بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مُختصر أخبار الزمان
ذكر عجائب مصر وملوكها بعد الطوفان
ذكر ملوك مصر بعد الطوفان
أجمع اهل مصر أن أول من ملك مصر بعد الطوفان مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وذلك بدعوة سبقت له من جده.
والسبب في ذلك أن فيلمون الكاهن سأل نوحاً أن يخلطه بأهله وولده، وقال له: يانبي الله إنني تركت أهلي وولدي فاجعل لي رفقة أذكر بها بعد موتي، فزوج عليه السلام مصرايم بن بيصر بن حام بنت فيلمون، فولدت له ولداً فسماه فيلمون باسم جده.
فلما أراد نوح عليه السلام قسمةالأرض بين بنيه، قال له فيلمون: ابعث معي يانبي الله ابني، حتى أمضي به الى بلدي وأظهره على كنوزه، وأوقفه على علومه وأفهمه رموزها، فبعثه مع جماعة من أهل بيته، وكان غلاماً مراهقاً.
فلما قرب من مصر بنى له عرشاً من أغصان الشجر، وستره بحشيش ثم بنى له بعد ذلك مدينة في الموضع بنفسه وسماها درمان أي باب الجنة وزرعوا وغرسوا الاشجار.
وكان بين درمان الى البحر زروع وأجنة وعمارة، وكان القوم الذين كانوا مع مصرايم جبابرة، فقطعوا الصخور وبنوا المصانع والمعالم، وأقاموا في ارغد عيش.
ونكح مصرايم بنتاً من بنات الكهنة، فولدت له ولدا فسماه قبطيما، وتزوج بعد تسعين سنة من عمره امرأة أخرى فولدت له أربعة نفر: يقطويم، واشمون، وابريت، وصابي، فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها.
وقيل ان عدد من كان مع مصرايم ثلاثون رجلاً من الجبابرة، فبنوا مدينة سموها ناقة، بلغتهم معناها ثلاثون، وهي مدينة منف.
وكشف فيلمون الكاهن لمصرايم عن كنوز مصر وعلمه قراءة خط البرابي وما زبر على الحجارة، وعرض عليهم معادن الذهب والفيروزج والزبرجد وغير ذلك، ووصف لهم عمل الصنعة فجعل الملك أمرها الى رجل يقال لسنطاس ثقة من اهل بيته، فكان يعملها في الجبل الشرقي، فسمي الجبل به المقطم.
وعلمهم أيضاً عمل الطلسمات وكانت تخرج من البحر دواب وتفسد زروعهم، وما قارب البحر من جهاتهم فعملوا لها الطلاسم فغابت ولم تظهر بعد.
وبنوا على غير البحر مدناً منها رقوده بمكان الاسكندرية، وجعلوا وسطها قبة من نحاس مذهب والقبة مذهبة.
ونصبوا فوقها مرآة معموله من أخلاط شتى قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة من الأرض خمسمائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصديهم بأذاهم من البحر عملوا لتلك المرآة عملا فألقت شعاعها إلى ذلك القاصد ومراكبه فأحرقتهم اجمعين، ولم تزل على حالها حتى غلب عليها البحر فهدمها.
ويقال ان منارة الاسكندرية إنما عملت تشبيها بها، وقد كانت أيضاً عليها مرآة يرى فيهامن يقصدها من بلاد الروم، فاحتال عليها بعض الملوك، فوجه اليها من أزالها، وكانت من زجاجة مدبرة.
ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد الى ابنه، وقد كان قسم أرض مصربين بنيه فجعل من قفط الى اسوان لقبطيم، وجعل لاشمون من أسوان الى منف، ولابريت الحوف كله، ولصابي ناحية البحرالى قرب برقة والغرب، فهو صاحب افريقية وولده الافارق، وأمر كل واحد من بنيه أن يبني مدينة لنفسه في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا في الأرض سرباً ويفرشوه بالمرمر، ويدفنوه فيه ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب والفضة والجوهر. ويزبروا على ذلك أسماء الله العظام المانعة من الحوادث. فحفروا له سرباً، طولاً مائة وخمسون ذراعاً وجعلوا في وسطه مجلساً مصفحاً بصفائح الذهب، وجعلوا للمجلس أربعة أبواب على كل باب تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر، جالس على كرسي من ذهب قدامه آنية زبرجد، ونقشوا في صدر كل تمثال آيات مانعة، وأجلسوا جسده في مجلس زبرجد أخضر، وزبروا عليه " مات مصرايم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة سنة مضت لايام الطوفان، مات ولم يعبد الأصنام، فصار الى حيث هو لا يوم هرم ولاسقم ولاحزن، وجعل جسده وماله في هذا السرب وحصنه باسماء الله العظام، وبما لايصل اليه بعده إلا ملك له من جدوده سبعة ملوك يأتي في آخر الزمان، يدين للملك الديان، ويؤمن بالمبعوث بالقرآن، الداعي الى الايمان في عواقب الأزمان".
وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية ذهب مملوءة درايق سماً، وألف آنية مملوءة بالصنعة الإلهية والعقاقير السرية، وجعلوا مع ذلك طلسمات عجيبة، وسبائك ذهب مكدسة بعضها على بعض، وسقفوا ذلك بالصخور العظام، وهالوا عليه التراب والرمال حتى سدوا ما بين جبلين متقابلين، وجعلوا عليه علامات لا تخفى.
وولي الملك بعده ابنه قبطيم الملك، ويقال ان القبط منسوبون اليه وهو اول من عمل العجائب، واثار المعادن، وشق الأنهار، ويقال انه لحق البلبلة وخرج منها بهذا اللسان القبطي، وعمل ما لم يعمله أبوه من العمارات، ونصب الاعلام والمنارات والعجائب والطلسمات.
وملكهم قبطيم ثمانين سنة، وهلك فاغتم عليه بنوه وأهله، ودفن في سرب تحت الجبل الكبير الداخل، وصفح بالمرمر الملون، وجعل فيه منافذ للريح فهي تتخرق فيه بدوي عظيم هائل، وجعل فيه كروس نحاس مطلية بأدوية تضيء أبداً كأنها سرج لا تطفأ، ولطخوا جسده بالمرمر والكافور والمومياء وجعلوه في جرن من ذهب وثياب منسوجة بالمرجان والدر، وكشفوا عن وجهه في جرنه تحت قبة على عمد من مرمر ملون وفي وسط القبة جوهرة معلقة تنير كالسراج، وبين كل عمودين تمثال في يده أعجوبة، وجعل تحت الجرن توابيت حجارة مملوءة جوهراً وذهباً وغير ذلك من التماثيل والصنعة، وحول ذلك مصاحف الحكمة، وسدوا عليه، وزبروا عليه كما زبروا على تابوت أبيه.
وتولى الأمر بعده ابنه قفطويم الملك، وكان أكبر ولد أبيه، وكان جباراً عظيم الخلق، وهوالذي وضع أسرار الأهرام بالدهشور وغيرها، ليعمل ما عمله الأولون، وهو الذي بنى مدينة زرنده.
وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه، وأثار من المعادن مالم يثره أحد، وكان يجد الذهب على قدر الرحى والزبرجد مثل الاسطوانة، وغرس الأسارح في صحراء الغرب مثل النخلة.
وعمل من العجائب كثيراً، وعمل مناراً عالياً في جبل قفط يرى منه البحر الشرقي، ووجد هنالك معادن زئبق فعمل منه بركة عظيمة، فقيل إنها هناك الى اليوم.
وفي زمانه أثار ابليس وأعوانه الأصنام التي كان الطوفان أغرقها، وزينوا أمرها وعبادتها.
ويقال ان قفطويما بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائباً، منها الماء الملفوف القائم كالعمود ولا ينحل ولا يذوب ويسمى فلطيس، وصيادة الطير اذا نصبها ومر عليها الطير سقط فيها ولم يقدر أن يبرح منها حتى يؤخذ.
وعمل بها أيضاً عموداً من نحاس عليه صورة طائر، فاذا قرب الوحش والأسد والحيات من المدينة صفر ذلك الطائر صفيراً عالياً، فترجع تلك الدواب هاربة.
وكان للمدينة أربعة أبواب جعل لها أربعة أصنام، على كل باب صنم من نحاس لا يعبر غريب الا ألقى عليه النوم والسبات، فينام عند الباب فلا يبرح نائماً حتى يأتيه أهل تلك المدينة، فينفخوا في وجهه فيقوم، فان لم يفعلوا ذلك لم يزل نائماً حتى يهلك.
وعمل مناراً لطيفاً من زجاج ملون على قاعدة من نحاس، وعلى رأس المنارة صورة صنم من زجاج كبيرة، وفي يده كالقوس، وكأنه يرمي به، فان عاينه غريب وقف في موضعه ولم يبرح حتى يجيئه أهل المدينة.
وكان ذلك الصنم يتوجه من ذات نفسه الى مهب الرياح الاربع، وقيل ان هذا الصنم علىحاله الى اليوم، وإن الناس تحاموا تلك المدينة على ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفاً من ذلك الصنم، فاذا وقع عين انسان عليه لا يزال نائماً حتى يهلك.
وقد كان بعض الملوك عزم على قلعه بما أمكنه، فهلك في ذلك خلق كثير، ولم يقدر عليه.
وقيل إنه عمل في بعض المدن الداخلة مرآة يرى الانسان فيها جميع ما يسأل عنه.
وعمل من خلف الجبل وبين الواحات الداخلة مدنا، وعمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فلا يستطيع أحد أن يدنو منها ولا يدخلها حتى يعمل عقداً بين أولئك الروحانيين، فيصل حينئذ اليها وياخذ من كنوزها ما أحب من غير مشقةولاضرر.
فأقام قفطويم ملكاً أربعمائة سنة، وأكثر العجائب انما عملت في وقته ووقت أبيه.
وأمر قفطويم فعمل له ناووس في الجبل الغربي قريب من المدينة مدينة العمد، وقد كان عمل لنفسه قبة قبل موته في سرب تحت الأرض معقود على أزج تحت الأرض على هيئة الدار في سعة كثيرة، وعمل حول دورها خزائن واسعة منقورة في الجبل أيضاً، وجعل في سقوفها مسارب للريح، وبلطت مع السرب وجميع الدار بالمرمر، وجعل في وسط الدار مجلساً على ثمانيةأركان مصفحاً بالزجاج الملون المسبوك، وجعل في سقفه جواهر وحجارة تسرج.
