بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم مكتبة الفقه الإسلامي القواعد النورانية الفقهية لأحمد بن تيمية ● [ القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها ] ●
القاعدة الثانية في المعاقد حلالها وحرامها والأصل في ذلك أن الله حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل و ذم الأحبار و الرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل و ذم اليهود على أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل و هذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات و التبرعات و ما يؤخذ بغير رضا المستحق و الاستحقاق و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان ذكرهما الله في كتابه هما الربا و الميسر فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر سورة البقرة و سور آل عمران و الروم و المدثر و ذم اليهود عليه في سورة النساء و ذكر تحريم الميسر في المائدة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما جمعه الله في كتابه فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر كما رواه مسلم و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه و الغرر هو المجهول العاقبة فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار و ذلك أن العبد إذا أبق أو الفرس أو البعير إذا شرد فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير فإن حصل له قال البائع قمرتني و أخذت مالي بثمن قليل و إن لم يحصل قال المشتري قمرتني و أخذت الثمن مني بلا عوض فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة و البغضاء مع ما فيه من أكل المال بالباطل الذي هو نوع من الظلم ففي بيع الغرر ظلم و عداوة و بغضاء و ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع حبل الحبلة و الملاقيح و المضامين و من بيع السنين و بيع الثمر قبل بدو صلاحه و بيع الملامسة و المنابذة و نحو ذلك كله من نوع الغرر و أما الربا فتحريمه في القرآن أشد و لهذا قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } و ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر كما خرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه و ذكر الله أنه حرم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم و صدهم عن سبيل الله و أخذهم الربا و أكلهم أموال الناس بالباطل و أخبر سبحانه أنه يمحق الربا كما يربي الصدقات و كلاهما أمر مجرب عند الناس و ذلك أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج و إلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالة بألف و مائتين مؤجلة إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف و إنما يأخذ المال بمثله و زيادة إلى أجل من هو محتاج إليه فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معين ولا هو محتاج إلى العقد و قد تخلو بعض صوره عن الظلم إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظناها و الربا فيه ظلم محقق لمحتاج ولهذا كان ضد الصدقة فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء فإن مصلحة الغني و الفقير في الدين و الدنيا لا تتم إلا بذلك فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه و ظلمه زيادة أخرى و الغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم و يعظمه لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الأخذ و موكله وهو المحتاج المعطي الزيادة و شاهديه و كاتبه لإعانتهم عليهم ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد لإفضائها إلى الفساد المحقق كما حرم قليل الخمر لأنه يدعو إلى كثيرها مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى إذا العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات مثل كون الدرهم صحيحا و الدرهمين مكسورين أو كون الدرهم مصوغا أو من نقد نافق و نحو ذلك و لذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس و معاوية و غيرهما فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر كعبادة بن الصامت و أبي سعيد و غيرهما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل و أما الغرر فإنه ثلاثة أنواع إما المعدوم كحبل الحبلة و بيع السنين و إما المعجوز عن تسليمه كالعبد الآبق و إما المجهول المطلق أو المعين المجهول جنسه أو قدره كقوله بعتك عبدا أو بعتك ما في بيتي أو بعتك عبيدي فأما المعين المعلوم جنسه و قدره المجهول نوعه أو صفته كقوله بعتك الثوب الذي في كمي أو العبد الذي أملكه و نحو ذلك ففيه خلاف مشهور و تغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة و عن أحمد فيه ثلاث روايات إحداهن لا