بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مُختصر أخبار الزمان
حدث البلبلة وأخبار الكهان من العرب
حدث البلبلة
كان الناس بعد الطوفان مجتمعين بمكان واحد بأرض بابل ولغتهم السريانية ثم تفرقوا فسلك قحطان وعاد وثمود وعملاق، وطسم وجديس طريقا، وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي فساقتهم الأقدار إلى اليمن فسارت عاد إلى الأحقاف ونزل ثمود ناحية الحجر ونزل جديس اليمامة، ثم شخص طسم فنزل اليمامة مع جديس، ثم شخص عملاق فنزل أرض الحرم، وسار ضخم أرم فنزل الطائف، وسار جرهم فنزل مكة، فهؤلاء ولدهم ونسلهم يسمون العرب العاربة، وولد إسماعيل يسمون العرب المستعربة لأنهم تعلموا منهم وتكلموا بلغتهم.
ذكر عاد
وأرسل الله هوداً إلى عاد وهم باحقاف الرمل وملكهم الخلجان بن الوهم، وكانوا يعبدون ثلاثة أصنام وكذبوه، فدعا عليهم فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين فأجهدهم ذلك فوجهوا الى مكة رجالا يستسقون لهم في الحرم. ولم تزل العرب تعظم موضع البيت، وكان موضعه بعد الطوفان ربوة حمراء، وأهله العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، فقدم عليه وفد عاد للاستسقاء وفيهم قيل بن عمرو ويزيد بن ربيعة، ونعيم بن هذال، ولقمان بن عاد، فقدموا ونزلوا على معاوية بن بكر وأقاموا عنده شهراً يأكلون ويشربون وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان كانتا لمعاوية بن بكر، فلما طال أمرهم أشفق عليهم معاوية بن بكر لأنهم أخواله وخاف عليهم، فصنع شعراً ينبههم به ويحثهم على ما قدموا له، وأمر الجاريتين فغنتاه:
ألا يا قيل ويحك قــم فهينم ● لعل الله يمطرنا غمامــــــا
فيسقي أرض عاد إن عاداً ● قد أمسوا لايبينون الكلاما
وأنـتم هاهنا فـيمااشتهيتم ● نهـاركـم ولـيلـكـم الـتـماما
فقـبح وفدكم من وفد قـوم ● ولا لقوا التحية ولا السلاما
فانتبه القوم لما سمعوا الشعر ونهضوا يستسقون، فلما استسقوا نشأت لهم ثلاث سحائب بيضاء وسوداء وحمراء، ونودي قيل منها اختر لقومك قال البيضاء جهام قد فرغت ماءها، والحمراء ريح والسوداء غيث فاختارها فقيل قد اخترت رماداً رمدداً لا يبقي من عاد أحداً، لا والداً ولا ولداً.فدخلت الريح على عاد من واديهم، فأقامت سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، والحسوم الدائمة حتى هلكوا عن آخرهم، وتهدمت ديارهم ولم يمنعهم جدار ولاجبل حتى هلكوا عن آخرهم، ولم يبق إلا رسمهم.
وروي أنه لما استسقى وفدهم بمكة، ساروا في طريقهم فنودوا في طريقهم: إن عاداً قد هلكوا عن آخرهم فاختاروا لأنفسكم، فاختار قيل أن يلحق بقومه، فسار نحوهم فلقيته الريح فأهلكته، واختار مزيد براً وصدقاً وكان مؤمناً بهود عليه السلام، فأعطى ما سأل.
واختار نعيم حياة ألف سنة لايمرض ولايهرم، ولاتصيبه حاجة فأعطي ما اختار، واختار لقمان عمر سبعة أنسر فأعطي ما أختار، وكان يأخذ النسر فرخاً يربيه حتى يهلك، ثم يأخذ عند هلاك ذلك فرخاً آخر، فيفعل به كذلك، حتى بلغ سبعة أنسر، وكان آخرها لبد، وقد ضربت العرب به الأمثال في أشعارهم قال الأعشى:
ألــم تـــر لقمــان أهلكـــه ● ما مر من سنة ومن شهر
وبقي نسر كلما انقرضت ● أيامــه عـــادت إلــى نـسر
ما مـر مـن أمـد عـلى لبد ● وعلى جميع نسوره السمر
قد ابــلـــت الأيام نـضرته ● وأودعت لقـمـان فـي القـبر
وقال النابغة الذبياني:
أمست خلاء وأمسى أهلها انقرضوا ● أخنى عليها الذي أخنى على لبد
ولما قسم نوح عليه السلام الأرض بين بنيه جعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن إلى حضرموت إلى عمان والبحرين إلى عالج إلى طرف بلاد الهند، وكان هذا كله مدناً وقرى وحصوناً وقصوراً ومصانع وبساتين يتصل بعضها ببعض، الى ان سخط الله على قوم هود فأفسد كثيراً منها. وجعل الله في ولد سام النبوة والبركة،
وجعل لحام بعض الشام ومصر إلى أعالي النيل وبلاد النوبة والبجة، وأصناف السودان مع البحر الأحمر إلى بلد الحبشة والهند والقوط والسند.
وقسم ليافث بلاد الترك والصين، ويأجوج ومأجوج، والصقالبة والروم وإفرنجة والأعبورة والأندلس الى البحر المظلم، وسواحله وجعل ليحطون صين الصين إلى بلاد الشحر إلى ناحية اليمن، فكثروا من كل جانب وانبسطوا الى جهة بابل، وبورك فيهم فصاروا نيفاً من سبعين ألف بيت على خلق عظيم إلى أن ضرب بينهم إبليس، وكانت البلبلة فافترقوا.
وكان أول ملك منهم النمرود الأول بن كوش بن حام، وكان أسود أحمر العينين مشوها في جبهته كالقرن، وكان أول أسود يرى بعد الطوفان، فكان من ولده لدعاء نوح عليه السلام على ابنه حام،
وذلك أن نوحاً عليه السلام نام فانكشفت عورته، فرآها حام فضحك ولم يغطه، وسكت يافث ولم ينكر عليه، فصاح سام عليهما، وعلم ذلك نوح فدعا على حام أن يكون ولده سوداً مشوهين عبيداً لولد سام، ودعا على يافث أن يكون ولده عبيداً لبني سام، وأن يكونوا أشرار الناس.
وكان حام من أجمل البرية وأتمهم كمالا وأطيبهم ريحاً، فاجتنب امرأته أن يطأها خوفاً من دعوة أبيه، فلما مات أبوه غلبه ذلك على اعتقاده، فقرب منها فحملت بكوش بن حام وأخته، فلما رآهما حام فزع منهما، وأتى اخوته فأخبرهما وقال لهما قلت لامرأتي: هل شيطان أم وأحد غيري أتاك، فقال اخوته: هذه دعوة ابيك، فاغتم لذلك وترك امرأته دهراً، ثم غشيها فولدت قوطا وتوأمته، فلما رأى ذلك هرب في البلاد وغاب فلم يدر أين يذهب، ولم يكن أشد تجبراًوتكبراً وعتوا من النمرود الأسود.
وكان له بعض كهان فأتاه ابليس فقال له: أنا كاهن من الكهان، ولم أر أحداً يعادلك في الكهانة أنا معينك ومتمم أمرك، وجاعلك ملك الملوك، على أن تذ بح لي ولدك قرباناً، وتصلي لي ثلاث صلوات فأقلدك وأكون معك، وأجعلك كاهناً كاملاً تاماً وأقيمك مقامي ففعل ما أمر به فأمر إبليس الشياطين بطاعته، وليكون معه، ثم أتوه بولد سام فحاربهم وعاونه إبليس فقهرهم واستبعدهم، فانقادوا له وأطاعوه فبنى له إبليس قصراً وصفحه بالذهب المكللة بالجوهر تضيء ما حوله ودفع اليه سيفاً يتألق نوراً في رأسه ثعبان يمتد إلى من يوميء اليه فيقتله، فلما رأى الناس ذلك أذعنوا له بالطاعة، ثم دعاهم إلى عبادته فأمر أن يبنى له صرح من الحجارة ومن الكلس فلم يبق احد إلا عمل فيه وقال يكون حصناً لكم.
وعاونته الأبالسة فبنى صرحاً عظيماً فبلغ ارتفاعه في الجو تسعمائة ذراع، ثم هندم أعلاه بأغرب بنيان وبنى فيه مجالس على أساطين غريبة، وكان عرض كل حائط من حيطانه الأربع ألف ذراع وما بين ذلك من الطبقات جعلها كلها مخازن وملأ جميعها من المال والطعام والشراب وجميع الآلات وكل ما يخاف أن يحتاج اليه يوماً من الدهر بما يقوم به هو وأهله مدة من الدهر طويلة، وجعل مجلسه أعلاه وأمر الناس أن يعبدوه.
واتخذ صاحب خبره جنياً بينه وبين الناس، فاذا رفع اليه، أن أحداً امتنع عن عبادته، أمر به فطرح من أعلى الصرح إلى أسفله.
وزعم قوم أنه يكون على السحاب ويصعد إلى الفلك، وكان يركب عجلة منصوبة على ظهور الشياطين وينحدر منها إلى الأرض ففرق الناس منه وافتتنوا به وعبده كثير منهم، وعظم أمره.
واتصل بسام أنه يريد قتله، وقد عزم عليه فأخرج سام الأسماء التي علمه نوح عليه السلام إياها، وقال له لا تدع بها إلا في مهم عظيم ففيها اسم الله الأعظم، وقال: اللهم أنت الداعي لعبادك وبعينك ما هم فيه وما خرجوا من الفتنة اليه بغلبة هذا الجبار الذي قد استهوته الشياطين وانقيادهم له، وإن لم تغثهم ضلوا وهلكوا، وأنت أعلم بما يصلحهم، فاحقن دماءهم وامنع هذا الجبار منهم، وخذه بجريرته واكفنا أمره.
