بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الأسرة الثقافية
أمراض القلوب وشفائها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.
قد ذكرنا في غير موضع أن صلاح حال الإنسان في العدل كما ان فساده في الظلم وأن الله سبحانه عدله وسواه لما خلقه. وصحة جسمه وعافيته من اعتدال اخلاطه واعضائه ومرض ذلك الانحراف والميل وكذلك استقامة القلب واعتداله واقتصاده وصحته وعافيته وصلاحه متلازمة وقد ذكر الله مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى عن المنافقين ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ) البقرة، وقال ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم )، وقال تعالى ( ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) التوبة، وقال ( قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ) يونس، وقال تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) الإسراء، وقال تعالى ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) فصلت، وقال تعالى ( ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) الأحزاب، وقال ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ) الأحزاب، وقال ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرروا ) الأحزاب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا سألوا إذ لم يعلموا فإن شفاء العي السؤال، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود أن أحدا لا يزال بخير ما اتقى الله وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلا فشفاه وأوشك أن لا يجده والذي لا إله إلا هو وما ذكر الله من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها.
أما عن المقصود بمرض القلب فنقول: المرض نوعان فساد الحس وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الإرادية وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب فكما أنه مع صحة الحس والحركة الإرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة فكذلك بفسادها يحصل الألم والعذاب ولهذا كانت النعمة من النعيم وهو ما ينعم الله به على عباده مما يكون فيه لذة ونعيم وقال ( ولتسألن يومئذ عن النعيم ) التكاثر، أي عن شكره، فسبب اللذة إحساس الملائم وسبب الألم إحساس المنافي ليس اللذة والألم نفس الإحساس والإدراك وإنما هو نتيجته وثمرته ومقصوده وغايته فالمرض فيه ألم لا بد منه وإن كان قد يسكن احيانا لمعارض راجح فالمقتضى له قائم يهيج بأدنى سبب فلا بد في المرض من وجود سبب الألم وإنما يزول الألم بوجود المعارض والراجح ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه أعني ألمه ولذته النفسانيين وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم فذلك شيء آخر.
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه اعظم من مرض الجسم وشفائه فتارة يكون من جملة الشبهات كما قال تعالى ( فيطمع الذي في قلبه مرض ) الأحزاب، وكما صنف الخرائطي كتاب اعتلال القلوب بالأهواء ففي قلوب المنافقين المرض من هذا الوجه من جهة فساد الاعتقادات وفساد الإرادات والمظلوم في قلبه مرض وهو الألم الحاصل بسبب ظلم الغير له فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه كما قال تعالى ( ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) التوبة، فإن ذهاب غيظ القلب إنما هو لدفع الأذى والألم عنه فإذا اندفع عنه الأذى واستوفى حقه زال غيظه فكما أن الإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه ولا يبصر بعينه كان ذلك مرضا مؤلما له بما يفوته من المصالح ويحصل له من المضار فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل ولم يميز بين الخير والشر والعي والرشاد كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة الكلية ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضا فإنه يتألم حتى يزول ألمه بهذا الأكل الذي يوجد ألما أكثر من الأول فهو يتألم إن أكل ويتألم إن لم يأكل، فكذلك إذا بلى بحب من لا ينفعه بعشق ونحوه سواء كان لصورة او لرياسة أو لمال ونحو ذلك فإن لم يحصل على محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم وإن حصل محبوبة فهو اشد مرضا وألما وسقما كما أن المريض إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب كان ذلك الألم حاصلا وكان دوامه على ذلك يوجب من الألم اكثر من ذلك حتى يقتله أو يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه فهو متألم في الحال وتألمه فيما بعد إن لم يعافه الله اعظم وأكبر فبغض الحاسد لنعمة الله على المحسود كبغض المريض لأكل الأصحاء لأطعمتهم وأشربتهم حتى لا يقدر أن يراهم يأكلون ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب فالحب والبغض الخارج عن الاعتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارجة عن الاعتدال والصحة في الجسم وعمى القلب وبكمه عن أن يبصر الحقائق ويميز بين ما ينفعه ويسره كعمى الجسم وخرسه عن أن يبصر الأمور المرئية ويتكلم بها ويميز بين ما ينفعه ويضره وكما أن الضرير إذا أبصر وجد من الراحة والعافية والسرور أمرا عظيما فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الراس من التفاوت مالا يحصيه إلا الله وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالآخر، فطب الأديان يحتذي حذو طب الأبدان.
