من طرف كراكيب الأحد 30 نوفمبر 2014 - 10:46
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
من مدينة الكوفة الى مدينة الموصل
● [ مدينة الكوفة ] ●
وهي إحدى أمهات البلاد العراقية المتميزة فيها بفضل المزية مثوى الصحابة، والتابعين ومنزل العلماء والصالحين، وحضرة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدت إليها، وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها، فإنهم يقطعون طريقها ولا سور عليها، وبناؤها بالآجر، وأسواقها حسان وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك وجامعها الأعظم جامع كبير شريف، بلاطاته سبع قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوته، قد صنعت قطعاً، ووضع بعضها على بعض، وأفرغت بالرصاص وهي مفرطة الطول، وبهذا المسجد آثار كريمة، فمنها بيت إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة يقال إن الخليل صلوات الله عليه كان له مصلى بذلك الموضع وعلى مقربة منه محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع، وهو محراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهنالك ضربه الشقي ابن ملجم والناس يقصدون الصلاة به وفي الزاوية من هذا البلاط مسجد صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور حين طوفان نوح عليه السلام، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام، وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه السلام، ويتصل بذلك فضاء، ويتصل بالجدار القبلي للمسجد، يقال: إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام. وفي آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والبيت الذي غسل فيه ويتصل به بيت يقال أيضاً، إنه بيت نوح عليه السلام، والله أعلم بصحة ذلك كله.
وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت مرتفع، يصعد إليه، قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة وسكينة بنتي الحسين عليه السلام. وأما قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فلم يبق إلا أساسه، والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها، وهو منتظم بحدائق النخل الملتفة المتصل بعضها بعض، ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعاً مسوداً شديد السواد في بسيط أبيض، فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم، وأن أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام وعلى قرب منه قبة أخبرت أنها على قبر المختار بن أبي عبيد.
ثم رحلنا ونزلنا بئر ملاحة، وهي بلدة حسنة بين حدائق نخل، ونزلت بخارجها وكرهت دخولي لها، لأن أهلها روافض
ورحلنا منها الصبح فنزلنا مدينة الحلة وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيها، ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات وهي كثيرة العمارة، وحدائق النخل منتظمة بها داخلاً وخارجاً، ودورها بين الحدائق ولها جسر عظيم معقود على مراكب متصلة منتظمة فيما بين الشطين، تحف بها من جانبيها سلاسل من حديد مربوطة في كلا الشطين إلى خشبة عظيمة مثبتة بالساحل. وأهل هذا المدينة كلها إمامية اثنا عشرية وهم طائفتان: إحداهما تعرف بالأكراد والأخرى تعرف بأهل الجامعين والفتنة بينهم متصلة، والقتال قائم بمقربة من السوق الأعظم. بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول، وهم يسمونه مشهد صاحب الزمان، ومن عاداتهم أن يخرج في كل ليلة مائة رجل من أهل المدينة ، وبأيديهم سيوف مشهورة. فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر يأخذون منه فرساً مسرجاً ملجماً أو بغلة كذلك، ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة، ويتقدمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها، ويأتون مشهد صاحب الزمان، فيقفون بالباب، ويقولون: باسم الله يا صاحب الزمان باسم الله اخرج قد ظهر الفساد، وكثر الظلم، وهذا أوان خروجك فيفرق الله بك بين الحق والباطل، ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب، وهم يقولون: إن محمد بن الحسن العسكري دخل ذلك المسجد وغاب فيه، وأنه سيخرج وهو الإمام المنتظر عندهم وقد كان غلب على مدينة الحلة بعد موت السلطان أبي سعيد الأمير محمد بن رميثة بن أبي نمي أمير مكة، وحكمها أعواماً، وكان حسن السيرة يحمده أهل العراق، إلى أن غلب عليه الشيخ حسن سلطان العراق فعذبه وقتله وأخذ الأموال والذخائر التي كانت عنده.