فأمر الله عز وجل الرياح الاربع فأقبلت على ذلك الصرح من جوانبه فجعلته دكا واتبع ذلك ظلمة شديدة ورجفة عظيمة تزعزعت لها الجبال. فنهض العالم على وجوههم لا يرى بعضهم بعضاً، ولا يدرون أين يتوجهون وضعفت ألسنتهم عن الكلام.
وهلك اللعين عدو الله النمرود، وهلك من كان يعبده، ومشى الناس في الظلمة هاربين ثلاثة أيام ثم لاحت لهم شعوب فيها نور يسير، فتشعب كل شعب فرقة هربت نحوه طلباً للنجاة، وتبع كل فرقة قوم يحثونهم، وهذا بلغة غير لغة الفرقة الأخرى، حتى خرجت كل فرقة إلى ناحية من الأرض وقد تبلبلت ألسنتهم وكثرت لغاتهم، فاذا وصلت فرقة منهم إلى موضع ناداهم مناد " هذا موضعكم الذي تكونون فيه فاعتمروا فيه وأثمروا ".
فخرج بنو سام لناحية اليمن إلى الشحر وحضرموت ألى آخر خط الاستواء، فمنهم العرب العاربة.
وخرج بنو حام إلى السند والهند وبلاد أسوان.
وخرج بنو يافث إلى الشمال؛ فمنهم الروم والخزر والترك والصقالبة والافرنج، ويأجوج ومأجوج.
وخرج بنو يحطون إلى الصين الاقصى وأقاصي الشرق،
فنزل كل قوم في موضعهم وعمروه وتوالدوا فيه إلى اليوم.
ونذكر من أخبار آدم عليه السلام ما وقع الينا في نقله بعض الخلاف، وفي ذكره فائدة.
آدم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكة على ما تقدم ذكره، وأسكنه جنته بفضله، وأهبطه بذنبه إلى الأرض، وتاب عليه، وعلمه جميع العلوم، وملكه على الارض، وكثر في جميع العالم منه أفاضلهم وأشرارهم وهو أول من صام وصلى وقرأ وكتب.
وكان من أحسن المخلوقين وجهاً، وكان أمرد أجرد، وأنزل الله تعالى عليه إحدى وعشرين صحيفة، وتوفاه الله وهو ابن سبعمائة سنة وخمسون سنة، وكان عمره الف سنة، فوهب لداود منها خمسين سنة لما عرضت عليه أعمارهم وصورهم فرأى عمر داود قصيراً.
وأوصى بعده إلى ابنه شيث، وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين والعبادة والقيام بحقوق الله تعالى وشرائعه. وأنزل الله تعالى على شيث تسعاً وعشرين صحيفة، وكان مسكنه فوق الجبل وسكن ولد قابيل أسفل الوادي، وكان عمره تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة واستخلف ابنه أنوشا وكان عمره تسعمائة وخمسين سنة، واستخلف ابنه قينان وهو الذي كانت الوصية إليه وقسم الأرض بين بني أبيه، فطاف وهو ابن تسعمائة وعشرين سنة، ودفع الوصية الى ابنه هطيل وفي وقته بنيت الكعبة، وكان عمره ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة، وأوصى إلى ابنه يرد وعلمه وضع العلوم، وأخبره بما يجري في العالم، ويحدث بنظره في النجوم، وفي كتاب سر الملوك الذي أنزل على آدم عليه السلام.
وولد ليرد خنوخ وهو إدريس عليه السلام، وقد تقدم خبره مع يمحويل الملك ويقال إن يمحويل الملك بعث إلى أبيه أن يبعث اليه إدريس فامتنع؛ فوجه اليه جيشاً فمنعه منه أعمامه. وجميع ولد شيث فلم يصل اليه، ولم يكن بعد شيث وحي؛ حتى نبأ الله تعالى إدريس عليه السلام.
وكان عمر يرد سبعمائة وخمسين سنة، ويقال إنه أول من استوقد واستعبد وغزا بني قابيل، ونظر في علم الفلك، ووضع المكيال والميزان، وأوتي علم الطب والنجوم، وعلم الزيجات بحساب غير حساب الهند، وسأل ربه فأراه الصور الفلكية العالية. وكانت الارواح تخاطبه، وعلم أسماء الصعود والهبوط فصعد وهبط، ودار حول الفلك وعرف أشكال النجوم ووقف على مسير الكواكب، وعرف كل ما يحدث في العالم، فزبره على الحجارة وعلى الطين. وزيد مع ذلك كل العلوم والصناعات، وكانت له قصص تطول مع ملك الموت ومات ثم عاش ونظر إلى النار ودخل إلى الجنة ولم يخرج عنها.
ورفع على رأس ثلاثمائة سنة من عمره، وكان يقال له هرمس باسم عطارد، وعلم ابنه صابيا الخط فقيل لكل من كتب الخط بعده صابيا. وهو الذي أخبر بالطوفان، وما يحدث في العالم ودفع الوصية، والصحف إلى ابنه متوشلخ وأمر صابيا بمعونته. وكان صابيا قد بلغ مبلغاً جليلاً، وعاش متوشلخ تسعمائة سنة واثنتين وثلاثين سنة.
وانتقلت الوصية إلى ابنه لمك فأخذ في البحث وجمع العلوم، وأقبل على بني أبيه فجمعهم وأمرهم ونهاهم وحضهم على الجور لولد قابيل ونهاهم عن قربهم وعن الاختلاط بهم، وهو الذي رأى ناراً خرجت من فيه، فأحرقت العالم.
ولما ولد له نوح عليه السلام والملك يومئذ درمشيل بن يمحويل بن خنوخ بن يحمور بن قابيل ابن آدم عليه السلام، وكان قد تجبر وقهر الملوك على ما تقدم، لكنا نعيد ذكره هنا لما ورد في هذا الخبرمن الزيادة والاستقصاء.
وكان إبليس قد استمال الملك ودعاه إلى عبادة الكواكب ودين الصابئة، وقال له هو دين أجدادك، فأجابه وعمل له الشيطان هياكل واصناماً عبدوها.
ويقال إنه لم يستخرج أحد من المعادن والجوهر واللؤلؤ والمرجان أكثر مما كان في وقت الدرمشيل، وكان شديداً على نوح والله تعالى يحفظه منه وعاش الملك ثلثمائة سنة.
ونبأ الله تعالى نوحاً عليه السلام وهو ابن مائة وخمسين سنة وأرسله الى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد الطوفان مائة سنة، وكان أول نبي بعد إدريس عليهما السلام.
وكانت شريعته التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج وجهاد الأعداء، فدعا قومه إلى الله تعالى وحذرهم عذابه، وكلما قام فيهم ودعاهم عنفوه وحذروه وأخفوا أمره عن الملك، وكان يحضر هياكلهم وبيوت أصنامهم، فاذا قال لهم: قولوا لاإله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، جعلوا أصابعهم في آذانهم وادخلوا رءوسهم في ثيابهم تبرءاً مما يقول.
ولما قال لهم يوماً: قولوا لا اله إلا الله، وقعت الأصنام على وجوهها فقاموا اليه فضربوه حتى سقط على وجهه، وعرف الملك خبره فأحضره وقال له: ما هذا الذي بلغني عنك من مخالفتك لديني وما عليه بنو أبيك وسبك لآلهتنا، وما هذا السحر الذي اسقطت به الأصنام عن كراسيها، ومن الذي علمك ذلك.
فقال له نوح عليه السلام: لو كانت آلهة كما تزعم ماسقطت، وأنا عبد الله ورسوله فاتق الله تعالى ولا تشرك به شيئاً، فانه يراك،
فأمر بحبسه إلى أن يحضر عيد الأصنام فيذبحه تقربا اليها. وأمر برد الأصنام على كراسيها، وإصلاح ما تغير منها، وحان العيد وقرب فنادى في الناس أن يجتمعوا ليروا ما يصنع به، فدعا عليه نوح عليه السلام فأصابه صداع في دماغ رأسه أذهب عقله، فأقام اسبوعا ثم هلك فحمل على سرير ذهب، وطيف به في هياكل الأصنام، وهم يبكون عليه ثم دفنوه، وشتموا نوحا ونالوا منه بألسنتهم كل قبيح.
وولى الملك ابن الدرمشيل فأخرج نوحا من حبسه، زعم أنه مجنون وتقدم إليه ونهاه أن لايعود الى ذلك الفعل فأقام إلى أن اجتمعوا في بعض أعيادهم عكوفا على أصنامهم خرج حتى أتى جمعهم. فقال: قولوا لاإله إلا الله وإني عبد الله ورسوله، فتساقطت الأصنام وقاموا إلى نوح عليه السلام فضربوه وشجوه وسحبوه على وجهه، ثم أتوا به الملك فقال له الملك ألم أصفح عنك، وأسرحك من حبس ابي على أن لا تعاود، فقال له: إني عبد مأمور بما أفعله، قال: ومن أمرك، قال: إلهي، قال: ومن إلهك، قال: اله السموات والأرض وما فيها وخالق الخلائق اجمعين، قال: وبماذا أمرك، قال: ادعو الناس الى عبادته وحده، واخلع الأصنام، واعمل بما فرضه الله تعالى من الصلاة والزكاةوالصيام، قال: فان لم نفعل ما تقول، قال: الأمر اليه إن شاء اهلككم وإن شاء امهلكم، قال: فاترك إلهك وما يريده وكف أنت عنا نفسك، قال: ماينبغي لي أن أكف ولاأقدر لأني عبد مأمور، فأمر بحبسه إلى أن يتقرب به إلى الأصنام.
