بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
من وفاة أبي طالب وخديجة إلى سرية عبد الله بن جحش
● [ ذكر وفاة أبي طالب وخديجة ] ●
وعرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على العرب
توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب، فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوماً، وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهلاكهما، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)، وذلك أن قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصي، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخرج ذلك على العود ويقول: أي جوار هذا يا بني عبد مناف ! ثم يلقيه بالطريق.
فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر. فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم، وهم يومئذٍ ساده ثقيف، وهم إخوةٌ ثلاثة: عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمر وبن عمير، فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه، فقال أحدهم: ماردٌ يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال آخر: أما وجد الله من يرسله غيرك ! وقال ثالث: والله لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك، وكره أن يبلغ قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم. فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهو البستان، وهما فيه، ورجع السفهاء عنه، وجلس إلى ظل حبلة وقال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك.
فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عداس فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل، ففعل. فلما وضعه بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وضع يده فيه وقال: بسم الله، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: من أي بلاد أ،ت وما دينك ؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له: وما يدريك ما يونس ؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجليه يقبلها فعاد.
فيقول ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما لك تقبل يديه ورجليه ؟ قال: ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل. قالا: ويحك إن دينك خير من دينه ! ثم انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راجعاً إلى مكة حتى إذا كان في جوف الليل قام قائماً يصلي، فمر به نفرٌ من الجن، وهم سبعة نفر من جن نصيبين، رائحين إلى اليمن فاستمعوا له، فلما فرغ من صلواته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه، فأجاره، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع ؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت. فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، مكة وأقام بها فدخل يوماً المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة. فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف. فقال عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك ؟ فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فأتاهم فقال: أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما حميت لنفسك، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً، وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تكرون وأنتم كارهون، فكان الأمر كذلك.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فأبوا عليه. فأتى كلباً إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فلم يقبلوا ما عرض عليهم. ثم إنه أتى بني حنيفة وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك.
فلما رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي، صلى الله عليه وسلم، ونسبه، وضع يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل من تلاف ؟ والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق، وأين كان رأيكم عنه ! ولم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله. وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من كلامه يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان، إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
● [ ذكر أول عرض رسول الله ] ●
صلى الله عليه وسلم نفسه على الأنصار وإسلامهم
صلى الله عليه وسلم نفسه على الأنصار وإسلامهم
فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بطن من الأوس مكة حاجاً ومعتمراً، وكان يسمى الكامل لجلده وشعره ونسبه، وهو القائل:
ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالسحر إذ كان شاهداً ... وبالغيب مأثورٌ على ثغرة النّحر
يسرّك باديه وتحت أديمه ... نميمة غشّ تبتري عقب الطّهر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... وما جنّ بالبغضاء والنّظر الشّزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري
فتصدى له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قتل يوم بعاث، فكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم.
بعاث بالباء الموحدة المضمومة، والعين المهملة، وهو الصحيح.
وقدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له ؟ ودعاهم إلى الاسم، وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاماً حدثاً: هذا والله خير مما جئنا له. فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء وقال: دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا. فسكت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث إياس أن هلك، فسمعه قومه يهلل الله ويكبره حتى مات، فما يشكون أنه مات مسلماً.
● [ ذكر بيعة العقبة الأولى ] ●
وإسلام سعد بن معاذ
وإسلام سعد بن معاذ
فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وقد كانت يهود معهم ببلادهم، وكان هؤلاء أهل أوثان، فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود: إن نبياً يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود. فقال أولئك النفر بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود، فأجابوه وصدقوه وقالوا له: إن بين قومنا شراً، وعسى الله أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عنه، وكانوا سبعة نفر من الخزرج: أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء، كلاهما من بني النجار، ورافع بن مالك بن عجلان، وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم، كلاهما من بني زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة بن سواد من بني سلمة - سلمة هذا بكسر اللام - ، وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم، وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة.
رياب بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت وبالباء الموحدة.
فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه بيعة النساء، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن عجلان، وذكوان بن عبد قيس من بني زريق، وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج، ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلي حليف لهم، وعباس بن نضلة من بني سالم، وعقبة بن عامر بن نابئ، وقطبة بن عامر بن حديدة، وهؤلاء من الخزرج، وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان، حليف لبني عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة حليف لهم.