ثم سافرنا منها إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وهي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسيقها ماء الفرات والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة عظيمة، وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحجاب والقومة، لا يدخل أحد إلا عن إذنهم، فيقبل العتبة الشريفة وهي من الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحرير وأهل هذه المدينة طائفتان، أولاد رخيك وأولاد فائز، وبينهما القتال أبداً وهم جميعاً إمامية يرجعون إلى أب واحد، ولأجل فتنهم تخربت هذه المدينة. ثم سافرنا منها إلى بغداد.
● [ مدينة بغداد ] ●
مدينة دار السلام، وحضرة الإسلام، ذات القدر الشريف، والفضل المنيف، مثوى الخلفاء، ومقر العلماء، وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذهب رسمها. ولم يبق إلا اسمها. وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين. فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ.
ولبغداد جسران اثنان معقودان على نحو الصفة التي ذكرناها في جسر مدينة الحلة، والناس يعبرونهما ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساء فهم في ذلك في نزهة متصلة ببغداد من المساجد التي يخطب فيها، وتقام فيها الجمعة أحد عشر مسجداً، منها بالجانب الغربي ثمانية، وبالجانب الشرقي ثلاثة والمساجد سواها كثيرة جداً، وكذلك المدارس إلا أنها خربت. وحمامات بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل لرائيه أنه رخام أسود، وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة والبصرة تنبع أبداً به، ويصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف منها، ويجلب إلى بغداد. وفي كل حمام منها خلوات كثيرة كل خلوة منها مفروشة بالقار مطلي نصف حائطها مما يلي الأرض به، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع، فالضدان بها مجتمعان، متقابل حسنهما وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد فيدخل الإنسان الخلوة منها منفرداً لا يشاركه أحد إلا إن أراد ذلك وفي زاوية كل خلوة أيضاً حوض آخر للاغتسال فيه أيضاً أنبوبان يجريان بالحار والبارد وكل داخل يعطى ثلاثاً من الفوط إحداهما يتزر بها عند دخوله والأخرى يتزر بها عند خروجه، والأخرى ينشف بها الماء عن جسده ولم أر هذا الإتقان كله في مدينة سوى بغداد، وبعض البلاد تقاربها في ذلك.
● [ ذكر الجانب الغربي من بغداد ] ●
الجانب الغربي منها هو الذي عمر أولاً، وهو الآن خراب أكثره وعلى ذلك فقد بقي منه ثلاث عشرة محلة، كل محلة كأنها مدينة بها الحمامان والثلاثة وفي ثمانٍ منها المساجد الجامعة ومن هذه المحلات محلة باب البصرة وبها جامع الخليفة أبي جعفر المنصور رحمه الله، والمارستان، فيما بين محلة باب البصرة ومحلة الشارع على الدجلة، وهو قصر كبير خرب بقيت منه الآثار وفي هذا الجانب الغربي من المشاهد قبر معروف الكرخي رضي الله عنه، وهو في محلة باب البصرة، وبطريق باب البصرة مشهد حافل البناء في داخله قبر متسع السنام، عليه مكتوب: هذا قبر عون من أولاد علي بن أبي طالب، وفي هذا الجانب قبر موسى الكاظم بن جعفر الصادق والد علي بن موسى الرضا، وإلى جانبه قبر الجواد والقبران داخل الروضة عليهما دكانة ملبسة بالخشب عليه ألواح الفضة.
● [ ذكر الجانب الشرقي منها ] ●
وهذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يعرف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيها على حدة وفي وسط هذا السوق المدرسة النظامية العجيبة التي صارت الأمثال تضرب بحسنها وفي آخره المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر ابن أمير المؤمنين الظاهر ابن أمير المؤمنين الناصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهب ايوان فيه المسجد، وموضع التدريس، وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي، عليه البسط، ويقعد المدرس، وعليه السكينة والوقار، لابساً ثياب السواد معتماً، وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يمليه، هكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة وفي داخل هذه المدرسة الحمام للطلبة ودار الوضوء وبهذه الجهة الشرقية من المساجد التي تقام فيها الجمعة ثلاثة: أحدها جامع الخليفة، وهو المتصل بقصور الخلفاء ودورهم، وهو جامع كبير في سقايات ومطاهر مثيرة للوضوء وللغسل، ولقيت بهذا المسجد الشيخ الإمام العالم الصالح مسند العراق سراج الدين أبا حفص عمر بن علي بن عمر القزويني، وسمعت عليه فيه جميع مسند أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، وذلك في شهر رجب الفرد عام سبعة وعشرين وسبعمائة قال: أخبرتنا به الشيخة الصالحة المسندة بنت الملوك فاطمة بنت العدل تاج الدين أبي الحسن علي بن علي بن أبي البدر قالت: أخبرنا الشيخ أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز، الطبيب المارستاني قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن شعيب السنجري الصوفي قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن المظفر الداودي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي عن أبي عمران عيسى ابن عمر بن العباس السمرقندي عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي. والجامع الثاني جامع السلطان، وهو خارج البلد وتتصل به قصور تنسب للسلطان، والجامع الثالث جامع الرصافة وبينه وبين جامع السلطان نحو الميل.