فخرج على الملك سرنديب الكاهن الجبار، وكانت بينه وبينه حروب شغل بها عن أمر نوح عليه السلام وتشاءم بحبسه فأمر بتسريحه حتى يخلو له وجهه ثم صالح الكاهن على ناحية تركها له من عمله؛ وعاد الى ما كان فيه من ملكه. وكان إبليس يحرضه على قتل نوح عليه السلام، ويزينه له، فيمنعه الله تعالى منه،
وزاد أمر نوح عليه السلام، فوجه الملك إلى جميع ممالك الأرض ليوجهوا له كل كاهن، وكل عراف لمناظرة نوح عليه السلام فشخصوا اليه من الآفاق، فناظروه فغلبهم نوح عليه السلام بالحجة والبرهان.
فآمن منهم الكاهن فيملون المصري، واتبعه حتى دخل معه في السفينة، وأوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام ان اصنع الفلك بأعيننا، فقال كيف أصنعه، فأهبط الله تعالى جبريل عليه السلام حتى أراه إياها، وامره ان يبنيها على مثل صدر البطة فأقام في عملها عشر سنين، وعملها من خشب الساج، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع وقيل دون ذلك، وجعل ارتفاعها من الأرض خمسين ذراعا، وجعلها ثلاث طبقات كما امر.
وكانوا يهزءون منه ويضحكون، وكان الرجل منهم يأتي إليه بأبنه الصغير فيحذره منه، وربما رماه الصبيان بالحجارة فآذوه، ولما فرغ من عمل السفينة جعل بابها في جنبها، وأقامت موضوعة على الأرض تسعة أشهر حتى حضر عيد لتلك الأصنام، فاجتمعوا اليه وقربوا اليه ثلاثمائة رجل ممن آمن بنوح عليه السلام، ذبحوهم بين أيديهم، فحق عليهم العذاب.
وأمر الله تعالى نوحا عليه السلام أن يدخل في السفينة من كل زوجين اثنين، فقال يارب من أين لي أن اجمع ذلك فأمر الله تعالى الرياح فحشرت اليه كلما أراد، وأمر به فأدخل فيها من كل زوجين اثنين.
وكانت السفينة ثلاث طبقات، فجعل الطبقة السفلى للبهائم والدواب والطير وجعل الوسطى لطعامهم، وجعل جسد آدم في تابوت فيها، وجعل العليا له ولمن دخل معه.
وركب الملك إلى هيكل الأصنام فاقام فيها حيناً، ثم مشى إلى السفينة، وقد علم بما شحنت فيه وعزم على حرقها، فلما وقف عليها قال يا نوح واين الماء الذي يحملها، قال هو يأتيك في مكانك هذا وأمر الملك فرميت السفينة بالنار، فرجعت عليه وعلى أصحابه فأحرقت بعضهم، وفار الماء على ماتقدم ذكره، وفتحت أبواب السماء بالمطر وحيل بينهم وبين صعود الجبال، ولم يدروا أين يتوجهون، وكانت المرأة تحمل ولدها على عنقها، فاذا لججها الغرق طرحته، فقيل لو رحم الله الكافر لرحم الصبي وأمه.
وقال أصحاب النظر في الكواكب سلمت ثلاثة مواضع، لم يدخلها الطوفان ونحن لا نقول بذلك،
والفرس لعنهم الله لا يقولون بالطوفان ولا بنبوة نوح عليه السلام، ونحن لا نقول بقولهم،
والهند يزعمون أنه لم يكن ببلدهم من الطوفان شيء وكذلك أكثر سكان الجزائروالبحار يزعمون ذلك.
وقيل إن السفينة أقامت في الماء ستة أشهر، ويقال إنه سارت شرقا ًوغرباً وأتت موضع الكعبة وكانت معهم خرزة يعرفون بها الليل، ومواقيت الصلوات.
ولما نزلوا من السفينة على ما تقدم ذكره أمرهم نوح عليه السلام بالزراعة وغرس الشجر، وتفقد الكرمة " شجرة العنب " فلم يجدها، فعلم أن إبليس سرقها لأن له فيها شركة، فأعطاه نوح منها الربع، على أن يردها ، فرفض، فزاده الى النصف، فقال له: لا يكفي ولكن يكون لي الثلثان ولك الثلث، فوافق نوح عليه السلام. فكان ماطبخ من عصير العنب بالنار حتى يذهب ثلثاه، حلالاً لنوح ولذريتك، وما نقص من ذلك كان لأبليس، ولمن كان من اتباعه.
فقال إبليس لنوح عليه السلام إن لك عندي يداً أرعاها لك قال وما مكافأتك، قال وصية أوصيك بها، قال وما هي، قال: إياك والحسد والحرص والعجلة فان الحسد حملني على أن عصيت ربي، وغويت آدم حتى خرج من الجنة، والحرص حمل آدم وحواء حتى أكلا من الشجرة، فغضب الله عليهما، والعجلة التي حملتك على أن دعوت على قومك فأهلكتهم جميعاً.
ذكر عناق بنت آدم عليه السلام
نرجع الآن إلى مايجب ذكره من بقية أخبار آدم عليه السلام،
ولدت عناق بنت آدم مفردة بغير أخ وكانت مشوهة الخلق لها رأسان، وكان لها في كل يد عشر أصابع، لكل أصبع ظفران كلمنجلين الحادين.
وكان الله عز وجل أنزل على آدم عليه السلام أسماء تطيعها الشياطين، وأمره أن يدفعها إلى حواء فتعلقها على نفسها فتكون حرزاً لها، ففعل ذلك، وكانت حواء تصونها وتحتفظ بها، فاغتفلتها عناق وهي نائمة، فاخذتها واستجلبت الشياطين بتلك الأسماء، وعملت السحر، وتكلمت بشيء من الكهانة وجاهرت بالمعاصي وأضلت خلقاً كثيراً من ولد آدم عليه السلام، فدعا عليها آدم عليه السلام، وأمنت حواء فأرسل الله إليها في طريقها أسداً أعظم من الفيل فهجم عليها ببعض المغاور فقتلها، ومزق أعضاءها، وأراح الله آدم وحواء منها.
ذكر أخبار الكهان من العرب
بلغ سطيح من الكهانة مالم يبلغه أحد، وكان يسمى كاهن الكهان، وكان يخبر بالغيوب والعجائب فقيل إن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته، فأمر بجمع الكهان وأصحاب القيافة والزجر، فلما حضروا عنده قال لهم إني رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها، فقالوا له قصها علينا نخبرك بتأويلها، فقال ما أطمئن الى تأويلها إذا قصصتها عليكم، ولا أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أقصها عليه.
فقال له رجل منهم: لا يفعل ذلك ويوثق بقوله إلا سطيح الذئبي وشق اليشكري، فهما أعلم، فارسل اليهما ليقدما عليك.
فقدم سطيح قبل شق، وكان اسم سطيح ربيع بن ربيعة من بني ذئب بن عدي، فاكرمه ربيعة بن نصر، وقال له إني رأيت رؤيا هالتني، وأريد أن تخبرني بها وبتأويلها.
فقال سطيح: أقسم بالشفق، والليل إذا غسق، والطارق إذا طرق، لقد رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في أرض تهمة، فأكلت كل ذات جممة.
قال: صدقت فما تأويلها،
قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليطأن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين الى جرش.
قال ربيعة: إن هذا لغائظ موجع، فهل في زماننا،
قال: لا بل بعده بحين اكثر من سنين او سبعين، يمضين من السنين، ثم تقتلون بها أجمعين، وتخرجون منها هاربين.
قال: فمن يلي ذلك منهم،
قال: غلام رحب الفطرة من آل ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداُ منهم باليمن.
قال: فما تصنع اليمن? قال يملكها بعدهم قوم ذوو أخطار من رجال أحرار، قال أفيدوم ذلك أو ينقطع? قال بل ينقطع، قال ومن يقطعه.
قال: نبي ذكي أمين قوي، يأتيه الوحي من قبل الواحد العلي.
قال: وممن هذا النبي.
قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن مضر، يكون الملك في قومه الى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر.
قال: نعم يوم انفطار السماء، والوقوف للجزاء، بالسعادة والشقاء.
قال: وأي يوم هو.
قال: يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحق ما تخبرنا به ياسطيح.
قال: نعم والشفق، والغسق، والقمر اذا اتسق، أن ما أنبأتك به لحق.
ومن أخباره أيضاً: أنه كان لعبد المطلب بن هاشم ماء بالطائف، يقال له ذو الهدم، فادعته ثقيف فجاءوه فاحتفروه، فمنعهم عبد المطلب فعظم خصامهم، فنافرهم عبد المطلب الى سطيح، فخرج عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وخرج معه جماعة من قومه، وخرج خصمه جندب بن الحارث في جماعة من ثقيف، فلم كان في بعض الطريق نفذ ماؤهم فطلبوا الى الثقيفيين أن يسقوهم فلم يفعلوا، فنزل عبد المطلب وأصحابه، وهم لا يشكون أنه الموت، ففجر الله عين ماء عذب من تحت جرات بعير عبد المطلب فشربوا واستقوا وحمد الله عز وجل عبد المطلب وشكره وساروا على طريقهم فنفد ماء الثقيفيين فسألوا عبد المطلب أن يسقيهم ففعل فقال له الحارث: لأن أدخل سيفي في بطني أخف علي من أن أفعل ذلك، قال له: يا بني اسقهم فان الكرم ثقيل الحمل، فسقاهم فساروا فقطعوا رأس جرادة فجعلوه في خرز مزادة وعلقوه في جلد في عنق كلب لهم اسمه سوار، وكانت في عنقه قلادة لا تفارقه.
فأتوا سطيحاً فلما دخلوا عليه قالوا إنا أتيناك سائلين، قال فماذا تسألون، قالوا نسأل عن شيء قد خبأناه، ونحتكم عندك في شيء وقع التخاصم بيننا فيه، فقال خبأتم رأس جرادة في خرز مزادة في عنق سوار ذي القلادة، قالوا صدقت فأخبرنا عما اختصمنا فيه اليك، قال احلف بالضوء والظلم، والبيت ذي الحرم، أن الدفين ذا الهدم، لهذا العربي ذي الكرم، فانصرفوا وقد قضى لعبد المطلب.
