لم يذكر أبو جعفر من أيامها غير يوم ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطسم وجديس، وما ذكر ذلك إلا حيث أنهم ملوك، فأغفل ما سوى ذلك. ونحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التي اشتملت على جمع كثيرة وقتال شديد، ولم أعرج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير لأنه يكثر ويخرج عن الحصر، فنقول، وبالله التوفيق.
● [ ذكر حرب زهير بن جناب الكلبي ] ●
مع غطفان وبكر وتغلب وبني القين
مع غطفان وبكر وتغلب وبني القين
كان زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة الكلبي أحد من اجتمعت عليه قضاعة، وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه، وعاش مائتين وخمسين سنة، أوقع فيها مائتي وقعة؛ وقيل: عاش أربعمائة وخمسين سنة، وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة.
وكان سبب غزاته غطفان أن بني بغيض بن ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرضت لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك وأثرت وكثرت أموالها. فلما رأوا ذلك قالوا: والله لنتخذن حرماً مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائده، فبنوا حرماً ووليه بنو مرة بن عوف، فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب قال: والله لا يكون ذلك أبداً وأنا حي، ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً أبداً. فنادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنهم وقال: إن أعظم مأثرة يدخرها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك، فأجابوه، فغزا بهم غطفان وقاتلهم أبرح قتالٍ وأشده، وظفر بهم زهير وأصاب حاجته منهم وأخذ فارساً منهم في حرمهم فقتله وعطل ذلك الحرم. ثم من على غطفان ورد النساء وأخذ الأموال؛ ومما قاله زهير في ذلك:
فلم تصبر لنا غطفان لـمّـا . تلاقينا وأحرزت النسـاء
فلولا الفضل منّا ما رجعتم . إلى عذراء شيمتها الحياء
وأما حربه مع بكر وتغلب ابني وائل فكان سببها أن أبرهة حين طلع إلى نجد أتاه زهير، فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب، ثم أمره على بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم حتى أصابتهم سنةٌ فاشتد عليهم ما يطلب منهم من الخراج، فأقام بهم زهير في الحرب ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكانت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك ابن زيابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وكان فاتكاً، أتى زهيراً وهو نائم، فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير فمر فيها حتى خرج من ظهره مارقاً بين الصفاق، وسلمت أمعاؤه وما في بطنه، وظن التيمي أنه قد قتله، وعلم زهير أنه قد سلم فلم يتحرك لئلا يجهز عليه، فسكت. فانصرف التيمي إلى قومه فأعلمهم أنه قتل زهيراً، فسرهم ذلك.
ولم يكن مع زهير إلا نفر من قومه، فأمرهم أن يظهروا أنه ميت وأن يستأذنوا بكراً وتغلب في دفنه فإذا أذنوا دفنوا ثياباً ملفوفة وساروا به مجدين إلى قومهم، ففعلوا ذلك. فأذنت لهم بكر وتغلب في دفنه، فحفروا وعمقوا ودفنوا ثياباً ملفوفة لم يشك من رآها أن فيها ميتاً، ثم ساروا مجدين إلى قومهم، فجمع لهم زهير الجموع، وبلغهم الخبر، فقال بن زيابة:
طعنةً ما طعنت في غلس الليـ . ل زهيراً وقد توافى الخصوم
حين يحمي له المواسم بكرٌ . أين بكرٌ وأين منها الحلوم
خانني السيف إذ طعنت زهيراً . وهو سـيف مضلّل مشؤوم
وجمع زهير من قدر عليه من أهل اليمن، وغزا بكراً وتغلب، وكانوا علموا به، فقاتلهم قتالاً شديداً انهزمت به بكر، وقاتلت تغلب بعدها فانهزمت أيضاً، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة وأخذت الأموال وكثرت القتلى في بني تغلب وأسر جماعة من فرسانهم ووجوههم، فقال زهير في ذلك من قصيدته:
أين أين الفرار من حـذر المو . ت إذا يتّقون بالأسلاب
إذ أسرنا مهلهلاً وأخاه . وابن عمروٍ في القيد وابن شهاب
وأما حربه مع بني القين بن جسر فكان سببها أن أختاً لزهير كانت متزوجة فيهم. فجاء رسولها إلى زهير ومعه صرة فيها رمل وصرة فيها شوك قتاد، فقال زهير: إنها تخبركم أنه يأتيكم عدو كثير ذو شوكة شديدة، فاحتملوا. فقال الجلاح بن عوف السحمي: لا نحتمل لقول امرأة، فظعن زهير وأقام الجلاح، وصبحه الجيش فقتلوا عامة قوم الجلاح وذهبوا بأموالهم وماله. ومضى زهير فاجتمع مع عشيرته من بني جناب، وبلغ الجيش خبره فقصدوه، فقاتلهم وصبر لهم فهزمهم وقتل رئيسهم، فانصرفوا عنه خائبين.
