بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
عقلاء المجانين للنيسابوري
ختام المختصر والحمد لله
أدباء وحكماء
● قال الفضيل بن عياض يرحمه الله:
الدنيا دار المرضى، والناس فيها مرضى، وللمجانين في دار المرضى شيئان: غل وقيد. ولنا غل الهوى، وقيد المعصية.
● قال إسحاق بن أحمد الخزاعي عن أبيه قال:
قدم هارون الرشيد مدينة الرقة وبها دير يقال له دير. زكى فلما أقبلت المواكب أشرف أهل الدير ينظرون وفيهم مجنون مسلسل، فلما أقبل هارون رمى المجنون بنفسه فقال: يا أمير المؤمنين قد قلت فيك ثلاثة أبيات فأُنشدك، قال: نعم. فقال:
لحظات طرفك في العدى ● تغنيك عن سلّ السـيوف
وعزيم رأيك في النهى ● يكفيك عاقبـة الصــــروف
وسيول كفك في الندى ● بحر يفيض على الضعيف
ثم قال: يا أمير المؤمنين ، هات ثلاثة آلاف دينار أشتري بها كساءً وتمراً، فقال الرشيد: تدفع إليه ثلاثة آلاف دينار، فحملت إلى أهله وأُخرج من الدير وكان من أهل الشرف.
● قال سوار بن عبد الله القاضي:
دخلت بعض حمامات البصرة، فقلت لصاحب الحمام فيه أحد ، قال: لا، إلا شيخ موسوس. فدخلت فإذا شيخ فقلت: يا شيخ ، ما حرفتك ، قال: أنا أبيع الكعاب والدوامات من الصبيان، فقلت في نفسي مع من وقعت. فقال لي الشيخ: فما حرفتك ، قلت: لا أُخبرك، قال: والله ما أنصفتني سألتني عن حرفتي فأخبرتك، وسألتك عن حرفتك فلم تخبرني. فقلت: أنا أنظر فيما بين الناس، وأمنع الظالم من المظلوم. قال الشيخ: ويقبلون منك، قلت: من لم يقبل حبسته وأدبته، قال: ومنك ذلك، قلت: نعم إن معي أعواناً من السلطان. قال الشيخ: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به. قال سوار فتصاغرت إلي نفسي.
● قال الجاحظ:
رأيت مجنوناً بالكوفة فقال لي: من أنت ، قلت: عمرو بن بحر الجاحظ . قال: يزعم أهل البصرة أنك أعلمهم. قلت: إن ذلك يقال. قال: من أشعر الناس ، قلت: امرئ القيس. قال: حيث يقول ماذا ، قلت:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ● لدى وكرها العناب والخشف البالي
قال: فأنا أشعر منه، قلت: حيث تقول ماذا ، قال حيث أقول:
كأن وراء الستر فوق فراشها ● قناديل زيت من ورام قرام
فأينا أشعر ، قلت: أنت. قال: فأيهما أقوى الماء ، قلت: الريح. قال: لم تصب. قلت: وكيف ، قال: يقع الثوب في الماء فيبتل في طرفة عين، ويبسط في الريح فلا يجف إلا بعد ساعات، أصبت أم أخطأت ، فقلت: أصبت.
● قال ذو النون:
ركبت البحر ومعنا مجنون أسود ذاهب العقل فلما توسطنا البحر قال الملاح: زنوا الكراء، فوزنا حتى إذا بلغوا إليه فقالوا له زن فأنشأ يقول:
ليس القلوب تفوز أنس أنيسها ● فتحيرت بين المحبة والهوى
قال الملاح: زن، قال: بعثنا إلى الخازن ليزن لك، قال: وأين الخازن ، قال: في البحر صيرفي خازن. قال: ذو النون فبينا نحن في ذلك إذ هاج موج عظيم فخرجت منه سمكة فاغرة فاها مملوء فوها دنانير، فجاءت حتى وقفت بقرب الأسود. فقال الأسود: يا ملاح ، خذها إليك وإياك أن تسرق، فأخذ منها ديناراً، فلما خرجنا سألت عنه فقيل هذا مجنون لم يفطر منذ خمسين سنة لا يطعم في الشهر إلا مرة.
