بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مُختصر أخبار الزمان
تابع ذكر عجائب مصر وملوكها بعد الطوفان
تابع ذكر ملوك مصر بعد الطوفان
دخل الوليد بن دومع العمالقي مصر وملكها فاستباح أهلها وأخذ أموالها، وتتبع ما أمكنه الوصول اليه من كنوزها، وهبط اليه أيمن بالطاعة من الصعيد ومدنها سامعا له إذ كان عسكره من قبله، ومن أعانه بملكه وجيشه حتى أخذ بثأر خاله انداحس وتم الأمر للوليد على أعظم أمر.
ثم سنح له ان يمشي حتى يقف على مخرج النيل، ويغزو من بناحيته من الامم فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك، حتى اصلح جميع ما احتاج اليه. واستخلف عبده عوناً على البلد وخرج في جيش كثيف، وعدد عظيمة، فلم يمر بأمة إلا أبادها.
فيقال انه اقام في سفره سنين كثيرة وأنه مر على امم السودان وجاوزهم ومرعلى ارض الذهب، فوجد فيها مواضع فيها قضبان ثابتة وهي بلاد عانة.
ولم يزل الوليد يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل إليها من الانهارالتي تخرج من جبل القمر، وجبل شامخ عريض طويل، وإنما سمي جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه لأنه خرج كثيرا عن خط الاستواء، ونظراليه كيف يخرج النيل من تحته فيمر في طرائق كثيرة كالانهار الرقاق، فيصير بعضها إلى حظيرة عظيمة يجتمع فيها، ويصير بعضها الى حظيرةعظيمة، ثم يخرج من كل حظيرة نهر عظيم ينصب إلى حظيرة عظيمة يجتمع النهران فيها وهي البطيحة الكبيرة، وهي بعد خط الاستواء، وقبل الاقليم الاول، ويخرج من تلك البطيحة نهر واحد، ويجوز خط الاستواء ويجري إلى مصر ويمده نهر آخر من ناحية مكران يصب فيه عند اول جبل معظم في ثلث الاقليم الأول.
ويذكر أن هذين النهرين يزيدان وينقصان، فيهما التماسيح وسمك كأمثال سمك النيل، ويخرج منه نهر عظيم على مقربة من آخر شرقي جبل القمر وحكي عن الوليد أنه وجد القصر الذين فيه قماقم النحاس الذي عملها هرمس الاول في وقت البودشير الاول بن قفطويم بن مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام، وهي خمس وثمانون صورة جعلها جامعة لمن يخرج من الماء من الجبل، وبمعاقد وبمصاب مدبرة، يجري منها الى تلك الصور ويخرج من حلوقها على قياس معلوم واذرع معدودة معلومة.
ثم ينصب في أفواه الصور في انهار كثيرة ويتصل بالبطيحتين، ويخرج منها كما قلنا الى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من جبل القمر، وقد هندس في تلك ورتب مقدارا ًمن الماء في كل صورة ما معه صلاح البلدان التي يمر بها، وينفع أهلها دون الفساد، وسطح قبل انتهاء المسطح ثمانيةعشر ذراعا بالذراع التي ذرعها مقدار اثنين وثلاثين أصبعا، فما فضل عن ذلك عدل به عن يمين تلك الصور ويسارها الى مسارب تخرج عن يمين القصر ويساره تنصب إلى غياض ورمال لا عمارة فيها.
وقد ذكر قوم من أهل الأثر أن الانهار الاربعة تخرج من أصل واحد من قبة في ارض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحان وجيحان والنيل والفرات.
وذكر بعضهم أنها من الجنة وأن تلك القبة من زبرجد، وأن جميع هذه الانهار قبل أن يسلك الى البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك.
وممن جاء بهذا وذكره أبو صالح كاتب الليث وغيره من المحدثين ذكروا أن رجلاً من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يقال له حايد وصل إلى القبة، وله خبر يطول ذكره هذا الخبر الذي قال المسعودي إنه يطول ذكره أثبته هنا، وإن لم يكن هو ذكره لانه بموضعه وهو من كتاب العظمة رواه ببغداد الفقيه أبو الحسن عباد بن سرحان وهو يحدث به إلى الآن عن شيوخه ببغداد بأسانيد ذكرها عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يمج لوجدتم من ورقها.