وفي كل ركن من أركان المجلس تمثال ذهب بيده كالبرق الذي يبرق، وعمل في وسط المجلس بركة مصفحة بالذهب، وعمل لها حواشي زبرجد وفرش حرير، وجعل على جسده بعد أن لطخ بالأدوية المجففة، وجعل حواليه ألف آنية من كافور، وأسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب ووجهه مكشوف، وعلى رأسه تاج مكلل، وعن جوانب البركةأربعة تماثيل من زجاج مسبوك في صورة النساء وفي ألوانهن، وبأيديهن كالمراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب سيف فاخر من أفخر الحديد قائمه من زبرجد.
وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب والتيجان والجواهر، وأواني الحكم وأصناف العقاقير، ومن الطلسمات العجيبة، والمصاحف الحاوية لجميع العلوم ما لا يحصى قدره كثرة.
وجعل على باب المجلس صورة ديك من الذهب على قاعدة من زجاج أخضر، وهو ناشر الجناحين مزبور عليه آيات عظام مانعة، وجعل على كل مدخل أزج صورتين من نحاس مشوهتين، بأيديهما سيفان كالبرق وبين أيديهما بلاطة تحتها لوالب لا بد من وطئها إذا أراد أن يدنو منها، فاذا وطأها ضرباه بسيفهما فقتلاه.
وفي كل أزج كوة فيها لطوخ مدبرة تسرج وتضيء طول الزمان، وسدت أبواب الأزج بالاساطين المرصعة ورصوا على السقف البلاطات العظام، وردموا فوقها بالرمال.
وزبروا على باب الأزج الأول في حجر عظيم " هذا المدخل الى جسد الملك العظيم المهيب الكريم قفطويم ذي الايد والقوة والفخر والغلبة والقهر، حل هذا الموضع بجسده وبقي ذكره وعلمه فلا يوصل اليه، ولا يقدر عليه بحيلة إلا بعد مدد ودورات تمضي من السنين".
وملك بعده ابنه البودشير الملك فتجبر وتكبر، وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون، وقد كان أعمامه صابي وأبريت ملوكا على مواضعهم، إلا أنه كان أكبرهم سناً، فلذلك أذعنوا له.
فيقال إنه أرسل إلى هرمس المصري فبعثه الى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل له هنالك هيكلاً للتماثيل من النحاس، وعمل البطيحة التي ينصب عليها ماء النيل.
ويقال انه هو الذي عدل جنبي النيل، وقد كان يفيض في بعض مواضع وربما انقطع في مواضع، وأمره البودشير أن يسير مغرباً لينظر ماهناك، فوقع إلى أرض واسعة متخرقة بالمياه والعيون كثيرة العشب فبنى بها منائر ومتنزهات واقام بها، وحول البودشير جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي وبنوا فيها حتى صارت أرضاً عامرة كلها، وأقاموا بذلك مدة كبيرة وخالطهم البربر ونكح بعضهم في بعض.
ثم أنهم تحاسدوا وتباغوا وكانت بينهم حروب افنتهم، فحينئذ خرب البلد وباد أهله الا بقية منازل تسمى الواحات.
ويقال إنه عمل في وقته كثيراً من العجائب، فمنهاقبة لها أربعة أركان في كل واحد منها كوة يخرج منها دخان ملتف في ألوان شتى في يوم معلوم في السنة من أول سنتهم.
فاذا خرج الدخان أخضر دل على العمارة والخصب وحسن الزرع وصلاح النبات، وإن خرج الدخان أبيض دل على الجدب وقلة الخيرات، وإن خرج أحمر دل على الدماء و الحروب وقصد الأعداء، وإن كان أسود دل على كثرة الأمطار والسيول وفساد بعض الأرض بذلك، وان كان أصفر دل على النيران وعلى آفات تحدث في الفلك.
وما كان منه يخرج مختلط اللون دل على مظالم الناس وفساد بعضهم لبعض وإهمال ملوكهم الأمور، وأشياء تدل على هذا الضرب؛ وكانت هذه القبة على منارة أقامت زماناً من ملكه ثم هدمها.
ومما عمل له أيضاً بالغرب في الصحراء التي تقرب منه، وكانت الوحوش قد كثرت عليهم وأفسدت زرعهم، وكذلك خنازير الماء، فعمل شجرة من نحاس أقامها في موضع فما وصل اليهامن الوحش لم يستطع الحركة ولا البراح من عندها حتى تؤخذ قبضاً فيقتل، فاتسع الناس في لحوم تلك الوحوش، فوجه بعض الملوك المجاورين لمصر عن احتيال لتلك الشجرة فقلعها واحتملها ليضعها في بلده فيعمل له مثلها، فلما قلعت من موضعها بطل عملها فلم ينتفع بها، لآنهم كانوا يعملون ما يعملونه من ذلك بطالع يأخذونه فلا يزال مستقيماً الى أن يغير مكانه وينقل عنه.
ومما عمل في وقته أن غراباً نقر عين صبي من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل أبوه شجرة من نحاس عليها غراب في منقاره حية بادية الطرفين، وهو ناشر الجناحين، وكتب على ظهره كتاباً، فكان الغربان يقعن على تلك الشجرة حتى يمتن أو يؤخذن فيقتلن، فهلك كثير منهاوانتفى الى الشام وغيرها من النواحي.
ولم يزل الأمر كذلك الى أن صار لبعض ملوكهم داء لم يكن له دواء إلا أن يطبخ له غراب فيأكل من لحمه ويشرب مرقه، فطلب له غراب فلم يكن في وجوده حيلة، فوجه الى ناحية الشام من يأتيه بغراب فأبطأ وزادت علته فاغتاظ، وأمر بنزع الشجرة فنزعت فرجعت الغربان فأخذ منها الملك ما يعالج به، فلم يعد رسوله من ناحية الشام حتى خرج الملك من علته.
ومما عمل في وقته، وكانت الرمال قد كثرت عليهم من ناحية الغرب حتى ربما طمت زروعهم، فعمل لذلك صنم من صوان أسود على قاعدة منه وفي يده كالقفة فيها مسحاة ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه كتابات، ووجه به إلى المغرب، وجعل هناك فانكشفت تلك الرمال وزحفت بها الرياح إلى ورائها لتلك الآكام العالية في صحراء المغرب، فلم يزل الرمل يندفع عنهم إلى وراء ذلك الصنم حتى صار بحيث لا يؤذيهم منه شيء ولا يضرهم.
فأقام البودشير مدة ثم احتجب عن الناس وكان يتجلى لهم في صورة وجه عظيم يكون ذلك في النادر وربما خاطبهم من حيث لا يرونه وصبروا وهم في طاعته مدة طويلة، إلى أن رآه عديم ابنه وهو يامره بالجلوس مكانه على سريره فجلس فتولى الأمر بعده وجلس على سرير ملكه ابنه عديم الملك، وكان جباراً لا يطاق عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ونحتها ليبني هرماً كما فعل الأولون.
وكان في وقته الملكان اللذان أهبطا من السماء، ويقال إن عديماً استكثر من علمهما، ثم انتقلا إلى بابل.
وأهل مصر والقبط يقولون إن هذين شيطانان يقال لهما مهلة ومهالة، وإن الملكين ببابل في بئر هناك يغشاها كثير من السحرة إلى أن تقوم الساعة.
ومن ذلك الوقت عبدت الأصنام، واتخذت الأوثان، وقال قوم كانت الشياطين تظهر فتنصبها لهم، وقال قوم بل النمرود الأول أمر بنصبها وعبادتها.
وعديم الملك أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات وكان لها زوج فأمر بصلبهما، على منابر وجعل ظهر كل واحد منهما إلى ظهر صاحبه، وزبر على المنابر اسميهما وما فعلاه، وتاريخ الوقت الذي عمل ذلك فيه، فانتهى الناس عن الزنا.
وبنى أربع مدائن وأودعها كثيرا ًمن صنوف العجائب والطلسمات وغير ذلك، وكنز فيها كنوزاً كثيرة وعمل على البحر الشرقي مناراً، وأقام على رأسه صنماً موجهاً إلى الشرق، باسط اليدين يمنع جميع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حده، وزبر على صدره تاريخ الوقت الذي نصب فيه.
ويقال إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا، ولولا هذا المنار لغلب الماء المالح على ارض مصر من البحر الشرقي.
وعمل قنطرة على النيل في ارض النوبة، ونصب عليها أربعة أصنام موجهة إلى أربع جهات، في يد كل صنم منها سيف يضرب به إذا أتى آت من تلك الجهة، فأقامت على حالها مدة إلى أن تهدمت.
وهو الذي عمل البربا، وهي هناك إلى اليوم، ويقال انه عمل في إحدى المدائن الأربع التي ذكرنا ها حوضاً من صوان اسود على ماء لا ينقص مدى الدهر، ولا يتغير بما اجتلب اليه من رطوبة الهواء والماء.
وعمل فيه حيلاً عجيبة، وكان أهل تلك الناحية، وأهل تلك المدينة يشربون وينفقون منه، ولا ينقص ماؤه، وعمل ذلك لهم لبعدهم من النيل وقربهم من البحر المالح.
وذكر بعض كهنة مصر أن ذلك إنما تم لقربهم من البحر المالح، لأن الشمس فيما ذكروا يرتفع نحوها بخار البحر وعذوبة ما فيه.
فحبس هو من البخار جزءاً بالهندسة وبالطلسمات السحرية، وجعله ينحط في ذلك الحوض، ويمده الهواء برطوبته فلا ينقص ماؤه على الدهر، ولو شرب منه العالم.
وقد عمل أمام البربا حوضاً لطيفاً مدوراً وجعله على قاعدة وملأه ماء، وحبس عليه جزء من البخار الرطب، فالخلق يشربون منه ولا ينقص وهو هناك إلى هذا الوقت.
وعمل أيضاً قدحاً لطيفاً على مثل العمد، وأهداه حويل الملك إلى الاسكندر اليوناني، وملكهم مائة سنة وأربعين سنة، ومات وهو ابن تسعمائة سنة وثلاثين سنة.