ومن أخباره أن كسرى ابرويز لما رأى في نومه كأنه سقط من قصره ست عشرة شرفة ارتاع لذلك، فوجه الى الموبذان فعرفه بذلك وقال أن ذلك قد هالني وأفزعني. قال الموبذان: أيها الملك عسى أن يكون خيراً، وإني أيها الملك كنت أرى البارحة ان النيران قد خمدت، وقلعت بيوتها وهلك سدنتها وقد اغمني ذلك، وكنت عزمت على أن لا أخبر الملك حتى يوجه إلي فأتيته.
قال كسرى فما الداعي، قال الموبذان قد بلغني ان بأرض العرب كاهناً يقال له سطيح، يخبر بما يكون قبل كونه، فلو أرسل اليه الملك رسولاً يسأله عن ذلك، فلعله أن يخبره بالجواب فيه. قال كسرى ومن لنا بحصيف ينفذ في ذلك،
وكان على باب الملك فيمن وفد عليه من العرب رجل يقال له عبد المسيح من رهط سطيح، فأشار به الموبذان على كسرى، فأحضره ولم يخبره بما رآه، وقال انطلق إلى سطيح، فاسأله عن رؤيا رأيتها، فاذا اخبرك بها، فاسأله أن يخبرك بتأويلها، فاذا أخبرك فارجع مسرعاً ولا تتخلف، قال أفعل أيها الملك، فأمر له بمال وجائزة، وحمله جائزة الى سطيح.
فركب عبد المسيح راحلته، ومضى مبادراً يقطع المفاوز والفيافي، حتى لحق مكان سطيح بعد ايام، فلما بلغ بيته وجده عليلاً لما به فوقف عليه وسلم وجعل يرتجز ويقول ليسمعه:
اصم ام يسمع غطريف اليمن ● يافاصل الخطة اعيت من ومن
قال سطيح مجيبا له: عبد المسيح، على جمل فسيح، أوفى على سطيح، وقد أشفى على الضريح، يسأل عن ارتجاج الايوان، ورؤيا الموبذان، وخمود النيران. قال: فالتأويل يا سطيح،
قال: تنقضي أيامهم، وتنقطع آثارهم، وتملك العرب ديارهم، عند ظهور صاحب التلاوة، والقضيب والهراوة.
قال: ومتى ذلك يا سطيح، قال: إلى أن يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وقبل ذلك ينقضي امر سطيح ويواريه الضريح، ولا يصلح له فيها قرار. " وقد روي هنا الكلام على غير هذا النوع واكثر منه كلاماً ".
فرجع عبد المسيح إلى كسرى، وقد وعى كلامه، فعجب كسرى وسره وقال: إلى أن يلي منا ستة عشر ملكا يكون سعة لدفع الهم، ولعل ذلك لا يكون، فرأى الملك منهم تلك العدة في سنين قليلة حتى انقضى ملكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وقيل إن الرؤيا كانت ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إن سطيحا عاش أربعمائة سنة.
وأما شق الاول، وهو شق بن حويل بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فهو اول كاهن في العرب العاربة، وارم ابو الجبابرة من عاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم، ويقال إنه كانت له عين واحدة في جبهته، ويقال إنه كان يشق وجهه نار. ويقال ان الدجال من ولده، ويقال إنه هو الدجال بعينه، أنظره الله إلى وقته، وهو محبوس في بعض جزائر البحر.
وفي حديث تميم الداري انه خرج في بعض الأسفار فوقع الى جزيرة، فرآه وخاطبه، وسأله عن ظهوره، وانه وجده مغلولا، مشدوداً إلى صخرة، وان الشياطين تأتيه بمايأكله، على ما يقول.
وفي خبر آخر أنه لا يحتاج الى الغذاء، ورآه تميم الداري، وله عين واحدة؛ وحدث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقال إن أمه امرأة من الجن عشقت أباه حويلا؛ فتزوجته فأولدها الدجال وهو خوص بن حويل، وكان مشوهاً مبدلاً، وكان إبليس يعمل له العجائب، فلما كان وقت سليمان عليه السلام دعاه فلم يجبه، فحبسه في جزيرة في البحر.
وقيل أن أباه استهوته الشياطين لما كانت أمه منهم، وانه من مدينة ماريول التي غلبت عليها الجن، وهي من مدائن المغرب، وأن الجن في طاعته.
ويقال إن خوصاً هذا كان يحضر السارق فيأمره برد ما سرق، فان فعل وإلا صار حية فيلتوي في عنقه فيقتله، وقيل أنه ربما خاطبهم ولا يرونه، وكان إذا حكم على أحد فلم يرض حكمه بصبص حدقته في احدى عينيه فرده أعور.
وقيل أن مجلسه كان في قبة بوادي برهوت في اليمن، وكانوا يحجون اليه، وقيل انه لم ينم قط، وانهم كانوا يرون فوق عينيه ناراً بيضاء، وكذلك عن الموضع الذي هو فيه مسجون انه يعلوه بالليل نار مضيئة وبالنهار دخان.
وأما شق اليشكري وكان حكيم العرب في الجاهلية، وقد كان ربيعة بن نصر لما رأى رؤياه وجه الى شق وسطيح، فأتاه سطيح قبل شق، وكان من جوابه ما قدمنا ذكره في أخبار سطيح، فلما قدم عليه شق قال له: يا شق اني رأيت رؤيا هالتني فماهي، وكتمه قول سطيح، فقال له شق: رايت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روض وأكمة فأكلت كل ذات نسمة،
قال: صدقت فما تأويلها. قال: أحلف بما بين الحرتين من انسان، ليطأن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين الي نجران.
قال: أيكون في زماننا هذا. قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم عظيم ذو شان،
قال: وممن هو هذا العظيم. قال: غلام من بيت ذي يزن؛ فلا يترك احداً منهم باليمن،
قال: فهل يدوم ذلك، قال: بل ينقطع برسول يرسل، يأتي بالعدل بين اهل الدين والفضل، يكون الملك فيهم إلى يوم الفصل،
قال: وما يوم الفصل، قال: يوم يدعى من السماء بدعوات، يسمع بها الأحياء والأموات، ويجمع الخلق فيه للميقات، ويكون فيه لمن آمن الخير والخيرات، ولمن كفر الويل والترحات،
قال: أحق ما تقول يا شق، قال: أي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، أن ما انبأتك به لحق محض، ما فيه كذب ولا نقض، فأجازه ربيعة بجائزة سنية، ووصله وصرفه.
اليمامة الزرقاء وهي صاحبة جو واليمامة، وسميت بها، وصاحبة البحرين، وقيل ان امها كانت كاهنة، وكان لها رئي من الجن وهي من جديس، وكانت جديس وطسم بمكان فغلبت طسم على جديس، وملك الجميع عملوق بن الطسم، وكان يفترع النساء قبل زواجهن، فاحتالت جديس عليه فقتلوه وقتلوا كثيراً من طسم فاستنصرت بقايا طسم بحسان بن تبع الحميري، فغزا جديساً طالبا بثار طسم.
وكانت اليمامة الزرقاء وعينها الواحدة اكبر من الاخرى، فاذا اغلقت الكبرى ابصرت بالصغرى على الفراسخ الكثيرة والأمد البعيد، وقيل انه كانت ترى فلك القمر، فتخبر عنه بأشياء عجيبة.
وقد كان اتصل بجديس استنصار طسم بحسان بن تبع الحميري، فقطنوا وقالوا لليمامة: انظري فنظرت، وقالت: اقسم بمهب الرياح، والآكام والبطاح، والمساء والصباح، لياتين من حمير الجيش الرداح، والخيل والسلاح، فلا ترون من بعدها فلاح.
فلما اصبحوا في اليوم الثاني قالوا لها: انظري فنظرت، وكان حسان لما قرب من جو بأربعة ايام قال لاصحابه ان اليمامة ستراكم على البعد الكثير فتنذر بكم، فليحمل كل واحد منكم غصناً من شجرة اعظم ما يقدر عليه ليسدل اغصانه عليه وجوانبه، ففعلوا ذلك.
فقالت اليمامة لما رأت ذلك: ياجديس قد اتتكم الشجر، تخبط المدر، فاستعملوا منها الحذر فكذبوها، وقالوا لها: اتسير الشجر،
فلما كان في اليوم الثالث قالوا لها: انظري، فنظرت فقالت: ارى رجلاً في كتفه كتف، او نعل يخصفه، فكذبوها، وقالوا قد تغير نظرها، وكيف ترى على هذا البعد ما لم يتصل بنا خبره،
فكان حسان يسير بالليل ويكمن بالنهار، إلى أن صبحهم فقتلهم أبرح قتل، وهدم منازلهم واستباح نساءهم. وأخذ اليمامة، وقال لها ألا عرفتيهم بمسيري، قالت: قد فعلت لو قبلوا،
ونظر فرأى في عينها عروقاً سوداء، فقال لها: بم كنت تكتحلين، فقالت له: بحجر الأثمد، مربى بماء المطر.
فقيل انه قطع يدها ورجلها، وقلع عينها وصلبها، فيقال: إن رئيها من الجن لطمه فأعوره، ومنعه النوم فلم يكن ينام.