● قال المبرد:
دخلت دار المرضى فإذا أنا بشاب مقيد إلى جدار. فقال لي: من أنت وما حرفتك ، فسكت. فنظر إلى المحبرة في يدي، فقال: أمن أهل الحديث وحملة الآثار ، أم أهل الأدب والنحو ، قلت: من أهل الأدب والنحو. قال: من أصحاب من ، قلت: من أصحاب أبي عثمان المازني. قال: فهل لك معرفة بصاحبه الذي قعد في مكانه ، قلت: إني به لعارف. قال: ما سمعت في نسبه ، قلت: يقولون أنه من ثمالة الأزد. قال: أنه مطعون فيه. قلت: لا. قال: قد قال عبد الصمد فيه:
ســألنا عن ثمالة كل حـيّ ● فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ● فقالوا زدتنا بهم جهـالـه
● قال أبو القاسم الصوفي:
دخلت البيمارستان بالبصرة فرأيت في المجانين من تفرست فيه فسلمت فرد علي، فقلت: ما هذا المكان ، فقال: رضي لي بهذا فلا يعارض فيما يريد،
تعرف في الفكر إذا ● رحّله الـشـــوق رحل
وحــيث ما كان إذا ● أنــزله الحــب نـــــزل
وهكذا أهل الهوى ● يلقون في الحب الخبل
مــخـتـبـل مــعـتبر ● يـهـيـم فـي كـل جـبــل
لو خطر الوهم به ● على التجـني لاعتــدل
● قال أحمد بن يحيى:
كان ببغداد فتى يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر كما كان، فاستقبلني يوماً في بعض السكك فقال: ثعلب ، قلت: نعم، قال: أنشدني فأنشدته:
أعـار الـجـود نـائلـه ● إذا مـا مـالـه نـفــدا
وإن أسد شكا جـبناً ● أعار فؤاده الأســـدا
فضحك. ثم قال: ألا قال:
علم الجود الندى حتى إذا ● ما حكاه علّم البأس الأسد
فلـه الجـود مـقـرّ بـالنـدى ● ولـه اللـيث مقـــرٌّ بالجـلـد
● قال حيان بن علي التونسي:
ركبت بحر الصين فوقعت في جزيرة فدخلت بعض سككها فقيل لي احذر، فإن هناك فتى مجنوناً، فبينما أنا واقف إذ خرج علي فتىً مدهوش، مرتدياً بأشجانه، مؤتزراً بأحزانه، وهو يقول: لك هطلت الآماق، ولك بكت الأحداق، وذكرك مشهور في الآفاق، يا من ينعم بحبه لأهل الأشفاق، يا من يداوي جراحات أهل الوجد والاحتراق، فسلمت عليه فرد علي، ثم أنشأ يقول:
وكــن لربــك ذا حــب لتخدمــه ● إن المحبين للأحباب خدّام
قوم يبيتون من وجد ومن قلق ● ومن محبته في الليل قـوّام
قد قطّعوا الليل دهراً في محبته ● ما أن ترونهم بالليل نوّام
● قال الحسن بن علي بن عبد الرحمن القناد قال:
دخلت دار المرضى بالشام فرأيت شاباً مسلسلاً مغلولاً مستوقراً فقال: يا شيخ إن رويتك أبياتاً تحفظها ، قلت: نعم. قال:
يا نفس قومي بي فقد نام الورى ● ان تفعلي خيراً فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعـي عـنك الكرى ● عند الصباح يحمد القوم السـرى
● قال سهل بن علي الأنباري:
اجتمع قوم إلى المنصور فقالوا له: يا أبا السري في جوارنا رجل مدهوش، ذاهب العقل، لا ترى له صورة. فقال منصور: أوقفوني عليه، فأتوا به بابه ليلاً فلما غارت النجوم وهدأت العيون سمعوه يقول:
طــال القيام لهجعة النــوام ● وتــراك مطلـعاً لطــول مقامــي
يا سيدي ومؤملي وموثقي ● من أجل حبك قد هجرت منامي
فأجابه منصور:
يا ذا الذي هجر الرقاد لربه ● إبشر بدار تحية وسلام
يوم القدوم عليه في دار البقا ● يوم تزف إليه بالخدام
● قال بعضهم:
دخلت دار المجانين وعلي شارة حسنة، وثياب فاخرة، فإذا شيخ مقيد مغلول، فجعلت أنظر إليه، فقال: مه ، أتعجب مني.