وقيل إنه دفن في إحدى المدن ذوات العجائب في أزج من رخام ملون مبطن بزجاج أصفر، وطلي جسمه بما يمسكه، وجعل حوله كثير من ذخائره، وذلك في وسط المدينة وهي محروسة بمن يمنع منهامن الروحانيين.
وذكر بعض أهل القبط أن ناووس عديم عمل له في صحراء قفط على وجه الأرض، وهو قبة عظيمة من زجاج أخضر براق معقود على ثمانية آزاج من صنفها، وعلى رأسها كرة من ذهب عليهاطائر من ذهب ناشر الجناحين موشح بجواهر تمنع من الدخول، وفي قطرهامائة ذراع في مثلها.
وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك بجوهر عقيق، وعليه ثياب منسوجة بالذهب مكشوف الوجه. والآزاج مفتوحة، طول كل ازج منها ثمانية أذرع، وارتفاع القبة أربعون ذراعاً، يلقي نورها على ما حولها من الأرض، لصفاء لونها وبريقها، وجعل معه في القبة مائة وسبعون صحيفة من صحف الحكمة، وسبع موائد عليها أوانيها منها.
ومنها مائدة من ذهب عليمون أحمر يخطف الأبصار، وهو الذي يعمل منه تيجان الملوك وأوانيها منها، ومائدة من حجر الشمس المضيء وأوانيها منها، ومائدة من الزبرجد الأخضر الذي يخطف لونه البصر وله شعاع أصفر، وهو الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سالت عيونها وآنيتها منها، ومنها مائدة من كبريت أحمر مدبر على ماذكروه من تدبيرهم في مصاحف كتبهم وأوانيها منها، ومنها مائدة من ملح أبيض براق صاف يكاد لونها يعشي البصر وأوانيها منها، ومنها مائدة من زئبق معقود حافتاها وقوائمها زئبق اصفر معقود، وأوانيها عليها من زئبق أحمر معقود، وجعل معه في القبة جواهر كثيرة وبراني بلور مملوءة بغرائب مدبرة وجعل حوله سبعة أسياف صاعقية وكاهنية، وأتراس حديد مدبر أبيض، وجعل معه تماثيل افراس سبعة من ذهب عليها اللجم، وسروج من ذهب، وسبعة توابيت من صوان أسود مملوءة من الدنانير التي كان ضربها، وصور عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقيق والسموم والأدوية المدبرة في أواني الحنتم والحجارة على ضروبها شيء كثير.
وقد ذكر من رأى القبة أنه مشى اليها مع جماعة وأقاموا عليها أياماً، فما قدروا على دخولها، وأنهم إذا وصلوا اليها على ثمانية أذرع دارت القبة عن أيمانهم من شمائلهم، وقد رأوا ما فيها، ومتى دنوا منها دارت إلى جانب آخر.
ومن عجائب شأنها أنهم كانوا يحاذونها من كل أزج، ويتأملونها أزجاً أزجاً، فلا يرون من أزج إلا ما يرون من أزج آخر على شكل واحد، ومعنى واحد. وذكروا انهم راوا وجهه على قدر الذراع والنصف، ولحيته كبيرة مكشوفة، وقد رأوا بدنه بطول عشرة أذرع وزيادة، وذكروا أنهم رأوا فيها عجائب كثيرة وصنوفاً من الوحش لم ير مثلها.
وفي كتاب القبط أنه لا يوصل اليها إلا ان يذبح لها ديك أبيض أفرق، ويبخر بريشه على بعد، وترسل البخور مع الريح على بعد حتى يصل اليها، ويكون بالكواكب النيرة على ما كانت عليه وقت نصبها، ويكون زحل والمشتري والمريخ في برج واحد والزهرة وعطارد في برج، ويتكلم عليها بصلاة الكهنة سبع مرات، فاذا وصل اليها لطخ حائطها بدم الديك الذي ذبح ويأخذ عند دخولها من المال والتماثيل ما استحسن ولا يكثر فيها من الجلوس.
وذكر ان هؤلاء الذين رأوها لم يكونوا من أهل الناحية، وإنما خرجوا يطلبون غيرها، وأنهم سألوا أهل قفط عنها، فما وجدوا أحداً يعرفها ولا رآها غير شيخ منهم.
فانه ذكر أن ابنا له خرج في بعض الامور، ومعه جمل، وأنه رآها ولم يصل اليها فبحث عن أمرها، فعرف أن قوما من أهل المشرق جاءوا في طلب هذه القبة وأنهم أقاموا بقفط أياما وخرجوا يريدونا، فما رجع منهم أحد ولا عرف لهم خبر.
وكان عديم الملك قد أوصى ابنه قبل موته أن يطوف ماشيا على أعمال بلاده، وأن ينصب في كل جزء من أجزاء عمومته منارا، ويزبر عليه اسمه ويعمل له علامات وملاعب.
وعمل في صحرائها منارا، وعمل عليه صنما ذا رأسين مقترنين، وسار الى جزء إبريت فبنى به قبة على عمد وعلى أساطين بعضها فوق بعض وجعل على أعلاها صنما صغيراً من ذهب.
وعمل هيكلا للكواكب، وكان أبوه البودشير أول من أقام للكواكب هيكلا، فتبعه ابنه على ذلك ومضى الى جزء صابي فعمل به منارة علىرأسها امرأة من أخلاط ترى الناظر اليها جميع الاقاليم.
ثم رجع الى أبيه فولاه الملك بعده وعهد اليه بما أراد ووصاه، ثم مات أبوه فلما أودعه الناووس، وفرغ منه جلس على سرير الملك شدات الملك، وهو الذي بنى الاعلام بالدهشور بالاحجار التي قطعت في زمان ابيه.
وقال الذين ينكرون أن العادية دخلت مصر انما غلط الناس في اسم شدات فقالوا شداد بن عاد لكثرة ما يجري على ألسنتهم شداد وقلة مايجري شدات.
وما قدر أحد قط من الملوك أن يدخل مصر الا عبد لبخت نصر بما قدمه من الحيل في افساد طلسماتها.
وشدات الملك هو الذي عمل مصاحف الزيجات التي يذكر فيهاالملوك، ويقال انه وجد في بعض رموزهم ومصاحف كهانهم أن الملك بودشير بن قفطويم لما أجهد نفسه في عبادة الأنوار العلوية، وعرف أن روحانياتها قد صارت فيه حبب اليها نفسه، وجوعها واستغنى جسده عن الطعام والشراب، فلما أدمن ذلك اشتاقته الأنوار العلوية واشتاقها، فرفعته إلى مواضعها، وبرأته من شرور الأرض المؤلمة، وجعلته نورا سابحا داخلا في نورها، يتصرف بتصرفها، فطوبى له من كاهن عرفت له كهانته، وأكرم بها وصير ملكا، فسبيل من بعده أن يبلغ خطته ويجعل بمثابته.
وهذا الكلام وشبيهه تضليل للناس لانهم كانوا يتعبدون للكواكب، فيقولون مثل هذا ترغيبا في دينهم.
وقد قالوا أيضاً انهم على توحيد الله وان مدحهم لهذه الوسائط المدبرات لا يضر خالقها، وانهم يعظمونها تقربا اليه، كما قالت الهند والعرب وكثير من الامم.
وعمل شدات هيكل أرمنت وأقام فيه أصناما للكواكب من ذهب وفضة وحديد ابيض ورصاص مصفى وزئبق معقود، وهذه الاجساد المعدنية في طباع الكواكب وقسمتها.
فلما فرغ منه زين بأحسن الزينة، ونقش باحسن النقوش، وأمر فزين بالجواهو الملونة، والزجاج الملون، وكسي بالوشي والديباج، ولم يترك شيئاً من الغريب الا عمله فيه، وكذلك عمل في المدن الداخلة من جزء صابي هيكلا مثله، والقبة التي عملها بجزء ابريت، وعمل هيكلا بشرق الاسكندرية، وعمل لزحل صنما من صوان اسود على عبر النيل من الجانب الغربي.
وبنى شدات في الجانب الشرقي مدائن، وجعل في احداهما صورة صنم قائم له احليل ظاهر اذا اتاه المعقود والمسحور والعنين الذي لا ينتشر احليله بكلتا يديه زال عنه ذلك وانتشر وقوي على المياه.
وعمل في احداها بقرة لها ضرعان كبيران اذا مسحتهما المرأة التي نقص لبنها وتعقد ضرعها در وصلح.
وفي أيامه بنيت العالية، بناها لابن له كان سخط على أمه فحولهااليها، وأسكنها قوما من أهل الحكمة ومن أهل الصناعات.
وقيل ان سفط بنيت في أيامه والصورتين اللتين بها الملتصقتان للمهل، وكانت الحبشة والسودان عاثوا في بعض بلده فأخرج ابنه منقاوس في جيش عظيم اليهم فقتل منهم وسبا، وكل من سباه استعبده فصار ذلك سنة فيهم.
واقتطع معدن الذهب، وأقام فيه من سباه منهم يعملون الذهب ويحملونه اليه، وألزم المقام معهم من يحرسهم من جيشه.
وهو أول من احب الصيد واتخذ الجوارح وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية وعمل البيطرة وجميع ما يعالج به الدواب، وعمل من العجائب والطلاسم لكل شيء ما لا يحصى كثرة.
وجمع التماسيح في بركة في ناحية اسيوط بطلسم لها، وكانت تنصب اليها من النيل انصبابا فيقتلها، ويستعمل جميع جلودها في السفن وغيرها، ويدخل لحومها وشحومها في الاغذية ومؤلفات العقاقير.
والقبط تحكي انه عمل بمصر اثنتي عشرة اعجوبة وطلسما، ولم يعمل في بلد ما عمل فيها ولا تهيأ ذلك له، وقد بقيت آثار أكثرهاقائمة بعد خرابها وأفساد معالمها واقام شدات بن عديم تسعين سنة ملكا، وخرج فطرد صيدا فاكب به فرسه في هوة فقتله.