ولما طال عمر زهير وكبرت سنه استخلف ابنه أخيه عبد الله بن عليم، فقال زهير يوماً: ألا إن الحي ظاعنٌ. فقال عبد الله: ألا إن الحي مقيمٌ. فقال زهير: من هذا المخالف عليّ، فقالوا: ابن أخيك عبد الله بن عليم. فقال: أعدى الناس للمرء ابن أخيه. ثم شرب الخمر صرفاً حتى مات.
وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي، وأبو عامر ملاعب الأسنة العامري.
● [ ذكر يوم البردان ] ●
فكان من حديثه أن زياد بن الهبولة ملك الشام، وكان من سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. فأغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي ملك عرب بنجد ونواحي العراق وهو يلقب آكل المرار، وكان حجر قد أغار في كندة وربيعة على البحرين، فبلغ زياداً خبرهم فسار إلى أهل حجر وربيعة وأموالهم وهم خلوف ورجالهم في غزاتهم المذكورة، فأخذ الحريم والأموال وسبى فيهم هنداً بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية.
وسمع حجر وكندة وربيع بغارة زيادة فعادوا عن غزوهم في طلب ابن الهبولة، ومع حجر أشراف ربيعة عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان. وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما، فأدركوا عمراً بالبردان دون عين أباغ وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له حفير. فتعجل عوف بن محلم وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وقالا لحجر: إنا متعجلان إلى زياد لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا. فسارا إليه، وكان بينه وبين عوف إخاء، فدخل عليه وقال له: يا خير الفتيان اردد علي امرأتي أمامة. فردها عليه وهي حامل، فولدت له بنتاً أراد عوف أن يئدها فاستوهبها منه عمرو بن أبي ربيعة وقال: لعلها تلد أناساً، فسميت أم أناس، فتزوجها الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فولدت عمراً، ويعرف بابن أم أناس.
ثم إن عمرو بن أبي ربيعة قال لزياد: يا خير الفتيان اردد علي ما أخذت من إبلي. فردها عليه وفيها فحلها، فنازعه الفحل إلى الإبل، فصرعه عمرو. فقال له زياد: يا عمرو لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم، فقال له عمرو: لقد أعطيت قليلاً، وسميت جليلاً، وجررت على نفسك ويلاً طويلاً، ولتجدن منه، ولا والله لا تبرح حتى أروي سناني من دمك، ثم ركض فرسه حتى صار إلى حجر، فلم يوضح له الخبر، فأرسل سدوس بن شيبان بن ذهل وصليع بن عبد غنم يتجسسان له الخبر ويعلمان علم العسكر، فخرجنا حتى هجما على عسكره ليلاً وقد قسم الغنيمة وجيء بالشمع فأطعم الناس تمراً وسمناً، فلما أكل الناس نادى: من جاء بحزمة حطب فله قدرة نمر. فجاء سدوس وصليع بحطب وأخذا قدرتين من تمر وجلسا قريباً من قبته. ثم انصرف صليع إلى حجر فأخبره بعسكر زياد وأراه التمر.
