلت واقعة قيام العسكر في اواخر السنة الماضية واقام الباشا بالقلعة يدبر امره فيهم والزم اعيان المتظاهرين الطلوع اليه في كل ليلة واجل المتعممين الدواخلي لكونه معدودا في العلماء ونقيبا على الاشراف وهي رتبة الوالي عند العثمانيين فداخله الغرور وظن ان الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والندور ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم اثمانها ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من اكياس المال ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة فلما رأى اقبال الباشا عليه زاد طمعه في الأسترسال معه فقال له الله يحفظ افندينا وينصره على اعدائه والمخالفين له ونرجوا من احسانه بعد هدؤوسر وسكون هذه الفتنة ان ينعم علينا ويجرينا على عوائدنا في الحمايات والمسامحات في خصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق فأجابه بقوله نعم يكون ذلك ولابد من الراحة لكم ولكافة الناس فدعا له وآنس فؤاده وقال الله تعالى يحفظ افندينا وينصره على اعدائه كذلك يكون تمام ما اشرتم به من الراحة لكافة الناس الافراج عن الرزق الاحباسية على المساجد والفقراء فقال نعم ووعده مواعيدة العرقوبية فكان الدواخلي اذا نزل من القلعة الى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من امثال هذا الكلام ويذيعه في الناس ولما امر الباشا الكتاب بتحرير حساب الملتزمين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دائرة الباشا واكابر العسكر وذلك بالقعلة تطييبا لخواطرهم وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوائم مصروفهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك فلما راى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا وانا الفقير محسوبكم من رجال الدائرة فقال نعم وحرروا قوائمه مع الاكابر واكابر الدولة وانعم عليه الباشا بأكياس ايضا كثيرة زيادة على ذلك فلما راق الحال ورتب الباشا اموره مع العسكر اخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله انتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس واخذ يتطاول على كتبة الاقباط بسبب امور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها وعذرهم يخفي عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم ويقول لبعضهم اما اعتبر ثم بما حصل للعين غالي فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك امور مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه واتفق انه لما حضر ابراهيم باشا من الجهة القبلية وكان بصحبته احمد جلبي ابن ذي الفقار كتخدا الفلاح وكأنه كان كتخداه بالصعيد وتشكت الناس من افاعله واغوائه ابراهيم باشا فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي وحضر قبل ذلك اليه للسلام عليه وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على افعاله بالقول الخشن في ملا من الناس فذهب الى الباشا وبالغ في الشكوى ويقول فيها انا نصحت في خدمة افندينا جهدي واظهرت من المخبات ما عجز عنه غيري فأجازي عليه من هذا الشيخ ما اسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملا واذا كان محبا لافندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته وامثال ذلك مما يخفي عنا خبره فمثل هذه الامور هي التي اوغرت صدر الباشا على الدواخلي مع انها في الحقيقة ليست خلافا عند من فيه قابلية للخير وانا اقول ان الذي وقع لهذا الدواخلي انما هو قصاص وجزاء فعله في السيد عمر مكرم فإنه كان من اكبر الساعين عليه الى ان عزلوه واخرجوه من مصر والجزاء من جنس العمل كما قيل
فقل للشامتين بنا افيقوا ● سيلقى الشامتون كما لقينا
ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي اظهر الكثير من نظرائه المتفقهين الشماتة والفرح وعملوا ولائم وعزائم ومضاحكات كما قيل
امور تضحك السفهاء منها ● ويبكي من عواقبها اللبيب
وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس وانهمكوا في الامور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية ومشاركة الجهال في الماثم والمسارعة الى الولائم في الافراح والمآتم يتكالبون على اسمطة كالبهائم فتراهم في كل دعوة ذاهبين وعلى الخوانات راكعين وللكباب والمحمرات خاطفين وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين
وفي اواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي افندي ويقال له ولي جحا وهو كاتب الخزينة العامرة وهو من طائفة الارنؤد واختص به الباشا واستأمنه على الامور وضم اليه دفاتر الايراد من جميع وجوه جبايات الاموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين وانشا دارا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب وادخل فيها عدة بيوت بجانبها على نسق واصطلاح الابنية الافرنجية والرومية وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها نحو السنتين ولما كملت وتمت احضروا القاضي والمشايخ وعقدوا لولديه على ابنتين من اقارب الباشا بحضرة الاعيان ومن ذكر واحتفلوا بعمل المهم احتفالا زائدا وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم كما كان في افراح اولاد الباشا واجتمعت الملاعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات واحمال بلور وزينات واجتمع الناس للفرجة وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليال متوالية وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لاباب الحرف كما تقدم في العام الماضي بل ازيد وذلك لان الباشا لم يشاهد افراح اولاده لكونه كان غائبا بالديار الحجازية وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة وعمل له السيد محمد المحروقي الغداء وخرجوا بالزفة اوائل النهار وداروا بها دورة طويلة فلم يمروا بسوق الغورية الا قريب الغروب اواخر النهار
{ أحداث شهر ربيع الثاني سنة 1231 }
واستهل شهر ربيع الثاني
وخروج العساكر الى ناحية بحرى مستمر وافصح الباشا وذكر في كلامه في مجالسه وبين السر في اخراجهم من المدينة بأن العساكر قد كثروا وفي اقامتهم بالبلدة مع كثرتهم ضرر وافساد وضيق على الرعية مع عدم الحاجة اليهم داخل البلدة والاولى والاحوط ان يكونوا خارجها وحولها مرابطين لحفظ الثغور من طارق على حين غفلة او حادث خارجي وليس لهم الا رواتبهم وعلائفهم تأتيهم في اماكنهم ومراكزهم والسر الخفي اخراج الذين قصدوا غدره وخيانته ووقع بسبب حركتهم ما وقع من النهب والازعاج على اواخر شعبان من السنة الماضية وكان قد بدا باخراج اولاده وخواصه من تحيله واحدا بعد واحد واسر الى اولاده بما في ضميره واصحب مع ولده طوسون باشا شخصا من خواصه يسمى احمد اغا البخورجي المدللي واخذ طوسون باشا في تدبير الايقاع مع من يريد به فبدا بمحو بك وهو اعظمهم واكثرهم جندا فأخذ في تأليف عساكره حتى لم يبق معه الا القليل ثم ارسل في وقت بطلب محو بك عنده في مشروة فذهب اليه احمد اغا المدللي المذكور واسر اليه ما يراد به واشار اليه بعدم الذهاب فركب محو بك في الحال وذهب عند الدلاة فأرسلوا الى مصطفى بك وهو كبير على طائفة من الدلاة وأخو زوجة الباشا وقريبه والى اسمعيل باشا ابن الباشا ليتوسطا في صلح محو بك مع الباشا وليعفوه ويذهب الى بلاده فأرسلا الى الباشا بالخبر وبما نقله احمد اغا المدللي الى محو بك فسفه رأيه في تصديق المقالة وفي هروبه عند الدلاة ثم يقول لولا ان في نفسه خيانة لما فعل ما فعل من التصديق والهروب وكان طوسون باشا لما جرى من احمد اغا ما جرى من نقل الخبر لمحو بك عوقه وارسل الى ابيه يعلمه بذلك فطلبه للحضور اليه بمصر فلما مثل بين يديه وبخه وعزره بالكلام وقال له ترمي الفتن بين اولادي وكبار العسكر ثم امر بقتله فنزلوا به الى با زويلة وقطعوا رأسه هناك وتركوه مرميا طول النهار ثم رفعوه الى داره وعملوا له في صبحها مشهدا ودفنوه
وفيه حضر اسمعيل باشا ومصطفى بك الى مصر
