بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مُختصر أخبار الزمان
ذكر عجائب مصر وأخبار كهانها
لما ذكرنا الكهان وجب علينا ان نذكر كهنة مصر، لأنهم كانوا أعظم الكهان قدراً، وأجلهم بالكهانة علماُ وكان حكماء اليونانيين يصفونهم بذلك، ويقولون أخبرنا حكماء مصر بكذا، واستفدنا منهم كذا وكذا.
وكان هؤلاء ينحون في كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبر بالغيوب، وهي التي علمتهم أسرار الطبائع، ودلتهم على العلوم المكتومة فعملوا الطلسمات المشهورة، والنواميس الجليلة وولدوا الاشكال الناطقة، وصوروا الصور المتحركة، وبنوا العالي من البنيان؛ وزبروا علومهم من الطب في الحجارة، وانفردوا بعمل البرابي، وعملوا من الطلاسم ما نفوا به الأعداء عن بلادهم وعجائبهم ظاهرة، وحكمتهم واضحة.
وكانت مصر خمساُ وثمانون كورة منها بأسفل الأرض خمس وأربعون، ومنها بالصعيد أربعون وكان في كل كورة رئيس من الكهنة وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصة فرعون لما أشار عليه أصحابه، وقالوا ( ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم ) يريدون هؤلاء الرؤساء.
وكان الذي يتعبد منهم لكوكب من الكواكب السبعة المدبرة سبع سنين يسمونه ماهراً، والذي يتعبد منهم للكواكب السبعة لكل واحد منهم سبع سنين، فمن بلغ هذه المرتبة منهم سمي قاطر وصار يجلس مع الملك ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام إجلالا له، وكان زيهم أن يدخل كل يوم إلى الملك فيجلس الى جانبه فتدخل الكهنة، ومعهم أصحاب الصناعات فيقفون حذاء القاطر، وكل واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعداه إلى سواه، ويسمى بعبد كوكب كذا كما كانت العرب تسمي عبد الشمس، فيقول القاطر لأحد الماهرين أين صاحبك? فيقول في البرج الفلاني في الدرجة الفلانية في دقيقة كذا، ويسأل الآخر في حذائه، حتى إذا عرف مستقر الكواكب، قال للملك ينبغي أن يعمل الملك اليوم كذا وكذا؛ ويأكل كذا وكذا، ويجامع في وقت كذا، ويقول له جميع ما يراه صلاحاً، والكاتب قائم بين يديه يكتب جميع ما يقول.
ثم يلتفت الى أهل الصناعات فيقول أنقش انت صورة كذا على حجر كذا فمتى رسم على أهل الصناعات فيخرجون إلى دار الحكمة، فيضعون أيديهم في الأعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم: ويستعمل الملك جميع ما قاله القاطر، ويؤرخ جميع ما جرى من هذا وشبهه في ذلك اليوم في صحيفة، وتطوى وتودع في خزائن الملك فعلى ذلك جرت أمورهم.
وكان الملك إذا حزبه أمر يجمعهم بخارج مصر، ويصطف لهم الناس بخارج المدينة ثم يقدمون ركباناً، يتقدم بعضاً، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كل واحد منهم بأعجوبة، فمنهم من يعلو وجهه نور مثل نور الشمس فلا يقدر أحدهم النظر اليه، ومنهم من يكون على يديه جوهر أخضر واحمر على ثوب من ذهب منسوج، ومنهم من يكون راكباً على أسد متوشحاً بحيات عظام ومنهم من تكون عليه قبة من نور أو جوهر في صنوف من العجائب الكثيرة، إلا أن كل واحد إنما يصنع ما يدل عليه كوكبه الذي يعبده، فاذا دخلوا على الملك قالوا أرادنا الملك لأمر كذا، وأضمر الملك كذا، والصواب فيه كذا.
وكان بمصر القديمة واسمها أمسوس ملك كاهن يقال له عيقام من ولد عرباق ابن آدم فتحكي أهل مصر عنه حكايات كثيرة تخرج عن العقل.
وكان قبل الطوفان وقد رأى في علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين الذين تطيعه أن يبنوا له مكاناً خلف خط الاستواء، بحيث لا يلحقه شيء من الآفات، فبنوا له القصر الذي على سفح جبل القمر، وهو قصر النحاس الذي فيه التماثيل من النحاس، وهي خمسة وثمانون تمثالاً، يخرج ماء النيل من حلوقها، وينصب الى بطحاء مصر.