أتعجب مني في قـيودي وأغلالي ● وأنت رضي البال في العز والمال
فلا أنت تـبـقـى بـعـد مالٍ كسـبته ● ولا أنـا أبقى في قيودي وأغلالي
● قال محمد بن عماد البغدادي:
كان بجوار جنيد شيخ مجنون، فلما مات جنيد رحمه الله وقف الشيخ المجنون على تل، ثم أنشأ يقول:
واحـسـرتـا مـن فــراق قـــوم ● هم المصابيح والحصون
والمزن والمدن والـرواسـي ● والخير والأمن والسـكـون
لم تـتـغـيّر لـــنـــا اللـيالـــي ● حتـى تـوفـيهــم الـــمنـون
فكـل جـمـر لـنـا قـــلـــوب ● وكــل مـــاء لـــنـــا عــــيون
● قال الوليد بن عبد الرحمن السقاء برملة:
بينا أنا ذات ليلة في منزلي، إذ طرق الباب طارق، فقلت: من طرق الباب ، فأنشأ يقول:
أنا الذي ألبـسـني ســيدي ● لمـا تـعـريت لباس الـوداد
فصرت لا آوي إلى مؤنس ● إلاّ إلى مـالـك رقّ العبـاد
فخرجت فإذا أنا بغلام ذاهب العقل، هائم مجنون مستوفز، فدخل الدار وقال: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)، فعلمت أنه جائع، فقدمت إليه شيئاً فأكل وشرب، ثم وثب إلى الباب وأنشأ يقول:
عليك اتكالي لا على الناس كلهم ● وأنت بحالي عـالــم لا تُـعـلم
وأقسمت أني كلما جعت سيدي ● ستفتح لي باباً فأُسقى وأُطعم
قال الوليد السقاء: فقلت له توصيني بوصية فقال:
الزم الخوف مع الحزن ● وتقوى الله فأربـح
وذر الدنيـا مع الأخـ ● رى فتقوى الله أرجح
فاجتهد في ظلمة الليـ ● ل إذا ما الليل أجنح
واســـــأل الله ذنوبـك ● فعلـلّ الله يصــــــفح
● قال أبو الهذيل العلاف:
رحلت من البصرة أريد العسكر فمررت بدير هرقل فقلت لأدخلن هذا الدير لأرى ما فيه، فإذا شيخ حسن اللحية في السلسلة فأدمت النظر إليه، فلما رآني لا أرد بصري عنه قال لي: معتزلي أنت ، قلت: نعم. قال: إمامي ، قلت: نعم. قال: تقول القرآن مخلوق ، قلت: نعم. قال: كن أبا الهذيل العلاف، قلت: أنا أبو الهذيل. قال: أسألك ، قلت: سل. قال: أخبرني عن الرسول صلى الله عليه وسلم أليس هو أمين في السماء وفي الأرض ، قلت: بلى. قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى ، قلت: لا. قال: فأخبرني عن رأيه أليس هو الذي لا يدخله زلل اوشبهة، وهو المعصوم من الشبهة والريبة، قلت: بلى. قال: فأخبرني عمن هو دونه من الخلق. أليس يدخلهم في رأيهم الفساد والغفلة والهوى وانهم أضداد في كل شيء وإن كانوا أخياراً. قلت: بلى. قال: فلأي علة لم يقم لهم علماً ينصبه بقوله هذا خليفتكم بعدي فلا تقتتلوا. لمن يفعل هذا الا لا يكون الاختلاف والفساد في أُمته ، قلت: معاذ الله أن يكون ذلك. قال: فلم تركهم وألجأهم إلى رأي من دونه في الصفة، إذ لم يحب الاختلاف والتشتت ، فسكت لم أدر ما أقول له. فقال: مالك لا تجيب الا تحسن ، ثم تركته وخرجت ، فلما رآني مولياً ناداني: الشيخ ارجع إلينا، فرجعت إليه. فقال: أحسبك تريد الخليفة، قلت: نعم. قال: الا أن تصير إلى الخليفة، إقضي لي حاجتي. فقلت: وما هي ، قال: ان تطلقني، فانصرفت عنه متعجباً من حاله. فلما صرت إلى سر من رأى ودخلت على الواثق قال لي: ما كان حالك في سفرك ، قلت: أعجوبة يا أمير المؤمنين ، لم أسمع بمثلها. فقال: وما هي ، فقصصت عليه حديث المجنون، فقال: يحضر المجنون، فأُحضر وأصلح من شأنه وأُدخل عليه، فلما رآني قال: حاجتنا. قلت: نعم. قال الواثق لمحمد بن مكحول: كلمة. فقال المجنون: يا أمير المؤمنين ، هذا ليس يحسن شيئاً، فإن كان عندك من يحسن. قال الواثق: فاسأل فإن المجلس مشترك، فمن كان يحسن أجابك. فسأل عن المسألة المذكورة فأحجم القوم عن الجواب، فالتفت إليه الواثق فقال: ليس ههنا من يجب، فأجب. فقال: سخين العين أكون سائلاً، ومجيباً في وقت ، فقال الواثق: وما عليك أن تعلمنا. قال: أما إذا كان كذا، فنعم، ان الله سبحانه حكم فحكم في خلقه ولم يكن بد من تعبدهم وكان الاختلاف بينهم حكمة في خلقه، إذ قد كان حكم عليهم بذاك الاختلاف قبل خلقهم فأحجم، ثم قام الواثق: ليدخل الدار. فقال المجنون: أخذت منفوعنا وفررت ، فأمر بالاحسان إليه.