وقد كتب سلمان إلى أبي الدرداء: أما بعد فقد بلغني أنك قعدت طبيبا فإياك أن تقتل، والله أنزل كتابه شفاء لما في الصدور وقال تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء،
ذلك أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء، فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة والنفرة الطبيعية عن الاعتدال إما بشهوة مالا يحصل أو يفقد الشهوة النافعة وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر ويكون بضعف قوة الإدراك والحركة كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال وهي الأهواء التي قال الله فيها ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) القصص، وقال ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ) الروم، كما يكون الجسد خارجا عن الاعتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بلا قول الطبيب ويكون لضعف إدراك القلب وقوته حتى لا يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له، وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون فلا يحتمون ولا يصبرون على الأدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة ولكن ذلك يعقبهم من الآلام ما يعظم قدره او يعجل الهلاك فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه مما هو لا يصلح له فيعقبهم ذلك من الألم والعقوبات إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم و التقوى هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضا استعمال الضار فلا يكون صاحبه من المتقين وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا لا يكون فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيا بما معه من المواد التي تضره حتى يهلك ولهذا كانت العاقبة للتقوى وللمتقين لأنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم الإسلام والكرامة وإن وجدوا ألما في الابتداء لتناول الدواء والإحتماء كفعل الأعمال الصالحة المكروهة كما قال تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) البقرة، ولكثرة الأعمال الباطلة المشتهاة قال تعالى ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) النازعات، وكما قال ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) الانفال، فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب لضرره في العاقبة ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول إلا شيئا يسيرا فإن الحمية التامة بلا اغتذاء تمرض فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات كما أن جنس الاغتذاء من جنس الاحتماء وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالانضمام إلى غيره وكما أن الواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله وإزالته بعد حصوله فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها إن عرض له المرض دواما والصحة تحفظ بالمثل والمرض يزول بالضد فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما فيها وهو ما يقوى العلم والايمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة وتزول بالضد فتزال الشبهات بالبينات وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق، ولهذا قال يحيى بن عمار: العلوم خمسة فعلم هو حياة الدين وهو علم التوحيد وعلم هو غذاء الدين وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث وعلم هو دواء الدين وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث وعلم هو هلال الدين وهو علم السحر ونحوه فحفظ الصحة بالمثل وإزالة المرض بالضد في مرض الجسم الطبيعي ومرض القلب النفساني الديني الشرعي قال صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) الروم، أخرجاه في الصحيحين.
قال تعالى ( وله من في السموات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) إلى قوله ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ) إلى قوله ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) الروم، فأخبر الله أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب وتركها ظلم عظيم اتبع اهله اهواءهم بغير علم ولا بد لهذه الفطرة والخلقة وهي صحة الخلقة من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علما وعملا ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة وهي مأدبة الله. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن. ومثله كماء أنزله الله من السماء كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته هم ممرضون للقلوب مسقمون لها وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب بمنزلة ما يصيب الجسم من الألم يصح به الجسم وتزول أخلاطه الفاسدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه، وذلك تحقيق لقوله تعالى ( من يعمل سوءا يجز به ) النساء،
ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه الأمراض فيئوب صحيحا وإلا احتاج إلى أن يطهر منها في الآخرة فيعذبه الله كالذي اجتمعت فيه أخلاطه ولم يستعمل الأدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلاكه بها ولهذا جاء في الأثر إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله كيف أرحمه من شيء به أرحمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرض حطة يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها،
وكما أن من أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدا كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجنب وكذلك الميت بغرق او حرق او هدم، فمن أمراض النفس ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدا كالجبان الذي يتقى الله ويصبر للقتال حتى يقتل فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له الألم وإن عصاه تألم كأمراض الجسم وكذلك العشق فقد روى من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات مات شهيدا فإنه مرض في النفس يدعو إلى ما يضر النفس كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر فإن أطاع هواه عظم عذابه في الآخرة وفي الدنيا أيضا وإن عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من الألم والسقم ما فيها فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدأن هذا يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها فهذه الأمراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه اجمعين.
أمراض القلوب . تأليف : ابن تيمية
منتدى ميراث الرسول
صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.