وفي اواخره حضر شخص يسمى سليم كاشف من الاجناد المصرية مرسلا من عند بقاياهم من الامراء واتباعهم الذين رماهم الزمان بكلكله واقصاهم وابعدهم عن اوطانهم واستوطنهم دنقلة من بلاد السودان يتقوتون مما يزرعونه بأيديهم من الدخن وبينهم وبين اقصى الصعيد مسافة طويلة نحو من اربعين يوما وقد طال عليهم الامد ومات اكثرهم ومعظم رؤساهم مثل عثمان بك حسن وسليم اغا واحمد اغا شويكار وغيرهم ممن لاعلم لنا بخبرة اخبارهم لبعد المسافة حتى على اهل منازلهم وبقي ممن لم يمت منهم ابراهيم بك الكبير وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي وعثمان بك يوسف واحمد الالفي زوج عديلة ابنة ابراهيم بك الكبير وعلي بك ايوب وبواقي صفار الامراء والمماليك على ظن خيانتهم وقد كبر سن ابراهيم بك الكبير وعجزت قواه ووهن جسمه فلما طالت عليهم الغربة ارسلوا هذا المرسل بمكاتبة الى الباشا يستعطفونه ويسألون فضله ويرجون مراحمه بأن ينعم عليهم بالامان على نفوسهم ويأذن لهم بالانتقال من دنقلة الى جهة من اراضي مصر يقيمون بها ايضا ويتعيشون فيها بأقل العيش تحت امانه ويدفعون ما يجب عليهم من الخراج الذي يقرره عليهم ولايتعدون مراسمه واوامره فلما حضر وقابل الباشا وتكلم معه وسأله عن حالهم وشأنهم ومن مات ومن لم يمت منهم وهو يخبره خبرهم ثم امره بالانصراف الى محله الذي نزل فيه الى ان يرد عليه الجواب وانعم عليه بخمسة اكياس فأقام اياما حتى كتب له جواب رسالته مضمونه انه أعطاهم الامان على انفسهم بشروط شروطها عليهم ان خالفوا منها شرطا واحد كان امانهم منقوضا وعهدهم منكرثا ويحل بهم ما حل بمن تقدم منهم فأول الشروط انهم اذا عزموا على الانتقال من المحل الذي هم فيه يرسلون امامهم نجابا يخبره بخبرهم وحركتهم وانتقالهم لياتيهم من أعينه لملاقاتهم الثاني اذا حلوا بأرض الصعيد لا يأخذون من اهل النواحي كلفة ولا دجاجة ولا رغيفا واحدا وانما الذي يتعين لملاقاتهم يقوم لهم بما يحتاجون اليه من مؤنة وعليق ومصرف الثالث اني لا اقطعهم شيئا من الاراضي والنواحي ولا اقامة في جهة من جهات اراضي مصر بل ياتون عندي وينزلون على حكمي ولهم ما يليق بكل واحد منهم من المسكن والتعيين والمصرف ومن كان ذا قوة قلدته منصبا او خدمة تليق به او ضمته الى بعض الاكابر من رؤساء العسكر وان كان ضعيفا او هرما اجريت عليه نفقة لنفسه وعياله والرابع انهم اذا حصلوا بمصر على هذه الشروط وطلبوا شيئا من اقطاع او زرقه او قنطرةاو اقل مما كان في تصرفهم في الزمن الماضي او نحو ذلك انتقض معي عهدهم وبطل اماني لهم بمخالفة شرط واحد من هذه الشروط وهي سبعة غاب عن ذهني باقيها فسبحان المعز المذل مقلب الاحوال ومغير الشؤون
فمن العبر انه لما حضر المصريون ودخلوا الى مصر بعد مقتل طاهر باشا وتأمروا وتحكموا فكانت عساكر الاتراك في خدمتهم ومن ارذل طوائفهم وعلائفهم تصرف عليهم من ايدي كتابهم واتباعهم وابراهيم بك هو الامير الكبير وراتب محمد علي باشا هذا من الخبز واللحم والارز والسمن الذي عينه له من كبلاره نعوذ بالله من سوء المنقلب ورجع سليم كاشف المرسل اليهم بالجواب المشتمل على مافيه من الشروط
وفيه امر الباشا بحبس احمد افندي المعايرجي بدار الضرب وحبس ايضا عبد الله بكتاش ناظر الضربخانة واحتج عليهما باختلاسات يختلسانها واستمر اياما حتى برر عليهما نحو السبعمائة كيس وعلى الحاج سالم الجواهرجي وهو الذي يتعاطى ايراد الذهب والفضة الى شغل الضربخانة مثلها ثم اطلق المذكوران ليحصلا ما تقرر عليهما وكذلك اطلق الحاج سالم وشرعوا في التحصيل بالبيع والاستدانة واشتد القهر بالحاج سالم ومات على حين غفلة وقيل انه ابتلع فص الماس وكان عليه ديون باقية من التي استدانها في المرة الاولى والغرامة السابقة
ومن النوادر الغريبة والاتفاقات العجيبة