وقد ذكرت الشعراء اليمامة فأكثروا، قال الأعشى يذكرها في القصيدة التي أولها:
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا
فقال يذكرها ونظرها:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ● حقـاً كـمـا نـظـر الـربـى إذا شــجــعا
فكـذبـوهـا بما قـالت فـصحبهم ● جيوش حسان تزجي الموت والسلعا
وقصتها في حديث الحمام مشهورة، وهذا هو القول الذي سجعت هي به:
ليت الحمام ليه ● إلى حـمـامـتيه
أو نصفـه قـديه ● تم الحمام مـيه
كان الناس بعد الطوفان مجتمعين بمكان واحد بأرض بابل ولغتهم السريانية ثم تفرقوا فسلك قحطان وعاد وثمود وعملاق، وطسم وجديس طريقا، وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي فساقتهم الأقدار إلى اليمن فسارت عاد إلى الأحقاف ونزل ثمود ناحية الحجر ونزل جديس اليمامة، ثم شخص طسم فنزل اليمامة مع جديس، ثم شخص عملاق فنزل أرض الحرم، وسار ضخم أرم فنزل الطائف، وسار جرهم فنزل مكة، فهؤلاء ولدهم ونسلهم يسمون العرب العاربة، وولد إسماعيل يسمون العرب المستعربة لأنهم تعلموا منهم وتكلموا بلغتهم.
ذكر عاد
وأرسل الله هوداً إلى عاد وهم باحقاف الرمل وملكهم الخلجان بن الوهم، وكانوا يعبدون ثلاثة أصنام وكذبوه، فدعا عليهم فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين فأجهدهم ذلك فوجهوا الى مكة رجالا يستسقون لهم في الحرم. ولم تزل العرب تعظم موضع البيت، وكان موضعه بعد الطوفان ربوة حمراء، وأهله العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، فقدم عليه وفد عاد للاستسقاء وفيهم قيل بن عمرو ويزيد بن ربيعة، ونعيم بن هذال، ولقمان بن عاد، فقدموا ونزلوا على معاوية بن بكر وأقاموا عنده شهراً يأكلون ويشربون وتغنيهم الجرادتان وهما قينتان كانتا لمعاوية بن بكر، فلما طال أمرهم أشفق عليهم معاوية بن بكر لأنهم أخواله وخاف عليهم، فصنع شعراً ينبههم به ويحثهم على ما قدموا له، وأمر الجاريتين فغنتاه:
ألا يا قيل ويحك قــم فهينم ● لعل الله يمطرنا غمامــــــا
فيسقي أرض عاد إن عاداً ● قد أمسوا لايبينون الكلاما
وأنـتم هاهنا فـيمااشتهيتم ● نهـاركـم ولـيلـكـم الـتـماما
فقـبح وفدكم من وفد قـوم ● ولا لقوا التحية ولا السلاما
فانتبه القوم لما سمعوا الشعر ونهضوا يستسقون، فلما استسقوا نشأت لهم ثلاث سحائب بيضاء وسوداء وحمراء، ونودي قيل منها اختر لقومك قال البيضاء جهام قد فرغت ماءها، والحمراء ريح والسوداء غيث فاختارها فقيل قد اخترت رماداً رمدداً لا يبقي من عاد أحداً، لا والداً ولا ولداً.فدخلت الريح على عاد من واديهم، فأقامت سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، والحسوم الدائمة حتى هلكوا عن آخرهم، وتهدمت ديارهم ولم يمنعهم جدار ولاجبل حتى هلكوا عن آخرهم، ولم يبق إلا رسمهم.
وروي أنه لما استسقى وفدهم بمكة، ساروا في طريقهم فنودوا في طريقهم: إن عاداً قد هلكوا عن آخرهم فاختاروا لأنفسكم، فاختار قيل أن يلحق بقومه، فسار نحوهم فلقيته الريح فأهلكته، واختار مزيد براً وصدقاً وكان مؤمناً بهود عليه السلام، فأعطى ما سأل.
واختار نعيم حياة ألف سنة لايمرض ولايهرم، ولاتصيبه حاجة فأعطي ما اختار، واختار لقمان عمر سبعة أنسر فأعطي ما أختار، وكان يأخذ النسر فرخاً يربيه حتى يهلك، ثم يأخذ عند هلاك ذلك فرخاً آخر، فيفعل به كذلك، حتى بلغ سبعة أنسر، وكان آخرها لبد، وقد ضربت العرب به الأمثال في أشعارهم قال الأعشى:
ألــم تـــر لقمــان أهلكـــه ● ما مر من سنة ومن شهر
وبقي نسر كلما انقرضت ● أيامــه عـــادت إلــى نـسر
ما مـر مـن أمـد عـلى لبد ● وعلى جميع نسوره السمر
قد ابــلـــت الأيام نـضرته ● وأودعت لقـمـان فـي القـبر
وقال النابغة الذبياني:
أمست خلاء وأمسى أهلها انقرضوا ● أخنى عليها الذي أخنى على لبد
ولما قسم نوح عليه السلام الأرض بين بنيه جعل لسام وسط الأرض، والحرم وما حوله واليمن إلى حضرموت إلى عمان والبحرين إلى عالج إلى طرف بلاد الهند، وكان هذا كله مدناً وقرى وحصوناً وقصوراً ومصانع وبساتين يتصل بعضها ببعض، الى ان سخط الله على قوم هود فأفسد كثيراً منها. وجعل الله في ولد سام النبوة والبركة،
وجعل لحام بعض الشام ومصر إلى أعالي النيل وبلاد النوبة والبجة، وأصناف السودان مع البحر الأحمر إلى بلد الحبشة والهند والقوط والسند.
وقسم ليافث بلاد الترك والصين، ويأجوج ومأجوج، والصقالبة والروم وإفرنجة والأعبورة والأندلس الى البحر المظلم، وسواحله وجعل ليحطون صين الصين إلى بلاد الشحر إلى ناحية اليمن، فكثروا من كل جانب وانبسطوا الى جهة بابل، وبورك فيهم فصاروا نيفاً من سبعين ألف بيت على خلق عظيم إلى أن ضرب بينهم إبليس، وكانت البلبلة فافترقوا.
وكان أول ملك منهم النمرود الأول بن كوش بن حام، وكان أسود أحمر العينين مشوها في جبهته كالقرن، وكان أول أسود يرى بعد الطوفان، فكان من ولده لدعاء نوح عليه السلام على ابنه حام،
وذلك أن نوحاً عليه السلام نام فانكشفت عورته، فرآها حام فضحك ولم يغطه، وسكت يافث ولم ينكر عليه، فصاح سام عليهما، وعلم ذلك نوح فدعا على حام أن يكون ولده سوداً مشوهين عبيداً لولد سام، ودعا على يافث أن يكون ولده عبيداً لبني سام، وأن يكونوا أشرار الناس.
وكان حام من أجمل البرية وأتمهم كمالا وأطيبهم ريحاً، فاجتنب امرأته أن يطأها خوفاً من دعوة أبيه، فلما مات أبوه غلبه ذلك على اعتقاده، فقرب منها فحملت بكوش بن حام وأخته، فلما رآهما حام فزع منهما، وأتى اخوته فأخبرهما وقال لهما قلت لامرأتي: هل شيطان أم وأحد غيري أتاك، فقال اخوته: هذه دعوة ابيك، فاغتم لذلك وترك امرأته دهراً، ثم غشيها فولدت قوطا وتوأمته، فلما رأى ذلك هرب في البلاد وغاب فلم يدر أين يذهب، ولم يكن أشد تجبراًوتكبراً وعتوا من النمرود الأسود.
وكان له بعض كهان فأتاه ابليس فقال له: أنا كاهن من الكهان، ولم أر أحداً يعادلك في الكهانة أنا معينك ومتمم أمرك، وجاعلك ملك الملوك، على أن تذ بح لي ولدك قرباناً، وتصلي لي ثلاث صلوات فأقلدك وأكون معك، وأجعلك كاهناً كاملاً تاماً وأقيمك مقامي ففعل ما أمر به فأمر إبليس الشياطين بطاعته، وليكون معه، ثم أتوه بولد سام فحاربهم وعاونه إبليس فقهرهم واستبعدهم، فانقادوا له وأطاعوه فبنى له إبليس قصراً وصفحه بالذهب المكللة بالجوهر تضيء ما حوله ودفع اليه سيفاً يتألق نوراً في رأسه ثعبان يمتد إلى من يوميء اليه فيقتله، فلما رأى الناس ذلك أذعنوا له بالطاعة، ثم دعاهم إلى عبادته فأمر أن يبنى له صرح من الحجارة ومن الكلس فلم يبق احد إلا عمل فيه وقال يكون حصناً لكم.
وعاونته الأبالسة فبنى صرحاً عظيماً فبلغ ارتفاعه في الجو تسعمائة ذراع، ثم هندم أعلاه بأغرب بنيان وبنى فيه مجالس على أساطين غريبة، وكان عرض كل حائط من حيطانه الأربع ألف ذراع وما بين ذلك من الطبقات جعلها كلها مخازن وملأ جميعها من المال والطعام والشراب وجميع الآلات وكل ما يخاف أن يحتاج اليه يوماً من الدهر بما يقوم به هو وأهله مدة من الدهر طويلة، وجعل مجلسه أعلاه وأمر الناس أن يعبدوه.
واتخذ صاحب خبره جنياً بينه وبين الناس، فاذا رفع اليه، أن أحداً امتنع عن عبادته، أمر به فطرح من أعلى الصرح إلى أسفله.
وزعم قوم أنه يكون على السحاب ويصعد إلى الفلك، وكان يركب عجلة منصوبة على ظهور الشياطين وينحدر منها إلى الأرض ففرق الناس منه وافتتنوا به وعبده كثير منهم، وعظم أمره.
واتصل بسام أنه يريد قتله، وقد عزم عليه فأخرج سام الأسماء التي علمه نوح عليه السلام إياها، وقال له لا تدع بها إلا في مهم عظيم ففيها اسم الله الأعظم، وقال: اللهم أنت الداعي لعبادك وبعينك ما هم فيه وما خرجوا من الفتنة اليه بغلبة هذا الجبار الذي قد استهوته الشياطين وانقيادهم له، وإن لم تغثهم ضلوا وهلكوا، وأنت أعلم بما يصلحهم، فاحقن دماءهم وامنع هذا الجبار منهم، وخذه بجريرته واكفنا أمره.