يصح بيعه بحال كقول الشافعي الجديد و الثانية يصح و إن لم يوصف و للمشتري الخيار إذا رآه كقول أبي حنيفة و قد روي عن أحمد لا خيار له و الثالثة وهي المشهور أنه لا يصح بالصفة ولا يصح بدون الصفة كالمطلق الذي في الذمة و هو قول مالك و مفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه فإن تحريمه أشد ضررا من ضرر كونه غررا مثل بيع العقار جملة و إن لم يعلم دواخل الحيطان و الأساس و مثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع و إن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن و إن كان قد نهي عن بيع الحمل مفردا و كذلك اللبن عند الأكثرين و كذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلت عليه السنة و ذهب إليه الجمهور كمالك و الشافعي و أحمد و إن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد و جوز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أبرت أن يشترط المبتاع ثمرتها فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها لكن على وجه البيع للأصل فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا و تبعا ما لا يجوز من غيره و لما احتاج الناس إلى العرايا رخص في بيعها بالخرص فلم يجوز المفاضلة المتيقنة بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب خمسة أوسق أو ما دون النصاب على اختلاف القولين الشافعي و أحمد و إن كان المشهور عن أحمد ما دون النصاب إذا تبين ذلك فأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء أفقه الناس في المناسك و إبراهيم أفقههم في الصلاة و الحسن أجمع لذلك كله و لهذا وافق أحمد كل واحد من التابعين في أغلب ما فضل فيه لمن استقرأ ذلك في أجوبته و لهذا كان أحمد موافقا له في الأغلب فإنهما يحرمان الربا و يشددان فيه حق التشديد لما تقدم من شدة تحريمه و عظم مفسدته و يمنعان الاحتيال له بكل طريق حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه و إن لم تكن حيلة و إن كان مالك يبلغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله لكنه يوافقه بلا خلاف عنه على منع الحيل كلها و جماع الحيل نوعان إما أن يضموا إلى أحد العوضين ما ليس بمقصود أو يضموا إلى العقد عقدا ليس بمقصود فالأول مسألة مد عجوة و ضابطها أن يبيع ربويا بجنسه و معهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه مثل أن يكون غرضهما بيع فضة بفضة متفاضلا و نحو ذلك فيضم إلى الفضة القليلة عوضا آخر حتى يبيع ألف دينار في منديل بألفي دينار فمتى كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا حرمت مسألة مد عجوة بلا خلاف عند مالك و أحمد و غيرهما و إنما يسوغ هذا من جوز الحيل من الكوفيين و إن كان قدماء الكوفيين يحرمون هذا و أما إن كان كلاهما مقصودا كمد عجوة و درهم بمد عجوة و درهم أو مدين أو درهمين ففيه روايتان عن أحمد و المنع قول مالك و الشافعي و الجواز قول أبي حنيفة وهي مسألة اجتهاد و أما إن كان المقصود من أحد الطرفين غير الجنس الربوي كبيع شاة ذات صوف ولبن بصوف أو لبن فأشهر الروايتين عن أحمد الجواز و النوع الثاني من الحيل أن يضما إلى العقد المحرم عقدا غير مقصود مثل أن يتواطآ على أن يبيعه بجرزه ثم يبتاع الخرز منه بأكثر من ذلك الذهب أو يوطئا ثالثا على أن يبيع أحدهما عرضا ثم يبيعه المبتاع لمعامله المرابي ثم يبيعه المرابي لصاحبه و هي الحيلة المثلثة أو يقرن بالقرض محاباة في بيع أو إجارة أو مساقاة و نحو ذلك مثل أن يقرضه ألفا و يبيعه سلعة تساوي عشرة بمائتين أو يكريه دارا تساوي ثلاثين بخمسة و نحو ذلك فهذا ونحوه من الحيل لا تزول به المفسدة التي حرم الله من أجلها الربا و قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن و لا بيع ما ليس عندك قال الترمذي حديث حسن صحيح وهو من جنس حيل اليهود فإنهم إنما استحلوا الربا بالحيل و يسمونه المشكند وقد لعنهم الله على ذلك و قد روى ابن بطة بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلون محارم الله بأدنى الحيل ) وفي الصحيحين عنه أنه قال ( لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها و أكلوا ثمنها ) وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس قمارا من أدخل فرسا بين فرسين و قد أمن أن يسبق فهو قمار ) وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله و دلائل تحريم الحيل من الكتاب و السنة و الإجماع و الاعتبار كثيرة ذكرنا منها نحوا من ثلاثين دليلا فيما كتبناه في ذلك و ذكرنا ما يحتج به من يجوزها كيمين أبي أيوب و حديث تمر خيبر و معاريض السلف و ذكرنا جواب ذلك ومن ذرائع ذلك مسألة العينة وهو أن يبيعه سلعة إلى أجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روى