وفي بعض كتبهم أنه أخذ بعض خدمه، وقد خالفه في امر من الامور فألقاه من اعلى الجبل الى اسفله فتقطع ثم ندم على ذلك من فعله، ورأى انه سيصيبه مثل ذلك، وكان يتوقى ان يصعد جبلا، وأوصى ان اصابه شيء ان يجعل ناووسه في الموضع الذي يلحقه فيه ما يلحقه، وان يزبر عليه " ليس ينبغي لذي القدرة ان يخرج عن الواجب، وأن لايفعل ما لايجوز له فعله، وهذا ناووس شدات بن عديم بن قفطويم الملك، عمل ما لايحل فكوفيء عليه ".
ولما هلك عمل سرب في سفح الجبل عليه قبة على مجلس قد صفح بالفضة واجلس فيه على سرير ملكه، وجعل معه من المال والجوهر والتماثيل واصناف الحكم والصحف شيء كثير، ومات وله أربعمائة واربعون سنة.
وولي الأمر من بعده ابنه منقاوس الملك فقام مقام أبيه، وملك بحزم وحكمة فاظهر مصاحف الحكمة، وأمر بالنظر فيهاوان تنسخ بخط العامة ليفهموها، ورد الكهنة الى مراتبهم.
وهوأول من عمل الحمام من ملوك مصر وكان كثير النكاح، وتزوج عدة نسوة من بنات عمه ومن بنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا قد أصلحه بالبنيان العجيب والصور المونقة والفرش الحسنة، والآلات العجيبة، وأسكنهن فيها.
وقال بعض أهل الأثر إنه هوالذي بنى منف لبناته، وكن ثلاثين بنتاً ورحلهن إليها، وعمل مدنا غيرها ومصانع، وبنى هيكلاً لصور الكواكب واصنامها على ثمانية فراسخ من منف، وعمل بتلك الناحية طلسمات كثيرة وغرائب أغرب فيها بفضل حكمته على أبيه وجده، وعمل للسنة اثني عشر عيداً يعمل في كل عيد من الأعمال ما كان موافقاً لبرج الشهر، وكان يعظم الناس في تلك الأعياد ويوسع عليهم في أحوالهم وأرزاقهم، ورأوا معه من الخير ما لم يروه مع غيره، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح على أحد قبله.
وألزم أصحاب الكيمياء العمل، فكانوا لا يفترون ليلا ولانهاراً، فاجتمعت عنده أموال عظيمة وجوهر كثيروزجاج مسبوك من الأدرك وغيره، فأحب كنزها، فدعا أخا له كان يكرمه ويحبه فقال له قد كثر ما عملناه من التماثيل، وعظم ما ادخرناه من الذهب والجواهر، ولست آمن أن يتسامع الملوك بكثرة ذلك، فيتألفوا على غزونا فخذ ذلك كله، وتوجه به فأمعن في أرض الغرب، ثم انظر مكاناً حريزاً خفي الأثر فأحرزه فيه. وأسس عليه وعلمه بعلامات واكتب صفة المكان وعلاماته ومن أين الطريق اليه، وعد إلى إن شاء الله تعالى.
فيقول أهل الأثر انه حمل مع نفسه إثنا عشر ألف عجلة، منهامن الجواهر النفيسة ثلاثمائة، وسائرها ذهب إبريز، وصفائح مضروبة، وطرائف الملوك من آلاتهم وسلاحهم وأوانيهم، وسار في الجنوب يوماً واحداً، ثم سار في الغرب يوماً كاملاً وبعض آخر، فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود منيع ليس له مصعد بين جبال مستديرة به، فعمل تحت ذلك الجبل أسراباً ومغاير فدفن فيها ما كان معه، وردم عليه كما أمره أخوه، وعلم وزبروأتقن ذلك جهده، ورجع إلى أخيه فأعلمه.
فمكث بعد ذلك أربع سنين يبعث في كل سنة عجلاً كثيراً فيدفن فيها في أكواخ شتى، وهوالذي عمل بيتاً فيه تماثيل تنفع من جميع العلل، وكتب على رأس كل هيكل تمثال ما يعالج به، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك بالحكمة.
وفي هذه المدينة صورة امرأة من حجر مبتسمة لا يراها مهموم إلا تبسم ونسي همه، وكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها، ثم عبدوها من بعد.
وعمل تمثالاً طائراً روحانياً من ظفر مذهب كأنه يشير بجناحيه، ووضعه على اسطوانة في وسط المدينة، وكان لا يمر به زان ولا زانية إلا كشف عورته بحضرته، وكان الناس يمتحنون به فامتنع الناس من الزنا فرقاً منه، فاقاموا كذلك إلى زمان فاكن الملك ففسد امره وبطله.
وذلك أن امرأة من نسائه وكانت حظية عنده عشقت رجلاً من خدام الملك وخافت أن يرقى ذلك الى الملك فيمتحنها من ذلك الصنم فتفتضح فيقتلها، فأقامت مفكرة في الحيلة في ذلك، إلى أن خلا بها في بعض الليالي وهما يشربان فأخذت في ذكر الزواني وسبهن وذمهن، فذكر الملك ذلك الصنم، وما فيه من المنافع للناس وما يستحق من فعله من الثناء والذكر الحسن، فقالت له إنه لكذلك وقد صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب الرأي في أمره فقال: وكيف، قالت: لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لصلاح أمر العامة دون أمر نفسه، وهذا أكبر العجز، وإنما كان حكم هذا التمثال أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه فان اقترفت إحداهن ذنباً علم الملك به وجازى عليه في ستر، ولم تعلم العامة شيئاً منه، فيكون ردعاً لمن في قصره عما تهم به مغتلمة، وقد غلبتها شهوتها مرة ربما في عمرها لأن شهوات النساء أكثر من شهوات الرجال، وأغلب لنقصان عقولهن عن عقول الرجال، وأما الآن فلو حدث شيء من ذلك في قصر الملك، وأعوذ بالنور الأعلى منه، وأحب امتحانه فضح نفسه، وشاع في العامة والخاصة امره، فان عاقب بغير امتحان كان متعدياً، وإن صبر صبر على المكروه.قال الملك صدقت فيما قلت وأنزل قولها على النصيحة والصدق، وعلم أنها لم تشر بذلك إلا لأمر وقفت عليه، ولم ترد كشفه، فلما أصبح نزع الصنم من موضعه ووضعه في قصره في مكان أعد له بلا مهلة ولا مشاروة حكيم ولا عالم، فلما نصب في القصر امتحن مراراً فلم يصنع شيئاً عند الامتحان. وندم الملك على تحريكه وأقبلت جارية الملك على ما كانت همت به من الفجور وانهمكت فيه.
وهذه الأعمال إنما تعمل بعد رصد الكواكب واختبارات أماكنها في الواجب من أوقات المعمول له ذلك.
وقد ذكر أهل اخيم أن رجلاً من أهل المشرق، وكان يلزم البربا ويأتي اليه كل يوم ببخور وخلوق فيبخر ويطيب صورة كانت في عضادة باب البربا فيجد تحتها عند رجليها ديناراً فيأخذه وينصرف، ففعل ذلك وأقام عليه مدة طويلة، حتى وشى به غلام إلى عامل البلد، فقبض عليه فبذل له الرجل مالاً، وخرج عن البلد.
ويقال إن منقاوس بنى هيكلا للسحرة على جبل القمر، وقدم عليه رجلاً منهم يقال له مستهمس، وكانوالا يطلقون الريح للمراكب المقلعة إلا بغرامة يأخذونهامنهم، وكان الملك إذا ركب عملوا بين يديه التماثيل الهائلة فيجتمع الناس ويتعجبون من أعمالهم وأمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصاً، ويجعل فيه صورة الشمس والكواكب، وجعل حوله أصناماً وعجائباً، فكان الملك يركب اليه ويقيم فيه سبعة أيام وينصرف، وجعل فيه عمودين، وزبر عليهما تاريخ الوقت الذي عملا فيه وهما باقيان إلى اليوم، وموضع ذلك يقال له عين شمس.
ونقل منقاوس إلى عين شمس كنوزاً وجواهر وطلسمات وعقاقير ودفنها بنواحيها.
وكان قد قسم خراج البلد أرباعاً، فربع منها للملك خاصة ينفقه فيما يشاء ويفعل به ما يريد، وربع لأرزاق الجند، وربع ينفقه في مصالح الأرض، وما يحتاج اليه من عمل جسورها وحفر خلجانها وأجبر أهلها على العمارة، وربع يدفن لحدث يحدث.
وكان خراج البلد يومئذ مائة الف ألف وثلاثة آلاف ألف وقسمتها على ثلاثمائة كورة وثلاث كور. وهي اليوم خمسة وثمانون كورة، أسفل الأرض خمسة وأربعون كورة، والصعيد أربعون كورة.
وكان في كل كورة كاهن يدير أمرها، وصاحب حرب، وأقام ملكاً إحدى وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل إنه سم في طعامه، وعمل له ناووس في صحراء القبط، وقيل في غربي قوص، ودفن معه من الصحف وأكاسير الصنعة المعمولة وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شيء كثير.
وقد كانت ماتت له قبل موته جارية كانت أحظى نسائه عنده، وكان يحبها حباً شديداً، فأمر بعمل صورتها في جميع الهياكل، وعمل له تمثالها بذؤابتين من ذهب اسود، وألبسه حلة من جوهر منظوم، وجعلت جالسة على كرسي من ذهب، وكانت تحمل بين يدية في كل موضع يجلس فيه ليتسلى بذلك عنها، فدفنت تلك الصورة عند رجليه، كأنما يخاطبها. ولما فُرغ من أمره جلس ابنه مناوس الملك بعد أبيه على سرير الملك
أجمع اهل مصر أن أول من ملك مصر بعد الطوفان مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وذلك بدعوة سبقت له من جده.
والسبب في ذلك أن فيلمون الكاهن سأل نوحاً أن يخلطه بأهله وولده، وقال له: يانبي الله إنني تركت أهلي وولدي فاجعل لي رفقة أذكر بها بعد موتي، فزوج عليه السلام مصرايم بن بيصر بن حام بنت فيلمون، فولدت له ولداً فسماه فيلمون باسم جده.
فلما أراد نوح عليه السلام قسمةالأرض بين بنيه، قال له فيلمون: ابعث معي يانبي الله ابني، حتى أمضي به الى بلدي وأظهره على كنوزه، وأوقفه على علومه وأفهمه رموزها، فبعثه مع جماعة من أهل بيته، وكان غلاماً مراهقاً.