● [ ذكر قبور الخلفاء ببغداد ] ●
وقبور بعض العلماء والصالحين
وقبور الخلفاء العباسيين رضي الله عنهم بالرصافة. وعلى كل قبر منها اسم صاحبه: قبر المهدي وقبر الهادي وقبر الأمين وقبر المعتصم وقبر الواثق وقبر المتوكل وقبر المنتصر وقبر المستعين وقبر المعتز وقبر المهتدي وقبر المعتمد وقبر المعتضد وقبر المكتفي وقبر المقتذر وقبر القاهر وقبر الراضي وقبر المتقي وقبر المستكفي وقبر المطيع لله وقبر الطائع وقبر القائم وقبر القادر وقبر المستظهر وقبر المسترشد وقبر الراشد وقبر المقتفي وقبر المستنجد وقبر المستضيء وقبر الناصر وقبر الظاهر وقبر المستنصر وقبر المستعصم وهو آخرهم، وعليه دخل التتر ببغداد بالسيف وذبحوه بعد أيام من دخولهم، وانقطع من بغداد اسم الخلافة العباسية، وذلك في سنة أربع وخمسين وستمائة. وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ما عدا هذه الزاوية. فسبحان مبيد الأشياء ومغيرها. وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه ولا قبة عليه. ويذكر أنها بنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى. وقبره عند أهل بغداد معظم، وأكثرهم على مذهبه. وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة رحمه الله، وقبر سري السقطي وقبر بشر الحافي وقبر داود الطائي وقبر أبي القاسم الجنيد، رضي الله عنهم أجمعين. وأهل بغداد لهم يوم في كل جمعة لزيارة شيخ من هؤلاء المشايخ، ويوم لشيخ آخر يليه، هكذا إلى آخر الأسبوع. وببغداد كثير من قبور الصالحين والعلماء رضي الله عنهم. وهذه الجهة الشرقية من بغداد ليس بها فواكه، وإنما تجلب إليها من الجهة الغربية لأن فيها البساتين والحدائق ووافق وصولي إلى بغداد كون ملك العراق بها، فلنذكره ها هنا.
● [ ذكر سلطان العراقين وخراسان ] ●
وهو السلطان الجليل أبو سعيد بهادرخان، وخان عندهم الملك " وبهادر بفتح الباء الموحدة وضم الدال المهمل وآخره راء "، ابن السلطان الجليل محمد خذابنده، وهو الذي أسلم من ملوك التتر - وضبط اسمه مختلف فيه، فمنهم من قال إن اسمه خذابنده " بخاء معجمة مضمومة وذال معجم مفتوح " وبنده لم يختلف فيه " وهو بباء موحدة مفتوحة ونون مسكنة ودال مهمل مفتوح وهاء استراحة "، وتفسيره على هذا القول عبد الله، لأن خذا بالفارسية اسم الله عز وجل وبنده غلام أو عبد أو ما في معناهما. وقيل: إنما هو خربنده " بفتح الخاء المعجم وضم الراء المهمل "، وتفسير خر بالفارسية الحمار فمعناه على هذا غلام الحمار. فشد ما بين القولين من الخلاف على أن هذا الأخير هو المشهور، وكأن الأول غيره إليه من تعصب. وقيل: إن سبب تسميته بهذا الأخير هو أن التتر يسمون المولود باسم أول داخل على البيت عند ولادته. فلما ولد هذا السلطان كان أول داخل