فأمر الله عز وجل الرياح الاربع فأقبلت على ذلك الصرح من جوانبه فجعلته دكا واتبع ذلك ظلمة شديدة ورجفة عظيمة تزعزعت لها الجبال. فنهض العالم على وجوههم لا يرى بعضهم بعضاً، ولا يدرون أين يتوجهون وضعفت ألسنتهم عن الكلام.
وهلك اللعين عدو الله النمرود، وهلك من كان يعبده، ومشى الناس في الظلمة هاربين ثلاثة أيام ثم لاحت لهم شعوب فيها نور يسير، فتشعب كل شعب فرقة هربت نحوه طلباً للنجاة، وتبع كل فرقة قوم يحثونهم، وهذا بلغة غير لغة الفرقة الأخرى، حتى خرجت كل فرقة إلى ناحية من الأرض وقد تبلبلت ألسنتهم وكثرت لغاتهم، فاذا وصلت فرقة منهم إلى موضع ناداهم مناد " هذا موضعكم الذي تكونون فيه فاعتمروا فيه وأثمروا ".
فخرج بنو سام لناحية اليمن إلى الشحر وحضرموت ألى آخر خط الاستواء، فمنهم العرب العاربة.
وخرج بنو حام إلى السند والهند وبلاد أسوان.
وخرج بنو يافث إلى الشمال؛ فمنهم الروم والخزر والترك والصقالبة والافرنج، ويأجوج ومأجوج.
وخرج بنو يحطون إلى الصين الاقصى وأقاصي الشرق،
فنزل كل قوم في موضعهم وعمروه وتوالدوا فيه إلى اليوم.
ونذكر من أخبار آدم عليه السلام ما وقع الينا في نقله بعض الخلاف، وفي ذكره فائدة.
آدم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكة على ما تقدم ذكره، وأسكنه جنته بفضله، وأهبطه بذنبه إلى الأرض، وتاب عليه، وعلمه جميع العلوم، وملكه على الارض، وكثر في جميع العالم منه أفاضلهم وأشرارهم وهو أول من صام وصلى وقرأ وكتب.
وكان من أحسن المخلوقين وجهاً، وكان أمرد أجرد، وأنزل الله تعالى عليه إحدى وعشرين صحيفة، وتوفاه الله وهو ابن سبعمائة سنة وخمسون سنة، وكان عمره الف سنة، فوهب لداود منها خمسين سنة لما عرضت عليه أعمارهم وصورهم فرأى عمر داود قصيراً.
وأوصى بعده إلى ابنه شيث، وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين والعبادة والقيام بحقوق الله تعالى وشرائعه. وأنزل الله تعالى على شيث تسعاً وعشرين صحيفة، وكان مسكنه فوق الجبل وسكن ولد قابيل أسفل الوادي، وكان عمره تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة واستخلف ابنه أنوشا وكان عمره تسعمائة وخمسين سنة، واستخلف ابنه قينان وهو الذي كانت الوصية إليه وقسم الأرض بين بني أبيه، فطاف وهو ابن تسعمائة وعشرين سنة، ودفع الوصية الى ابنه هطيل وفي وقته بنيت الكعبة، وكان عمره ثمانمائة سنة وخمساً وتسعين سنة، وأوصى إلى ابنه يرد وعلمه وضع العلوم، وأخبره بما يجري في العالم، ويحدث بنظره في النجوم، وفي كتاب سر الملوك الذي أنزل على آدم عليه السلام.
وولد ليرد خنوخ وهو إدريس عليه السلام، وقد تقدم خبره مع يمحويل الملك ويقال إن يمحويل الملك بعث إلى أبيه أن يبعث اليه إدريس فامتنع؛ فوجه اليه جيشاً فمنعه منه أعمامه. وجميع ولد شيث فلم يصل اليه، ولم يكن بعد شيث وحي؛ حتى نبأ الله تعالى إدريس عليه السلام.
وكان عمر يرد سبعمائة وخمسين سنة، ويقال إنه أول من استوقد واستعبد وغزا بني قابيل، ونظر في علم الفلك، ووضع المكيال والميزان، وأوتي علم الطب والنجوم، وعلم الزيجات بحساب غير حساب الهند، وسأل ربه فأراه الصور الفلكية العالية. وكانت الارواح تخاطبه، وعلم أسماء الصعود والهبوط فصعد وهبط، ودار حول الفلك وعرف أشكال النجوم ووقف على مسير الكواكب، وعرف كل ما يحدث في العالم، فزبره على الحجارة وعلى الطين. وزيد مع ذلك كل العلوم والصناعات، وكانت له قصص تطول مع ملك الموت ومات ثم عاش ونظر إلى النار ودخل إلى الجنة ولم يخرج عنها.
ورفع على رأس ثلاثمائة سنة من عمره، وكان يقال له هرمس باسم عطارد، وعلم ابنه صابيا الخط فقيل لكل من كتب الخط بعده صابيا. وهو الذي أخبر بالطوفان، وما يحدث في العالم ودفع الوصية، والصحف إلى ابنه متوشلخ وأمر صابيا بمعونته. وكان صابيا قد بلغ مبلغاً جليلاً، وعاش متوشلخ تسعمائة سنة واثنتين وثلاثين سنة.
وانتقلت الوصية إلى ابنه لمك فأخذ في البحث وجمع العلوم، وأقبل على بني أبيه فجمعهم وأمرهم ونهاهم وحضهم على الجور لولد قابيل ونهاهم عن قربهم وعن الاختلاط بهم، وهو الذي رأى ناراً خرجت من فيه، فأحرقت العالم.
ولما ولد له نوح عليه السلام والملك يومئذ درمشيل بن يمحويل بن خنوخ بن يحمور بن قابيل ابن آدم عليه السلام، وكان قد تجبر وقهر الملوك على ما تقدم، لكنا نعيد ذكره هنا لما ورد في هذا الخبرمن الزيادة والاستقصاء.
وكان إبليس قد استمال الملك ودعاه إلى عبادة الكواكب ودين الصابئة، وقال له هو دين أجدادك، فأجابه وعمل له الشيطان هياكل واصناماً عبدوها.
ويقال إنه لم يستخرج أحد من المعادن والجوهر واللؤلؤ والمرجان أكثر مما كان في وقت الدرمشيل، وكان شديداً على نوح والله تعالى يحفظه منه وعاش الملك ثلثمائة سنة.
ونبأ الله تعالى نوحاً عليه السلام وهو ابن مائة وخمسين سنة وأرسله الى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد الطوفان مائة سنة، وكان أول نبي بعد إدريس عليهما السلام.
وكانت شريعته التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج وجهاد الأعداء، فدعا قومه إلى الله تعالى وحذرهم عذابه، وكلما قام فيهم ودعاهم عنفوه وحذروه وأخفوا أمره عن الملك، وكان يحضر هياكلهم وبيوت أصنامهم، فاذا قال لهم: قولوا لاإله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، جعلوا أصابعهم في آذانهم وادخلوا رءوسهم في ثيابهم تبرءاً مما يقول.
ولما قال لهم يوماً: قولوا لا اله إلا الله، وقعت الأصنام على وجوهها فقاموا اليه فضربوه حتى سقط على وجهه، وعرف الملك خبره فأحضره وقال له: ما هذا الذي بلغني عنك من مخالفتك لديني وما عليه بنو أبيك وسبك لآلهتنا، وما هذا السحر الذي اسقطت به الأصنام عن كراسيها، ومن الذي علمك ذلك.
فقال له نوح عليه السلام: لو كانت آلهة كما تزعم ماسقطت، وأنا عبد الله ورسوله فاتق الله تعالى ولا تشرك به شيئاً، فانه يراك،
فأمر بحبسه إلى أن يحضر عيد الأصنام فيذبحه تقربا اليها. وأمر برد الأصنام على كراسيها، وإصلاح ما تغير منها، وحان العيد وقرب فنادى في الناس أن يجتمعوا ليروا ما يصنع به، فدعا عليه نوح عليه السلام فأصابه صداع في دماغ رأسه أذهب عقله، فأقام اسبوعا ثم هلك فحمل على سرير ذهب، وطيف به في هياكل الأصنام، وهم يبكون عليه ثم دفنوه، وشتموا نوحا ونالوا منه بألسنتهم كل قبيح.
وولى الملك ابن الدرمشيل فأخرج نوحا من حبسه، زعم أنه مجنون وتقدم إليه ونهاه أن لايعود الى ذلك الفعل فأقام إلى أن اجتمعوا في بعض أعيادهم عكوفا على أصنامهم خرج حتى أتى جمعهم. فقال: قولوا لاإله إلا الله وإني عبد الله ورسوله، فتساقطت الأصنام وقاموا إلى نوح عليه السلام فضربوه وشجوه وسحبوه على وجهه، ثم أتوا به الملك فقال له الملك ألم أصفح عنك، وأسرحك من حبس ابي على أن لا تعاود، فقال له: إني عبد مأمور بما أفعله، قال: ومن أمرك، قال: إلهي، قال: ومن إلهك، قال: اله السموات والأرض وما فيها وخالق الخلائق اجمعين، قال: وبماذا أمرك، قال: ادعو الناس الى عبادته وحده، واخلع الأصنام، واعمل بما فرضه الله تعالى من الصلاة والزكاةوالصيام، قال: فان لم نفعل ما تقول، قال: الأمر اليه إن شاء اهلككم وإن شاء امهلكم، قال: فاترك إلهك وما يريده وكف أنت عنا نفسك، قال: ماينبغي لي أن أكف ولاأقدر لأني عبد مأمور، فأمر بحبسه إلى أن يتقرب به إلى الأصنام.