● قال الأصمعي:
ركب جعفر بن سليمان أمير البصرة في زي عجيب من اللباس والغلمان والدواب والصقور والفهود، وكان عندنا رجل بالبصرة يتفقه، وكان في حداثة سنه يجالس العباد، فغلب على عقله، فخرج في طريق جعفر فلما أبصره وقف وقال يا جعفر بن سليمان ، أنظر أي رجل تكون إذا خرجت من قبرك وحدك، وحملت على الصراط وحدك، وقدم إليك كتابك وحدك، ولم يغن عنك من الله شيئاً. يا جعفر إنك تموت وحدك. وتقف بين يدي الله وحدك، وتدخل قبرك وحدك، ويحاسبك الله وحدك، فانظر لنفسك، قد نصحت لك. فرجع جعفر من نزهة تلك، وسأل عن الرجل فقيل له مغلوب على أمره.
● قال عمر بن عثمان الصوفي:
دخلت جبال الشام وإذا أنا برجل في كوخ، فأقمت عليه يوماً وليلة لم أسمع كلاماً، فخرج من كوخه فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي ، شهد قلبي لك في النوازل بسعة روح الفضل، وكيف لا يشهد لك قلبي بذلك أفأحسب أن يألف قلبي غيرك ، هيهات ، لقد خاب لديك المقصرون. ثم قال: إلهي ما أحلى ذكرك ، ألست الذي قصدك المؤملون ، فنالوا منك ما طلبوا. فقلت أصلحك الله إني منتظرك منذ يوم وليلة أُريد أن أسمع كلامك. قال قد رأيتك حين أقبلت ولم يذهب روعك من قلبي. قلت وما راعك مني ، قال فراغك في يوم عملك، وبطالتك في يوم شغلك، وتركك الزاد ليوم معادك، ومقامك على الظنون. فقلت إن الله سبحانه كريم، وما ظن به عبد شيئاً إلا أعطاه. قال نعم إذا وافقته السعادة والعمل الصالح. قلت أههنا فتية يستراح إليهم ، قال نعم. قلت هل عندهم دواء يتعالجون به ، قال إذا كلوا داووا الكلال بالكلال، وحثوا الحث بالأنخال، فتسكن العروق وتهدأ الآلام.
● قال زياد النميري:
دخلت دار المجانين فإذا شاب حسن الوجه، في زاوية مشدود إلى جدار. فقال لي: أتقرأ القرآن ، قلت: نعم. قال: فاقرأ، فقرأت: (اللهُ لطيفٌ بعباده يزرق من يشاء وهو القويُّ العزيز) فقال: أخبرني ما معنى اللطيف ، قلت: البار الرفيق. قال: هذا في وصف الناس. قلت: فما اللطيف ، قال: الذي يعرف بلا كيف.
● قال سكين بن موسى:
كنت مجاوراً بمكة وكان بها مجنون ينطق بالحكم. فقلت له: أين تأوي بالليل ، فقال: دار الغرباء. فقلت: ما أعرف بمكة داراً يقال لها دار الغرباء. قال: يا مسكين ، دار الغرباء المقابر. فقلت: أما تستوحش في الليل وظلمته ، قال: إذا فكرت في القبر ووحشته هان علي الليل وظلمته.
أقوال بليغة:
● قيل لبعض المجانين: لم سميت مجنوناً ، فقال: أنا مجنون عن معصيته لا عن معرفته.
● وقيل لآخر: أغربت أنت ، فقال: أما عن عقلي فنعم. وأما عن البلاد فلا.
● وقيل لآخر: لم أر مجنوناً أعقل منك. قال: الجنون ما أنت فيه، تأكل رزق الله، وتطيع عدوه.
● وقيل لآخر: هل أنت مجنون ، قال: وهل أنت عاقل , كل الناس مجانين، ولكن حظي صار أوفر.