الزمال، وهم يسمونه خربندة فسمي به. وأخو خربنده هو قازغان الذي يقول فيه للناس: قازان، وقازغان هو القدر. وقيل: سمي بذلك لأنه ولد لما دخلت الجارية ومعها القدر. وخذابنده هو الذي أسلم، وقدمنا قصته وكيف أراد أن يحمل الناس لما أسلم على الرفض، وقصة القاضي مجد الدين معه، ولما مات ولي الملك ولده أبو سعيد بهادرخان، وكان ملكاً فاضلاً كريماً ملك وهو صغير السن، ورأيته ببغداد، وهو شامل أجمل خلق الله صورة، لا نبات بعارضيه ووزيره إذ ذاك الأمير غياث الدين محمد بن خواجه رشيد، وكان أبوه من مهاجرة اليهود، واستوزره السلطان محمد خذابنده والد أبي سعيد. رأيته يوماً بحراقة في الدجلة، وتسمى عندهم الشبارة، وهي شبه سلورة، وبين يديه دمشق خواجه ابن الأمير جوبان المتغلب على أبي سعيد، وعن يمينه وشماله شبارتان فيهما أهل الطرب والغناء. ورأيت من مكارمه في ذلك اليوم أنه تعرض له جماعة من العميان فشكوا ضعف حالهم، فأمر لكل واحد منهم بكسوة وغلام يقوده ونفقة تجري عليه، ولما ولي السلطان أبو سعيد وهو صغير كما ذكرناه، استولى على أمره أمير الأمراء الجوبان، وحجر عليه التصرفات، حتى لم يكن بيده من الملك إلا الاسم. ويذكر أنه احتاج في بعض الأعياد إلى نفقة ينفقها، فلم يكن له سبيل إليها، فبعث إلى أحد التجار فأعطاه من المال ما أحب، ولم يزل كذلك إلى أن دخلت عليه يوماً زوجة أبيه دنيا خاتون فقالت له: لو كنا نحن الرجال ما تركنا الجوبان وولده على ما هما عليه فاستفهمها عن مرادها بهذا الكلام فقالت له: لقد انتهى أمر دمشق خواجه بن الجوبان أن يفتك بحرم أبيك، وأنه بات البارحة عند طغى خاتون. وقد بعث إلي قال لي: الليلة أبيت عندك. وما الرأي إلا أن تجمع الأمراء والعساكر، فإذا صعد إلى القلعة مختفياً برسم المبيت، أمكنك القبض عليه. وأبوه يكفي الله أمره. وكان الجوبان إذا ذاك غائباً بخراسان، فغلبته الغيرة وبات يدبر أمره، فلما علم أن دمشق خواجه بالقلعة أمر الأمراء والعساكر أن يطيفوا بها من كل ناحية، فلما كان بالغد، وخرج دمشق ومعه جندي يعرف بالحاج المصري، فوجد سلسلة معرضة على باب القلعة وعليها قفل لم يمكنه الخروج راكباً. فضرب الحاج المصري السلسلة بسيفه فقطعها وخرجا معاً، فأحاطت بهما العساكر، ولحق أمير من الأمراء الخاصكية يعرف بمصر خواجه، وفتى يعرف بلؤلؤ دمشق فقتلاه، وأتيا الملك أبا سعيد برأسه فرموا به بين يدي فرسه. وتلك عادتهم أن يفعلوا برأس كبار أعدائهم. وأمر السلطان بنهب داره وقتل من قاتل من خدامه ومماليكه. واتصل الخبر بأبيه الجوبان وهو بخراسان، ومعه أولاده مير حسن وهو الأكبر وطالش وجلوخان وهو أصغرهم وهو ابن اخت السلطان أبي سعيد من أمه ساطي بك بنت السلطان خذابنده، ومعه عساكر التتر وحاميها. فاتفقوا على قتال