فلما قرب من مصر بنى له عرشاً من أغصان الشجر، وستره بحشيش ثم بنى له بعد ذلك مدينة في الموضع بنفسه وسماها درمان أي باب الجنة وزرعوا وغرسوا الاشجار.
وكان بين درمان الى البحر زروع وأجنة وعمارة، وكان القوم الذين كانوا مع مصرايم جبابرة، فقطعوا الصخور وبنوا المصانع والمعالم، وأقاموا في ارغد عيش.
ونكح مصرايم بنتاً من بنات الكهنة، فولدت له ولدا فسماه قبطيما، وتزوج بعد تسعين سنة من عمره امرأة أخرى فولدت له أربعة نفر: يقطويم، واشمون، وابريت، وصابي، فكثروا وعمروا الأرض وبورك لهم فيها.
وقيل ان عدد من كان مع مصرايم ثلاثون رجلاً من الجبابرة، فبنوا مدينة سموها ناقة، بلغتهم معناها ثلاثون، وهي مدينة منف.
وكشف فيلمون الكاهن لمصرايم عن كنوز مصر وعلمه قراءة خط البرابي وما زبر على الحجارة، وعرض عليهم معادن الذهب والفيروزج والزبرجد وغير ذلك، ووصف لهم عمل الصنعة فجعل الملك أمرها الى رجل يقال لسنطاس ثقة من اهل بيته، فكان يعملها في الجبل الشرقي، فسمي الجبل به المقطم.
وعلمهم أيضاً عمل الطلسمات وكانت تخرج من البحر دواب وتفسد زروعهم، وما قارب البحر من جهاتهم فعملوا لها الطلاسم فغابت ولم تظهر بعد.
وبنوا على غير البحر مدناً منها رقوده بمكان الاسكندرية، وجعلوا وسطها قبة من نحاس مذهب والقبة مذهبة.
ونصبوا فوقها مرآة معموله من أخلاط شتى قطرها خمسة أشبار، وكان ارتفاع القبة من الأرض خمسمائة ذراع، فكانوا إذا قصدهم قاصديهم بأذاهم من البحر عملوا لتلك المرآة عملا فألقت شعاعها إلى ذلك القاصد ومراكبه فأحرقتهم اجمعين، ولم تزل على حالها حتى غلب عليها البحر فهدمها.
ويقال ان منارة الاسكندرية إنما عملت تشبيها بها، وقد كانت أيضاً عليها مرآة يرى فيهامن يقصدها من بلاد الروم، فاحتال عليها بعض الملوك، فوجه اليها من أزالها، وكانت من زجاجة مدبرة.
ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد الى ابنه، وقد كان قسم أرض مصربين بنيه فجعل من قفط الى اسوان لقبطيم، وجعل لاشمون من أسوان الى منف، ولابريت الحوف كله، ولصابي ناحية البحرالى قرب برقة والغرب، فهو صاحب افريقية وولده الافارق، وأمر كل واحد من بنيه أن يبني مدينة لنفسه في موضعه وأمرهم عند موته أن يحفروا في الأرض سرباً ويفرشوه بالمرمر، ويدفنوه فيه ويدفنوا معه جميع ما في خزائنه من الذهب والفضة والجوهر. ويزبروا على ذلك أسماء الله العظام المانعة من الحوادث. فحفروا له سرباً، طولاً مائة وخمسون ذراعاً وجعلوا في وسطه مجلساً مصفحاً بصفائح الذهب، وجعلوا للمجلس أربعة أبواب على كل باب تمثال من ذهب عليه تاج مرصع بالجوهر، جالس على كرسي من ذهب قدامه آنية زبرجد، ونقشوا في صدر كل تمثال آيات مانعة، وأجلسوا جسده في مجلس زبرجد أخضر، وزبروا عليه " مات مصرايم بن بيصر بن حام بعد سبعمائة سنة مضت لايام الطوفان، مات ولم يعبد الأصنام، فصار الى حيث هو لا يوم هرم ولاسقم ولاحزن، وجعل جسده وماله في هذا السرب وحصنه باسماء الله العظام، وبما لايصل اليه بعده إلا ملك له من جدوده سبعة ملوك يأتي في آخر الزمان، يدين للملك الديان، ويؤمن بالمبعوث بالقرآن، الداعي الى الايمان في عواقب الأزمان".
وجعلوا معه في ذلك المجلس ألف قطعة من الزبرجد المخروط، وألف تمثال من الجوهر النفيس، وألف برنية ذهب مملوءة درايق سماً، وألف آنية مملوءة بالصنعة الإلهية والعقاقير السرية، وجعلوا مع ذلك طلسمات عجيبة، وسبائك ذهب مكدسة بعضها على بعض، وسقفوا ذلك بالصخور العظام، وهالوا عليه التراب والرمال حتى سدوا ما بين جبلين متقابلين، وجعلوا عليه علامات لا تخفى.
وولي الملك بعده ابنه قبطيم الملك، ويقال ان القبط منسوبون اليه وهو اول من عمل العجائب، واثار المعادن، وشق الأنهار، ويقال انه لحق البلبلة وخرج منها بهذا اللسان القبطي، وعمل ما لم يعمله أبوه من العمارات، ونصب الاعلام والمنارات والعجائب والطلسمات.
وملكهم قبطيم ثمانين سنة، وهلك فاغتم عليه بنوه وأهله، ودفن في سرب تحت الجبل الكبير الداخل، وصفح بالمرمر الملون، وجعل فيه منافذ للريح فهي تتخرق فيه بدوي عظيم هائل، وجعل فيه كروس نحاس مطلية بأدوية تضيء أبداً كأنها سرج لا تطفأ، ولطخوا جسده بالمرمر والكافور والمومياء وجعلوه في جرن من ذهب وثياب منسوجة بالمرجان والدر، وكشفوا عن وجهه في جرنه تحت قبة على عمد من مرمر ملون وفي وسط القبة جوهرة معلقة تنير كالسراج، وبين كل عمودين تمثال في يده أعجوبة، وجعل تحت الجرن توابيت حجارة مملوءة جوهراً وذهباً وغير ذلك من التماثيل والصنعة، وحول ذلك مصاحف الحكمة، وسدوا عليه، وزبروا عليه كما زبروا على تابوت أبيه.
وتولى الأمر بعده ابنه قفطويم الملك، وكان أكبر ولد أبيه، وكان جباراً عظيم الخلق، وهوالذي وضع أسرار الأهرام بالدهشور وغيرها، ليعمل ما عمله الأولون، وهو الذي بنى مدينة زرنده.
وهلكت عاد بالريح في آخر أيامه، وأثار من المعادن مالم يثره أحد، وكان يجد الذهب على قدر الرحى والزبرجد مثل الاسطوانة، وغرس الأسارح في صحراء الغرب مثل النخلة.
وعمل من العجائب كثيراً، وعمل مناراً عالياً في جبل قفط يرى منه البحر الشرقي، ووجد هنالك معادن زئبق فعمل منه بركة عظيمة، فقيل إنها هناك الى اليوم.
وفي زمانه أثار ابليس وأعوانه الأصنام التي كان الطوفان أغرقها، وزينوا أمرها وعبادتها.
ويقال ان قفطويما بنى المدائن الداخلة، وعمل فيها عجائباً، منها الماء الملفوف القائم كالعمود ولا ينحل ولا يذوب ويسمى فلطيس، وصيادة الطير اذا نصبها ومر عليها الطير سقط فيها ولم يقدر أن يبرح منها حتى يؤخذ.
وعمل بها أيضاً عموداً من نحاس عليه صورة طائر، فاذا قرب الوحش والأسد والحيات من المدينة صفر ذلك الطائر صفيراً عالياً، فترجع تلك الدواب هاربة.
وكان للمدينة أربعة أبواب جعل لها أربعة أصنام، على كل باب صنم من نحاس لا يعبر غريب الا ألقى عليه النوم والسبات، فينام عند الباب فلا يبرح نائماً حتى يأتيه أهل تلك المدينة، فينفخوا في وجهه فيقوم، فان لم يفعلوا ذلك لم يزل نائماً حتى يهلك.
وعمل مناراً لطيفاً من زجاج ملون على قاعدة من نحاس، وعلى رأس المنارة صورة صنم من زجاج كبيرة، وفي يده كالقوس، وكأنه يرمي به، فان عاينه غريب وقف في موضعه ولم يبرح حتى يجيئه أهل المدينة.
وكان ذلك الصنم يتوجه من ذات نفسه الى مهب الرياح الاربع، وقيل ان هذا الصنم علىحاله الى اليوم، وإن الناس تحاموا تلك المدينة على ما فيها من الكنوز والعجائب الظاهرة خوفاً من ذلك الصنم، فاذا وقع عين انسان عليه لا يزال نائماً حتى يهلك.
وقد كان بعض الملوك عزم على قلعه بما أمكنه، فهلك في ذلك خلق كثير، ولم يقدر عليه.
وقيل إنه عمل في بعض المدن الداخلة مرآة يرى الانسان فيها جميع ما يسأل عنه.
وعمل من خلف الجبل وبين الواحات الداخلة مدنا، وعمل فيها عجائب كثيرة، ووكل بها الروحانيين الذين يمنعون منها، فلا يستطيع أحد أن يدنو منها ولا يدخلها حتى يعمل عقداً بين أولئك الروحانيين، فيصل حينئذ اليها وياخذ من كنوزها ما أحب من غير مشقةولاضرر.
فأقام قفطويم ملكاً أربعمائة سنة، وأكثر العجائب انما عملت في وقته ووقت أبيه.
وأمر قفطويم فعمل له ناووس في الجبل الغربي قريب من المدينة مدينة العمد، وقد كان عمل لنفسه قبة قبل موته في سرب تحت الأرض معقود على أزج تحت الأرض على هيئة الدار في سعة كثيرة، وعمل حول دورها خزائن واسعة منقورة في الجبل أيضاً، وجعل في سقوفها مسارب للريح، وبلطت مع السرب وجميع الدار بالمرمر، وجعل في وسط الدار مجلساً على ثمانيةأركان مصفحاً بالزجاج الملون المسبوك، وجعل في سقفه جواهر وحجارة تسرج.
