بّسم الله الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
ذكر ملك لهراسب
ومسير بخت نصّر وغزوه العرب
ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب
وظهور زرادشت
قد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد الى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس، فهو ابن ابن كيكاووس، فلمّا ملك اتخذ سريراً من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بأرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء، ودوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخابه الجنود، وعمر الأرض، وجبى الخراج لأرزاق الجند.
واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند زهل مملكته شديد القمع لأعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.
ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار الى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به الى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، صلى الله عليه وسلم، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم.
ثمّ إنّ بشتاسب أحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به.
وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان ظهور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره.
● [ ذكر مسير بخت نصّر إلى بني إسرائيل ] ●قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني اسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر.
وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني اسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ الى قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) الاسراء:5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني اسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة الى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي، فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر الى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم إنّ لهراسب استعلمه على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني اسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار الى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس الى طبرية وثب بنو اسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد الى القدس فأخبره.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً الى ملك بني اسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني اسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أرميا، وكانت سنة الله تعالى في بني اسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه الى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا ، فأقام فيهم يدعوهم الى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يطعوا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني اسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس . فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه . فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني اسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني اسرائيل أبداً. وأتى ملك بني اسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني اسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير الى بني اسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني اسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك ، فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني اسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام فى تلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد ، فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس الى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع الى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك ، فقال: إني بربي واثق . ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها . فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به ، فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني اسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً الى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني اسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فهو الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إنّ بخت نصّر عاد الى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا الى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها ، قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه . فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله الى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم الى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله.
وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت الى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حضره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بأمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني اسرائيل الى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عن دانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج الى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني اسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل.
وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة الى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني اسرائيل الى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وأنها لم يبق بها من بني اسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني اسرائيل أن يرجع الى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.
وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر الى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: (كم لبثت ، قال لبثت يوماً أو بعض يوم)، قيل: (بل لبثت مائة عام، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر الى حمارك) فنظر الى عظام حماره وهي تجتمع بعضها الى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر الى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إرسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 259.
وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيراً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء أمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزير ، قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيراً غيرك فقال: أنا عزير، فقالت: إنّ عزيراً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزير ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره.
وقيل: إنّ عزيراً كان مع بني اسرائيل بالعراق، فعاد الى بيت المقدس فجدّد لبني اسرائيل التوراة لأنهم عادوا الى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزير قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزير الى بيت المقدس مع بني اسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كذلك في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك ، فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم ، قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزير ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع الى بني اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فأحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزير بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزير ابن الله ولم يزل بنو اسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً.
ذكر غزو بخت نصّر العرب
قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر. فلمّا مات انضمّوا الى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار الى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير الى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه الى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر الى معد، فحملاه الى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار الى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق اقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر الى حصونه هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ.
ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب
لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّه سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت الى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه الى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب الى ذلك، فأرسل الى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما الى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب الى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بين بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً . ثم إنّ بشتاسب سار الى ناحية كرمان وسجستان وسار الى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار الى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والاخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به . فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل الى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان . فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلها عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى الى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية الى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة الى أبيه بشتاسب، ثم عاد الى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير الى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس أعتقه فأقطعه إيّاها ، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله ، فقتل إسفنديار، قتله رستم . ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني اسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت.
● [ ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن ] ●
من أيام كيكاووس الى أيام بهمن بن اسفنديارقد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس الى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة،
قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب.
وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: (ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) الاعراف: 951؛ والله أعلم.
ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى الى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه الى الموصل، ثم الى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد الى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم ، فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى الى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين . ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم . وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً.
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار الى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده . وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت الى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت الى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة . وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم.
عودة الى ذكر بنى اسرائيل
ونرجع إلى ذكر بني اسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس .
فقد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف الى بيت المقدس من سبايا بني اسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف . وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ.
ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة.
ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته . وكان ملكه أربع عشرة سنة.
واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند زهل مملكته شديد القمع لأعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.
ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار الى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به الى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، صلى الله عليه وسلم، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم.
ثمّ إنّ بشتاسب أحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به.
وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان ظهور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره.
● [ ذكر مسير بخت نصّر إلى بني إسرائيل ] ●
قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني اسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر.وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني اسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ الى قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) الاسراء:5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني اسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة الى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي، فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر الى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم إنّ لهراسب استعلمه على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني اسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار الى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس الى طبرية وثب بنو اسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد الى القدس فأخبره.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً الى ملك بني اسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني اسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أرميا، وكانت سنة الله تعالى في بني اسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه الى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا ، فأقام فيهم يدعوهم الى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يطعوا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني اسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس . فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه . فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني اسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني اسرائيل أبداً. وأتى ملك بني اسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني اسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير الى بني اسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني اسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك ، فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني اسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام فى تلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد ، فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس الى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع الى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك ، فقال: إني بربي واثق . ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها . فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به ، فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني اسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً الى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني اسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فهو الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إنّ بخت نصّر عاد الى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا الى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها ، قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه . فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله الى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد الي ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم الى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله.
وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت الى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حضره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بأمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني اسرائيل الى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عن دانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج الى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني اسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل.
وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة الى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني اسرائيل الى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وأنها لم يبق بها من بني اسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني اسرائيل أن يرجع الى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من ال داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.
وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر الى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام) البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: (كم لبثت ، قال لبثت يوماً أو بعض يوم)، قيل: (بل لبثت مائة عام، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر الى حمارك) فنظر الى عظام حماره وهي تجتمع بعضها الى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر الى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إرسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) البقرة: 259.
وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيراً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء أمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزير ، قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيراً غيرك فقال: أنا عزير، فقالت: إنّ عزيراً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزير ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره.
وقيل: إنّ عزيراً كان مع بني اسرائيل بالعراق، فعاد الى بيت المقدس فجدّد لبني اسرائيل التوراة لأنهم عادوا الى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزير قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزير الى بيت المقدس مع بني اسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كذلك في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك ، فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم ، قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزير ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع الى بني اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فأحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزير بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزير ابن الله ولم يزل بنو اسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً.
ذكر غزو بخت نصّر العرب
قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر. فلمّا مات انضمّوا الى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار الى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير الى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه الى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر الى معد، فحملاه الى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار الى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق اقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر الى حصونه هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ.
ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب
لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّه سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت الى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه الى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب الى ذلك، فأرسل الى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما الى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب الى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بين بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً . ثم إنّ بشتاسب سار الى ناحية كرمان وسجستان وسار الى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار الى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والاخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به . فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل الى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان . فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلها عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى الى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية الى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة الى أبيه بشتاسب، ثم عاد الى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير الى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس أعتقه فأقطعه إيّاها ، فجمع العساكر وسار الى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله ، فقتل إسفنديار، قتله رستم . ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني اسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت.
● [ ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن ] ●
من أيام كيكاووس الى أيام بهمن بن اسفنديار
قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس الى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة،من أيام كيكاووس الى أيام بهمن بن اسفنديار
قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب.
وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: (ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون) الاعراف: 951؛ والله أعلم.
ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى الى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه الى الموصل، ثم الى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد الى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم ، فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى الى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين . ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم . وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً.
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار الى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده . وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: ثمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت الى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت الى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وزغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة . وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم.
عودة الى ذكر بنى اسرائيل
ونرجع إلى ذكر بني اسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس .
فقد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف الى بيت المقدس من سبايا بني اسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف . وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ.
ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة.
ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته . وكان ملكه أربع عشرة سنة.