تم بحمد الله تعالى
مختصر عقلاء المجانين للحسن بن حبيب النيسابوري
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله
منتدى دنيا الكراكيب . البوابة
الدنيا دار المرضى، والناس فيها مرضى، وللمجانين في دار المرضى شيئان: غل وقيد. ولنا غل الهوى، وقيد المعصية.
● قال إسحاق بن أحمد الخزاعي عن أبيه قال:
قدم هارون الرشيد مدينة الرقة وبها دير يقال له دير. زكى فلما أقبلت المواكب أشرف أهل الدير ينظرون وفيهم مجنون مسلسل، فلما أقبل هارون رمى المجنون بنفسه فقال: يا أمير المؤمنين قد قلت فيك ثلاثة أبيات فأُنشدك، قال: نعم. فقال:
لحظات طرفك في العدى ● تغنيك عن سلّ السـيوف
وعزيم رأيك في النهى ● يكفيك عاقبـة الصــــروف
وسيول كفك في الندى ● بحر يفيض على الضعيف
ثم قال: يا أمير المؤمنين ، هات ثلاثة آلاف دينار أشتري بها كساءً وتمراً، فقال الرشيد: تدفع إليه ثلاثة آلاف دينار، فحملت إلى أهله وأُخرج من الدير وكان من أهل الشرف.
● قال سوار بن عبد الله القاضي:
دخلت بعض حمامات البصرة، فقلت لصاحب الحمام فيه أحد ، قال: لا، إلا شيخ موسوس. فدخلت فإذا شيخ فقلت: يا شيخ ، ما حرفتك ، قال: أنا أبيع الكعاب والدوامات من الصبيان، فقلت في نفسي مع من وقعت. فقال لي الشيخ: فما حرفتك ، قلت: لا أُخبرك، قال: والله ما أنصفتني سألتني عن حرفتي فأخبرتك، وسألتك عن حرفتك فلم تخبرني. فقلت: أنا أنظر فيما بين الناس، وأمنع الظالم من المظلوم. قال الشيخ: ويقبلون منك، قلت: من لم يقبل حبسته وأدبته، قال: ومنك ذلك، قلت: نعم إن معي أعواناً من السلطان. قال الشيخ: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به. قال سوار فتصاغرت إلي نفسي.
● قال الجاحظ:
رأيت مجنوناً بالكوفة فقال لي: من أنت ، قلت: عمرو بن بحر الجاحظ . قال: يزعم أهل البصرة أنك أعلمهم. قلت: إن ذلك يقال. قال: من أشعر الناس ، قلت: امرئ القيس. قال: حيث يقول ماذا ، قلت:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ● لدى وكرها العناب والخشف البالي
قال: فأنا أشعر منه، قلت: حيث تقول ماذا ، قال حيث أقول:
كأن وراء الستر فوق فراشها ● قناديل زيت من ورام قرام
فأينا أشعر ، قلت: أنت. قال: فأيهما أقوى الماء ، قلت: الريح. قال: لم تصب. قلت: وكيف ، قال: يقع الثوب في الماء فيبتل في طرفة عين، ويبسط في الريح فلا يجف إلا بعد ساعات، أصبت أم أخطأت ، فقلت: أصبت.
● قال ذو النون:
ركبت البحر ومعنا مجنون أسود ذاهب العقل فلما توسطنا البحر قال الملاح: زنوا الكراء، فوزنا حتى إذا بلغوا إليه فقالوا له زن فأنشأ يقول:
ليس القلوب تفوز أنس أنيسها ● فتحيرت بين المحبة والهوى
قال الملاح: زن، قال: بعثنا إلى الخازن ليزن لك، قال: وأين الخازن ، قال: في البحر صيرفي خازن. قال: ذو النون فبينا نحن في ذلك إذ هاج موج عظيم فخرجت منه سمكة فاغرة فاها مملوء فوها دنانير، فجاءت حتى وقفت بقرب الأسود. فقال الأسود: يا ملاح ، خذها إليك وإياك أن تسرق، فأخذ منها ديناراً، فلما خرجنا سألت عنه فقيل هذا مجنون لم يفطر منذ خمسين سنة لا يطعم في الشهر إلا مرة.