وفي كل ركن من أركان المجلس تمثال ذهب بيده كالبرق الذي يبرق، وعمل في وسط المجلس بركة مصفحة بالذهب، وعمل لها حواشي زبرجد وفرش حرير، وجعل على جسده بعد أن لطخ بالأدوية المجففة، وجعل حواليه ألف آنية من كافور، وأسدلت عليه ثياب منسوجة بالذهب ووجهه مكشوف، وعلى رأسه تاج مكلل، وعن جوانب البركةأربعة تماثيل من زجاج مسبوك في صورة النساء وفي ألوانهن، وبأيديهن كالمراوح من ذهب، وعلى صدره من فوق الثياب سيف فاخر من أفخر الحديد قائمه من زبرجد.
وجعل في تلك الخزائن من الذخائر وسبائك الذهب والتيجان والجواهر، وأواني الحكم وأصناف العقاقير، ومن الطلسمات العجيبة، والمصاحف الحاوية لجميع العلوم ما لا يحصى قدره كثرة.
وجعل على باب المجلس صورة ديك من الذهب على قاعدة من زجاج أخضر، وهو ناشر الجناحين مزبور عليه آيات عظام مانعة، وجعل على كل مدخل أزج صورتين من نحاس مشوهتين، بأيديهما سيفان كالبرق وبين أيديهما بلاطة تحتها لوالب لا بد من وطئها إذا أراد أن يدنو منها، فاذا وطأها ضرباه بسيفهما فقتلاه.
وفي كل أزج كوة فيها لطوخ مدبرة تسرج وتضيء طول الزمان، وسدت أبواب الأزج بالاساطين المرصعة ورصوا على السقف البلاطات العظام، وردموا فوقها بالرمال.
وزبروا على باب الأزج الأول في حجر عظيم " هذا المدخل الى جسد الملك العظيم المهيب الكريم قفطويم ذي الايد والقوة والفخر والغلبة والقهر، حل هذا الموضع بجسده وبقي ذكره وعلمه فلا يوصل اليه، ولا يقدر عليه بحيلة إلا بعد مدد ودورات تمضي من السنين".
وملك بعده ابنه البودشير الملك فتجبر وتكبر، وعمل بالسحر، واحتجب عن العيون، وقد كان أعمامه صابي وأبريت ملوكا على مواضعهم، إلا أنه كان أكبرهم سناً، فلذلك أذعنوا له.
فيقال إنه أرسل إلى هرمس المصري فبعثه الى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل له هنالك هيكلاً للتماثيل من النحاس، وعمل البطيحة التي ينصب عليها ماء النيل.
ويقال انه هو الذي عدل جنبي النيل، وقد كان يفيض في بعض مواضع وربما انقطع في مواضع، وأمره البودشير أن يسير مغرباً لينظر ماهناك، فوقع إلى أرض واسعة متخرقة بالمياه والعيون كثيرة العشب فبنى بها منائر ومتنزهات واقام بها، وحول البودشير جماعة من أهل بيته، فعمروا تلك النواحي وبنوا فيها حتى صارت أرضاً عامرة كلها، وأقاموا بذلك مدة كبيرة وخالطهم البربر ونكح بعضهم في بعض.
ثم أنهم تحاسدوا وتباغوا وكانت بينهم حروب افنتهم، فحينئذ خرب البلد وباد أهله الا بقية منازل تسمى الواحات.
ويقال إنه عمل في وقته كثيراً من العجائب، فمنهاقبة لها أربعة أركان في كل واحد منها كوة يخرج منها دخان ملتف في ألوان شتى في يوم معلوم في السنة من أول سنتهم.
فاذا خرج الدخان أخضر دل على العمارة والخصب وحسن الزرع وصلاح النبات، وإن خرج الدخان أبيض دل على الجدب وقلة الخيرات، وإن خرج أحمر دل على الدماء و الحروب وقصد الأعداء، وإن كان أسود دل على كثرة الأمطار والسيول وفساد بعض الأرض بذلك، وان كان أصفر دل على النيران وعلى آفات تحدث في الفلك.
وما كان منه يخرج مختلط اللون دل على مظالم الناس وفساد بعضهم لبعض وإهمال ملوكهم الأمور، وأشياء تدل على هذا الضرب؛ وكانت هذه القبة على منارة أقامت زماناً من ملكه ثم هدمها.
ومما عمل له أيضاً بالغرب في الصحراء التي تقرب منه، وكانت الوحوش قد كثرت عليهم وأفسدت زرعهم، وكذلك خنازير الماء، فعمل شجرة من نحاس أقامها في موضع فما وصل اليهامن الوحش لم يستطع الحركة ولا البراح من عندها حتى تؤخذ قبضاً فيقتل، فاتسع الناس في لحوم تلك الوحوش، فوجه بعض الملوك المجاورين لمصر عن احتيال لتلك الشجرة فقلعها واحتملها ليضعها في بلده فيعمل له مثلها، فلما قلعت من موضعها بطل عملها فلم ينتفع بها، لآنهم كانوا يعملون ما يعملونه من ذلك بطالع يأخذونه فلا يزال مستقيماً الى أن يغير مكانه وينقل عنه.
ومما عمل في وقته أن غراباً نقر عين صبي من أولاد الكهنة فقلعها، فعمل أبوه شجرة من نحاس عليها غراب في منقاره حية بادية الطرفين، وهو ناشر الجناحين، وكتب على ظهره كتاباً، فكان الغربان يقعن على تلك الشجرة حتى يمتن أو يؤخذن فيقتلن، فهلك كثير منهاوانتفى الى الشام وغيرها من النواحي.
ولم يزل الأمر كذلك الى أن صار لبعض ملوكهم داء لم يكن له دواء إلا أن يطبخ له غراب فيأكل من لحمه ويشرب مرقه، فطلب له غراب فلم يكن في وجوده حيلة، فوجه الى ناحية الشام من يأتيه بغراب فأبطأ وزادت علته فاغتاظ، وأمر بنزع الشجرة فنزعت فرجعت الغربان فأخذ منها الملك ما يعالج به، فلم يعد رسوله من ناحية الشام حتى خرج الملك من علته.
ومما عمل في وقته، وكانت الرمال قد كثرت عليهم من ناحية الغرب حتى ربما طمت زروعهم، فعمل لذلك صنم من صوان أسود على قاعدة منه وفي يده كالقفة فيها مسحاة ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه كتابات، ووجه به إلى المغرب، وجعل هناك فانكشفت تلك الرمال وزحفت بها الرياح إلى ورائها لتلك الآكام العالية في صحراء المغرب، فلم يزل الرمل يندفع عنهم إلى وراء ذلك الصنم حتى صار بحيث لا يؤذيهم منه شيء ولا يضرهم.
فأقام البودشير مدة ثم احتجب عن الناس وكان يتجلى لهم في صورة وجه عظيم يكون ذلك في النادر وربما خاطبهم من حيث لا يرونه وصبروا وهم في طاعته مدة طويلة، إلى أن رآه عديم ابنه وهو يامره بالجلوس مكانه على سريره فجلس فتولى الأمر بعده وجلس على سرير ملكه ابنه عديم الملك، وكان جباراً لا يطاق عظيم الخلق، فأمر بقطع الصخور ونحتها ليبني هرماً كما فعل الأولون.
وكان في وقته الملكان اللذان أهبطا من السماء، ويقال إن عديماً استكثر من علمهما، ثم انتقلا إلى بابل.
وأهل مصر والقبط يقولون إن هذين شيطانان يقال لهما مهلة ومهالة، وإن الملكين ببابل في بئر هناك يغشاها كثير من السحرة إلى أن تقوم الساعة.
ومن ذلك الوقت عبدت الأصنام، واتخذت الأوثان، وقال قوم كانت الشياطين تظهر فتنصبها لهم، وقال قوم بل النمرود الأول أمر بنصبها وعبادتها.
وعديم الملك أول من صلب، وذلك أن امرأة زنت برجل من أهل الصناعات وكان لها زوج فأمر بصلبهما، على منابر وجعل ظهر كل واحد منهما إلى ظهر صاحبه، وزبر على المنابر اسميهما وما فعلاه، وتاريخ الوقت الذي عمل ذلك فيه، فانتهى الناس عن الزنا.
وبنى أربع مدائن وأودعها كثيرا ًمن صنوف العجائب والطلسمات وغير ذلك، وكنز فيها كنوزاً كثيرة وعمل على البحر الشرقي مناراً، وأقام على رأسه صنماً موجهاً إلى الشرق، باسط اليدين يمنع جميع دواب البحر والرمال أن تتجاوز حده، وزبر على صدره تاريخ الوقت الذي نصب فيه.
ويقال إن هذا المنار قائم إلى وقتنا هذا، ولولا هذا المنار لغلب الماء المالح على ارض مصر من البحر الشرقي.
وعمل قنطرة على النيل في ارض النوبة، ونصب عليها أربعة أصنام موجهة إلى أربع جهات، في يد كل صنم منها سيف يضرب به إذا أتى آت من تلك الجهة، فأقامت على حالها مدة إلى أن تهدمت.
وهو الذي عمل البربا، وهي هناك إلى اليوم، ويقال انه عمل في إحدى المدائن الأربع التي ذكرنا ها حوضاً من صوان اسود على ماء لا ينقص مدى الدهر، ولا يتغير بما اجتلب اليه من رطوبة الهواء والماء.
وعمل فيه حيلاً عجيبة، وكان أهل تلك الناحية، وأهل تلك المدينة يشربون وينفقون منه، ولا ينقص ماؤه، وعمل ذلك لهم لبعدهم من النيل وقربهم من البحر المالح.
وذكر بعض كهنة مصر أن ذلك إنما تم لقربهم من البحر المالح، لأن الشمس فيما ذكروا يرتفع نحوها بخار البحر وعذوبة ما فيه.
فحبس هو من البخار جزءاً بالهندسة وبالطلسمات السحرية، وجعله ينحط في ذلك الحوض، ويمده الهواء برطوبته فلا ينقص ماؤه على الدهر، ولو شرب منه العالم.
وقد عمل أمام البربا حوضاً لطيفاً مدوراً وجعله على قاعدة وملأه ماء، وحبس عليه جزء من البخار الرطب، فالخلق يشربون منه ولا ينقص وهو هناك إلى هذا الوقت.