فلما عمل له ذلك القصر أحب أن يراه قبل أن يسكنه، فجلس في قبة، وحملته الشياطين على أعناقها اليه، فلما رآه ورأى حكمة بنائه، وزخرفة حيطانه، وما فيها من النقوش وصور الأفلاك؛ وغير ذلك من العجائب، وكانت المصابيح تسرج فيه، وتنصب فيه موائد يوجد عليها من كل الأطعمة، ولا يرون من يعملها، وكذلك لا إنس به.
وفي وسط القصر بركة من ماء جامد الظاهر ترى حركته من وراء ما جمد منه، وأشياء كثيرة من هذا المعنى، وإن كانت تنبو عنها العقول.
فاعجبه ما رأى ورجع الى مصر فاستخلف ابنه عرباق وأوصاه بما يوجب له الملك وولده على مكانه، ورجع هو الى ذلك القصر، وأقام به حتى هلك هناك. واليه تعزى صحف القبط، التي فيها تواريخهم.
قونية الكاهنةوفي صحف القبط أنها كانت تجلس على عرش من نار؛ فاذا ما احتكم إليها الرجل وكان صادقا، شق على النار حتى وصل اليها ولم تضره.
وكانت تتصور عليهم في أشكال كثيرة من الصور، إذا شاءت ثم بنت لنفسها قصراً واحتجبت فيه عن الناس، وجعلت حيطانه من نحاس مجوفة، وكتبت على كل أنبوب فيها من الفنون التي يتحاكم اليها فيه فكان الذي يتحاكم اليها يأتي إلى الأنبوب الذي كتب عليه ذلك الفن، فيتكلم بما يريده، ويسأل ذلك ما قصد له بصوت خافض غير عال، فاذا فرغ من كلامه جعل هو أذنه على ذلك الأنبوب، فيأتيه الجواب منه بكل ما يريده، فلم يزالوا مستعملين ذلك، الى أن خرب بخت نصر البلد.
وكان عرباق بن عيقام الملك قد تكهن بعد ابيه وعمل عجائت كثيرة، منها شجرة من صفر لها اغصان حديد بخطاطيف حادة، إذا تقرب الظالم الى الملك تقدمت اليه تلك الخطاطيف، وتعلقت به وشبكت يديه. ولم تفارقه حتى يحدث عن نفسه بالصدف، ويعترف بظلمه، ويخرج من ظلامة خصمه.
ومنها صنم من صوان أسود سماه عبد أفرويس أي عبد زحل، كانوا يختصمون اليه، فمن زاغ عن الحق ثبت مكانه، ولم يقدر على القيام حتى ينصف من نفسه، ولو أقام سنة او أكثر.
ومن كانت له حاجة منهم او طلب شيئاً عند ذلك الصنم، قام ليلا ونظر الى الكوكب، فذكر اسم عرباق وتضرع، فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله.
وكان ربما حملته أطيار عظام، وهو في مرتبته فيمر بهم وهم يرونه في الهواء فيزدادون له عبادة وهيبة، وربما علا على ناس منهم فملأ ماءهم من الاقذار، وسلط عليهم وحوش الأرض سباعهاوهوامها.
●●● وكان من كهانهم فيلمون، وقد ذكرنا خبره مع نوح عليه السلام، وكان منهم شيمون وهو الذي كان يوقد النار، ويتكلم عليها، فتطلع منها صورة نارية، وكانت الكهانة عندهم عمل المعجزات، ولم يزل هذا كاهناً إلى وقت فرعون ملك مصر الذي كان الطوفان في أيامه، وكان يسكن الهرم المجوسي وكان هيكل الكواكب، وكانت فيه صورتا الشمس والقمر تنطقان، وكان الهرم الثاني ناموساً لأجساد الملوك التي نقلها إليه سورند، وفيه العجائب والتماثيل والصحف وكان فيه التمثال الذي يضحك وكان من جوهر اخضر، وخزنوا ذلك فيه خوفاً من تلفه في الغرق.
خبر الكهان بعد الطوفان
وأما الكهان بعد الطوفان إلى خراب مصر فكثير، وأول من تكهن بمصر بعد الطوفان ابن فليمون كان قد ركب السفينة مع أبيه وأخيه وأخته وهي التي زوجها من ينصو بن حام، وهم الذين خرجوا إلى مصر وكانوا موحدين على دين نوح عليه السلام، ولم يكن اسم الكهانة عندهم عيباً بل كان الكاهن كالحاكم الذي لا يعصى له أمر.