حدثني أبو الطيب أحمد بن روح، قال حدثني علي بن داود، قال حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني الليث بن سعد قال زعموا والله اعلم أنه كان رجل من بني العيص، يقال له حايد بن أبي سالوم من العيص بن إسحق بن إبراهيم عليهما السلام أنه خرج هارباً من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر فأقام بها سنين. فلما رأى عجائب نيلها وما يأتي به جعل لله تعالى أن لا يفارق ساحله حتى يبلغ منتهاه من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه
-قال بعضهم ثلاثين سنة في عبر الماء، وقال بعضهم خمس عشرة سنة كذا وخمس عشرة سنة كذا- حتى انتهى إلى بحر فنظر إلى النيل مقبلا فصعد على ساحل البحر، وإذا هو برجل قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فلما رآه استأنس به وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة وقال له من أنت? فقال أناحايد بن أبي سالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ومن أنت أصلحك الله? قال له أنا عمران، فما الذي جاء بك هاهنا يا حايد حتى انتهيت إلى هذا الموضع، فان الله تعالى أوحى إلي أن أقف في هذا الموضع حتى يأتي أمره?فقال له حايد أخبرني يا عمران ما انتهى اليك من خبر هذا النيل، وهل بلغك أن احداً من بني آدم يبلغه? فقال عمران قد بلغني أن رجلاً من ولد العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حايد، فقال حايد يا عمران كيف الطريق اليه، فقال له عمران لست أخبرك إلا أن تجعل لي ما سألتك قال وما ذلك يا عمران، قال إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي، حتى يوحى إلي بأمرك أو يتوفاني الله تعالى فتدفنني، قال له لك ذلك علي، قال سر كما أنت على هذا البحر، فإنك تصل إلى موضع فيه دابة ترى أولهاولا ترى آخرها فلا يهولنك أمرها، فاركبها فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت اهوت اليها لتلتقمها، حتى يحول بيتها حجبتها، فاذا غربت أهوت اليها لتلتقمها، فاذاركبتها فسر راجعا عليها حتى تنتهي إلى النيل فانزل عنها، فإنك ستنزل وتبلغ أرضا من حديد جبالها وأشجارها وسهلها من نحاس، فان جزتها وقعت في أرض من فضة جبالها وأشجارها وسهلها من فضة، فان جزتها وقعت في أرض من ذهب جبالها وسهلها من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض الحديد، ثم منها إلى أرض النحاس، ثم منها إلى أرض الفضة، ثم منها إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب وشرفه من ذهب فيه قبة من ذهب لها أربعة أبواب ونظر إلى الماء ينحدر من ذلك السور، حتى يستقر في القبة، ثم يفرق فيخرج على الانهار الاربعة.
وأما ما يخرج من الثلاثة فيفيض في الارض، وواحد يشق على وجه الأرض وهو النيل، فشرب منه واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له ياحايد مكانك فقد انتهى اليك علم هذا النيل، وهذه الجنة والماء ينزل من الجنة.
فقال إني أريد أن أنظر إلى ما في الجنة، قال إنك لن تستطيع دخولها اليوم ياحايد، فقال أي شيء هذا الذي أراه، قال هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وهو شبه الرحى، قال إني أريد أن أركبه وأدور فيه، فقال بعضهم إنه ركبه في دار الدنيا، وقال بعضهم إنه لم يركبه، فقال له الملك يا حايد إنه سيأتيك رزقك من الجنة فلا تؤثر عليه شيئاًمن الدنيا فانه لا ينبغي لشئ من الجنة أن يؤثر عليه شئ فإنه يبقى ما بقيت.
قال فبينما هو كذلك إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة الوان لون كالزبرجد الأخضر، ولون كاللؤلؤ الابيض، ولون كالياقوت الاحمر، ثم قال ياحايد قد انتهى إليك علم هذا النيل.
فقال ما هذه الثلاثة التي تفيض في الارض? قال أحدها الفرات، والثاني سيحان والثالث جيحان.