قد ذكرنا في غير موضع أن صلاح حال الإنسان في العدل كما ان فساده في الظلم وأن الله سبحانه عدله وسواه لما خلقه. وصحة جسمه وعافيته من اعتدال اخلاطه واعضائه ومرض ذلك الانحراف والميل وكذلك استقامة القلب واعتداله واقتصاده وصحته وعافيته وصلاحه متلازمة وقد ذكر الله مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى عن المنافقين ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ) البقرة، وقال ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم )، وقال تعالى ( ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) التوبة، وقال ( قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور ) يونس، وقال تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) الإسراء، وقال تعالى ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) فصلت، وقال تعالى ( ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ) الأحزاب، وقال ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ) الأحزاب، وقال ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرروا ) الأحزاب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا سألوا إذ لم يعلموا فإن شفاء العي السؤال، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود أن أحدا لا يزال بخير ما اتقى الله وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلا فشفاه وأوشك أن لا يجده والذي لا إله إلا هو وما ذكر الله من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها.
أما عن المقصود بمرض القلب فنقول: المرض نوعان فساد الحس وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الإرادية وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب فكما أنه مع صحة الحس والحركة الإرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة فكذلك بفسادها يحصل الألم والعذاب ولهذا كانت النعمة من النعيم وهو ما ينعم الله به على عباده مما يكون فيه لذة ونعيم وقال ( ولتسألن يومئذ عن النعيم ) التكاثر، أي عن شكره، فسبب اللذة إحساس الملائم وسبب الألم إحساس المنافي ليس اللذة والألم نفس الإحساس والإدراك وإنما هو نتيجته وثمرته ومقصوده وغايته فالمرض فيه ألم لا بد منه وإن كان قد يسكن احيانا لمعارض راجح فالمقتضى له قائم يهيج بأدنى سبب فلا بد في المرض من وجود سبب الألم وإنما يزول الألم بوجود المعارض والراجح ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه أعني ألمه ولذته النفسانيين وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم فذلك شيء آخر.
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه اعظم من مرض الجسم وشفائه فتارة يكون من جملة الشبهات كما قال تعالى ( فيطمع الذي في قلبه مرض ) الأحزاب، وكما صنف الخرائطي كتاب اعتلال القلوب بالأهواء ففي قلوب المنافقين المرض من هذا الوجه من جهة فساد الاعتقادات وفساد الإرادات والمظلوم في قلبه مرض وهو الألم الحاصل بسبب ظلم الغير له فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه كما قال تعالى ( ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) التوبة، فإن ذهاب غيظ القلب إنما هو لدفع الأذى والألم عنه فإذا اندفع عنه الأذى واستوفى حقه زال غيظه فكما أن الإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه ولا يبصر بعينه كان ذلك مرضا مؤلما له بما يفوته من المصالح ويحصل له من المضار فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل ولم يميز بين الخير والشر والعي والرشاد كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة الكلية ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضا فإنه يتألم حتى يزول ألمه بهذا الأكل الذي يوجد ألما أكثر من الأول فهو يتألم إن أكل ويتألم إن لم يأكل، فكذلك إذا بلى بحب من لا ينفعه بعشق ونحوه سواء كان لصورة او لرياسة أو لمال ونحو ذلك فإن لم يحصل على محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم وإن حصل محبوبة فهو اشد مرضا وألما وسقما كما أن المريض إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب كان ذلك الألم حاصلا وكان دوامه على ذلك يوجب من الألم اكثر من ذلك حتى يقتله أو يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه فهو متألم في الحال وتألمه فيما بعد إن لم يعافه الله اعظم وأكبر فبغض الحاسد لنعمة الله على المحسود كبغض المريض لأكل الأصحاء لأطعمتهم وأشربتهم حتى لا يقدر أن يراهم يأكلون ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب فالحب والبغض الخارج عن الاعتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارجة عن الاعتدال والصحة في الجسم وعمى القلب وبكمه عن أن يبصر الحقائق ويميز بين ما ينفعه ويسره كعمى الجسم وخرسه عن أن يبصر الأمور المرئية ويتكلم بها ويميز بين ما ينفعه ويضره وكما أن الضرير إذا أبصر وجد من الراحة والعافية والسرور أمرا عظيما فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الراس من التفاوت مالا يحصيه إلا الله وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالآخر، فطب الأديان يحتذي حذو طب الأبدان.