السلطان أبي سعيد وزحفوا إليه فلما التقى الجمعان هرب التتر إلى سلطانهم. وأفردوا الجوبان. فلما رأى ذلك نكص على عقبيه، وفر إلى صحراء سجستان، وأوغل فيها، وأجمع على اللحاق بملك هراة غياث الدين مستجيراً به ومتحصناً بمدينته. وكانت له عليه أيادٍ سابقة فلم يوافقه ولداه حسن وطالش على ذلك، وقالا له: إنه لا يفي بالعهد، وقد غدر بفيروزشاه بعد ان لجأ إليه وقتله. فأبى الجوبان إلا أن يلحق به ففارقه ولداه وتوجه ومعه ابنه الصغير جلوخان، فخرج غياث الدين
لاستقباله وترجل له وأدخله المدينة على الأمان، ثم غدر به بعد أيام، وقتله وقتل ولده، وبعث برأسيهما إلى السلطان أبي سعيد. وأما الحسن وطالش فإنهما قصدا خوارزم وتوجها إلى السلطان محمد أوزبك، فأكرم مثواهما وأنزلهما، إلى أن صدر منهما ما أوجب قتلهما فقتلهما. وكان للجوبان ولد رابع اسمه الدمرطاش فهرب إلى ديار مصر، فأكرمه الملك الناصر وأعطاه الإسكندرية، فأبى من قبولها وقال: إنما أريد العساكر لأقاتل أبا سعيد. وكان متى بعث إليه الملك الناصر بكسوة أعطى هو للذي يوصلها إليه أحسن منها إزراء على الملك الناصر، وأظهر أموراً أوجبت قتله فقتله، وبعث برأسه إلى أبي سعيد وقد ذكرنا قصته وقصة قراسنقور فيما تقدم. ولما قتل الجوبان جيء به وبولده ميتين، فوقف بهما على عرافات، وحملا إلى المدينة ليدفنا في التربة التي اتخذها الجوبان بالقرب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك ودفن بالبقيع. والجوبان هو الذي جلب الماء إلى مكة شرفها الله تعالى.
ولما استقل السلطان أبو سعيد بالملك أراد أن يتزوج بنت الجوبان، وكانت تسمى بغداد خاتون، وهي من أجمل النساء، وكانت تحت الشيخ حسن الذي تغلب بعد موت أبي سعيد على الملك، وهو ابن عمته، فأمره فنزل عنها وتزوجها أبو سعيد، وكانت أحظى النساء لديه. والنساء لدى الأتراك والتتر لهن حظ عظيم. وهم إذا كتبوا أمراً يقولون فيه عن امر السلطان والخواتين ولكل خاتون كثير من البلاد والولايات والمجابي العظيمة، وإذا سافرت مع السلطان تكون في محلة على حدة. وغلبت هذه الخاتون على أبي سعيد، وفضلها على سواها، وأقامت على هذه الحال مدة أيام. ثم تزوج امرأة تسمى بدلشاد فأحبها حباً شديداً، وهجر بغداد خاتون، فغارت لذلك، وسمته في منديل مسحته به بعد الجماع فمات وانقرض عقبه وغلبت أمراؤه على الجهات كما سنذكره.
ولما عرف الأمراء أن بغداد خاتون هي التي سمته أجمعوا على قتلها وبدر لذلك الفتى الرومي خواجة لؤلؤ، وهو من كبار الأمراء. وقدمائهم، فأتاها وهي في الحمام فضربها بدبوسه وقتلها. وطرحت هنالك أياماً مستورة العورة بقطعة تليس، واستقل الشيخ حسن بملك عراق العرب، وتزوج دلشاد امرأة السلطان أبي سعيد، كمثل ما كان أبو سعيد فعله من تزوج امرأته.