أحمد و أبو داود بإسنادين جيدين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبايعتم بالعينة و اتبعتم أذناب البقر و تركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم و إن لم يتواطأ فإنهما يبطلان البيع الثاني سدا للذريعة ولو كانت عكس مسألة العينة من غير تواطؤ ففيه روايتان عن أحمد وهو أن يبيعه حالا ثم يبتاع منه بأكثر مؤجلا و أما مع التواطؤ فربا محتال عليه ولو كان مقصود المشتري الدرهم و ابتاع السلعة إلى أجل ليبيعها و يأخذ ثمنها فهذا يسمى التورق ففي كراهته عن أحمد روايتان و الكراهة قول عمر بن عبد العزيز و مالك فيما أظن بخلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية فهذا يجوز شراؤه إلى أجل بالاتفاق ففي الجملة أهل المدينة و فقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعا محكما مراعين لمقصود الشريعة و أصولها و قولهم في ذلك هو الذي يؤثر مثله عن الصحابة و تدل عليه معاني الكتاب و السنة و أما الغرر فأشد الناس فيه قولا أبو حنيفة و الشافعي أما الشافعي فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء مثل الحب و الثمر في قشره الذي ليس بصوان كالباقلاء و الجوز و اللوز في قشره الأخضر و كالحب في سنبله فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز مع أنه قد اشترى في مرض موته باقلاء أخضر فخرج ذلك له قولا و اختاره طائفة من أصحابه كأبي سعيد الاصطخري و روى عنه أنه ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد فدل على جواز بيعه اشتداده و إن كان في سنبله فقال إن صح هذا أخرجته من العام أو كلاما قريبا من هذا و كذلك ذكر أنه رجع عن القول بالمنع قال ابن المنذر جواز ذلك هو قول مالك و أهل المدينة و عبيد الله ابن الحسن و أهل البصرة و أصحاب الحديث و أصحاب الرأي و قال الشافعي مرة لا يجوز ثم بلغه حديث ابن عمر فرجع عنه و قال به قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا يعدل عن القول به و ذكر بعض أصحابه له قولين وأن الجواز هو القديم حتى منع من بيع الأعيان الغائبة بصفة و غير صفة متأولا أن بيع الغائب غرر و إن وصف حتى اشترط فيما في الذمة كدين السلم من الصفات و ضبطها ما لم يشترط غيره و لهذا يتعذر أو يتعسر على الناس المعاملة في العين و الدين بمثل هذا القول و قاس على بيع الغرر جميع العقود من التبرعات و المعاوضات فاشترط في أجرة الأجير و فدية الخلع و الكتابة و صلح أهل الهدنة و جزية أهل الذمة ما اشترطه في البيع عينا و دينا ولم يجوز في ذلك جنسا و قدرا و صفة إلا ما يجوز مثله في البيع و إن كانت هذه العقود لا تبطل بفساد أعواضها أو يشترط لها شروط أخر و أما أبو حنيفة فإنه يجوز بيع الباقلاء و نحوه في القشرين و يجوز إجارة الأجير بطعامه و كسوته و يجوز أن تكون جهالة المهر كجهالة من المثل و يجوز بيع الأعيان الغائبة بلا صفة مع الخيار لأنه يرى وقف العقود لكنه يحرم المساقاة و المزارعة و نحوهما من المعاملات مطلقا و الشافعي يجوز بيع بعض ذلك و يحرم أيضا كثيرا من الشروط في البيع و الإجارة و النكاح و غير ذلك مما يخالف مطلق العقد و أبو حنيفة يجوز بعض ذلك و يجوز من الوكالات و الشركات مالا يجوزه الشافعي حتى جوز شركة المفاوضة و الوكالة بالمجهول المطلق وقال الشافعي إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة فما أعلم شيئا باطلا فبينهما في هذا الباب عموم و خصوص لكن أصول الشافعي المحرمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك و أما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا فيجوز بيع هذه الأشياء و جميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره بحيث يحتمل في العقود حتى يجوز بيع المقاتي جملة و بيع المغيبات في الأرض كالجزر و الفجل و نحو ذلك و أحمد قريب منه في ذلك فإنه يجوز هذه الأشياء و يجوز على المنصوص عنه أن يكون المهر عبدا مطلقا أو عبدا من عبيده و نحو ذلك مما لا يزيد جهالة على مهر المثل و إن كان من أصحابه من يجوز المبهم دون المطلق كأبي الخطاب و منهم من يوافق الشافعي فلا يجوز في المهر و فدية الخلع و نحوهما إلا ما يجوز في المبيع كأبي بكر عبد العزيز و يجوز على المنصوص عنه في فدية الخلع أكثر من ذلك حتى ما يجوز في الوصية و إن لم يجز في المهر كقول مالك مع اختلاف في مذهبه ليس هذا موضعه لكن المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر و نحوه إلا إذا قلع و قال هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه و المنصوص عنه أنه لا يجوز بيع القثاء و الخيار و الباذنجان و نحوه إلا لقطة لقطة ولا يباع من المقاتي و المباطخ إلا ما ظهر دون ما بطن و لا تباع الرطبة إلا جزة جزة كقول أبي