انه لما مات ابراهيم بك المداد بالضربخانة قبل تاريخه تزوج بزوجته احمد افندي المعايرجي المذكور فلما عوق احمد افندي خافت زوجته المذكورة ان يدهمها امر مثل الختم على الدار او نحو ذلك فجمعت مصاغها وما تخاف عليه مما خف حمله وثقل ثمنه وربطته في صرة واودعتها عند امرأة من معارفها فسطا على بيت تلك المرأة شخص حرامي واخذ تلك الصرة وذهب بها الى دار امرأة من اقاربه بالقرب من جامع مسكة وقال لها احفظي عند هذه الصرة حتى ارجع ونزل الى اسفل الدار فنادته المراة اصبر حتى آتيك بشئ تأكله فقال نعم فإني جيعان وجلس اسفل الدار ينتظر اتيانها له بما يأكله وصادف مجئ زوج المرأة تلك الساعة فوجده فرحب به وهو يعلم بحاله ويكره مجيئه الى داره وطلع الى زوجته فوجد بين يدها تلك الصرة فسألها عنها فأخبرته ان قريبها المذكور اتى بها اليها حتى يعود لاخذها فجسها فوجدها ثقيلة فنزل في الحال ودخل على محمد افندي سليم من اعيان جيران الخطة فأخبره فأحضر محمد افندي انفارا من الجيران ايضا وفيهم الخجا المنسوب الى احمد اغا لاظ المقتول ودخل الجميع الى الدار وذلك الحرامي جالس ومشتغل بالاكل فوكلوا به الخدم واحضروا تلك الصرة وفتحوها فوجدوا بها مصاغا وكيسا بداخله انصاف فضة عددية ذكروا ان عدتها اربعون الفا ولكنها من غير ختم وبدون نقش السكة فأخذوا ذلك وتوجهوا لكتخدا بك وصحبتهم الحرامي فسألوه وهددوه فأقر واخبر عن المكان الذي اختلسها منه فأحضروا صاحبة المكان فقالت هو وديعة عندي لزوجة احمد افندي المعايرجي فثبت لديهم خيانته واختلاسه وسئل احمد افندي فحلف انه لايعلم بشئ من ذلك وان زوجته كانت زوجا لابراهيم المداد فلعل ذلك عندها من ايامه وسئلت هي ايضا عن تحقيق ذلك فقالت الصحيح ان ابراهيم الداد كان اشترى هذه الدراهم من شخص مغربي عندما نهب عسكر المغاربة الضربخانة في وقت حادثة الامراء المصريين وخروجهم من مصر عندما قامت عليهم عسكر الاتراك فلم يزيلوا الشبهة عن احمد افندي بل زادت وكانت هذه النادرة من عجائب الاتفاق فقدروا اثمانها وخصموها من المطلوب منه
وفي يوم الخميس عشرينه حصلت جمعية ببيت البكري وحضر المشايخ وخلافهم وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة وتذاكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور والطمع في اخذ اموال الناس والمحاصيل وذلك ان القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوائد وقوانين قديمة لايتعدونها في ايام الامراء المصريين فلما استولت هؤلاء الاروام على المماليك والقاضي منهم فحش امرهم وزاد طمعهم وابتدعوا بدعا وابتكروا حيلا لسلب اموال الناس والايتام والارامل وكلما ورد قاض ورأى ما ابتكره الذي كان قبله احدث هو الاخر اشياء يمتاز بها عن سلفه عن حتى فحش الامر وتعدى ذلك لقضايا اكابر الدولة وكتخدا بك بل والباشا وصارت ذريعة وامرا محتما لا يحتشمون منه ولايراعون خليلا وكبيرا ولا جليلا وكان المعتاد القديم انه اذا ورد القاضي في اول السنة التوتية التزم بالقسمة بعض المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي وكذلك تقرير الوظائف كانت بالفراغ او المحلول وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية وباب سعادة والخرق وباب الشعرية وباب زويلة وباب الفتوح وطيلون وقناطر السباع وبولاق ومصر القديمة ونحو ذلك وله عوائد واطلاقات وغلال من الميري وليس له غير ذلك الا معلوم الامضاء وهو خمسة انصاف فضة فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثم احضروا شاهدا من المحكمة القريبة منهم فيقضي فيها مايقضيه ويعطونه اجرته وهو يكتب التوثيق او حجة المبايعة او التوريث ويجمع العدة من الاوراق في كل جمعة او شهر ثم يمضيها من القاضي ويدفع له معلوم الامضاء لاغير واما القضايا لمثل العلماء والامراء فبالمسامحة والاكرام وكان القضاة يخشون صولة الفقهاء وقت كونهم يصدعون بالحق ولا يداهنون فيه فلما تغيرت الاحوال وتحكمت الاتراك وقضاتها ابتدعوا بدعا شتى
