من طرف كراكيب الجمعة 14 ديسمبر 2018 - 14:43
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة علوم القرأن
الأمثال في القرآن الكريم
الفصول الأربعة التالية
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم) (278) شبه سبحانه نفقة المنفق في سبيله سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سبل الخير من كل بر بمن بذر بذرا فأنبتت كل حبة سبع سنابل اشتملت كل سنبلة على مائة حبة والله يضاعف (279) بحسب حال المنفق وإيمانه وإخلاصه واحسانه ونفع نفقته وقدرها ووقوعها موقعها فان ثواب الانفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الايمان والاخلاص (والتثبت) (280) عند النفقة وهو اخراج المال بقلب ثابت قد انشرح صدره باخراجه وسمحت به نفسه وخرج من قلبه قبل خروجه من يده فهو ثابت القلب عند اخراجه غير جزع ولا هلع ولا متبعه نفسه ترجف يده وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه بمواقعه وبحسب طيب المنفق وذكائه (281) وتحت هذا المثل من الفقه: أنه سبحانه شبه الانفاق بالبذر فالمنفق ماله الطيب لله لا لغيره باذر ماله في أرض زكية فمغلة بحسب بذرة وطيب أرضه وتعاهد البذر بالسقي ونفي الدغل (282) والنبات الغريب عنه فإذا اجتمعت هذه الأمور ولم تحرق الزرع نار ولا لحقته جائحة (283) جاء أمثال الجبال وكان مثله كمثل حبة بربوة وهي المكان فيه نصب (284) الشمس والرياح فتربى (285) الأشجار هناك أتم تربية فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر متتابع فرواها ونماها فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه غيرها بسبب ذلك الوابل وإن لم يصبها وابل (286) فطل مطر صغير القطر (287) يكفيها لكرم منبتها تزكو على الطل وتنمي عليه مع أن في ذكر نوعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل فمن الناس من يكون إنفاقه وابلا ومنهم من يكون إنفاقه طلا والله لا يضيع مثقال ذرة فإن عرض لهذا (288) العامل ما يفرق أعماله ويبطل (289) بها حسناته كان بمنزلة رجل له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد (290) العامل عمله قد أصابه ما أصاب صاحب هذه الجنة فحسرته حينئذ أشد من حسرة هذا على جنته فهذا مثل ضربه الله سبحانه في الحسرة لسلب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عظم قدرها ومنفعتها والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبر والضعف فهو أحوج ما كان إلى نعمته ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه بل هم في عياله فحاجته إلى نعمته حينئذ أشد ما كانت لضعفه وضعف ذريته فكيف يكون حال هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر وسلطان ثمره أجل الفواكه وأنفعها وهو ثمر النخيل والأعناب فنخله (291) يقوم بكفايته وكفاية ذريته فأصبح يوما وقد وجده محترقا كله كالصريم فأي حسرة أعظم من حسرته، قال ابن عباس: (292) هذا مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره، وقال مجاهد (293): هذا مثل المفرط في طاعة الله حتى يموت)، وقال السري (294): هذا مثل للمرائي في نفقته الذي ينفق لغير الله ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليها، وسأل عمر بن الخطاب الصحابة رضي الله عنهم يوما عن هذه الآية فقالوا: الله أعلم فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير المؤمنين قال: قل يا ابن أخي ولا تحصر نفسك، قال: (ضرب مثل لعمل)، قال: لأي عمل ؟ قال (لرجل غنى يعمل بالحسنات ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله كلها (295)، وقال الحسن (296): هذا مثل قل والله أعلم من يعقله من الناس شيخ ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا).
● [ فصل ] ●
فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقات ما يبطلها من المن (297) والأذى والرياء فالرياء يمنع انعقادها سببا للثواب والمن والأذى يبطل الثواب الذي كان سببا له فمثل صاحبها وبطلان عمله كمثل (صفوان) وهو الحجر الأملس عليه تراب فأصابه وابل وهو المطر الشديد فتركه صلدا لا شئ عليه وتأمل جزاء هذا المثل البليغ وانطباقها على أجزاء الممثل به تعرف عظمة القرآن وجلالته فإن الحجر في مقابلة قلب هذا المرائي والمان والمؤذي فقلبه في قسوته عن الإيمان والإخلاص (والإحسان) (298) بمنزلة الحجر، والعمل الذي (299) لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر فقوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنبات (300) عند نزول الوابل فليس له مادة متصلة بالذي يقبل الماء وينبت الكلأ وكذلك قلب المرآئي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر فإذا نزل عليه وابل الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير الذي كان عليه فبرز ما تحته حجرا صلدا لا نبات فيه، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لعمل المرآئي ونفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شئ منه أحوج ما كان إليه وبالله التوفيق (301).