وأول من تحقق بالكهانة، وغير الدين وتعبد الكواكب البودشير بن قفطويم بن ينصو بن حام، وكان ملكاً بعد أبيه، وذكره جميع الكهنة في صحفهم. فانه كان من أجل كهانهم، وممن عمل النواميس العظام، وأقام أصنام الكواكب وبنى هياكلها.
وتزعم القبط ان الكواكب خاطبته وأنه عمل عجائب كثيرة، منها أنه استتر عن الناس بعد سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتاُ بعد وقت مرة في كل سنة وهو وقت نزول الشمس في برج الحمل، ويدخل الناس اليه فيخاطبهم ويرونه، ويأمرهم بما يعملونه وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره، وكان يجلس بهم في بعض أوقات السنة فيخاطبهم عند دخولهم عليه، وينهاهم وهم لا يرونه.
والمكان الذي يكلمهم منه غير خفي عنهم، ولا يبعد منهم، ثم بنيت له قبة من فضة مموهة بالذهب وزخرف ما حولها، وكان يجلس لهم في أعلى القبة في صورة وجه عظيم، فيخاطبهم، بمثل ما كان يخاطبهم، وكان يجلس لهم في أعلى السحاب بوجه في صورة إنسان عظيم، فأقام كذلك مدة ثم غاب عنهم فلم يروه.
وأقاموا برهة ليس لهم ملك، إلى أن رأوا صورته في هيكل الشمس عند دخول الشمس الحمل، وأمرهم أن يقلدوا الملك لعديم بن قفطويم وأعلمهم أنه لا يعود إليهم، ففعلواذلك.
وأما بديرة الكاهنة فانها امرأة من أهل بيت الملك، يقال إنها أخت البودشير، وأنه القي إليها الكهانة فهي التي عملت اكثر الطلسمات والبرابي، وهي التي عملت القبطية الناطقة بمنف.
وكانت الكهانة في أهلها وولدها يأخذونها كابرا عن كابر، وهي التي حكى المصريون عنها أنها عملت طلسمات منعت الوحوش والطيور أن تشرب من النيل فمات اكثرها عطشا.
وأن الله تعالى أرسل اليها ملكا فصاح بها صيحة ارتجت بها الأرض وتشققت جبالها فماتت من تلك الصيحة ويقال انها كانت تطير في الهواء والملائكة تضربها بأجنحتها إلى أن سقطت في البحر.
وأما شؤون الأشموني فيقال انه هرمس الاول، الذي بنى بيت التماثيل الذي يعرف بها مقدار النيل الذي عند جبل القمر وعمل للشمس هناك هيكلين.
وتحكي القبط عنه حكايات كثيرة، تخرج عن العادة، وتنكرها العقول، فكان يخفى عن الانسان فلا يرونه وهو معهم، وهو الذي بنى الاشمون.
ويقال إنها مدينة في شرقي مصر كان طولها اثني عشر ميلا وجعل عليها حصنا بنى فيه قصراً عظيماً يقال إنه بنى أنصنا واتخذ فيها الاعلام والملاعب.
واتخذ في سفح الجبل مدينة يقال لها طهراطيس وجعل فيها من العجائب شيئا كثيراً، وجعل لها أربعة ابواب من كل جهة باب واحد، وجعل على الباب الشرقي صورة عقاب وعلى الباب الغربي صورة نسر وعلى الباب الجنوبي صورة اسد وعلى الباب الشمالي صورة كلب وملك فيها الروحانيات وكانت تنطق إذا قصد اليها القاصد ولا يصل احد إلى الدخول فيها دون استئذان الموكلين بها وغرس فيها شجرة تحمل كل صنف من الفواكه.
وبنى منارا طوله ثمانون ذراعا وعلى رأسه قبة تتلون في كل يوم لونا حتى تنقضي سبعة أيام بسبعة الوان ثم تعود إلى اللون الاول وتكسي المدينة ذلك اللون وجعل حول ذلك موضع ماء فيه سمك كثير، وجعل حول المد ينة طلسمات من كل صنف تدفع عن اهلها المضار. وكانت أيضاً تسمى مدينة البوسق باسم الشجرة المنصوبة فيها.