● قال المبرد:
دخلت دار المرضى فإذا أنا بشاب مقيد إلى جدار. فقال لي: من أنت وما حرفتك ، فسكت. فنظر إلى المحبرة في يدي، فقال: أمن أهل الحديث وحملة الآثار ، أم أهل الأدب والنحو ، قلت: من أهل الأدب والنحو. قال: من أصحاب من ، قلت: من أصحاب أبي عثمان المازني. قال: فهل لك معرفة بصاحبه الذي قعد في مكانه ، قلت: إني به لعارف. قال: ما سمعت في نسبه ، قلت: يقولون أنه من ثمالة الأزد. قال: أنه مطعون فيه. قلت: لا. قال: قد قال عبد الصمد فيه:
ســألنا عن ثمالة كل حـيّ ● فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ● فقالوا زدتنا بهم جهـالـه
● قال أبو القاسم الصوفي:
دخلت البيمارستان بالبصرة فرأيت في المجانين من تفرست فيه فسلمت فرد علي، فقلت: ما هذا المكان ، فقال: رضي لي بهذا فلا يعارض فيما يريد،
تعرف في الفكر إذا ● رحّله الـشـــوق رحل
وحــيث ما كان إذا ● أنــزله الحــب نـــــزل
وهكذا أهل الهوى ● يلقون في الحب الخبل
مــخـتـبـل مــعـتبر ● يـهـيـم فـي كـل جـبــل
لو خطر الوهم به ● على التجـني لاعتــدل
● قال أحمد بن يحيى:
كان ببغداد فتى يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر كما كان، فاستقبلني يوماً في بعض السكك فقال: ثعلب ، قلت: نعم، قال: أنشدني فأنشدته:
أعـار الـجـود نـائلـه ● إذا مـا مـالـه نـفــدا
وإن أسد شكا جـبناً ● أعار فؤاده الأســـدا
فضحك. ثم قال: ألا قال:
علم الجود الندى حتى إذا ● ما حكاه علّم البأس الأسد
فلـه الجـود مـقـرّ بـالنـدى ● ولـه اللـيث مقـــرٌّ بالجـلـد
● قال حيان بن علي التونسي:
ركبت بحر الصين فوقعت في جزيرة فدخلت بعض سككها فقيل لي احذر، فإن هناك فتى مجنوناً، فبينما أنا واقف إذ خرج علي فتىً مدهوش، مرتدياً بأشجانه، مؤتزراً بأحزانه، وهو يقول: لك هطلت الآماق، ولك بكت الأحداق، وذكرك مشهور في الآفاق، يا من ينعم بحبه لأهل الأشفاق، يا من يداوي جراحات أهل الوجد والاحتراق، فسلمت عليه فرد علي، ثم أنشأ يقول:
وكــن لربــك ذا حــب لتخدمــه ● إن المحبين للأحباب خدّام
قوم يبيتون من وجد ومن قلق ● ومن محبته في الليل قـوّام
قد قطّعوا الليل دهراً في محبته ● ما أن ترونهم بالليل نوّام
● قال الحسن بن علي بن عبد الرحمن القناد قال:
دخلت دار المرضى بالشام فرأيت شاباً مسلسلاً مغلولاً مستوقراً فقال: يا شيخ إن رويتك أبياتاً تحفظها ، قلت: نعم. قال:
يا نفس قومي بي فقد نام الورى ● ان تفعلي خيراً فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعـي عـنك الكرى ● عند الصباح يحمد القوم السـرى
● قال سهل بن علي الأنباري:
اجتمع قوم إلى المنصور فقالوا له: يا أبا السري في جوارنا رجل مدهوش، ذاهب العقل، لا ترى له صورة. فقال منصور: أوقفوني عليه، فأتوا به بابه ليلاً فلما غارت النجوم وهدأت العيون سمعوه يقول:
طــال القيام لهجعة النــوام ● وتــراك مطلـعاً لطــول مقامــي
يا سيدي ومؤملي وموثقي ● من أجل حبك قد هجرت منامي
فأجابه منصور:
يا ذا الذي هجر الرقاد لربه ● إبشر بدار تحية وسلام
يوم القدوم عليه في دار البقا ● يوم تزف إليه بالخدام
● قال بعضهم:
دخلت دار المجانين وعلي شارة حسنة، وثياب فاخرة، فإذا شيخ مقيد مغلول، فجعلت أنظر إليه، فقال: مه ، أتعجب مني.