حنيفة و الشافعي لأن ذلك غرر وهو بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ثم اختلف أصحابه فأكثرهم أطلقوا ذلك في كل مغيب كالجزر و الفجل و البصل و ما أشبه ذلك كقول مالك وقال الشيخ أبو محمد إذا كان مما يقصد فروعه و أصوله كالبصل المبيع أخضر و الكراث و الفجل أو كان المقصود فروعه فالأولى جواز بيعه لأن المقصود منه ظاهر فأشبه الشجر و يدخل ما لم يظهر في البيع تبعا و إن كان معظم المقصود منه أصوله لم يجز بيعه في الأرض لأن الحكم للأغلب و إن تساويا لم يجز أيضا لأن الأصل اعتياد الشرط و إنما سقط في الأقل التابع و كلام أحمد يحتمل وجهين فإن أبا داود قال قلت لأحمد بيع الجزر في الأرض قال لا يجوز بيعه إلا ما قلع منه هذا الغرر شيء ليس يراه كيف يشتريه فعلل بعدم الرؤية فقد يقال إن لم يره كله لم يبع وقد يقال رؤية بعض المبيع تكفي إذا دلت على الباقي كرؤية وجه العبد وكذلك اختلفوا في المقاتي إذا بيعت بأصولها كما هو العادة غلبا فقال قوم من المتأخرين يجوز ذلك لأن بيع أصول الخضراوات كبيع الشجر وإذا باع الشجرة وعليها الثمر لم يبد صلاحه جاز فذلك هذا وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وقال المتقدمون لا يجوز بحال وهو معنى كلامه ومنصوصه وهو إنما نهى عما يعتاده الناس وليست العادة جارية في البطيخ والقثاء والخيار أن يباع دون عروقه والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع عنده فإن المنصوص عنه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحرث في الشجر الذي عليه ثمر لم يبد صلاحه أنه إن كان الأصل هو مقصوده الأعظم جاز وأما إن كان مقصوده الثمرة فاشترى الأصل معها حيلة لم يحز وكذلك إذا اشترى أرضا وفيها زرع أو شجر مثمر لم يبد صلاحه فإن كانت الأرض هى المقصود جاز دخول الثمر والزرع معها تبعا وإن كان المقصود هو الثمر والزرع فاشترى الأرض لذلك لم يجز وإذا كان هذا قوله في ثمرة الشجر فمعلوم أن المقصود من المقاتي والمباطخ إنما هو الخضراوات دون الأصول التي ليس لها إلا قيمة يسيرة بالنسبة إلى الخضر وقد خرج ابن عقيل وغيره فيها وجهين أحدهما جواز بيع المغيبات بناء على إحدى الروايتين عنه في بيع ما لم يره ولا شك انه ظاهر فإن المنع إنما يكون على قولنا لا يصح بيع ما لم يره فإذا صححنا بيع الغائب فهذا من الغائب والثاني أنه يجوز بيعها مطلقا كمذهب مالك إلحاقا لها بلب الجوز وهذا القول هو قياس أصول أحمد وغيره لوجهين أحدهما أن أهل الخبرة يستدلون برؤية ورق هذه المدفونات على حقيقتها ويعلمون ذلك أجود مما يعلمون العبد برؤية وجهه والمرجع في كل شئ إلى الصالحين من أهل الخبرة به وهم يقرون بأنهم يعرفون هذه الأشياء كما يعرف غيرها مما اتفق المسلمون على جواز بيعه وأوكد الثاني أن هذا مما تمس حاجة الناس إلى بيعه فإنه إذا لم يبع حتى يقلع حصل على أصحابه ضرر عظيم فإنه قد يتعذر عليهم مباشرة القلع والاستنابة فيه وإن قلعوه جملة فسد بالقلع فبقاؤه في الأرض كبقاء الجوز واللوز ونحوهما في قشره الأخضر وأحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوزون العرايا مع ما فيها من المزابنة لحاجة المشتري إلى أكل الرطب أو البائع الى أكل الثمر فحاجة البائع هنا أو سحد بكثير وستقرر ذلك إن شاء الله وكذلك قياس أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث جواز بيع المقاتي باطنها وظاهرها وإن اشتمل ذلك على بيع معدوم إذا بدا صلاحها كما يجوز بالاتفاق إذا بدا صلاح بعض نخله أو شجره أن يباع جميع ثمرها وإن كان فيها ما لم يصلح بعد وغاية ما اعتذروا به عن خروج هذا من القياس أن قالوا إنه لا يمكن إفراد البيع لذلك من نخلة واحدة لأنه لو أفرد البسرة بالعقد اختلطت بغيرها في يوم واحد لأن البسرة تصفر في يومها وهذا بعينه موجود في المقتاة وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي وأحمد عن بيع المعدوم تبعا بأن ما يحدث من الزيادة في الثمرة بعد العقد ليس بتابع للموجود وإنما يكون ذلك للمشتري لأنه موجود في ملكه والجمهور من الطائفتين يعلمون فساد هذا العذر لأنه يجب على البائع سقى الثمرة ويستحق إبقائها على الشجر بمطلق العقد ولو لم يستحق الزيادة بالعقد لما وجب على البائع ما به تؤخذ فإن الواجب على البائع بحكم البيع توفية المبيع الذي أوجبه العقد لا ما كان من موجبات الملك وأيضا فإن الرواية اختلفت عن أحمد إذا بدا الصلاح في حديقة من الحدائق هل يجوز بيع جميعها أم لا يباع إلا ما صلح منها على روايتين أشهرهما عنه أنه لا يباع إلا ما بدا صلاحه وهى اختيار قدماء أصحابه كأبي بكر وابن شاقلا والرواية الثانية يكون بدو الصلاح في البعض صلاحا للجميع وهي اختيار أكثر أصحابه كابن حامد والقاضي ومن تبعها ثم المنصوص عنه في