وعمل أيضاً قدحاً لطيفاً على مثل العمد، وأهداه حويل الملك إلى الاسكندر اليوناني، وملكهم مائة سنة وأربعين سنة، ومات وهو ابن تسعمائة سنة وثلاثين سنة.
وقيل إنه دفن في إحدى المدن ذوات العجائب في أزج من رخام ملون مبطن بزجاج أصفر، وطلي جسمه بما يمسكه، وجعل حوله كثير من ذخائره، وذلك في وسط المدينة وهي محروسة بمن يمنع منهامن الروحانيين.
وذكر بعض أهل القبط أن ناووس عديم عمل له في صحراء قفط على وجه الأرض، وهو قبة عظيمة من زجاج أخضر براق معقود على ثمانية آزاج من صنفها، وعلى رأسها كرة من ذهب عليهاطائر من ذهب ناشر الجناحين موشح بجواهر تمنع من الدخول، وفي قطرهامائة ذراع في مثلها.
وجعل جسده في وسطها على سرير من ذهب مشبك بجوهر عقيق، وعليه ثياب منسوجة بالذهب مكشوف الوجه. والآزاج مفتوحة، طول كل ازج منها ثمانية أذرع، وارتفاع القبة أربعون ذراعاً، يلقي نورها على ما حولها من الأرض، لصفاء لونها وبريقها، وجعل معه في القبة مائة وسبعون صحيفة من صحف الحكمة، وسبع موائد عليها أوانيها منها.
ومنها مائدة من ذهب عليمون أحمر يخطف الأبصار، وهو الذي يعمل منه تيجان الملوك وأوانيها منها، ومائدة من حجر الشمس المضيء وأوانيها منها، ومائدة من الزبرجد الأخضر الذي يخطف لونه البصر وله شعاع أصفر، وهو الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سالت عيونها وآنيتها منها، ومنها مائدة من كبريت أحمر مدبر على ماذكروه من تدبيرهم في مصاحف كتبهم وأوانيها منها، ومنها مائدة من ملح أبيض براق صاف يكاد لونها يعشي البصر وأوانيها منها، ومنها مائدة من زئبق معقود حافتاها وقوائمها زئبق اصفر معقود، وأوانيها عليها من زئبق أحمر معقود، وجعل معه في القبة جواهر كثيرة وبراني بلور مملوءة بغرائب مدبرة وجعل حوله سبعة أسياف صاعقية وكاهنية، وأتراس حديد مدبر أبيض، وجعل معه تماثيل افراس سبعة من ذهب عليها اللجم، وسروج من ذهب، وسبعة توابيت من صوان أسود مملوءة من الدنانير التي كان ضربها، وصور عليها صورته، وجعل معه من أصناف العقيق والسموم والأدوية المدبرة في أواني الحنتم والحجارة على ضروبها شيء كثير.
وقد ذكر من رأى القبة أنه مشى اليها مع جماعة وأقاموا عليها أياماً، فما قدروا على دخولها، وأنهم إذا وصلوا اليها على ثمانية أذرع دارت القبة عن أيمانهم من شمائلهم، وقد رأوا ما فيها، ومتى دنوا منها دارت إلى جانب آخر.
ومن عجائب شأنها أنهم كانوا يحاذونها من كل أزج، ويتأملونها أزجاً أزجاً، فلا يرون من أزج إلا ما يرون من أزج آخر على شكل واحد، ومعنى واحد. وذكروا انهم راوا وجهه على قدر الذراع والنصف، ولحيته كبيرة مكشوفة، وقد رأوا بدنه بطول عشرة أذرع وزيادة، وذكروا أنهم رأوا فيها عجائب كثيرة وصنوفاً من الوحش لم ير مثلها.
وفي كتاب القبط أنه لا يوصل اليها إلا ان يذبح لها ديك أبيض أفرق، ويبخر بريشه على بعد، وترسل البخور مع الريح على بعد حتى يصل اليها، ويكون بالكواكب النيرة على ما كانت عليه وقت نصبها، ويكون زحل والمشتري والمريخ في برج واحد والزهرة وعطارد في برج، ويتكلم عليها بصلاة الكهنة سبع مرات، فاذا وصل اليها لطخ حائطها بدم الديك الذي ذبح ويأخذ عند دخولها من المال والتماثيل ما استحسن ولا يكثر فيها من الجلوس.
وذكر ان هؤلاء الذين رأوها لم يكونوا من أهل الناحية، وإنما خرجوا يطلبون غيرها، وأنهم سألوا أهل قفط عنها، فما وجدوا أحداً يعرفها ولا رآها غير شيخ منهم.
فانه ذكر أن ابنا له خرج في بعض الامور، ومعه جمل، وأنه رآها ولم يصل اليها فبحث عن أمرها، فعرف أن قوما من أهل المشرق جاءوا في طلب هذه القبة وأنهم أقاموا بقفط أياما وخرجوا يريدونا، فما رجع منهم أحد ولا عرف لهم خبر.
وكان عديم الملك قد أوصى ابنه قبل موته أن يطوف ماشيا على أعمال بلاده، وأن ينصب في كل جزء من أجزاء عمومته منارا، ويزبر عليه اسمه ويعمل له علامات وملاعب.
وعمل في صحرائها منارا، وعمل عليه صنما ذا رأسين مقترنين، وسار الى جزء إبريت فبنى به قبة على عمد وعلى أساطين بعضها فوق بعض وجعل على أعلاها صنما صغيراً من ذهب.
وعمل هيكلا للكواكب، وكان أبوه البودشير أول من أقام للكواكب هيكلا، فتبعه ابنه على ذلك ومضى الى جزء صابي فعمل به منارة علىرأسها امرأة من أخلاط ترى الناظر اليها جميع الاقاليم.
ثم رجع الى أبيه فولاه الملك بعده وعهد اليه بما أراد ووصاه، ثم مات أبوه فلما أودعه الناووس، وفرغ منه جلس على سرير الملك شدات الملك، وهو الذي بنى الاعلام بالدهشور بالاحجار التي قطعت في زمان ابيه.
وقال الذين ينكرون أن العادية دخلت مصر انما غلط الناس في اسم شدات فقالوا شداد بن عاد لكثرة ما يجري على ألسنتهم شداد وقلة مايجري شدات.
وما قدر أحد قط من الملوك أن يدخل مصر الا عبد لبخت نصر بما قدمه من الحيل في افساد طلسماتها.
وشدات الملك هو الذي عمل مصاحف الزيجات التي يذكر فيهاالملوك، ويقال انه وجد في بعض رموزهم ومصاحف كهانهم أن الملك بودشير بن قفطويم لما أجهد نفسه في عبادة الأنوار العلوية، وعرف أن روحانياتها قد صارت فيه حبب اليها نفسه، وجوعها واستغنى جسده عن الطعام والشراب، فلما أدمن ذلك اشتاقته الأنوار العلوية واشتاقها، فرفعته إلى مواضعها، وبرأته من شرور الأرض المؤلمة، وجعلته نورا سابحا داخلا في نورها، يتصرف بتصرفها، فطوبى له من كاهن عرفت له كهانته، وأكرم بها وصير ملكا، فسبيل من بعده أن يبلغ خطته ويجعل بمثابته.
وهذا الكلام وشبيهه تضليل للناس لانهم كانوا يتعبدون للكواكب، فيقولون مثل هذا ترغيبا في دينهم.
وقد قالوا أيضاً انهم على توحيد الله وان مدحهم لهذه الوسائط المدبرات لا يضر خالقها، وانهم يعظمونها تقربا اليه، كما قالت الهند والعرب وكثير من الامم.
وعمل شدات هيكل أرمنت وأقام فيه أصناما للكواكب من ذهب وفضة وحديد ابيض ورصاص مصفى وزئبق معقود، وهذه الاجساد المعدنية في طباع الكواكب وقسمتها.
فلما فرغ منه زين بأحسن الزينة، ونقش باحسن النقوش، وأمر فزين بالجواهو الملونة، والزجاج الملون، وكسي بالوشي والديباج، ولم يترك شيئاً من الغريب الا عمله فيه، وكذلك عمل في المدن الداخلة من جزء صابي هيكلا مثله، والقبة التي عملها بجزء ابريت، وعمل هيكلا بشرق الاسكندرية، وعمل لزحل صنما من صوان اسود على عبر النيل من الجانب الغربي.
وبنى شدات في الجانب الشرقي مدائن، وجعل في احداهما صورة صنم قائم له احليل ظاهر اذا اتاه المعقود والمسحور والعنين الذي لا ينتشر احليله بكلتا يديه زال عنه ذلك وانتشر وقوي على المياه.
وعمل في احداها بقرة لها ضرعان كبيران اذا مسحتهما المرأة التي نقص لبنها وتعقد ضرعها در وصلح.
وفي أيامه بنيت العالية، بناها لابن له كان سخط على أمه فحولهااليها، وأسكنها قوما من أهل الحكمة ومن أهل الصناعات.
وقيل ان سفط بنيت في أيامه والصورتين اللتين بها الملتصقتان للمهل، وكانت الحبشة والسودان عاثوا في بعض بلده فأخرج ابنه منقاوس في جيش عظيم اليهم فقتل منهم وسبا، وكل من سباه استعبده فصار ذلك سنة فيهم.
واقتطع معدن الذهب، وأقام فيه من سباه منهم يعملون الذهب ويحملونه اليه، وألزم المقام معهم من يحرسهم من جيشه.
وهو أول من احب الصيد واتخذ الجوارح وولد الكلاب السلوقية من الذئاب والكلاب الأهلية وعمل البيطرة وجميع ما يعالج به الدواب، وعمل من العجائب والطلاسم لكل شيء ما لا يحصى كثرة.
وجمع التماسيح في بركة في ناحية اسيوط بطلسم لها، وكانت تنصب اليها من النيل انصبابا فيقتلها، ويستعمل جميع جلودها في السفن وغيرها، ويدخل لحومها وشحومها في الاغذية ومؤلفات العقاقير.
والقبط تحكي انه عمل بمصر اثنتي عشرة اعجوبة وطلسما، ولم يعمل في بلد ما عمل فيها ولا تهيأ ذلك له، وقد بقيت آثار أكثرهاقائمة بعد خرابها وأفساد معالمها واقام شدات بن عديم تسعين سنة ملكا، وخرج فطرد صيدا فاكب به فرسه في هوة فقتله.