● [ ذكر المتغلبين على المُلك بعد موت السلطان أبي سعيد ] ●
فمنهم الشيخ حسن ابن عمته الذي ذكرناه آنفاً، تغلب على عراق العرب جميعاً، ومنهم إبراهيم شاه ابن الأمير سنيته، تغلب على الموصل وديار بكر، ومنهم الأمير أرتنا، تغلب على بلاد التركمان المعروفة أيضاً ببلاد الروم، ومنهم حسن خواجة بن الدمرطاش بن الجوبان، تغلب على تبريز والسلطانية وهمذان وقم وقاشان والري ورامين وفرغان والكرج، ومنهم الأمير طغيتمور تغلب على بعض بلاد خراسان، ومنهم الأمير حسن ابن الأمير غياث الدين تغلب على هراة ومعظم بلاد خراسان، ومنهم ملك دينار تغلب على بلاد مكران وبلاد كبج، ومنهم محمد شاه ابن مظفر تغلب على يزد وكرمان وورقو، ومنهم الملك قطب الدين تمهتن تغلب على هرمز وكيش والقطيف والبحرين وقلهات، ومنهم السلطان أبو إسحاق الذي تقدم ذكره تغلب على شيراز وأصفهان وملك فارس، وذلك مسيرة خمس وأربعين، ومنهم السلطان أفراسياب أتابك تغلب على إيذج وغيرها من البلاد وقد تقدم ذكره. " ولنعد إلى ما كنا بسبيله " ثم خرجت من بغداد في محلة السلطان أبي سعيد، وغرضي أن أشاهد ترتيب ملك العراق في رحيله ونزوله وكيفية تنقله وسفره. وعادتهم أنهم يرحلون عند طلوع الفجر، وينزلون عند الضحى وترتيبهم أنه يأتي كل أمير من الأمراء بعسكره وطبوله وأعلامه فيقف في موضع لا يتعداه قد عين له، إما في الميمنة أو الميسرة، فإذا توافوا جميعاً وتكاملت صفوفهم، ركب الملك وضربت طبول الرحيل وبوقاته وأنفاره، وأتى كل أمير منهم فسلم على الملك وعاد إلى موقفه، ثم يتقدم أمام الملك الحجاب والنقباء، ثم يليهم أهل الطرب، وهم نحو مائة رجل عليهم الثياب الحسنة وتحتهم مراكب السلطان، وأمام أهل الطرب عشرة من الفرسان قد تقلدوا عشرة من الطبول، وخمسة من الفرسان لديهم خمس صرنايات، وهي تسمى عندنا بالغيطات، فيضربون تلك الأطبال والصرنايات. ثم أمسكوا وغنى عشرة آخرون نوبتهم هكذا، إلى أن تتم عشر نوبات، فعند ذلك يكون النزول، ويكون عن يمين السلطان وشماله حين سيره كبار الأمراء، وهم نحو خمسين، ومن ورائه أصحاب الأعلام والأطبال والأنفار والبوقات، ثم مماليك السلطان ثم الأمراء على مراتبهم، وكل أمير له أعلام وطبول وبوقات.
ويتولى ترتيب ذلك كله أمير جند وله جماعة كبيرة وعقوبة من تخلف عن فوجه وجماعته أن يؤخذ تماقه فيملأ رملاً، ويعلق في عنقه، ويمشي على قدميه حتى يبلغ المنزل، فيؤتى به إلى الأمير، فيبطح على الأرض ويضرب خمساً وعشرين مقرعة على ظهره، سواء كان رفيعاً أو وضيعاً، لا يحاشون من ذلك أحداً. وإذا نزلوا ينزل السلطان ومماليكه في محلة على حدة، وتنزل كل خاتون من خواتينه في محلة على حدة، ولكل واحدة منهن الإمام والمؤذن والقراء والسواق، وينزل الوزراء والكتاب وأهل الأشغال على حدة، وينزل كل أمير على حدةٍ ويأتون جميعاً إلى الخدمة بعد العصر، ويكون انصرافهم بعد العشاء الأخيرة، والمشاعل بين أيديهم.
فإذا كان الرحيل ضرب الطبل الكبير، ثم يضرب طبل الخاتون الكبرى التي هي الملكة، ثم أطبال سائر الخواتين، ثم طبل الوزير، ثم أطبال الوزراء دفعة واحدة، ثم يركب أمير المقدمة في عسكره، ثم يتبعه الخواتين، ثم أثقال السلطان وزاملته، وأثقال الخواتين ثم أميرتان في عسكر له، يمنع الناس من الدخول فيما بين الأثقال والخواتين، ثم سائر الناس. وسافرت في هذه المحلة عشرة أيام صحبة الأمير علاء الدين محمدٍ إلى بلدة تبريز، وكان من الأمراء الكبار الفضلاء، فوصلنا بعد عشرة أيام إلى مدينة تبريز، ونزلنا بخارجها في موضع يعرف بالشام. وهنالك قبر قازان ملك العراق، وعليه مدرسة حسنة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر من الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء. وأنزلني الأمير بتلك الزاوية وهي ما بين أنهار متدفقة وأشجار مورقة.