أول من بنى الاهرام
كان سوريد بن فيلمون ملكا على مصر قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، فرأى في منامه كأن الأرض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس يهربون على وجوههم وكأن الكواكب تتساقط، ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة، فرجف قلبه وأزعجه ذلك وأرعبه ولم يذكره لاحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم.
ثم راى بعد ذلك، كأن الكواكب الثابتة نزلت الى الأرض في صورة طيور بيض كأنها تخطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة، فانتبه ايضاً مذعورا ًفزعاً.
فدخل إلى هيكل الشمس، وجعل يتضرع فيه ويمرغ خديه في التراب، ويبكي، فلما أصبح أمر رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين؛ فخلا بهم وحكى لهم جميع مارآه فأعظموه وأكبروه وتأولوه على أمر عظيم يحدث في العالم.
فقال فيلمون عظيم الكهان، وكان فيلمون إذ ذاك كبيرهم، وكان لا يبرح من حضرة الملك لأنه رأس الكهنة ـ كهنة أشمون ـ وهي مدينة مصر الأولى، قال إن في رؤيا الملك عجباً، وأمراً كبيراً، وأحلام أهل الملك لا تجري على محال ولا كذب لعظم أقدارهم، وكبير أخطارهم، وأنا اخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لأحد من الناس.
فقال له الملك: قصها عليّ يا فيلمون، قال: رأيت كأني قاعد مع الملك على رأس المغار الذي في أشمون، وكأن الفلك قد انحط من موضعه، حتى قارب رءوسنا وكأن علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك رافع يديه إلى السماء، وكواكباً قد خالطتنا في صور شتى مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انجفلوا إلى قصره، وكأن الملك رافع يديه إلى أن يبلغ رأسه، وأمرني أن أفعل مثل فعله، ونحن على وجل شديد إذ رأينا منه موضعاً قد انفتح وخرج منه ضياء يضيء، ثم طلعت علينا منه الشمس فكأنا استغثنا بها فخاطبتنا بأن الفلك سيعود إلى موضعه إذا مضت له ثلاث وستون دورة. وهبط الفلك حتى كاد أن يلصق بالأرض ثم عاد الى موضعه، فانتبهت فزعاً.
فقال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب وانظروا هل من حادث، فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، فأخبروه بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تحرق العالم.
فأمر الملك ببناء الأهرام، فلما تمت على ما دبروا حكمه، نقل اليها ما أحب من عجائبهم واموالهم واجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا فيها علومهم، وحكمهم وأشرف ولد حام القبط والهند هم الحكماء.
وكان هؤلاء ينحون في كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبر بالغيوب، وهي التي علمتهم أسرار الطبائع، ودلتهم على العلوم المكتومة فعملوا الطلسمات المشهورة، والنواميس الجليلة وولدوا الاشكال الناطقة، وصوروا الصور المتحركة، وبنوا العالي من البنيان؛ وزبروا علومهم من الطب في الحجارة، وانفردوا بعمل البرابي، وعملوا من الطلاسم ما نفوا به الأعداء عن بلادهم وعجائبهم ظاهرة، وحكمتهم واضحة.
وكانت مصر خمساُ وثمانون كورة منها بأسفل الأرض خمس وأربعون، ومنها بالصعيد أربعون وكان في كل كورة رئيس من الكهنة وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصة فرعون لما أشار عليه أصحابه، وقالوا ( ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم ) يريدون هؤلاء الرؤساء.
وكان الذي يتعبد منهم لكوكب من الكواكب السبعة المدبرة سبع سنين يسمونه ماهراً، والذي يتعبد منهم للكواكب السبعة لكل واحد منهم سبع سنين، فمن بلغ هذه المرتبة منهم سمي قاطر وصار يجلس مع الملك ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام إجلالا له، وكان زيهم أن يدخل كل يوم إلى الملك فيجلس الى جانبه فتدخل الكهنة، ومعهم أصحاب الصناعات فيقفون حذاء القاطر، وكل واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعداه إلى سواه، ويسمى بعبد كوكب كذا كما كانت العرب تسمي عبد الشمس، فيقول القاطر لأحد الماهرين أين صاحبك? فيقول في البرج الفلاني في الدرجة الفلانية في دقيقة كذا، ويسأل الآخر في حذائه، حتى إذا عرف مستقر الكواكب، قال للملك ينبغي أن يعمل الملك اليوم كذا وكذا؛ ويأكل كذا وكذا، ويجامع في وقت كذا، ويقول له جميع ما يراه صلاحاً، والكاتب قائم بين يديه يكتب جميع ما يقول.