فانصرفوا عنه، وبعث، صلى الله عليه وسلم، معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجالٌ ممن أسلم. فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنه لولا أسعد بن زرارة، وهو ابن خالتي، كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا عنا. فقال مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ! فقال: أنصفت ثم جلس إليهما، فكلمة مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجله ! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك وأسلم. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه، وسأرسله إليكما، سعد بن معاذ.
ثم انصرف إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد قال: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فقال له سعد: ما فعلت قال: كلمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأساً، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه. فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه مما ذكر له، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف ما أرد أسيد، فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ! فجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ فقالا له ما قالا لأسيد، فأسلم وتطهر ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
ورجع مصعب إلى منزل أسعد ولم يزل يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من بني أمية ابن زيد ووائل وواقف، فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، ومضت بدر وأحد والخندق وعاد مصعب إلى مكة.
أسيد بضم الهمزة، وفتح السين. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة،وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخره راء.
● [ ذكر بيعة العقبة الثانية ] ●
لما فشا الإسلام في الأنصار اتفق جماعةٌ منهم على المسير إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مستخفين لا يشعر بهم أحد، فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريف بالعقبة.
فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة، وهم سبعون رجلاً، معهم امرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب، وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه، فكان العباس أول من تكلم فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس به، إن محمداً منا حيث قد علمتم في عز ومنعة، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة.
فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب.
فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً، وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن أ؟هرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه.
وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم. وقيل: بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم.
فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة، وقيل: أبو الهيم بن التيهان، وقي: البراء بن معرور. ثم بايع القوم فبايعوا، فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة: يا أهل الجباجب، هل لكم في مذممٍ والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ! ثم قال: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبياً لئن شئت لنميلن غداً على أهل منىً بأسيافنا. فقال: لم نؤمر بذلك، فرجعوا.
فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم. فحلف من هناك من مشركي الأنصار ما كان من هذا شيء.
فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور: يا معشر الخزرج ! قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي. فقالوا له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستقبل الشام، فنحن لا نخالفه، فكان يصلي إلى الكعبة، فلما قدم مكة سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع إلى قبلة رسول الله. فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة، كان قدومهم في ذي الحجة، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول، وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه.
وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهدٌ شديد، وهي الفتنة الآخرة؛ وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة.
وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى، فإن الأولى كانت على بيعة النساء، وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود.
ثم أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فكان أول من قدمها أبو سلمة بن عبد الأسد، وكانت هجرته قبل البيعة بسنة، ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة، ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله، فأغلقت دارهم وتتابع الصحابة، ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة، وكان أخاهما لأمهما، فقالا له: إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط. فرق لها وعاد وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
● [ ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ] ●
لما تتابع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة أقام هو بمكة ينتظر ما يؤمر به من ذلك، وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق. فلما رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وتشاوروا فيها، فدخل معهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل نجد سمعت بخبركم فحضرت وعسى أن لا تعدموا مني رأياً.
وكانوا عتبة وشيبة وأبا سفيان وطعيمة بن عدي وحبيب بن مطعم والحارث بن عامر والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام وربيعة بن الأسود وحكيم بن حزام وأبا جهل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج وأمية بن خلف وغيرهم.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان، وما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأياً، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب الشعراء قبله. فقال النجدي: ما هذا لكم برأي، لو حبستموه يخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم. فقال آخر: نخرجه وننفيه من بلدنا ولا نبالي أين وقع إذا غاب عنا. فقال النجدي: ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه ؟ لو فعلتم ذلك لحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بحلاوة منطقه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم ويأخذ أمركم من أيديكم. فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كل فتى منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ورضوا منا بالعقل. فقال النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره؛ فتفرقوا على ذلك.
فأتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت الليلة على فراشك. فلما كان العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي واتشح ببردي الأخضرى، فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك. وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنةً من تراب فجعله على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من (يس وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ)، إلى قوله: (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يس: 1 - 9. ثم انصرف لم يروه، فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمداً. قال: خيبكم الله، خرج عليكم ولم يترك أحداً منكم إلا جعل على رأسه التراب وانطلق لحاجته ! فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فرأوا التراب وجعلوا ينظرون فيرون علياً نائماً وعليه برد النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إن محمداً لنائمٌ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فعرفوه، وأنزل الله في ذلك: (وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ) الآية الأنفال: 30.
وسأل أولئك الرهط علياً عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أدرين أمرتموه بالخروج فخرج. فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعةً ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأمره بالهجرة، وقام علي يؤدي أمانة النبي، صلى الله عليه وسلم، ويفعل ما أمره.