منها ابطال نواب المحاكم وابطال القضاة الثلاثة خلاف مذهب الحنفي وان تكون جميع الدعاوي بين يديه ويدي نائبه وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب الى كتخداه ليدفع المحصول فيطلب منهم المقادير الخارجة عن المعقول وذلك خلاف الرشوات الخفية والمصالحات السرية واضاف التقرير والقسمة لنفسه ولايلتزم بها احد من الشهود كما كان في السابق واذا دعى بعض الشهود لكتابة توثيق او مبايعة او تركة فلا يذهب إلا بعد ان يأذن له القاضي او يصحبه بجوخدار ليباشر القضية وله نصيب ايضا وزاد طمع هؤلاء الجوخدارية حتى لايرضون بالقليل كما كانوا في اول الامر وتخلف منهم اشخاص بمصر عن مخاديمهم وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب واذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقادر أخرجوا للقاضي العشر من ذلك ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول ثم التجهيز والتكفير والمصرف والديون وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة فيتفق ان الوارث واليتيم لايبقى له شئ ويأخذ من ارباب الديون عشر ديونهم ايضا ويأخذ من محاليل وظائف التقارير معلوم سنتين او ثلاثة وقد كان يصالح عليها بأدنى شئ والا اكراما وابتدع بعضها الفحص عن وظائف القبانية والموازين وطلب تقاريرهم القديمة ومن اين تلقوها وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر وفيها من هو بإسم النساء وليسوا اهلا لذلك وجمع من هذا النوع مقدارا عظيما من المال ثم محاسبات نظار الاوقاف والعزل والتولية فيهم والمصالحات على ذلك وقرر على نصارى الاقباط والاروام قدرا عظيما في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنائس ومما هو زائد الشناعة ايضا انه اذا ادعى مبطل على انسان دعوى لا اصل لها بأن قال ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره كتب المقيد ذلك القول حقا كان او باطلا معقولا او غير معقول ثم يظهر بطلان الدعوى او صحة بعضها فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي وسطره الكاتب يدفعه المدعي عليه للقاضي على دور النصف الواحد او خلاف ما يؤخذ من الخصم الاخر وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجئ لكتخدا بك فحبس على المحصول فأرسل الكتخدا يترجى في اطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى فعند ذلك حنق الكتخدا وارسل من اعوانه من استخرجه من الحبس ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الاعلامات وهو انه اذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا او الباشا ليقضي فيها وقضى فيها لاحد الخصمين طلب المقضي له اعلاما بذلك الى الكتخدا او الباشا يرجع به مع القاصد تقييدا واثباتا فعند ذلك لايكتب له ذلك الاعلام الا بما عسى لا يرضيه الا ان يسلخ من جلده طاقا او طاقين وقد حكمت عليه الصورة وتابع الباشا او الكتخدا ملازم له ويستعجله ويساعد كتخدا القاضي عليه ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم مع ان الفرنساوية الذين كانوا لايتدينون بدين لما قلدوا الشيخ احمد العريشي القضاء بين المسلمين بالمحكمة حددوا له حدا في اخذ المحاصيل لايتعداه بأن يأخذ على المائة اثنين فقط له منها جزء الكتاب جزء فلما زاد الحال وتعد الى اهل الدولة رتبوا هذه الجمعية فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري كتبوا عرضا محضرا ذكروا فيه بعض هذه الاحداثات والتمسوا من ولي الامر رفعها ويرجون من المراحم ان يجري القاضي ويسلك في الناس طريقا من احدى الطرق الثلاث اما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الامراء المصريين واما الطريقة التي كانت في زمن الفرنساوية او الطريقة التي كانت ايام مجئ الوزير وهي الاقرب والاوفق وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الان من الجور وتمموا العرض محضرا واطلعوا عليه الباشا فارسله الى القاضي فامتثل الامر وسجل بالسجل على مضض منه ولم تسعه المخالفة
عجائب الآثار في التراجم والأخبار
المؤلف : عبد الرحمن بن حسن الجبرتي
مجلة نافذة ثقافية ـ البوابة