من طرف كراكيب الجمعة 14 ديسمبر 2018 - 14:40
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرأن
الأمثال في القرآن الكريم
الفصول الثلاثة التالية
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) (244) فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران: أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفه الطير في الهوى فتمزق مزعا (245) في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا ينظر إلى كل فرد من أفراد الشبه ومقابلته من المشبه به.
والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان (246) والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها يهبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي يخطف (247) أعضاءه ويمزقه فقال كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه تؤزه أي أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق (248) هو هواه الذي يحمله القاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. وما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) (249) حقيق كل عبد أن يستمع (250) لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد (251) الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن (252) تقدر على خلق ذباب (253) ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين قد تتلاعب (254) بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يعمد (255) إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل تمتنع عليها القدرة على مخلوقات الآلهة (256) الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه، وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: (ضعف الطالب والمطلوب) قيل: الطالب العابد والمطلوب المعبود (257) فهو عاجز متعلق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز وعلى هذا (258) فالطالب الإله الباطل والمطلوب الذباب يطلب منه ما استنقذه (259) منه، وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة (260) فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع فضعف العابد والمعبود والمستلب والمستلب (261) فمن جعل هذا الآلهة مع القوي العزيز، فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته (262)
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون) (263).
فتضمن هذا المثل ناعقا أي مصوتا بالغنم وغيرها ومنعوقا ثنا به (264) وهو الدواب فقيل: الناعق العابد وهو الداعي للصنم والصنم هو المنعوق به المدعو وإن حال الكافر في دعائه كحال من ينعق بما لا يسمعه هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره (265) واستشكل صاحب الكشاف (266) وجماعة معه هذا القول وقالوا: (قوله إلا دعاء ونداء) لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء (267)، وقد أجيب عن هذا الاشكال (268) بثلاثة أجوبة:
أحدها أن زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء قالوا وقد ذكر الأصمعي في قول الشاعر: (269) (جراجيج به لا تنفعك إلا مناخة). أي متنفك مناخة، وهذا جواب فاسد فإن (إلا) لا تزاد في الكلام.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصات المدعو
الجواب الثالث: أن المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم هذا كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع بنعقته (270) ثم شيئا غير أنه في (271) دعاء ونداء وكذا (272) المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء، وقيل: المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت، فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها (273) قال سيبويه (274): المعنى.
ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به) وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم (275) كمثل الغنم والناعق بها ذلك أن تجعل هذا من التشبيه المركب وأن تجعله من التشبيه المفرق، فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم (276) وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء وإن جعلته من التشبيه المفرق فالذين كفروا بمنزلة البهائم ودعاؤهم إلى الطريق (277) والهدى بمنزلة النعيق وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق والله أعلم.
__________
(244) الحج: 30، 31 انظر تفسير الكشاف 3 / 12.
(245) في ع (فتقذمزقا) في م (فتمزق مزقا).
(246) انظر معارج القبول للشيخ الحكمى والعقيدة الطحاوية للامام الطحاوي ودعوة التوحيد والادوار التى بها د.
خليل هراس طبعتنا.
(247) في ع (والطير التى تتخظف).
(248) سحيق (بعيد الاغوار) ترتيب قاموس المحيط 2 / 530.
(249) الحج، 73: 74 انظر تفسير الزمخشري 2 / 530.
(250) في م، ع (يستمع قلبه).
(251) في م، ع (مواد) والشرك الضلال والغى والتمادى به ترتيب القاموس المحيط 2 / 704.
(252) في ع (لا تقدر).
(253) في ع (الذباب).
(254) في ع، م (أن الشيطان قد تلاعب بهم) والشيطان كل عات متمرد من أنس وجن أو دابه 2 / 304 تريب القاموس المحيط.
(255) في م، ع (وأن يصمد).
(256) في ع (يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الاله الحق) وفى م (أفل مخلوقات الاله).
(257) زاد المسير 5 / 452 والبغوى والخازن 5 / 38.
(258) في م، ع (فقيل الطالب).
(259) في م (ما استلبه منه).
(260) تفسير الطبري 17 / 203.
(261) مذيره في م، ع.
(262) في ع، م (تعظيمه).
(263) سوره البقرة: 171 انظر الزمخشري 3 / 328.
(264) في ع (ومنعوقا).
(265) هو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوى القرشى انظر تهذيب التهذيب 6 / 179.
(266) راجع كشف الظنون 2 / 1475.
(267) تفسير الكشاف 1 / 250.
(268) في ع (الاستشكال).
(269) ديوان ذى الرمة 3 / 1419 وانظر الموشح: 182 وتمام البيت (على الخسف أو نرمى بها بلدا قفرا).
(270) في م (من نعيقه بشئ) وفى ع (من نعقه بغنمه).
(271) في م (انه هو في).
(272) في م (وكذلك).
(273) انظر امالي المرتصى: 1 / 215 - 218.
(274) صاحب كتاب اللغه المشهور 1 / 108، 109 (والنص أنما المعنى مثلكم).
(275) في ع (ودعائهم).
(276) في ع (تفقههم).
(277) كلمة (الطريق) غير موجودة في م.
كتاب : الأمثال في القرآن الكريم
المؤلف : محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية
منتدى بنات بنوتات . البوابة