فرجع حايد حتى انتهى إلى الدابة فركبها، فلما أهوت الشمس للغروب قذفت به في الموضع الذي ركبها فيه، فاقبل حتى انتهى إلى عمران فوجده قد مات. فأقام على قبره ثلاثاً، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، فبكى على عمران ثم أقبل إلى حايد فسلم عليه، ثم قال له يا حايد ما الذي انتهى إليك من علم النيل، فأخبره، فقال له الرجل هكذا نجده في الكتب.
وكان التفاح قد ظهر في تلك الشجرة من أحسن شيء، فأغراه الشيخ وقال لحايد ألا تأكل منه شيئاً، قال معي رزقي قد أعطيته من الجنة ونهيت أن لا أؤثر عليه شيئاً من الدنيا، قال صدقت يا حايد لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح، وإنما هذه الشجرة أخرجها الله من الجنة لعمران ليعيش منها فانبتها له في هذه الآرض، وليست من الدنيا وما تركها إلا لك، ولو وليت لرفعت، فلم يزل به حتى اخذ منها تفاحة فبعضه عليها عض الملك على يديه، وقال له أتعرفه، هو الذي أخرج أباك من الجنة، أما أنه لو سلمت بهذا العنقود الذي معك، لأكل منه أهل الدنيا فلم ينفذ فهو الآن مجهودك ان يبلغك، فكان مجهوده أن بلغه. فأقبل حايد حتى بلغ مصر فأخبرهم بهذا الخبر، ومات رحمه الله، وتم الخبر الذي اثبته وليس من الأم، ورجع الكلام الى حيث انقطع. وقال آخرون تنقسم هذه الأنهار الى اثنين وسبعين قسماً، حذاء اثنين وسبعين لساناً.للأمم المذكورة وقال آخرون إنما هذه الأنهار من ثلوج تنزل في أيامها، وتتكاثف هناك فتحملها حرارة الشمس مرة بلطف ومرة بقوة، فتسيل إلى هذه الأنهار، فتسقي لما أراد الله جل وتعالى من تدبير خلقه.
ونرجع إلى ذكر الوليد لما بلغ جبل القمر رأى جبلاً عظيماً، فاعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرى ما خلفه فأشرف منه على البحر الأسود الزفتي النتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كاللأنهار الرقاق، فأتته من ذلك البحرروائح منتنة، هلك بها كثير من أصحابه فأسرع بالنزول بعد ان كاد يهلك.
وذكر قوم أنه لم ير هناك شمساً ولا قمراً الا نوراً أحمر كنور الشمس عند غروبها وقالوا إنه أقام في غيبته مدة عشرين سنة.
وان عونا علامة تجبر بمصر بعد سبع سنين من مسيره، وادعى انه الملك، وادعى انه لم يكن عبد الوليد، وانه أخوه وله الملك من بعده وريب على الناس، واستعان بالسحرة عليهم وأسنى جوائز السحرة والكهنة، ولم يمنعهم محابهم، فمال إليه الناس ووثقوا بأمره ولم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالاً إلا أخذه وقتل صاحبه.
وكان مع ذلك يكرم الهياكل والكهنة، فكان الناس يمسكون عنه اشفاقاً منهم من السحرة الذين أطافوا به الى ان رأى في منامه الوليد، وكان يقول له من أمرك أن تتسمى باسم الملك، وقد علمت انه من فعل استحق القتل، ونكحت إلى ذلك بنات الملوك، وأخذت الأموال بغير واجب، وكأنه أمر بقدور فملئت زفتاً ثم غليت على النار وأحميت، وكأنه يغمسه فيها فلما غليت أمر بنزع ثيابه، فأتى طائر في صورة عقاب فاختطفه من ايديهم وعلق به في الجو، فجعله في هوة على رأس جبل، وكأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حمأة منتنة.
فانتبه مذعورا طائر القلب، وكان في طول فعله ذلك في تملكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة يكاد عقله أن يزول فرقاً منه، لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوته.