وفي غد ذلك اليوم دخلت المدينة على باب يعرف بباب بغداد، ووصلنا إلى سوق عظيمة تعرف بسوق قازان، من أحسن أسواق بلاد الدنيا كل صناعة فيها على حدة لا تخالطها أخرى واجتزت بسوق الجوهريين، فحار بصري مما رأيته من أنواع الجواهر، وهي بأيدي مماليك حسان الصور، عليهم الثياب الفاخرة وأوساطهم مشدودة بمناديل الحرير، وهم بين أيدي التجار يعرضون الجواهر على نساء الأتراك، وهن يشترينه كثيراً، ويتنافسن فيه. فرأيت من ذلك كله فتنة يستعاذ الله منها. ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك وأعظم، ثم وصلنا إلى المسجد الجامع الذي عمره الوزير علي شاه المعروف بجيلان، وبخارجه عن يمين مستقبل القبلة مدرسة، وعن يساره زاوية. وصحنه مفروش بالمرمر وحيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج، ويشقه نهر ماء، وبه أنواع الأشجار ودوالي العنب وشجر ياسمين. ومن عاداتهم أنهم يقرأون به كل يوم سورة يس وسورة الفتح وسورة عم بعد صلاة العصر في صحن الجامع، ويجتمع لذلك أهل المدينة. وبتنا ليلة بتبريز، ثم وصل بالغد أمر السلطان أبي سعيد إلى الأمير علاء الدين بأن يصل إليه فعدت معه. ولم ألق بتبريز أحداً من العلماء.
ثم سافرنا إلى أن وصلنا محلة السلطان، فأعلمه الأمير المذكور بمكاني وأدخلني عليه، فسألني عن بلادي وكساني وأركبني، وأعلمه الأمير أني أريد السفر إلى الحجاز الشريف فأمر لي بالزاد والركوب في السبيل مع المحمل، وكتب لي بذلك إلى أمير بغداد خواجه معروف، فعدت إلى بغداد، واستوفيت ما أمر لي به السلطان، وكان قد بقي لأوان سفر الركب أزيد من شهرين، فظهر لي أن أسافر إلى الموصل وديار بكر، لأشاهد تلك البلاد، وأعود إلى بغداد في حين سفر الركب، فأتوجه إلى الحجاز الشريف. فخرجت من بغداد إلى منزل على نهر دجيل، وهو متفرع عن دجلة، فيسقي قرى كثيرة. ثم نزلنا بعد يومين بقرية كبيرة تعرف بحربة، مخصبة فسيحة. ثم رحلنا فنزلنا موضعاً على شط دجلة بالقرب من حصن يسمى المعشوق، وهو مبني على الدجلة. وفي الجهة الشرقية من هذا الحصن مدينة سر من رأى وتسمى أيضاً سامرا. ويقال لها سام راه، ومعناه بالفارسية طريق سام وراه هو الطريق وقد استولى الخراب على هذه المدينة، فلم يبق منها إلا القليل وهي معتدلة الهواء رائعة الحسن على بلائها ودروس معالمها، وفيها أيضاً مشهد صاحب الزمان كما بالحلة، ثم سرنا منها مرحلة ووصلنا إلى مدينة تكريت، وهي مدينة كبيرة فسيحة الأرجاء مليحة الأسواق كثير الجوامع وأهلها موصوفون بحسن الأخلاق والدجلة من الجهة الشمالية منها ولها قلعة حصينة على شط الدجلة والمدينة عتيقة البناء عليها سور يطيف بها ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا قرية تعرف بالعقر على شط الدجلة وبأعلاها ربوة كان بها حصن وبأسفلها الخان المعروف بخان الحديد له أبراج وبناؤه حافل والقرى والعمارة متصلة من هنالك إلى الموصل. ثم رحلنا ونزلنا موضعاً يعرف بالقيارة بمقربة من دجلة وهنالك أرض سوداء فيها عيون تنبع بالقار ويصنع له أحواض ويجتمع فيها فتراه شبه الصلصال على وجه الأرض حالك اللون صقيلاً رطباً وله رائحة طيبة وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق فتقذفه إلى جوانبها فيصير أيضاً قاراً. وبمقربة من هذا الموضع عين كبيرة فإذا أرادوا نقل القار منها أوقدوا عليها النار فتنشف النار ما هنالك رطوبة مائية ثم يقطعونه قطعاً وينقلونه. وقد تقدم لنا ذكر العين التي بين الكوفة والبصرة على هذا النحو ثم سافرنا من هذه العيون مرحلتين ووصلنا بعدهما إلى الموصل.