فخرج على الملك سرنديب الكاهن الجبار، وكانت بينه وبينه حروب شغل بها عن أمر نوح عليه السلام وتشاءم بحبسه فأمر بتسريحه حتى يخلو له وجهه ثم صالح الكاهن على ناحية تركها له من عمله؛ وعاد الى ما كان فيه من ملكه. وكان إبليس يحرضه على قتل نوح عليه السلام، ويزينه له، فيمنعه الله تعالى منه،
وزاد أمر نوح عليه السلام، فوجه الملك إلى جميع ممالك الأرض ليوجهوا له كل كاهن، وكل عراف لمناظرة نوح عليه السلام فشخصوا اليه من الآفاق، فناظروه فغلبهم نوح عليه السلام بالحجة والبرهان.
فآمن منهم الكاهن فيملون المصري، واتبعه حتى دخل معه في السفينة، وأوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام ان اصنع الفلك بأعيننا، فقال كيف أصنعه، فأهبط الله تعالى جبريل عليه السلام حتى أراه إياها، وامره ان يبنيها على مثل صدر البطة فأقام في عملها عشر سنين، وعملها من خشب الساج، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع وقيل دون ذلك، وجعل ارتفاعها من الأرض خمسين ذراعا، وجعلها ثلاث طبقات كما امر.
وكانوا يهزءون منه ويضحكون، وكان الرجل منهم يأتي إليه بأبنه الصغير فيحذره منه، وربما رماه الصبيان بالحجارة فآذوه، ولما فرغ من عمل السفينة جعل بابها في جنبها، وأقامت موضوعة على الأرض تسعة أشهر حتى حضر عيد لتلك الأصنام، فاجتمعوا اليه وقربوا اليه ثلاثمائة رجل ممن آمن بنوح عليه السلام، ذبحوهم بين أيديهم، فحق عليهم العذاب.
وأمر الله تعالى نوحا عليه السلام أن يدخل في السفينة من كل زوجين اثنين، فقال يارب من أين لي أن اجمع ذلك فأمر الله تعالى الرياح فحشرت اليه كلما أراد، وأمر به فأدخل فيها من كل زوجين اثنين.
وكانت السفينة ثلاث طبقات، فجعل الطبقة السفلى للبهائم والدواب والطير وجعل الوسطى لطعامهم، وجعل جسد آدم في تابوت فيها، وجعل العليا له ولمن دخل معه.
وركب الملك إلى هيكل الأصنام فاقام فيها حيناً، ثم مشى إلى السفينة، وقد علم بما شحنت فيه وعزم على حرقها، فلما وقف عليها قال يا نوح واين الماء الذي يحملها، قال هو يأتيك في مكانك هذا وأمر الملك فرميت السفينة بالنار، فرجعت عليه وعلى أصحابه فأحرقت بعضهم، وفار الماء على ماتقدم ذكره، وفتحت أبواب السماء بالمطر وحيل بينهم وبين صعود الجبال، ولم يدروا أين يتوجهون، وكانت المرأة تحمل ولدها على عنقها، فاذا لججها الغرق طرحته، فقيل لو رحم الله الكافر لرحم الصبي وأمه.
وقال أصحاب النظر في الكواكب سلمت ثلاثة مواضع، لم يدخلها الطوفان ونحن لا نقول بذلك،
والفرس لعنهم الله لا يقولون بالطوفان ولا بنبوة نوح عليه السلام، ونحن لا نقول بقولهم،
والهند يزعمون أنه لم يكن ببلدهم من الطوفان شيء وكذلك أكثر سكان الجزائروالبحار يزعمون ذلك.
وقيل إن السفينة أقامت في الماء ستة أشهر، ويقال إنه سارت شرقا ًوغرباً وأتت موضع الكعبة وكانت معهم خرزة يعرفون بها الليل، ومواقيت الصلوات.
ولما نزلوا من السفينة على ما تقدم ذكره أمرهم نوح عليه السلام بالزراعة وغرس الشجر، وتفقد الكرمة " شجرة العنب " فلم يجدها، فعلم أن إبليس سرقها لأن له فيها شركة، فأعطاه نوح منها الربع، على أن يردها ، فرفض، فزاده الى النصف، فقال له: لا يكفي ولكن يكون لي الثلثان ولك الثلث، فوافق نوح عليه السلام. فكان ماطبخ من عصير العنب بالنار حتى يذهب ثلثاه، حلالاً لنوح ولذريتك، وما نقص من ذلك كان لأبليس، ولمن كان من اتباعه.
فقال إبليس لنوح عليه السلام إن لك عندي يداً أرعاها لك قال وما مكافأتك، قال وصية أوصيك بها، قال وما هي، قال: إياك والحسد والحرص والعجلة فان الحسد حملني على أن عصيت ربي، وغويت آدم حتى خرج من الجنة، والحرص حمل آدم وحواء حتى أكلا من الشجرة، فغضب الله عليهما، والعجلة التي حملتك على أن دعوت على قومك فأهلكتهم جميعاً.
ذكر عناق بنت آدم عليه السلام
نرجع الآن إلى مايجب ذكره من بقية أخبار آدم عليه السلام،
ولدت عناق بنت آدم مفردة بغير أخ وكانت مشوهة الخلق لها رأسان، وكان لها في كل يد عشر أصابع، لكل أصبع ظفران كلمنجلين الحادين.
وكان الله عز وجل أنزل على آدم عليه السلام أسماء تطيعها الشياطين، وأمره أن يدفعها إلى حواء فتعلقها على نفسها فتكون حرزاً لها، ففعل ذلك، وكانت حواء تصونها وتحتفظ بها، فاغتفلتها عناق وهي نائمة، فاخذتها واستجلبت الشياطين بتلك الأسماء، وعملت السحر، وتكلمت بشيء من الكهانة وجاهرت بالمعاصي وأضلت خلقاً كثيراً من ولد آدم عليه السلام، فدعا عليها آدم عليه السلام، وأمنت حواء فأرسل الله إليها في طريقها أسداً أعظم من الفيل فهجم عليها ببعض المغاور فقتلها، ومزق أعضاءها، وأراح الله آدم وحواء منها.
ذكر أخبار الكهان من العرب
بلغ سطيح من الكهانة مالم يبلغه أحد، وكان يسمى كاهن الكهان، وكان يخبر بالغيوب والعجائب فقيل إن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته، فأمر بجمع الكهان وأصحاب القيافة والزجر، فلما حضروا عنده قال لهم إني رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها، فقالوا له قصها علينا نخبرك بتأويلها، فقال ما أطمئن الى تأويلها إذا قصصتها عليكم، ولا أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أقصها عليه.
فقال له رجل منهم: لا يفعل ذلك ويوثق بقوله إلا سطيح الذئبي وشق اليشكري، فهما أعلم، فارسل اليهما ليقدما عليك.
فقدم سطيح قبل شق، وكان اسم سطيح ربيع بن ربيعة من بني ذئب بن عدي، فاكرمه ربيعة بن نصر، وقال له إني رأيت رؤيا هالتني، وأريد أن تخبرني بها وبتأويلها.
فقال سطيح: أقسم بالشفق، والليل إذا غسق، والطارق إذا طرق، لقد رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في أرض تهمة، فأكلت كل ذات جممة.
قال: صدقت فما تأويلها،
قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليطأن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين الى جرش.
قال ربيعة: إن هذا لغائظ موجع، فهل في زماننا،
قال: لا بل بعده بحين اكثر من سنين او سبعين، يمضين من السنين، ثم تقتلون بها أجمعين، وتخرجون منها هاربين.
قال: فمن يلي ذلك منهم،
قال: غلام رحب الفطرة من آل ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداُ منهم باليمن.
قال: فما تصنع اليمن? قال يملكها بعدهم قوم ذوو أخطار من رجال أحرار، قال أفيدوم ذلك أو ينقطع? قال بل ينقطع، قال ومن يقطعه.
قال: نبي ذكي أمين قوي، يأتيه الوحي من قبل الواحد العلي.
قال: وممن هذا النبي.
قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن مضر، يكون الملك في قومه الى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر.
قال: نعم يوم انفطار السماء، والوقوف للجزاء، بالسعادة والشقاء.
قال: وأي يوم هو.
قال: يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحق ما تخبرنا به ياسطيح.
قال: نعم والشفق، والغسق، والقمر اذا اتسق، أن ما أنبأتك به لحق.
ومن أخباره أيضاً: أنه كان لعبد المطلب بن هاشم ماء بالطائف، يقال له ذو الهدم، فادعته ثقيف فجاءوه فاحتفروه، فمنعهم عبد المطلب فعظم خصامهم، فنافرهم عبد المطلب الى سطيح، فخرج عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وخرج معه جماعة من قومه، وخرج خصمه جندب بن الحارث في جماعة من ثقيف، فلم كان في بعض الطريق نفذ ماؤهم فطلبوا الى الثقيفيين أن يسقوهم فلم يفعلوا، فنزل عبد المطلب وأصحابه، وهم لا يشكون أنه الموت، ففجر الله عين ماء عذب من تحت جرات بعير عبد المطلب فشربوا واستقوا وحمد الله عز وجل عبد المطلب وشكره وساروا على طريقهم فنفد ماء الثقيفيين فسألوا عبد المطلب أن يسقيهم ففعل فقال له الحارث: لأن أدخل سيفي في بطني أخف علي من أن أفعل ذلك، قال له: يا بني اسقهم فان الكرم ثقيل الحمل، فسقاهم فساروا فقطعوا رأس جرادة فجعلوه في خرز مزادة وعلقوه في جلد في عنق كلب لهم اسمه سوار، وكانت في عنقه قلادة لا تفارقه.
فأتوا سطيحاً فلما دخلوا عليه قالوا إنا أتيناك سائلين، قال فماذا تسألون، قالوا نسأل عن شيء قد خبأناه، ونحتكم عندك في شيء وقع التخاصم بيننا فيه، فقال خبأتم رأس جرادة في خرز مزادة في عنق سوار ذي القلادة، قالوا صدقت فأخبرنا عما اختصمنا فيه اليك، قال احلف بالضوء والظلم، والبيت ذي الحرم، أن الدفين ذا الهدم، لهذا العربي ذي الكرم، فانصرفوا وقد قضى لعبد المطلب.