أتعجب مني في قـيودي وأغلالي ● وأنت رضي البال في العز والمال
فلا أنت تـبـقـى بـعـد مالٍ كسـبته ● ولا أنـا أبقى في قيودي وأغلالي
● قال محمد بن عماد البغدادي:
كان بجوار جنيد شيخ مجنون، فلما مات جنيد رحمه الله وقف الشيخ المجنون على تل، ثم أنشأ يقول:
واحـسـرتـا مـن فــراق قـــوم ● هم المصابيح والحصون
والمزن والمدن والـرواسـي ● والخير والأمن والسـكـون
لم تـتـغـيّر لـــنـــا اللـيالـــي ● حتـى تـوفـيهــم الـــمنـون
فكـل جـمـر لـنـا قـــلـــوب ● وكــل مـــاء لـــنـــا عــــيون
● قال الوليد بن عبد الرحمن السقاء برملة:
بينا أنا ذات ليلة في منزلي، إذ طرق الباب طارق، فقلت: من طرق الباب ، فأنشأ يقول:
أنا الذي ألبـسـني ســيدي ● لمـا تـعـريت لباس الـوداد
فصرت لا آوي إلى مؤنس ● إلاّ إلى مـالـك رقّ العبـاد
فخرجت فإذا أنا بغلام ذاهب العقل، هائم مجنون مستوفز، فدخل الدار وقال: (آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا)، فعلمت أنه جائع، فقدمت إليه شيئاً فأكل وشرب، ثم وثب إلى الباب وأنشأ يقول:
عليك اتكالي لا على الناس كلهم ● وأنت بحالي عـالــم لا تُـعـلم
وأقسمت أني كلما جعت سيدي ● ستفتح لي باباً فأُسقى وأُطعم
قال الوليد السقاء: فقلت له توصيني بوصية فقال:
الزم الخوف مع الحزن ● وتقوى الله فأربـح
وذر الدنيـا مع الأخـ ● رى فتقوى الله أرجح
فاجتهد في ظلمة الليـ ● ل إذا ما الليل أجنح
واســـــأل الله ذنوبـك ● فعلـلّ الله يصــــــفح
● قال أبو الهذيل العلاف:
رحلت من البصرة أريد العسكر فمررت بدير هرقل فقلت لأدخلن هذا الدير لأرى ما فيه، فإذا شيخ حسن اللحية في السلسلة فأدمت النظر إليه، فلما رآني لا أرد بصري عنه قال لي: معتزلي أنت ، قلت: نعم. قال: إمامي ، قلت: نعم. قال: تقول القرآن مخلوق ، قلت: نعم. قال: كن أبا الهذيل العلاف، قلت: أنا أبو الهذيل. قال: أسألك ، قلت: سل. قال: أخبرني عن الرسول صلى الله عليه وسلم أليس هو أمين في السماء وفي الأرض ، قلت: بلى. قال: أخبرني عنه هل به خلة ميل أو حيف أو هوى ، قلت: لا. قال: فأخبرني عن رأيه أليس هو الذي لا يدخله زلل اوشبهة، وهو المعصوم من الشبهة والريبة، قلت: بلى. قال: فأخبرني عمن هو دونه من الخلق. أليس يدخلهم في رأيهم الفساد والغفلة والهوى وانهم أضداد في كل شيء وإن كانوا أخياراً. قلت: بلى. قال: فلأي علة لم يقم لهم علماً ينصبه بقوله هذا خليفتكم بعدي فلا تقتتلوا. لمن يفعل هذا الا لا يكون الاختلاف والفساد في أُمته ، قلت: معاذ الله أن يكون ذلك. قال: فلم تركهم وألجأهم إلى رأي من دونه في الصفة، إذ لم يحب الاختلاف والتشتت ، فسكت لم أدر ما أقول له. فقال: مالك لا تجيب الا تحسن ، ثم تركته وخرجت ، فلما رآني مولياً ناداني: الشيخ ارجع إلينا، فرجعت إليه. فقال: أحسبك تريد الخليفة، قلت: نعم. قال: الا أن تصير إلى الخليفة، إقضي لي حاجتي. فقلت: وما هي ، قال: ان تطلقني، فانصرفت عنه متعجباً من حاله. فلما صرت إلى سر من رأى ودخلت على الواثق قال لي: ما كان حالك في سفرك ، قلت: أعجوبة يا أمير المؤمنين ، لم أسمع بمثلها. فقال: وما هي ، فقصصت عليه حديث المجنون، فقال: يحضر المجنون، فأُحضر وأصلح من شأنه وأُدخل عليه، فلما رآني قال: حاجتنا. قلت: نعم. قال الواثق لمحمد بن مكحول: كلمة. فقال المجنون: يا أمير المؤمنين ، هذا ليس يحسن شيئاً، فإن كان عندك من يحسن. قال الواثق: فاسأل فإن المجلس مشترك، فمن كان يحسن أجابك. فسأل عن المسألة المذكورة فأحجم القوم عن الجواب، فالتفت إليه الواثق فقال: ليس ههنا من يجب، فأجب. فقال: سخين العين أكون سائلاً، ومجيباً في وقت ، فقال الواثق: وما عليك أن تعلمنا. قال: أما إذا كان كذا، فنعم، ان الله سبحانه حكم فحكم في خلقه ولم يكن بد من تعبدهم وكان الاختلاف بينهم حكمة في خلقه، إذ قد كان حكم عليهم بذاك الاختلاف قبل خلقهم فأحجم، ثم قام الواثق: ليدخل الدار. فقال المجنون: أخذت منفوعنا وفررت ، فأمر بالاحسان إليه.