وكاد مرة يوقن بهلاكه لطول غيبته وانقطاع خبره، وكان مرة يخاف أنه حي. فلما رأى الرؤيا لم يشك في حياة الوليد، فاضمر في نفسه الهرب من مصر في الأموال، فأطلع بعض السحرة ممن كان يثق به على أموره.
وقال له إني خائف من الوليد وقد عزمت على الهرب من مصر، فما عندكم، قالوا له نحن نحميك على أن تقبل منا، قال قولوا، قالوا له نعمل عقاباً وتعبده، فان الذي خلصك منه في نومك هو بعض الروحانيين، وهو يريد منك أن تعمل صورته فتعبده.
قال عون أشهد لقد قال لي وأنا أسمع: اعرف لي هذا المقام ولا تنسه قالوا لقد بينا نحن لك ذلك.
فسمع منهم وعمل عقاباً من ذهب، وجعل عينيه من جوهرتين موشحتين بأصناف العمل الغريب.
وعمل له هيكلاً لطيفاً وجعله في صدره، وأرخى عليه ستور الحرير، فأقبل عليه السحرة على خدمته بالبخور والقربان، الى أن نطق لهم، فأقام عون على عادته ودعى الناس الى ذلك فأجابوه، فلما مضت لذلك مدة أمر العقاب ببناء مدينة يحوله اليها فتكون حرزاً له ومعقلاً من كل أحد، فأمرعون كل فاعل بمصر أن يجتمعوا له، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا اليه ارضا حسنة الاستواء، ويكون المدخل فيها بين فجوج صعبة وجبال وعرو، ويتوخى ان تكون تلك الأرض قريبة من مغاص المياه، فكان مغيض الماء هو اليوم الفيوم وكان مغيضا ً لمياه النيل، حتى أصلحه يوسف عليه السلام، وأنما أراد عون قرب مكان المدينة من مغيض المياه ليجري اليها الماء منها، فخرج أصحابه يطوفون في الأرض، فأقاموا في ذلك شهراً حتى وجدوا له بغيته، فلم يبق بمصر فاعل ولا مهندس ممن كان يفتت الصخور ويقطعها ويعمل شيئاً مما يصلح للبنيان إلا وجهه، وأنفذ معهم ألف فارس في طاعتهم، وانفذ معهم جميع الآلات، وأقام في توجيه الزاد اليهم شهرا على العجل، وطرق العجل اليوم ظاهرة واضحة في صحراء الغرب من خلف الأهرام، وهي التي يقصدها أصحاب المطالب وهي بنية مشهورة.
فلما تكامل لهم ما يريدونه من قطع الحجارة ونحتها أعدوا من العدد، وخطوا موضع المدينة وجعلوه فرسخين في مثلهما، وحفروا في وسطها بئراً، وجعلوا في تلك البئر تمثالاً من نحاس صورة خنزير ونحاسة بأخلاط وجعلوا وجهه إلى الشرق.
وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له وهو في شرفه.
واخذوا خنزيراً فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره، وأخذوا شيئاً من شعره عظامه ولحمه ودمه ومرارته، فجعلوا ذلك في جوف خنزير من النحاس ونقشوا عليه آيات زحل.
ثم شقوا في البئر أخدوداً من أربعة أوجه المدينة، وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع فيها بباب من أبواب المدينة، ووصلوا ما بينها بالمنازل الحسنة والطرقات، وجعلوا حول القبة تماثيل من نحاس بأيديهم حراب، ووجوهها مقابلة لتلك الأبواب.
وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود، وفوقه حجر أحمر، وفوقه حجر اخضر، وفوقه حجر أصفر، وفوق الكل ابيض شفاف، مثقبة كلها بالرصاص المصبوب بينها، وفي قلوبهاأعمدة الحديد على صفة بناء الأهرام.
وجعل طول حصنها ستين ذراعاً ونصف ذراع، وعلى كل باب من أبوابها على أعلى الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط، أجوف ناشر الجناحين، وعلى كل من أركان المدينة صورة فارس بيده حربة ووجهه إلى خارج المدينة، وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقي ينحدر في صبيب الى الباب البحري، ويخرج إلى بطائح هناك، وكذلك من الباب الجنوبي الى الشمالي.