ثم يلتفت الى أهل الصناعات فيقول أنقش انت صورة كذا على حجر كذا فمتى رسم على أهل الصناعات فيخرجون إلى دار الحكمة، فيضعون أيديهم في الأعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم: ويستعمل الملك جميع ما قاله القاطر، ويؤرخ جميع ما جرى من هذا وشبهه في ذلك اليوم في صحيفة، وتطوى وتودع في خزائن الملك فعلى ذلك جرت أمورهم.
وكان الملك إذا حزبه أمر يجمعهم بخارج مصر، ويصطف لهم الناس بخارج المدينة ثم يقدمون ركباناً، يتقدم بعضاً، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كل واحد منهم بأعجوبة، فمنهم من يعلو وجهه نور مثل نور الشمس فلا يقدر أحدهم النظر اليه، ومنهم من يكون على يديه جوهر أخضر واحمر على ثوب من ذهب منسوج، ومنهم من يكون راكباً على أسد متوشحاً بحيات عظام ومنهم من تكون عليه قبة من نور أو جوهر في صنوف من العجائب الكثيرة، إلا أن كل واحد إنما يصنع ما يدل عليه كوكبه الذي يعبده، فاذا دخلوا على الملك قالوا أرادنا الملك لأمر كذا، وأضمر الملك كذا، والصواب فيه كذا.
وكان بمصر القديمة واسمها أمسوس ملك كاهن يقال له عيقام من ولد عرباق ابن آدم فتحكي أهل مصر عنه حكايات كثيرة تخرج عن العقل.
وكان قبل الطوفان وقد رأى في علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين الذين تطيعه أن يبنوا له مكاناً خلف خط الاستواء، بحيث لا يلحقه شيء من الآفات، فبنوا له القصر الذي على سفح جبل القمر، وهو قصر النحاس الذي فيه التماثيل من النحاس، وهي خمسة وثمانون تمثالاً، يخرج ماء النيل من حلوقها، وينصب الى بطحاء مصر.
فلما عمل له ذلك القصر أحب أن يراه قبل أن يسكنه، فجلس في قبة، وحملته الشياطين على أعناقها اليه، فلما رآه ورأى حكمة بنائه، وزخرفة حيطانه، وما فيها من النقوش وصور الأفلاك؛ وغير ذلك من العجائب، وكانت المصابيح تسرج فيه، وتنصب فيه موائد يوجد عليها من كل الأطعمة، ولا يرون من يعملها، وكذلك لا إنس به.
وفي وسط القصر بركة من ماء جامد الظاهر ترى حركته من وراء ما جمد منه، وأشياء كثيرة من هذا المعنى، وإن كانت تنبو عنها العقول.
فاعجبه ما رأى ورجع الى مصر فاستخلف ابنه عرباق وأوصاه بما يوجب له الملك وولده على مكانه، ورجع هو الى ذلك القصر، وأقام به حتى هلك هناك. واليه تعزى صحف القبط، التي فيها تواريخهم.
قونية الكاهنةوفي صحف القبط أنها كانت تجلس على عرش من نار؛ فاذا ما احتكم إليها الرجل وكان صادقا، شق على النار حتى وصل اليها ولم تضره.
وكانت تتصور عليهم في أشكال كثيرة من الصور، إذا شاءت ثم بنت لنفسها قصراً واحتجبت فيه عن الناس، وجعلت حيطانه من نحاس مجوفة، وكتبت على كل أنبوب فيها من الفنون التي يتحاكم اليها فيه فكان الذي يتحاكم اليها يأتي إلى الأنبوب الذي كتب عليه ذلك الفن، فيتكلم بما يريده، ويسأل ذلك ما قصد له بصوت خافض غير عال، فاذا فرغ من كلامه جعل هو أذنه على ذلك الأنبوب، فيأتيه الجواب منه بكل ما يريده، فلم يزالوا مستعملين ذلك، الى أن خرب بخت نصر البلد.
وكان عرباق بن عيقام الملك قد تكهن بعد ابيه وعمل عجائت كثيرة، منها شجرة من صفر لها اغصان حديد بخطاطيف حادة، إذا تقرب الظالم الى الملك تقدمت اليه تلك الخطاطيف، وتعلقت به وشبكت يديه. ولم تفارقه حتى يحدث عن نفسه بالصدف، ويعترف بظلمه، ويخرج من ظلامة خصمه.