هذه الرواية أنه قال إذا كان في بستان بعضه بالغ وبعضه غير بالغ بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ فمنهم من فرق بين صلاح القليل والكثير كالقاضي أخيرا وأبي حكيم النهرواني وأبي البركات وغيرهم ممن قصر الحكم بما إذا غلب الصلاح ومنهم من سوى بين الصلاح القليل والكثير كأبي الخطاب وجماعات وهو قول مالك والشافعي والليث وزاد مالك فقال يكون صلاحا لما جاوره من الأقرحة وحكوا ذلك رواية عن أحمد واختلف هؤلاء هل يكون صلاح النوع كالبرني من الرطب صلاحا لسائر أنواع الرطب على وجهين في مذهب الشافعي وأحمد أحدهما المنع وهو قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد والثاني الجواز وهو قول أبي الخطاب وزاد الليث على هؤلاء فقال صلاح الجنس كالتفاح واللوز يكون صلاحا لسائر أجناس الثمار ومأخذ من جوز شيئا من ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن بيع بعض ذلك دون بعض يفضي إلى سوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذه علة من فرق بين البستان الواحد والبساتين ومن سوى بينهما فإنه قال المقصود الأمن من العاهة وذلك يحصل بشروع الثمر في الصلاح ومأخذ من منع ذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى يبدو صلاحها ) ) يقتضي بدو صلاح الجميع والغرض من هذه المذاهب أن من جوز بيع البستان من الجنس الواحد لبدو الصلاح في بعضه فقياس قوله جواز بيع المقتاة إذا بدا صلاح بعضها والمعدوم هنا فيها كالمعدوم من أجزاء الثمرة فإن الحاجة تدعو إلى ذلك أكثر إذ تفريق الأشجار في البيع أيسر من تفريق البطيخات والقثاءات والخيارات وتمييز اللقطة عن اللقطة لو لم يشق فإنه أمر لا ينضبط فإن اجتهاد الناس في ذلك متفاوت والغرض من هذا أن أصول أحمد تقتضي موافقة مالك في هذه المسائل كما قد يروي عنه في بعض الجوابات أو قد خرجه أخرجه أصحابه على أصوله وكما أن العالم من الصحابة والتابعين والأئمة كثيرا ما يكون له في المسألة الواحدة قولان في وقتين فكذلك يكون له في النوع الواحد من المسائل قولان فى وقتين فيجيب في بعض أفرادها بجواب في وقت ويجيب في بعض الأفراد بجواب آخر في وقت آخر وإذا كانت الأفراد مستوية كان له فيها قولان فإن لم يكن بينهما فرق يذهب إليه مجتهد فقالت طائفة منهم أبو الخطاب لا يخرج وقال الجمهور كالقاضي أبي يعلى يخرج الجواب إذا لم يكن هو ممن يذهب إلى الفرق كما اقتضته أصوله ومن هؤلاء من يخرج الجواب إذا رآهما مستويين وإن لم يعلم هل هو ممن يفرق أم لا وإن فرق بين بعض الأفراد وبعض مستحضرا لهما فإن كان سبب الفرق مأخذا شرعيا كان الفرق قولا به وإن كان سبب الفرق مأخذا عاديا أو حسيا ونحو ذلك مما قد يكون أهل الخبرة به أعلم من الفقهاء الذين لم يباشروا ذلك فهذا في الحقيقة لا يفرق بينهما شرعا وإنما هو أمر من أمر الدنيا لم يعلمه العالم فإن العلماء ورثة الأنبياء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أنتم أعلم بأمر دنياكم فأما ما كان من أمر دينكم فإلى ) وهذا الاختلاف في عين المسألة أو نوعها من العلم قد يسمى تناقضا أيضا لأن التناقض اختلاف مقالتين بالنفي والاثبات فإذا كان في وقت قد قال إن هذا حرام وقال في وقت آخر فيه أو في مثله إنه ليس بحرام أو قال ما يستلزم أنه ليس بحرام فقد تناقض قولاه وهو مصيب في كليهما عند من يقول كل مجتهد مصيب وأنه ليس لله في الباطن حكم على المجتهد غير ما اعتقده وأما الجمهور الذين يقولون إن الله حكما في الباطن علمه في إحدى المقالتين ولم يعلمه في المقالة التي تناقضها وعدم علمه به مع اجتهاد مغفور له مع ما يثاب عليه من قصده للحق واجتهاد في طلبه ولهذا يشبه بعضهم تعارض الاجتهاد ن العلماء بالناسخ والمنسوخ في شرائع الأنبياء مع الفرق بينهما بأن كل واحد من الناسخ والمنسوج ثابت بخطاب حكم الله باطنا وظاهرا بخلاف أحد قولي العالم المتناقضين هذا فيمن يتقي الله فيما يقوله مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مع علمه بتقواه وسلوكه الطريق الراشد وأما أهل الأهواء والخصومات فهم مذمومون في مناقضتهم لأنهم يتكلمون بغير علم ولا حسن قصد لما يجب قصده وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان أحدهما لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره وكثير ما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب والثاني لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذا أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه هذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله وما لا يرضاه فليس قوله و إن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع لزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات و الواقع منها و هذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول و إن كان لازما له ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه و اللازم الذي نفاه ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين و سبب الفرق بين أهل العلم و أهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد و الاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله و إن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل و إن كانا في الباطن قد أخطأ أو كذبا و كما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك و إن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد و إن كان قد يكون غير مطابق و إن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق و اتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } و يجزمون بما يقولونه بالظن و الهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا و يقصدون ما لم يؤمروا بقصده و يجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به فلم يصدر عنهم من الاجتهاد و القصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه و أما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق و يعاند عنه وثم قسم آخر وهم غالب الناس وهو أن يكون له هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة و الشبهة و لهذا جاء في حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات و يحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ) فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور و صاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب و أما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء وهم في ذلك درجات بحسب ما يغلب و بحسب الحسنات الماحية و أكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك و أصول أحمد و بعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال و عليه يدل غالب معاملات السلف و لا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به و كل من توسع في تحريم ما يعتقده غررا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة و إما أن يحتال و قد رأينا الناس و بلغتنا أخبارهم فما رأينا أحدا التزم مذهبه في تحريم هذه المسائل ولا يمكنه ذلك و نحن نعلم قطعا أن مفسدة التحريم لا تزول بالحيلة التي يذكرونها فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمرا نحن محتاجون إليه ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها و إنما هي من جنس اللعب و لقد تأملت أغلب ما أوقع الناس في الحيل فوجدته أحد شيئين إما ذنوب جوزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل فلم تزدهم الحيل إلا بلاء كما جرى لأصحاب السبت من اليهود و كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وهذا الذنب ذنب عملي و إما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل وهذا من خطأ الاجتهاد و إلا فمن اتقى الله و أخذ ما أحل له و أدى ما أوجب عليه فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبدا فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج و إنما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة فالسبب الأول هو الظلم و السبب الثاني هو عدم العلم و الظلم و الجهل هما وصف للإنسان المذكور في قوله تعالى 33 72 { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } و أصل هذا أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان كالدم و الميتة و لحم الخنزير أو من التصرفات كالميسر و الربا و ما يدخل فيهما بنوع من الغرر و غيره لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها و رسوله بقوله سبحانه 5 91 { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فأخبر سبحانه أن الميسر يوقع العداوة و البغضاء سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب فإن المغالبة بلا فائدة و أخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك و كذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون الثمار فإذا أجدب الناس و حضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مراض أصابه قشام عاهات يحتجون بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة في ذلك فأما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة لهم يشير بها لكثرة خصومتهم و اختلافهم و ذكر خارجة بن زيد أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر رواه البخاري تعليقا و أبو داود إلى قوله خصومتهم و روى أحمد في المسند عنه قال قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومة فقال ( ما هذا فقيل له إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون أصابنا الدمان و القشام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها ) فقد أخبر أن سبب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما أفضت إليه من الخصام و هكذا بيوع الغرر و قد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين من حديث ابن عمر و ابن عباس و جابر و أنس وفي مسلم من حديث أبي هريرة و في حديث أنس تعليله ففي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قيل و ما تزهى قال ( حتى تحمر أو تصفر ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أرأيت إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه ) و في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر و تصفر أرأيت إن منع الله الثمرة بم تستحل مال أخيك قال أبو مسعود الدمشقي جعل مالك و الداروردي قول أنس أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم أدرجاه فيه و يرون أنه غلط فهذا التعليل سواء كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو من كلام أنس فيه بيان أن في ذلك أكل للمال بالباطل حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون و إذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة و البغضاء و أكل الأموال بالباطل فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها كما أن السباق بالخيل و السهام و الإبل لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعروض و إن لم يجز غيره بعوض و كما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة فهو باطل و إن كان فيه منفعة وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه و سلم بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه و تأديبه فرسه و ملاعبته امرأته فإنهن من الحق صار هذا اللهو حقا و معلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض أو أكل مال بالباطل لأن الغرر فيها يسير كما تقدم و الحاجة إليها ماسة و الحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر و الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية و لهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح أباح الشرع ذلك قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى و لهذا كان مذهب أهل المدينة و فقهاء الحديث أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق ) وفي رواية لمسلم عنه ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح ) و الشافعي رضي الله عنه لما لم يبلغه هذا الحديث و إنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه أخذ في ذلك بقول الكوفيين إنها تكون من ضمان المشتري لأنه مبيع قد تلف بعد القبض لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر وإنما موجب العقد عندهم القبض التخلية بين المشتري و بينه قبض و هذا على أصل الكوفيين أمشى لأن الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله و ضعفه مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ومع أني لا أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع و ينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار الصريح يوافقه وهو ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذادها عند كمالها و نضجها لا عند العقد كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا فتلف الثمرة قبل التمكن من استيفاء المنفعة في الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق فكذلك في البيع و أبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة و أن المشتري لم يملك الإبقاء وهذا الفرق لا يقول به الشافعي و سنذكر أصله فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه و تذهب عنه الآفة ) و في لفظ لمسلم عنه نهى عن بيع النخل حتى تزهى و عن السنبل حتى يبيض و يأمن العاهة نهى البائع و المشتري و في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما فإنه بعد بدو صلاحه و أمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد و ليس المقصود الأمن من العاهات النادرة فإن هذا لا سبيل إليه إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين 68 17 إلى 18 { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون } وما ذكره في سورة يونس في قوله 10 24 { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس } و إنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب و قبل ظهور النضج في الثمر إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ولأنه لو منع بيعه بعد هذه العاهة لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح و بيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر لأنه لا يكمل جملة واحدة و إيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر فتبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم وعلمها أمته ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح أفسد كثيرا من أمر الدين و ضاق عليه عقله و دينه و أيضا ففي صحيح مسلم عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا جملا خيارا رباعيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء ففي هذا دليل على جواز الاستسلاف فيما سوى المكيل و الموزون من الحيوان و نحوه كما عليه فقهاء الحجاز و الحديث خلافا لمن قال من الكوفيين لا يجوز ذلك لأن القرض موجب لرد المثل و الحيوان ليس بمثلي و بناء على أن ما سوى المكيل و الموزون لا يثبت في الذمة عوضا عن مال وفيه دليل على أنه يثبت مثل الحيوان تقريبا في الذمة كما هو المشهور من مذاهبهم خلافا للكوفيين ووجه في مذهب أحمد أنه يثبت بالقيمة وهذا دليل على أن المعتبر في معرفة المعقود عليه هو التقريب و إلا فيعجز الإنسان عن وجود حيوان مثل ذلك الحيوان لا سيما عند القائلين بأن الحيوان ليس بمثلي و أنه مضمون في الغصب و الإتلاف بالقيمة و أيضا فقد اختلف الفقهاء في تأجيل الديون إلى الحصاد و الجداد وفيه روايتان عن أحمد أحدهما يجوز كقول مالك و حديث جابر الذي في الصحيح يدل عليه و أيضا فقد دل الكتاب في قوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } و السنن في حديث بروع بنت واشق و إجماع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق و تستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم و إذا مات عند فقهاء الحديث و أهل الكوفة المتبعين لحديث بروع بنت واشق وهو أحد قولي الشافعي وهو معلوم أن مهر المثل متقارب لا محدود فلو كان التحديد معتبرا في المهر ما جاز النكاح بدونه كما رواه أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره وعن بيع اللمس و النجس و إلقاء الحجر فمضت الشريعة بجواز النكاح قبل فرض المهر و أن الإجارة لا تجوز إلا مع تبيين الأجر فدل على الفرق بينهما و سببه أن المعقود عليه في النكاح وهو منافع البضع غير محدودة بل المرجع فيها إلى العرف فلذلك عوضه الآخر لأن المهر ليس هو المقصود و إنما هو نحلة تابعة فأشبه الثمر التابع للشجر في البيع قبل بدو صلاحه و لذلك لما قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وسلم و خيرهم بين السبي و بين المال فاختاروا السبي قال لهم إني قائم فخاطب الناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين و نستشفع بالمسلمين على رسول الله و قام فخطب الناس فقال إني قد رددت على هؤلاء سبيهم فمن شاء طيب ذلك ومن شاء فإنا نعطيه عن كل رأس عشر قلائص من أول ما يفيء الله علينا فهذا معاوضة عن الإعتاق كعوض الكتابة بإبل مطلقة في الذمة إلى أجل متقارب غير محدود و قد روى البخاري عن ابن عمر في حديث خيبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم و غلبهم على الأرض و الزرع و النخل فصالحوه على أن يجلو منها ولهم ما حملت ركابهم و لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء و البيضاء و الحلقة وهي السلاح و يخرجون منها و اشترط عليهم أن لا يكتبوا و لا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فهذا مصالحة على مال متميز غير معلوم وعن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر و البقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين و عارية ثلاثين درعا و ثلاثين فرسا و ثلاثين بعيرا و ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها و المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غارة رواه أبو داود فهذا مصالحة على ثياب مطلقة معلومة الجنس غير موصوفة بصفات المسلم و كذلك عارية خيل و إبل و أنواع من السلاح مطلقة موصوفة عند شرط قد يكون وقد لا يكون فظهر بهذه النصوص أن العوض عما ليس بمال كالصداق و الكتابة و الفدية في الخلع و الصلح عن القصاص و الجزية و الصلح مع أهل الحرب ليس بواجب أن يعلم كما يعلم الثمن و الأجرة ولا يقاس على بيع الغرر كل عقد على غرر لأن الأموال إما إنها لا تجب في هذه العقود أو ليست هي المقصود الأعظم منها وما ليس هو المقصود إذا وقع فيه غرر لم يفض إلى المفسدة المذكورة في البيع بل يكون أيجاب التحديد في ذلك فيه من العسر و الحرج المنفي شرعا ما يزيد على ضرر ترك تحديده
● [ يتم متابعة القاعدة الثانية ] ●
القواعد النورانية الفقهية تأليف: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس منتدى ميراث الرسول - البوابة