وقد كتب سلمان إلى أبي الدرداء: أما بعد فقد بلغني أنك قعدت طبيبا فإياك أن تقتل، والله أنزل كتابه شفاء لما في الصدور وقال تعالى ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) الإسراء،
ذلك أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء، فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة والنفرة الطبيعية عن الاعتدال إما بشهوة مالا يحصل أو يفقد الشهوة النافعة وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر ويكون بضعف قوة الإدراك والحركة كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال وهي الأهواء التي قال الله فيها ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) القصص، وقال ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ) الروم، كما يكون الجسد خارجا عن الاعتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بلا قول الطبيب ويكون لضعف إدراك القلب وقوته حتى لا يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له، وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون فلا يحتمون ولا يصبرون على الأدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة ولكن ذلك يعقبهم من الآلام ما يعظم قدره او يعجل الهلاك فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه مما هو لا يصلح له فيعقبهم ذلك من الألم والعقوبات إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم و التقوى هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضا استعمال الضار فلا يكون صاحبه من المتقين وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا لا يكون فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيا بما معه من المواد التي تضره حتى يهلك ولهذا كانت العاقبة للتقوى وللمتقين لأنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم الإسلام والكرامة وإن وجدوا ألما في الابتداء لتناول الدواء والإحتماء كفعل الأعمال الصالحة المكروهة كما قال تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) البقرة، ولكثرة الأعمال الباطلة المشتهاة قال تعالى ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) النازعات، وكما قال ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) الانفال، فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب لضرره في العاقبة ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول إلا شيئا يسيرا فإن الحمية التامة بلا اغتذاء تمرض فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات كما أن جنس الاغتذاء من جنس الاحتماء وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالانضمام إلى غيره وكما أن الواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله وإزالته بعد حصوله فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها إن عرض له المرض دواما والصحة تحفظ بالمثل والمرض يزول بالضد فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما فيها وهو ما يقوى العلم والايمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة وتزول بالضد فتزال الشبهات بالبينات وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق، ولهذا قال يحيى بن عمار: العلوم خمسة فعلم هو حياة الدين وهو علم التوحيد وعلم هو غذاء الدين وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث وعلم هو دواء الدين وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث وعلم هو هلال الدين وهو علم السحر ونحوه فحفظ الصحة بالمثل وإزالة المرض بالضد في مرض الجسم الطبيعي ومرض القلب النفساني الديني الشرعي قال صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) الروم، أخرجاه في الصحيحين.
قال تعالى ( وله من في السموات والأرض كل له قانتون وهو الذي يبدئ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) إلى قوله ( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم ) إلى قوله ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) الروم، فأخبر الله أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفا وهو عبادة الله وحده لا شريك له فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب وتركها ظلم عظيم اتبع اهله اهواءهم بغير علم ولا بد لهذه الفطرة والخلقة وهي صحة الخلقة من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علما وعملا ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة وهي مأدبة الله. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن. ومثله كماء أنزله الله من السماء كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته هم ممرضون للقلوب مسقمون لها وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب بمنزلة ما يصيب الجسم من الألم يصح به الجسم وتزول أخلاطه الفاسدة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه، وذلك تحقيق لقوله تعالى ( من يعمل سوءا يجز به ) النساء،
ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه الأمراض فيئوب صحيحا وإلا احتاج إلى أن يطهر منها في الآخرة فيعذبه الله كالذي اجتمعت فيه أخلاطه ولم يستعمل الأدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلاكه بها ولهذا جاء في الأثر إذا قالوا للمريض اللهم ارحمه يقول الله كيف أرحمه من شيء به أرحمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرض حطة يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها،
وكما أن من أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدا كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجنب وكذلك الميت بغرق او حرق او هدم، فمن أمراض النفس ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدا كالجبان الذي يتقى الله ويصبر للقتال حتى يقتل فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له الألم وإن عصاه تألم كأمراض الجسم وكذلك العشق فقد روى من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات مات شهيدا فإنه مرض في النفس يدعو إلى ما يضر النفس كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر فإن أطاع هواه عظم عذابه في الآخرة وفي الدنيا أيضا وإن عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من الألم والسقم ما فيها فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدأن هذا يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها فهذه الأمراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه اجمعين.
أمراض القلوب . تأليف : ابن تيمية
منتدى ميراث الرسول
صلى الله عليه وسلم