وفي بعض كتبهم أنه أخذ بعض خدمه، وقد خالفه في امر من الامور فألقاه من اعلى الجبل الى اسفله فتقطع ثم ندم على ذلك من فعله، ورأى انه سيصيبه مثل ذلك، وكان يتوقى ان يصعد جبلا، وأوصى ان اصابه شيء ان يجعل ناووسه في الموضع الذي يلحقه فيه ما يلحقه، وان يزبر عليه " ليس ينبغي لذي القدرة ان يخرج عن الواجب، وأن لايفعل ما لايجوز له فعله، وهذا ناووس شدات بن عديم بن قفطويم الملك، عمل ما لايحل فكوفيء عليه ".
ولما هلك عمل سرب في سفح الجبل عليه قبة على مجلس قد صفح بالفضة واجلس فيه على سرير ملكه، وجعل معه من المال والجوهر والتماثيل واصناف الحكم والصحف شيء كثير، ومات وله أربعمائة واربعون سنة.
وولي الأمر من بعده ابنه منقاوس الملك فقام مقام أبيه، وملك بحزم وحكمة فاظهر مصاحف الحكمة، وأمر بالنظر فيهاوان تنسخ بخط العامة ليفهموها، ورد الكهنة الى مراتبهم.
وهوأول من عمل الحمام من ملوك مصر وكان كثير النكاح، وتزوج عدة نسوة من بنات عمه ومن بنات الكهنة، وجعل لكل امرأة منهن مكانا قد أصلحه بالبنيان العجيب والصور المونقة والفرش الحسنة، والآلات العجيبة، وأسكنهن فيها.
وقال بعض أهل الأثر إنه هوالذي بنى منف لبناته، وكن ثلاثين بنتاً ورحلهن إليها، وعمل مدنا غيرها ومصانع، وبنى هيكلاً لصور الكواكب واصنامها على ثمانية فراسخ من منف، وعمل بتلك الناحية طلسمات كثيرة وغرائب أغرب فيها بفضل حكمته على أبيه وجده، وعمل للسنة اثني عشر عيداً يعمل في كل عيد من الأعمال ما كان موافقاً لبرج الشهر، وكان يعظم الناس في تلك الأعياد ويوسع عليهم في أحوالهم وأرزاقهم، ورأوا معه من الخير ما لم يروه مع غيره، وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح على أحد قبله.
وألزم أصحاب الكيمياء العمل، فكانوا لا يفترون ليلا ولانهاراً، فاجتمعت عنده أموال عظيمة وجوهر كثيروزجاج مسبوك من الأدرك وغيره، فأحب كنزها، فدعا أخا له كان يكرمه ويحبه فقال له قد كثر ما عملناه من التماثيل، وعظم ما ادخرناه من الذهب والجواهر، ولست آمن أن يتسامع الملوك بكثرة ذلك، فيتألفوا على غزونا فخذ ذلك كله، وتوجه به فأمعن في أرض الغرب، ثم انظر مكاناً حريزاً خفي الأثر فأحرزه فيه. وأسس عليه وعلمه بعلامات واكتب صفة المكان وعلاماته ومن أين الطريق اليه، وعد إلى إن شاء الله تعالى.
فيقول أهل الأثر انه حمل مع نفسه إثنا عشر ألف عجلة، منهامن الجواهر النفيسة ثلاثمائة، وسائرها ذهب إبريز، وصفائح مضروبة، وطرائف الملوك من آلاتهم وسلاحهم وأوانيهم، وسار في الجنوب يوماً واحداً، ثم سار في الغرب يوماً كاملاً وبعض آخر، فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود منيع ليس له مصعد بين جبال مستديرة به، فعمل تحت ذلك الجبل أسراباً ومغاير فدفن فيها ما كان معه، وردم عليه كما أمره أخوه، وعلم وزبروأتقن ذلك جهده، ورجع إلى أخيه فأعلمه.
فمكث بعد ذلك أربع سنين يبعث في كل سنة عجلاً كثيراً فيدفن فيها في أكواخ شتى، وهوالذي عمل بيتاً فيه تماثيل تنفع من جميع العلل، وكتب على رأس كل هيكل تمثال ما يعالج به، فانتفع الناس بها زمانا إلى أن أفسدها بعض الملوك بالحكمة.
وفي هذه المدينة صورة امرأة من حجر مبتسمة لا يراها مهموم إلا تبسم ونسي همه، وكان الناس يتناوبونها، ويطوفون حولها، ثم عبدوها من بعد.
وعمل تمثالاً طائراً روحانياً من ظفر مذهب كأنه يشير بجناحيه، ووضعه على اسطوانة في وسط المدينة، وكان لا يمر به زان ولا زانية إلا كشف عورته بحضرته، وكان الناس يمتحنون به فامتنع الناس من الزنا فرقاً منه، فاقاموا كذلك إلى زمان فاكن الملك ففسد امره وبطله.
وذلك أن امرأة من نسائه وكانت حظية عنده عشقت رجلاً من خدام الملك وخافت أن يرقى ذلك الى الملك فيمتحنها من ذلك الصنم فتفتضح فيقتلها، فأقامت مفكرة في الحيلة في ذلك، إلى أن خلا بها في بعض الليالي وهما يشربان فأخذت في ذكر الزواني وسبهن وذمهن، فذكر الملك ذلك الصنم، وما فيه من المنافع للناس وما يستحق من فعله من الثناء والذكر الحسن، فقالت له إنه لكذلك وقد صدق الملك غير أن منقاوس لم يصب الرأي في أمره فقال: وكيف، قالت: لأنه أتعب نفسه وحكماءه فيما جعله لصلاح أمر العامة دون أمر نفسه، وهذا أكبر العجز، وإنما كان حكم هذا التمثال أن ينصب في دار الملك حيث يكون نساؤه وجواريه فان اقترفت إحداهن ذنباً علم الملك به وجازى عليه في ستر، ولم تعلم العامة شيئاً منه، فيكون ردعاً لمن في قصره عما تهم به مغتلمة، وقد غلبتها شهوتها مرة ربما في عمرها لأن شهوات النساء أكثر من شهوات الرجال، وأغلب لنقصان عقولهن عن عقول الرجال، وأما الآن فلو حدث شيء من ذلك في قصر الملك، وأعوذ بالنور الأعلى منه، وأحب امتحانه فضح نفسه، وشاع في العامة والخاصة امره، فان عاقب بغير امتحان كان متعدياً، وإن صبر صبر على المكروه.قال الملك صدقت فيما قلت وأنزل قولها على النصيحة والصدق، وعلم أنها لم تشر بذلك إلا لأمر وقفت عليه، ولم ترد كشفه، فلما أصبح نزع الصنم من موضعه ووضعه في قصره في مكان أعد له بلا مهلة ولا مشاروة حكيم ولا عالم، فلما نصب في القصر امتحن مراراً فلم يصنع شيئاً عند الامتحان. وندم الملك على تحريكه وأقبلت جارية الملك على ما كانت همت به من الفجور وانهمكت فيه.
وهذه الأعمال إنما تعمل بعد رصد الكواكب واختبارات أماكنها في الواجب من أوقات المعمول له ذلك.
وقد ذكر أهل اخيم أن رجلاً من أهل المشرق، وكان يلزم البربا ويأتي اليه كل يوم ببخور وخلوق فيبخر ويطيب صورة كانت في عضادة باب البربا فيجد تحتها عند رجليها ديناراً فيأخذه وينصرف، ففعل ذلك وأقام عليه مدة طويلة، حتى وشى به غلام إلى عامل البلد، فقبض عليه فبذل له الرجل مالاً، وخرج عن البلد.
ويقال إن منقاوس بنى هيكلا للسحرة على جبل القمر، وقدم عليه رجلاً منهم يقال له مستهمس، وكانوالا يطلقون الريح للمراكب المقلعة إلا بغرامة يأخذونهامنهم، وكان الملك إذا ركب عملوا بين يديه التماثيل الهائلة فيجتمع الناس ويتعجبون من أعمالهم وأمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصاً، ويجعل فيه صورة الشمس والكواكب، وجعل حوله أصناماً وعجائباً، فكان الملك يركب اليه ويقيم فيه سبعة أيام وينصرف، وجعل فيه عمودين، وزبر عليهما تاريخ الوقت الذي عملا فيه وهما باقيان إلى اليوم، وموضع ذلك يقال له عين شمس.
ونقل منقاوس إلى عين شمس كنوزاً وجواهر وطلسمات وعقاقير ودفنها بنواحيها.
وكان قد قسم خراج البلد أرباعاً، فربع منها للملك خاصة ينفقه فيما يشاء ويفعل به ما يريد، وربع لأرزاق الجند، وربع ينفقه في مصالح الأرض، وما يحتاج اليه من عمل جسورها وحفر خلجانها وأجبر أهلها على العمارة، وربع يدفن لحدث يحدث.
وكان خراج البلد يومئذ مائة الف ألف وثلاثة آلاف ألف وقسمتها على ثلاثمائة كورة وثلاث كور. وهي اليوم خمسة وثمانون كورة، أسفل الأرض خمسة وأربعون كورة، والصعيد أربعون كورة.
وكان في كل كورة كاهن يدير أمرها، وصاحب حرب، وأقام ملكاً إحدى وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل إنه سم في طعامه، وعمل له ناووس في صحراء القبط، وقيل في غربي قوص، ودفن معه من الصحف وأكاسير الصنعة المعمولة وتماثيل الذهب والجوهر، ومن الذهب المضروب شيء كثير.
وقد كانت ماتت له قبل موته جارية كانت أحظى نسائه عنده، وكان يحبها حباً شديداً، فأمر بعمل صورتها في جميع الهياكل، وعمل له تمثالها بذؤابتين من ذهب اسود، وألبسه حلة من جوهر منظوم، وجعلت جالسة على كرسي من ذهب، وكانت تحمل بين يدية في كل موضع يجلس فيه ليتسلى بذلك عنها، فدفنت تلك الصورة عند رجليه، كأنما يخاطبها. ولما فُرغ من أمره جلس ابنه مناوس الملك بعد أبيه على سرير الملك