ومن أخباره أن كسرى ابرويز لما رأى في نومه كأنه سقط من قصره ست عشرة شرفة ارتاع لذلك، فوجه الى الموبذان فعرفه بذلك وقال أن ذلك قد هالني وأفزعني. قال الموبذان: أيها الملك عسى أن يكون خيراً، وإني أيها الملك كنت أرى البارحة ان النيران قد خمدت، وقلعت بيوتها وهلك سدنتها وقد اغمني ذلك، وكنت عزمت على أن لا أخبر الملك حتى يوجه إلي فأتيته.
قال كسرى فما الداعي، قال الموبذان قد بلغني ان بأرض العرب كاهناً يقال له سطيح، يخبر بما يكون قبل كونه، فلو أرسل اليه الملك رسولاً يسأله عن ذلك، فلعله أن يخبره بالجواب فيه. قال كسرى ومن لنا بحصيف ينفذ في ذلك،
وكان على باب الملك فيمن وفد عليه من العرب رجل يقال له عبد المسيح من رهط سطيح، فأشار به الموبذان على كسرى، فأحضره ولم يخبره بما رآه، وقال انطلق إلى سطيح، فاسأله عن رؤيا رأيتها، فاذا اخبرك بها، فاسأله أن يخبرك بتأويلها، فاذا أخبرك فارجع مسرعاً ولا تتخلف، قال أفعل أيها الملك، فأمر له بمال وجائزة، وحمله جائزة الى سطيح.
فركب عبد المسيح راحلته، ومضى مبادراً يقطع المفاوز والفيافي، حتى لحق مكان سطيح بعد ايام، فلما بلغ بيته وجده عليلاً لما به فوقف عليه وسلم وجعل يرتجز ويقول ليسمعه:
اصم ام يسمع غطريف اليمن ● يافاصل الخطة اعيت من ومن
قال سطيح مجيبا له: عبد المسيح، على جمل فسيح، أوفى على سطيح، وقد أشفى على الضريح، يسأل عن ارتجاج الايوان، ورؤيا الموبذان، وخمود النيران. قال: فالتأويل يا سطيح،
قال: تنقضي أيامهم، وتنقطع آثارهم، وتملك العرب ديارهم، عند ظهور صاحب التلاوة، والقضيب والهراوة.
قال: ومتى ذلك يا سطيح، قال: إلى أن يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وقبل ذلك ينقضي امر سطيح ويواريه الضريح، ولا يصلح له فيها قرار. " وقد روي هنا الكلام على غير هذا النوع واكثر منه كلاماً ".
فرجع عبد المسيح إلى كسرى، وقد وعى كلامه، فعجب كسرى وسره وقال: إلى أن يلي منا ستة عشر ملكا يكون سعة لدفع الهم، ولعل ذلك لا يكون، فرأى الملك منهم تلك العدة في سنين قليلة حتى انقضى ملكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وقيل إن الرؤيا كانت ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إن سطيحا عاش أربعمائة سنة.
وأما شق الاول، وهو شق بن حويل بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فهو اول كاهن في العرب العاربة، وارم ابو الجبابرة من عاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم، ويقال إنه كانت له عين واحدة في جبهته، ويقال إنه كان يشق وجهه نار. ويقال ان الدجال من ولده، ويقال إنه هو الدجال بعينه، أنظره الله إلى وقته، وهو محبوس في بعض جزائر البحر.
وفي حديث تميم الداري انه خرج في بعض الأسفار فوقع الى جزيرة، فرآه وخاطبه، وسأله عن ظهوره، وانه وجده مغلولا، مشدوداً إلى صخرة، وان الشياطين تأتيه بمايأكله، على ما يقول.
وفي خبر آخر أنه لا يحتاج الى الغذاء، ورآه تميم الداري، وله عين واحدة؛ وحدث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقال إن أمه امرأة من الجن عشقت أباه حويلا؛ فتزوجته فأولدها الدجال وهو خوص بن حويل، وكان مشوهاً مبدلاً، وكان إبليس يعمل له العجائب، فلما كان وقت سليمان عليه السلام دعاه فلم يجبه، فحبسه في جزيرة في البحر.
وقيل أن أباه استهوته الشياطين لما كانت أمه منهم، وانه من مدينة ماريول التي غلبت عليها الجن، وهي من مدائن المغرب، وأن الجن في طاعته.
ويقال إن خوصاً هذا كان يحضر السارق فيأمره برد ما سرق، فان فعل وإلا صار حية فيلتوي في عنقه فيقتله، وقيل أنه ربما خاطبهم ولا يرونه، وكان إذا حكم على أحد فلم يرض حكمه بصبص حدقته في احدى عينيه فرده أعور.
وقيل أن مجلسه كان في قبة بوادي برهوت في اليمن، وكانوا يحجون اليه، وقيل انه لم ينم قط، وانهم كانوا يرون فوق عينيه ناراً بيضاء، وكذلك عن الموضع الذي هو فيه مسجون انه يعلوه بالليل نار مضيئة وبالنهار دخان.
وأما شق اليشكري وكان حكيم العرب في الجاهلية، وقد كان ربيعة بن نصر لما رأى رؤياه وجه الى شق وسطيح، فأتاه سطيح قبل شق، وكان من جوابه ما قدمنا ذكره في أخبار سطيح، فلما قدم عليه شق قال له: يا شق اني رأيت رؤيا هالتني فماهي، وكتمه قول سطيح، فقال له شق: رايت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روض وأكمة فأكلت كل ذات نسمة،
قال: صدقت فما تأويلها. قال: أحلف بما بين الحرتين من انسان، ليطأن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين الي نجران.
قال: أيكون في زماننا هذا. قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم عظيم ذو شان،
قال: وممن هو هذا العظيم. قال: غلام من بيت ذي يزن؛ فلا يترك احداً منهم باليمن،
قال: فهل يدوم ذلك، قال: بل ينقطع برسول يرسل، يأتي بالعدل بين اهل الدين والفضل، يكون الملك فيهم إلى يوم الفصل،
قال: وما يوم الفصل، قال: يوم يدعى من السماء بدعوات، يسمع بها الأحياء والأموات، ويجمع الخلق فيه للميقات، ويكون فيه لمن آمن الخير والخيرات، ولمن كفر الويل والترحات،
قال: أحق ما تقول يا شق، قال: أي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، أن ما انبأتك به لحق محض، ما فيه كذب ولا نقض، فأجازه ربيعة بجائزة سنية، ووصله وصرفه.
اليمامة الزرقاء وهي صاحبة جو واليمامة، وسميت بها، وصاحبة البحرين، وقيل ان امها كانت كاهنة، وكان لها رئي من الجن وهي من جديس، وكانت جديس وطسم بمكان فغلبت طسم على جديس، وملك الجميع عملوق بن الطسم، وكان يفترع النساء قبل زواجهن، فاحتالت جديس عليه فقتلوه وقتلوا كثيراً من طسم فاستنصرت بقايا طسم بحسان بن تبع الحميري، فغزا جديساً طالبا بثار طسم.
وكانت اليمامة الزرقاء وعينها الواحدة اكبر من الاخرى، فاذا اغلقت الكبرى ابصرت بالصغرى على الفراسخ الكثيرة والأمد البعيد، وقيل انه كانت ترى فلك القمر، فتخبر عنه بأشياء عجيبة.
وقد كان اتصل بجديس استنصار طسم بحسان بن تبع الحميري، فقطنوا وقالوا لليمامة: انظري فنظرت، وقالت: اقسم بمهب الرياح، والآكام والبطاح، والمساء والصباح، لياتين من حمير الجيش الرداح، والخيل والسلاح، فلا ترون من بعدها فلاح.
فلما اصبحوا في اليوم الثاني قالوا لها: انظري فنظرت، وكان حسان لما قرب من جو بأربعة ايام قال لاصحابه ان اليمامة ستراكم على البعد الكثير فتنذر بكم، فليحمل كل واحد منكم غصناً من شجرة اعظم ما يقدر عليه ليسدل اغصانه عليه وجوانبه، ففعلوا ذلك.
فقالت اليمامة لما رأت ذلك: ياجديس قد اتتكم الشجر، تخبط المدر، فاستعملوا منها الحذر فكذبوها، وقالوا لها: اتسير الشجر،
فلما كان في اليوم الثالث قالوا لها: انظري، فنظرت فقالت: ارى رجلاً في كتفه كتف، او نعل يخصفه، فكذبوها، وقالوا قد تغير نظرها، وكيف ترى على هذا البعد ما لم يتصل بنا خبره،
فكان حسان يسير بالليل ويكمن بالنهار، إلى أن صبحهم فقتلهم أبرح قتل، وهدم منازلهم واستباح نساءهم. وأخذ اليمامة، وقال لها ألا عرفتيهم بمسيري، قالت: قد فعلت لو قبلوا،
ونظر فرأى في عينها عروقاً سوداء، فقال لها: بم كنت تكتحلين، فقالت له: بحجر الأثمد، مربى بماء المطر.
فقيل انه قطع يدها ورجلها، وقلع عينها وصلبها، فيقال: إن رئيها من الجن لطمه فأعوره، ومنعه النوم فلم يكن ينام.
وقد ذكرت الشعراء اليمامة فأكثروا، قال الأعشى يذكرها في القصيدة التي أولها:
بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا
فقال يذكرها ونظرها:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ● حقـاً كـمـا نـظـر الـربـى إذا شــجــعا
فكـذبـوهـا بما قـالت فـصحبهم ● جيوش حسان تزجي الموت والسلعا
وقصتها في حديث الحمام مشهورة، وهذا هو القول الذي سجعت هي به:
ليت الحمام ليه ● إلى حـمـامـتيه
أو نصفـه قـديه ● تم الحمام مـيه