من طرف كراكيب الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:16
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
بداية أحداث سنة ست وثلاثين
● [ ثم دخلت سنة ست وثلاثين ] ●
ذكر تفريق عليّ عماله وخلاف معاوية
وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.
فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ أمير المؤمنينعلى الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فحي هلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى. فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيلٌ فقالوا له: من أنت؟ قال: من فالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله. قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا: امض. فمضى حتى دخل مصر. فافترق أهل مصر فرقاً، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على دديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة. وكتب قيس إلى علي بذلك.
وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب، وافترق الناس بها، فاتبعت فرقةٌ القوم، ودخلت فرقةٌ في الجماعة، وقالت فرقة: ننظر ما يصنع أهل المدينة فتصنع كما صنعوا. وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان، فلما لقي عمارة قال له: ارجع، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال، ودخل عبيد الله اليمن.
ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت علياً الأخبار دعا طلحة والزبير فقال: إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت. فقالا له: ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي.
وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه، فلم يجبه معاوية بشيء، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله:
أدم إدامة حصن أو خذا بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجذل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لنا غيرنا مولىً ولا حكما
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية رجلاً من بني عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي: وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه. فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسول لا يقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط رقبتك. وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. قال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً اصابه، اخرج. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر! يا آل قيس! الخيل والنهل! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه، فمنعه مضر، فجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبداً، أتاهم ما يوعدون، لقد حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.
وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة، أيجسر عليه أم ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد تيسر، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
متى تجمع القلب الزكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لتفعلن أو لينقلن عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم.
خرنبا بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، والباء الموحدة، وآخره ألف.
● [ ذكر ابتداء وقعة الجمل ] ●
فبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف، فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني. عنهم.
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة، فسره ذلك وقال: إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم، ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته.
فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، وتهيأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلاً النخعي، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم، وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني كفيلاً. قال: لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيراً وكبيراً لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون: والله ما ندري كيف نصنع، إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي، وهي زوجة عمر، بالذي سمع، وأنه يخرج معتمراً مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض. فأصبح علي فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية. قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلاباً وماج الناس. فسمعت أم كلثوم فأتت علياً فأخبرته الخبر، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، والله إنه عندي ثقة. فانصرفوا.
وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها، وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة. فلما كانت بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، وهو ابن أم كلاب، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإ ... يزيل الشبا ويقيم الصغر
ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام، والله لإصبعٌ من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء، أي يغسل.
فقال عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب! فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم، وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أمية، وهو ابن منية، من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب وفارقنا قومماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً ولا يمنعون أنفسهم. فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي به بها صنائع ولهم في طلحة هوىً. قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جواباً مقبولاً، فاستقام الرأي على البصرة، وقالوا لها: نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلداً مضيعاً سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فابى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. فتركوه.
وكان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر. وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى مناديها: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف، وقيل: في تسعمائة من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل. وبعثت أم الفضل بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رجلاً من جهينة يدعى ظفراً فاستأجرته على أن يأتي علياً بالخبر، فقدم على علي بكتابها.
وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها وأذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه الزبير. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه طلحة. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي، تعني عبد الله بن الزبير. وقيل: بلى صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل، فكان معاذ ابن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.
وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله ابن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان.
وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة.
قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحدٌ إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت: هذا ماء الحواب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة، فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به. فأرسلته فاندس إلى البصرة، فأتى القوم، وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثل يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترةٍ ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت: (لا خير في كثيرٍ من نجواهم) النساء: 114 الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه.
فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع علياً؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل علياً البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل، فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال:
يا ابن حنيفٍ قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئماً وشمر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف. فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً. قال: فأشر علي يا عمران. قال: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلاً دسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين، فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً فكسره ذلك.
فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك الزبير. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا علياً ثم جاءا يقولان، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا.
فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترةٍ ولا عذر، ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) آل عمران: 23 الآية؛ فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يازبير فحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدك وأرى أمكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف
غرضاً يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والأسياف
هكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا امخبر عنهم والكافي
وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليسمك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق. فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبه؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة الأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضاً، فقالت له: ألأم المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها. ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين. فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتاباً بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم. فلما قدمها اجتمع الناس إليه، وكان يوم جمعة، فقام وقال: يا أهل المدينة، أنا رسول أهل البصرة، نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال: إنهما بايعا وهما مكرهان. فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا: اللهم نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ علياً الخبر، فكتب إلى عثمان يعجزه وقال: والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا.
فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلاً، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما. فلما وصل إليهما توطؤوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله.
وقيل: لما أخذ عثمان أرسله إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالت لهم: احبسوه. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي.
فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.
وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.
فوقفوا عنه، فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظروا وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة، إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي، فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيها الرجل أنصت حتى نتكلم. فأنصت. فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا، ثم أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو علم بغير الحق أو أتى شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل، فمنعته عشيرته، فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منهم سبعين. وبقي طلحة والزبير بعد أخذ عثمان بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس والناس، ومن لم يكن معهما استتر.
وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره! فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يرزقه أصحابه، فقال له عبد الله: ما لك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، وايم الله لو أجد أعواناً عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلهم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان. قال: فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان، أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع علياً. فقال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف. وتقدم فقاتلهم. فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحداً! فاقتتلوا قتالاً شديداً، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلثمائة، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس
من الحياة آيس ... في الغرفات نافس
فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال:
يا ساقي لن تراعي ... إن معي ذراعي
احمي بها كراعي
وقال أيضاً:
ليس علي أن أموت عار ... والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار
فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على آخر، فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت. قال: من قتلك؟ قال: وسادتي. فاحتمله وضمه في سبعين من أصحابه، وتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل واحدة، وإن السيوف لتأخذهم وما يتتعتع ويقول: إنا خلفنا هذين، وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان، ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجوار، اللهم إنهما لم يريدا عثمان! فناداه منادٍ: يا خبيث! جزعت حين عضك نكال الله إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم من الجماعة وأصبتم من الدماء، فذق وبال الله وانتقامه. وقتلوا وقتل معهم، قتله يزيد بن الأسحم الحداني، فوجد حكيم قتيلاً بين يزيد وأخيه كعب.
وقيل: قتله رجل يقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم: أما إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله، فقصد علياً. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجأوا إلى قومهم، فنادى منادي طلحة والزبير: من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير، فإن عشيرته بني سعد منعوه، وكان منهم، فنالهم من ذلك أمر شديد، وضربوا فيه أجلاً وخشنوا صدور بني سعد، وكانوا عثمانية، فاعتزلوا، وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم الطاعة لعلي، فأمر طلحة والزبير للناس بأعطياتهم وأرزاقهم وفضلا أهل السمع والطاعة، فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين منعوهم الفضول فبادروهم إلى بيت المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرجوا حتى نزلوا على طريق علي. وأقام طلحة والزبير وليس معهما ثأر إلا حرقوص بن زهير، وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً، وسيرت الكتب.
وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وبايع أهل البصرة طلحة والزبير، فلما بايعوهما قال الزبير: ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله بياتاً أو صباحاً قبل أن يصل إلينا! فلم يجبه أحد، فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويلك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! وقال علقمة بن وقاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على صدره، فقلت: يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على صدرك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً، إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: فقلت: فرد ابنك محمداً فإن لك ضيعة وعيالاً، فإن يك شيء يخلفك. قال: فامنعه. قال: فأتيت محمداً ابنه فقلت له: لو أقمت فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته. قال: ما أحب أن أسأل عنه الركبان.
يعلى بن منية بضم الميم، وسكون النون، والياء المعجمة باثنتين من تحتها، وهي أمه، واسم أبيه أمية. عبد الله بن خالد بن أسيد. جارية ابن قدامة بالجيم. حكيم بن جبلة بضم الحاء، وفتح الكاف، وقيل بفتح الحاء، وكسر الكاف. وصوحان بضم الصاد، وآخره نون.
● [ ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعة ] ●
قد ذكرنا فيما تقدم تجهز علي إلى الشام، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فتثاقلوا، فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له: من تثاقل عنك فإنا نخف معك فنقاتل دونك. وقام رجلان صالحان من أعلام الأنصار، أحدهما أبو الهيثم ابن التيهان، وهو بدري، والثاني خزيمة بن ثابت، وقيل: هو ذو الشهادتين، وقال الحكم: ليس بذي الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيام عثمان، فأجابه إلى نصرته.
قال الشعبي: ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع. وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لخير يعملونه إلا وعلي أحدهم، قيل: وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلدني هذا السيف وقد أغمدته زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشاً، وقد أحببت أن تقدمني فقدمني. وقالت أم سلمة: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابن عمي، وهو والله أعز علي من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك. فخرج معه وهو لم يزل معه، واستعمله علي على البحرين ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. فلما أراد علي المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما، فلما سار استخلف على المدينة تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبيته التي تعباها لأه الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد شمس:
لا هم فاعقر بعلي جمله ... ولا تبارك في بعيرٍ حمله
ألا علي بن عدي ليس له
وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج أو يأخذهم، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها، فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً! فسبوه. فقال: دعوا الرجل من أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم.
وسار حتى انتهى إلى الربذة، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم، فأقام بها يأتمر ما يفعل، وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له: لقد أمرتك فعصيتني فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك. فقال له علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر فإنهم لن يقطعوا أمراً دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
فقال: أي بني! أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، ولقد مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته، ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهماً من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى تخرج! وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكف عنك يا بني.
ولما قدم علي الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً. فمضيا وبقي علي بالربذة يتهيأ، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله تبارك وتعالى أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخواناً بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة! ألا إن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن؛ ثم عاد ثانية وقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم واهدوا بهديي فإنه هدي نبيكم واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه، وارضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً وبالقرآن حكماً وإماماً.
فلما أراد المسير من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفعاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه. قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. قال: فنعم إذاً. وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقوم؛ وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ... فانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن كرهت الموت
والله لننصرن الله كما سمانا أنصاراً! ثم أتاه جمعة من طيء وهو بالربذة، فقيل لعلي: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك. قال: جزى الله كليهما خيراً وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. فقال: جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى من لحق لك ما لا أرها لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال: رحمك الله! قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. فقتل معه بصفين.