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته. وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (302)) هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون (303) به وجه الله وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته واختلف في الصر فقيل: البرد الشديد (304) وقيل: النار (305) قاله ابن عباس، وقال الأنباري (306): وإنما وصفت النار أنها صر لتصريتها عند الالتهاب، وقيل: الصر (307) الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها (308)، والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث كما تحرق النار وفيه صوت شديد وفي قوله: (أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها.
● [ فصل ] ●
ومنها قوله تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) (309) هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد تملكه جماعة (310) مشتركين في خدمته لا يمكنه رضاهم أجمعين، والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد رجل واحد قد سلم له وعلم مقاصده (وعرف الطريق) (311) إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه بل هو سالم لمالكه من غير منازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه وإحسانه إليه وتوليته بمصالحه (312) فهل يستوي هذان العبدان، وهذا منه أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد مستحق (313) من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقه صاحب الشركاء المتشاكسين، (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).
__________
(278) سورة البقرة: 261 وانظر تفسير الكشاف 1 / 393.
(279) في م (يضاعف لمن يشاء فوق ذلك بحسب) وفى ع (لمن يشاء بحسب).
(280) زيادة من م، ع.
(281) في م (زكاته) وفى ع (وزكائه).
(282) الدغل: محركة: دخل في الامر مفسد والشجر الكثير الملتف النبت وكثرته 2 / 190 من ترتيب القاموس المحيط.
(283) منه الجائحه للشده المحتاجة للحال ترتيب القاموس 1 / 552.
(284) (يكون في نصب الشمس) وفى م (تكون الجنة نصب).
(285) في ع (فتتزين).
(286) الوابل (المطر الشديد القاس العاتى).
(287) في الاصل، القدر.
(288) في ع (هذا).
(289) في ع، م (يبطل حسناته).
(290) في ع، م (هذا).
(291) في ع، م (فمغله)
(292) انظر الدر المنثور 10 / 340 والطبري 3 / 76.
(293) انظر الطبري 3 / 75 والدر المنثور 1 / 340 وزاد المسير 1 / 321.
(294) قال السدى هو اسماعيل بن عبد الرحمن توفى سنة 128 ه انظر النجوم الزاهرة 1 / 308 واللباب 1 / 537.
(295) البخاري 3 / 78 والطبري 3 / 76.
(296) انظر تفسير الطبري 3 / 77.
(297) المن: من عليه منا: أي أنعم واصطنع عنده صنيعة ومنحة ومنحه المن.
(298) زيادة في م، ع.
(299) في م، ع (الذى عمله لغير الله).
(300) في م، ع (من النبات والثبات).
(301) يلاحظ ان الاية التالية أذا أضيفت الى الشرح السابق تمم المعنى والمراد.
(302) سورة آل عمران: 116، 117.
(303) في م، ع (يبتغون).
(304) مجاز القرآن 102 والطبري 4 / 59 والبغوى 1 / 408.
(305) انظر لسان العرب مادة (صر) وابن كثير 1 / 397.
(306) هو القاسم بن محمد بن بشار الانباري أبو محمد له اهتمام بالادب والاخبار راجع مفتاح السعادة 1 / 146 وزاد المسير 1 / 445.
(307) انظر تفسير الكشاف 1 / 456، 457.
(308) انظر تفسير القرطبى 34 / 178 وفتح القدير 1 / 374.
(309) سورة الزمر: 29 انظر ابن كثير 2 / 158 والكشاف 3 / 397.
(310) في م (جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون والرجال المتشاكس: الصنيق الخلق).
(311) زيادة من م، ع.
(312) في ع، م (توليد مصالحه).
(313) في ع، م (تستحق).
كتاب : الأمثال في القرآن الكريم
المؤلف : محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية
منتدى بنات بنوتات . البوابة