ومنها صنم من صوان أسود سماه عبد أفرويس أي عبد زحل، كانوا يختصمون اليه، فمن زاغ عن الحق ثبت مكانه، ولم يقدر على القيام حتى ينصف من نفسه، ولو أقام سنة او أكثر.
ومن كانت له حاجة منهم او طلب شيئاً عند ذلك الصنم، قام ليلا ونظر الى الكوكب، فذكر اسم عرباق وتضرع، فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله.
وكان ربما حملته أطيار عظام، وهو في مرتبته فيمر بهم وهم يرونه في الهواء فيزدادون له عبادة وهيبة، وربما علا على ناس منهم فملأ ماءهم من الاقذار، وسلط عليهم وحوش الأرض سباعهاوهوامها.
●●● وكان من كهانهم فيلمون، وقد ذكرنا خبره مع نوح عليه السلام، وكان منهم شيمون وهو الذي كان يوقد النار، ويتكلم عليها، فتطلع منها صورة نارية، وكانت الكهانة عندهم عمل المعجزات، ولم يزل هذا كاهناً إلى وقت فرعون ملك مصر الذي كان الطوفان في أيامه، وكان يسكن الهرم المجوسي وكان هيكل الكواكب، وكانت فيه صورتا الشمس والقمر تنطقان، وكان الهرم الثاني ناموساً لأجساد الملوك التي نقلها إليه سورند، وفيه العجائب والتماثيل والصحف وكان فيه التمثال الذي يضحك وكان من جوهر اخضر، وخزنوا ذلك فيه خوفاً من تلفه في الغرق.
خبر الكهان بعد الطوفان
وأما الكهان بعد الطوفان إلى خراب مصر فكثير، وأول من تكهن بمصر بعد الطوفان ابن فليمون كان قد ركب السفينة مع أبيه وأخيه وأخته وهي التي زوجها من ينصو بن حام، وهم الذين خرجوا إلى مصر وكانوا موحدين على دين نوح عليه السلام، ولم يكن اسم الكهانة عندهم عيباً بل كان الكاهن كالحاكم الذي لا يعصى له أمر.
وأول من تحقق بالكهانة، وغير الدين وتعبد الكواكب البودشير بن قفطويم بن ينصو بن حام، وكان ملكاً بعد أبيه، وذكره جميع الكهنة في صحفهم. فانه كان من أجل كهانهم، وممن عمل النواميس العظام، وأقام أصنام الكواكب وبنى هياكلها.
وتزعم القبط ان الكواكب خاطبته وأنه عمل عجائب كثيرة، منها أنه استتر عن الناس بعد سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتاُ بعد وقت مرة في كل سنة وهو وقت نزول الشمس في برج الحمل، ويدخل الناس اليه فيخاطبهم ويرونه، ويأمرهم بما يعملونه وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره، وكان يجلس بهم في بعض أوقات السنة فيخاطبهم عند دخولهم عليه، وينهاهم وهم لا يرونه.
والمكان الذي يكلمهم منه غير خفي عنهم، ولا يبعد منهم، ثم بنيت له قبة من فضة مموهة بالذهب وزخرف ما حولها، وكان يجلس لهم في أعلى القبة في صورة وجه عظيم، فيخاطبهم، بمثل ما كان يخاطبهم، وكان يجلس لهم في أعلى السحاب بوجه في صورة إنسان عظيم، فأقام كذلك مدة ثم غاب عنهم فلم يروه.
وأقاموا برهة ليس لهم ملك، إلى أن رأوا صورته في هيكل الشمس عند دخول الشمس الحمل، وأمرهم أن يقلدوا الملك لعديم بن قفطويم وأعلمهم أنه لا يعود إليهم، ففعلواذلك.
وأما بديرة الكاهنة فانها امرأة من أهل بيت الملك، يقال إنها أخت البودشير، وأنه القي إليها الكهانة فهي التي عملت اكثر الطلسمات والبرابي، وهي التي عملت القبطية الناطقة بمنف.
وكانت الكهانة في أهلها وولدها يأخذونها كابرا عن كابر، وهي التي حكى المصريون عنها أنها عملت طلسمات منعت الوحوش والطيور أن تشرب من النيل فمات اكثرها عطشا.
وأن الله تعالى أرسل اليها ملكا فصاح بها صيحة ارتجت بها الأرض وتشققت جبالها فماتت من تلك الصيحة ويقال انها كانت تطير في الهواء والملائكة تضربها بأجنحتها إلى أن سقطت في البحر.