وأما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمرٍ جلي. وجلس مع القوم يتسمع ما يقولون، وهند امرأة حجر خلف زياد، فقالت لزياد: إن هذا التمر أهدي إلى حجر من هجر، والسمن من دومة الجندل. ثم تفرق أصحاب زياد عنه، فضرب سدوس يده إلى جليس له وقال له: من أنت? مخافة أن يستنكره الرجل. فقال: أنا فلان بن فلان. ودنا سدوس من قبة زياد بحيث يسمع كلامه، ودنا زياد من امرأة حجر فقبلها وداعبها وقال لها: ما ظنك الآن بحجر، فقالت: ما هو ظن ولكنه يقين، إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر، يعني قصور الشام، وكأني به في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويذمرونه وهو شديد الكلب تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مراراً، فالنجاء النجاء، فإن وراءك طالباً حثيثاً، وجمعاً كثيفاً، وكيداً متيناً، ورأياً صليباً. فرفع يده فلطمها ثم قال لها: ما قلت هذا إلا من عجبك به وحبك له ! فقالت: والله ما أبغضت أحداً بغضي له ولا رأيت رجلا أحزم منه نائماً ومستيقظاً، إن كان لتنام عيناه فبعض اعضائه مستيقظ، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عساً من لبن، فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريب منه أنظر إليه، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه فنحى رأسه، فمال إلى يده فقبضها، فمال إلى رجله فقبضها، فمال إلى العس فشربه ثم مجه. فقتل: يستيقظ فيشربه فيموت فأستريح منه. فانتبه من نومه فقال: علي بالإناء، فناولته فشمه ثم ألقاه فهريق. فقال: أين ذهب الأسود، فقلت: ما رأيته. فقال: كذبت والله، وذلك كله يسمعه سدوس، فسار حتى أتى حجراً، فلما دخل عليه قال:
أتاك المرجفون بأمر غـيبٍ . على دهشٍ وجئتك باليقـين
فمن يك قد أتاك بأمر لبسٍ . فقـد آتـي بـأمـرٍ مـسـتـبينٍ
ثم قص عليه ما سمع، فجعل حجر يعبث بالمرار ويأكل منه غضباً وأسفاً، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب، فلما فرغ سدوس من حديثه وجد حجر المرار فسمي يومئذ آكل المرار، والمرار نبت شديد المرارة لا تأكله دابة إلا قتلها.
ثم أمر حجر فنودي في الناس وركب وسار إلى زياد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم زياد وأهل الشام وقتلوا قتلاً ذريعاً، واستنقذت بكر وكندة ما كان بأيديهم من الغنائم والسبي، وعرف سدوس زياداً فحمل عليه فاعتنقه وصرعه وأخذه أسيراً، فلما رآه عمرو بن أبي ربيعة حسده فطعن زياداً فقتله. فغضب سدوس وقال: قتلت أسيري وديته دية ملكٍ، فتحاكما إلى حجر، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك وأعانهم من ماله. وأخذ حجر زوجته هنداً فربطها في فرسين ثم ركضهما حتى قطعاها، ويقال: بل أحرقها، وقال فيها:
إنّ من غرّه النساء بشـيء . بعـد هـنـدٍ لجاهلٌ مغرور
حلوة العين والحديث ومرٌّ . كلّ شيء أجنّ منها الضمير
كلّ أنـثـى وإن بـدا لــك منها . آية الحبّ حبّها خيتـعـور
ثم عاد إلى الحيرة.
قلت: هكذا قال بعض العلماء إن زياد بن هبولة السليحي ملك الشام غزا حجراً، وهذا غير صحيح لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشام مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالاً لملوك الروم كما كان ملوك الحيرة عمالاً لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشام، ولا بشبر واحد على سبيل التفرد والاستقلال.
وقولهم: ملك الشام، غير صحيح، وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام أقدم من حجر آكل المراز بزمان طويل، لأن حجراً هو جد الحارث ابن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنوشروان. وبين ملك قباذ والهجرة نحو مائة وثلاثين سنة، وقد ملكت غسان أطراف الشام بعد سليح ستمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ثلاثمائة سنة وست عشرة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوتٌ كثير فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك ايام حجر حتى يغير عليه، وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيساً على قوم أو متغلباً على بعض أطراف الشام حتى يستقيم هذا القول، والله أعلم.
وقولهم أيضاً: إن حجراً. عاد إلى الحيرة، لا يستقيم أيضاً لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار كما ذكرناه قبل. فلما ولي أنوشروان عزل الحارث وأعاد اللخميين، ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصباً، والله أعلم.
إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة؛ فزال هذا الوهم.
وسليح بفتح السين المهملة، وكسر اللام، وآخره حاء مهملة.
● [ ذكر مقتل حجر أبي امرئ القيس ] ●
والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس
والحروب الحادثة بمقتله إلى أن مات امرؤ القيس