● قال الأصمعي:
ركب جعفر بن سليمان أمير البصرة في زي عجيب من اللباس والغلمان والدواب والصقور والفهود، وكان عندنا رجل بالبصرة يتفقه، وكان في حداثة سنه يجالس العباد، فغلب على عقله، فخرج في طريق جعفر فلما أبصره وقف وقال يا جعفر بن سليمان ، أنظر أي رجل تكون إذا خرجت من قبرك وحدك، وحملت على الصراط وحدك، وقدم إليك كتابك وحدك، ولم يغن عنك من الله شيئاً. يا جعفر إنك تموت وحدك. وتقف بين يدي الله وحدك، وتدخل قبرك وحدك، ويحاسبك الله وحدك، فانظر لنفسك، قد نصحت لك. فرجع جعفر من نزهة تلك، وسأل عن الرجل فقيل له مغلوب على أمره.
● قال عمر بن عثمان الصوفي:
دخلت جبال الشام وإذا أنا برجل في كوخ، فأقمت عليه يوماً وليلة لم أسمع كلاماً، فخرج من كوخه فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي ، شهد قلبي لك في النوازل بسعة روح الفضل، وكيف لا يشهد لك قلبي بذلك أفأحسب أن يألف قلبي غيرك ، هيهات ، لقد خاب لديك المقصرون. ثم قال: إلهي ما أحلى ذكرك ، ألست الذي قصدك المؤملون ، فنالوا منك ما طلبوا. فقلت أصلحك الله إني منتظرك منذ يوم وليلة أُريد أن أسمع كلامك. قال قد رأيتك حين أقبلت ولم يذهب روعك من قلبي. قلت وما راعك مني ، قال فراغك في يوم عملك، وبطالتك في يوم شغلك، وتركك الزاد ليوم معادك، ومقامك على الظنون. فقلت إن الله سبحانه كريم، وما ظن به عبد شيئاً إلا أعطاه. قال نعم إذا وافقته السعادة والعمل الصالح. قلت أههنا فتية يستراح إليهم ، قال نعم. قلت هل عندهم دواء يتعالجون به ، قال إذا كلوا داووا الكلال بالكلال، وحثوا الحث بالأنخال، فتسكن العروق وتهدأ الآلام.
● قال زياد النميري:
دخلت دار المجانين فإذا شاب حسن الوجه، في زاوية مشدود إلى جدار. فقال لي: أتقرأ القرآن ، قلت: نعم. قال: فاقرأ، فقرأت: (اللهُ لطيفٌ بعباده يزرق من يشاء وهو القويُّ العزيز) فقال: أخبرني ما معنى اللطيف ، قلت: البار الرفيق. قال: هذا في وصف الناس. قلت: فما اللطيف ، قال: الذي يعرف بلا كيف.
● قال سكين بن موسى:
كنت مجاوراً بمكة وكان بها مجنون ينطق بالحكم. فقلت له: أين تأوي بالليل ، فقال: دار الغرباء. فقلت: ما أعرف بمكة داراً يقال لها دار الغرباء. قال: يا مسكين ، دار الغرباء المقابر. فقلت: أما تستوحش في الليل وظلمته ، قال: إذا فكرت في القبر ووحشته هان علي الليل وظلمته.
أقوال بليغة:
● قيل لبعض المجانين: لم سميت مجنوناً ، فقال: أنا مجنون عن معصيته لا عن معرفته.
● وقيل لآخر: أغربت أنت ، فقال: أما عن عقلي فنعم. وأما عن البلاد فلا.
● وقيل لآخر: لم أر مجنوناً أعقل منك. قال: الجنون ما أنت فيه، تأكل رزق الله، وتطيع عدوه.
● وقيل لآخر: هل أنت مجنون ، قال: وهل أنت عاقل , كل الناس مجانين، ولكن حظي صار أوفر.
تم بحمد الله تعالى
مختصر عقلاء المجانين للحسن بن حبيب النيسابوري
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله
منتدى دنيا الكراكيب . البوابة