وأما شؤون الأشموني فيقال انه هرمس الاول، الذي بنى بيت التماثيل الذي يعرف بها مقدار النيل الذي عند جبل القمر وعمل للشمس هناك هيكلين.
وتحكي القبط عنه حكايات كثيرة، تخرج عن العادة، وتنكرها العقول، فكان يخفى عن الانسان فلا يرونه وهو معهم، وهو الذي بنى الاشمون.
ويقال إنها مدينة في شرقي مصر كان طولها اثني عشر ميلا وجعل عليها حصنا بنى فيه قصراً عظيماً يقال إنه بنى أنصنا واتخذ فيها الاعلام والملاعب.
واتخذ في سفح الجبل مدينة يقال لها طهراطيس وجعل فيها من العجائب شيئا كثيراً، وجعل لها أربعة ابواب من كل جهة باب واحد، وجعل على الباب الشرقي صورة عقاب وعلى الباب الغربي صورة نسر وعلى الباب الجنوبي صورة اسد وعلى الباب الشمالي صورة كلب وملك فيها الروحانيات وكانت تنطق إذا قصد اليها القاصد ولا يصل احد إلى الدخول فيها دون استئذان الموكلين بها وغرس فيها شجرة تحمل كل صنف من الفواكه.
وبنى منارا طوله ثمانون ذراعا وعلى رأسه قبة تتلون في كل يوم لونا حتى تنقضي سبعة أيام بسبعة الوان ثم تعود إلى اللون الاول وتكسي المدينة ذلك اللون وجعل حول ذلك موضع ماء فيه سمك كثير، وجعل حول المد ينة طلسمات من كل صنف تدفع عن اهلها المضار. وكانت أيضاً تسمى مدينة البوسق باسم الشجرة المنصوبة فيها.
أول من بنى الاهرام
كان سوريد بن فيلمون ملكا على مصر قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، فرأى في منامه كأن الأرض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس يهربون على وجوههم وكأن الكواكب تتساقط، ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة، فرجف قلبه وأزعجه ذلك وأرعبه ولم يذكره لاحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم.
ثم راى بعد ذلك، كأن الكواكب الثابتة نزلت الى الأرض في صورة طيور بيض كأنها تخطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة، فانتبه ايضاً مذعورا ًفزعاً.
فدخل إلى هيكل الشمس، وجعل يتضرع فيه ويمرغ خديه في التراب، ويبكي، فلما أصبح أمر رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين؛ فخلا بهم وحكى لهم جميع مارآه فأعظموه وأكبروه وتأولوه على أمر عظيم يحدث في العالم.
فقال فيلمون عظيم الكهان، وكان فيلمون إذ ذاك كبيرهم، وكان لا يبرح من حضرة الملك لأنه رأس الكهنة ـ كهنة أشمون ـ وهي مدينة مصر الأولى، قال إن في رؤيا الملك عجباً، وأمراً كبيراً، وأحلام أهل الملك لا تجري على محال ولا كذب لعظم أقدارهم، وكبير أخطارهم، وأنا اخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لأحد من الناس.
فقال له الملك: قصها عليّ يا فيلمون، قال: رأيت كأني قاعد مع الملك على رأس المغار الذي في أشمون، وكأن الفلك قد انحط من موضعه، حتى قارب رءوسنا وكأن علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك رافع يديه إلى السماء، وكواكباً قد خالطتنا في صور شتى مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انجفلوا إلى قصره، وكأن الملك رافع يديه إلى أن يبلغ رأسه، وأمرني أن أفعل مثل فعله، ونحن على وجل شديد إذ رأينا منه موضعاً قد انفتح وخرج منه ضياء يضيء، ثم طلعت علينا منه الشمس فكأنا استغثنا بها فخاطبتنا بأن الفلك سيعود إلى موضعه إذا مضت له ثلاث وستون دورة. وهبط الفلك حتى كاد أن يلصق بالأرض ثم عاد الى موضعه، فانتبهت فزعاً.
فقال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب وانظروا هل من حادث، فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، فأخبروه بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تحرق العالم.
فأمر الملك ببناء الأهرام، فلما تمت على ما دبروا حكمه، نقل اليها ما أحب من عجائبهم واموالهم واجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا فيها علومهم، وحكمهم وأشرف ولد حام القبط والهند هم الحكماء.