وقالت عائشة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يخطئه أحد طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً أو عشيةً، حتى كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة فأتانا بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل جلس على السرير وقال: أخرج من عندك. قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك ؟ قال: إن الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ! قال: الصحبة، فبكى أبو بكر من الفرح، فاستأجر عبد الله بن أرقد، من بني الديل بن بكر، وكان مشركاً، يدلهما على الطريق، ولم يعلم بخروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر، فأما علي فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يتخلف عنه حتى يؤدي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الودائع التي كانت عنده ثم يلحقه.
وخرجا من خوخة في بيت أبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلاً، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما مساء، فأقاما في الغار ثلاثاً.
وجعلت قريش مائة ناقةٍ لمن رده عليهم.
وكان عبد الله بن أبي بكر إذا غدا من عندهما اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي. فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيريهما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدهما بالثمن فركبه، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فحلت نطاقها فجعلته عصاماً وعلقت السفرة به، وكان يقال لأسماء ذات النطاقين لذلك.
ثم ركبا وسارا، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق، فساروا ليلتهم ومن الغد إلى الظهر، ورأوا صخرة طويلة، فسوا أبو بكر عندها مكاناً ليقيل فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليستظل بظلها، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحرسه أبو بكر حتى رحلوا بعدما زالت الشمس.
وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ديةً، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال: (ولاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) التوبة: 40، ودعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان. فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص، فعادي تبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب. فدعا له فخلص وقرب من النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله خذ سهماً من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.
فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ قال: كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ها هنا، ولا يلقى أحداً إلا رده.
قالت أسماء بنت أبي بكر: لما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتانا نفرٌ من قريش فيه أبو جهلٍ فوقفوا على باب أبي بكر فقالوا: أين أبوك ؟ قلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قرطي، وكان فاحشاً خبيثاً. ومكثنا ملياً لا ندري أين توجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا يرون شخصه وهو يقول:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أمّ معبد
هما نزلا بالهدي واغتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمّد
ليهنئ بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة.
وقدم بهما دليلهما قباء فنزل على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين كادت الشمس تعتدل، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على كلثوم بن الهدم، أخي بني عمرو بن عوف، وقيل: نزل على سعد بن خيثمة، وكان عزباً، وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لبيته بيت العزاب، والله أعلم.
ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بالسنح، وقيل: نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاجر إلى المدينة، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي علياً. قيل: لا يقدر أن يمشي. فأتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم وتفل في يديه وأمرهما على قدميه، لم يشتكهما بعد حتى قتل. ونزل بالمدينة على امرأة لا زوج لها، فرأى إنساناً يأتيها كل ليلة ويعطيها شيئاً، فاستراب بها، فسألها عنه فقالت: هو سهل بن حنيف، قد علم أني امرأة لا زوج لي فهو يكسر أصنام قومه ويحملها إلي ويقول: احتطبي بهذه. فكان علي يذكر ذلك عن سهل بن حنيف بعد موته.
وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، وقيل: أقام عندهم أكثر من ذلك. والله أعلم. وأدركت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
قال ابن عباس: ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه، فقال أنس وابن عباس، رضي الله عنهما، من رواية أبي سلمة عنه وعائشة: إنه أقام بمكة عشر سنين، ومثلهم قال من التابعين ابن المسيب والحسن وعمرو بن دينار، وقيل: أقام ثلاث عشرة سنة؛ قاله ابن عباس من رواية أبي جمرة وعكرمة أيضاً عنه، ولعل الذي قال أقام عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة، فإنه بقي سنين يسيرة، ومما يقوي هذا القول قول صرمة بن أنس الأنصاري، شعر:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجّةً ... يذكّر لو يلقى صديقاً مواتيا
فهذا يدل على مقامه ثلاث عشرة سنة لأنه قد زاد على عشر سنين، فلو كان خمس عشرة لصح الوزن، وكذلك ست عشرة وسبع عشرة، وحيث لم يستقم الوزن بأن يقول ثلاث عشرة قال بضع عشرة، ولم ينقل في مقام زيادة على عشر سنين إلا ثلاث عشرة وخمس عشرة.
وقد روي عن قتادة قول غريب جداً، وذلك أنه قال: نزل القرآن على النبي: صلى الله عليه وسلم، بمكة ثماني سنين، ولم يوافقه غيره.
● [ ذكر ما كان من الأمور ] ●
أول سنة من الهجرة
أول سنة من الهجرة