● [ مدينة الموصل ] ●
وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيد البروج وتتصل بها دور السلطان وقد فصل بينها وبين البلد شارع متسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان أبراجهما كثيرة متقاربة وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكن فتحها فيه لسعته ولم أر في أسوار البلاد مثله إلا السور الذي على مدينة دهلي حضرة ملك الهند. وللموصل ربض كبير فيه الجوامع والحمامات والفنادق والأسواق وبه مسجد جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تشرف على دجلة في النهاية من الحسن والإتقان وامامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث وفي صحن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن. وقيسارية الموصل مليحة لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء. وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى وهنالك تل يونس عليه السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة إليه يقال انه أمر قومه بالتطهر فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب يقال أنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام وأثر السور المحيط بها ظاهر ومواضع الأبواب التي هي متبينة. وفي التل بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد، وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصع يقال انه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال انه كان بيت متعبده عليه السلام. وأهل الموصل يخرجون في كل ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون فيه. وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبة في الغريب وإقبال عليه وكان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر وهو من الكرماء الفضلاء أنزلني بداره وأجرى علي الانفاق مدة مقامي عنده وله الصدقات والإيثار المعروف.
وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوض إليه أمر هذه المدينة وما يليها ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدواً وعشياً وله شجاعة ومهابة وولده في حين كتب هذا في حضرة فاس مستقر الغرباء ومأوى الفرق ومحط رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المؤمنين بهجة وإشراقاً وحرس أرجاءها ونواحيها.
ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين الرصد وهي على نهر عليه جسر مبني وبها خان كبير. ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ولذلك سميت جزيرة وأكثرها خراب ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبني بالحجارة محكم العمل وسورها مبني بالحجارة أيضاً وأهلها فضلاء لهم محبة في الغرباء ويوم نزلنا بها رأينا جبل الجودي المذكور في كتاب الله عز وجل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وهو جبل عال مستطيل.
ثم رحلنا مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين وهي مدينة عظيمة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفة والاشجار المنتظمة والفواكه الكثيرة وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ويدور بها نهر ينعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها وينقسم انقساماً فيتخلل بساتينها ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجري في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصب في صهريجيهن أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي وبهذه المدينة مارستان ومدرستان وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ، قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة،
ثم رحلنا إلى مدينة سنجار، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار والعيون المطردة والأنهار، مبنية في سفح جبل، تشبه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها، ومسجدها الجامع مشهور البركة، يذكر ان الدعاء به مستجاب، ويدور به نهر ماء ويشقه. وأهل سنجار أكراد، ولهم شجاعة وكرم، وممن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكردي أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات يذكر عنه أنه لا يفطر إلا بعد أربعين يوماً ويكون إفطاره على نصف قرص من الشعير، لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار ودعا لي وزودني بدراهم، لم تزل عندي إلى ان سلبني كفار الهنود.
ثم سافرنا إلى مدينة دارا، وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر، لها قلعة مشرفة، وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة، بها كان نزولنا،
ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين، وهي عظيمة في سطح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقاً وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها من الصوف المعروف بالمرعز ولها قلعة شماء من مشاهير القلاع في قمة جبلها. قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تسمى الشهباء
وقلعة حلب تسمى الشهباء أيضاً وهذه المسمطة بديعة مدح بها الملك المنصور سلطان ماردين، وكان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيام قازان ملك التتر، وصاهر السلطان خدابنده بابنته دنيا خاتون.
رحلات إبن بطوطة
الجزء الأول
منتدى توتة وحدوتة - البوابة