وقرب لتلك العقبان عقبانا ذكرا ولطخها بدمها، واجتلب الرياح الى أبواب التماثيل فكانت الرياح إذا دخلتها يسمع لها أصوات شديدة، لايسمعها أحد إلا هالته، وضمدها بعقارب مطلسمة تمنع الناس من دخولهاإلا أن يكون مع الغريب الداخل إليها أحد من أهلها، ونصب العقاب الذي يتعبد له تحت القبة التي في وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان في كل ركن منها شيطان مشوه، وجعلها على عمود زبرجد، فكان العقاب يدور على كل جهة من الجهات الأربع ويقيم كذلك ربع السنة يقرب اليه من جهته.
فلما فرغ من ذلك كله حمل إليها جميع الأموال والجواهر المخزونة بمصر، وما وجد في خزائن الملوك من التماثيل والحكم، وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك.
وحول اليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والمهن، وقسم المساكن التي بناها بينهم، لا يختلط بعضهم ببعض، وبنى حول سورها ربضا يحيط بها، وبنى فيه مساكن لأصحاب مهن الحرث والزرع وغير ذلك، وما يتعلق بالعمارة.
وعقدعلى ما أجراه من الأنهار قناطر يجوز عليها الخارج من المدينة والداخل اليها، وجعل الماء يدور حول الربض، ونصب عليه أعلاماً ثم غرس ما وراء ذلك كله بأجناس الأشجار وغرائبها، فأقام بها من الجنات كل غريبة حسنة كثيرة الفوائد، ثم جعل ما وراء ذلك مزارع لكل نوع من الحبوب، فاستغل بذلك كله أعظم الغلات.
وكان يرتفع اليه منها في السنة ما يكفيه عشر سنين، وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام فكان يخرج اليها فيقيم بها عشرة أيام، ثم يعود إلى منف.
وكان لتلك المدينة أربعة أعياد في السنة في كل وقت يتحول فيه العقاب إلى الجهات الأربع، فلما تم لعون ذلك اطمأن قلبه وسكنت نفسه. الى ان وافاه كتاب الوليد من ناحية النوبة، يأمره أن ينفذ اليه الأزودة، وينصب له الأسواق، فوجه عون ذلك كله من أحسن شيء وأتمه في المراكب وعلى الظهر.وحول جميع عياله ومن اصطفاه من بنات الملوك من مصر وكبرائها إلى المدينة المبنية، فلما قرب دخول الوليد مصر تحول هو الى مدينته فتحصن بها وخلف للوليد خليفة يكون بين يديه.
فدخل الوليد مصر فتلقاه الناس، وشكوا إليه عونا، وماحل بهم منه، فقال: وأين عون، قالوا: فر عنك وتحصن دونك.
فاغتاظ وأمر ان ينفذ إليه جيش كثيف، فعرفوه كيف بنى مدينته وأمكن فيها معه من السحرة، وأن امره صعب فما يكون إلا بعد نظر شاف واستعداد كاف، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، ويحذره التخلف عنه، ويقسم عليه إن لم يفعل وظفر به يبضع لحمه بعد المبالغة في عذابه.
فرد عليه عون جوابا يقول فيه: ما على الملك مني في هذا الموضع، ولا أتعرض لبلده، ولاأعبث في شيء منه لأني عبده، وأنا في هذه الجهة حام له من كل عدو يقصده من ناحية من نواحي الغرب، ولا أقدر على المسير اليه لخوفي منه على نفسي، فليقرني الملك على حالي كأحد عماله، وأوجه اليه في كل وقت ما يلزمني من خراجه ومن هداياه، ووجه مع الجواب مع أموالا جزيلة جليلة وجوهرا نفيساً، فلما رأى الملك ذلك قنع به، وكف عنه.
فأقام الوليد بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم واموالهم مائة سنة وعشرين سنة، فأبغضوه وشتموه.
وأنه ركب في بعض الايام متصيداً، فألقاه فرسه في هوة من الأرض فقتله، وأراح الله الناس منه.
وكان ابنه الريان ينكر فعله ولا يرضاه منه فلما هلك عمل له ناووساً قرب الاهرام، وقيل انه دفن في أحد الأهرام.
ثم ملك بعده ابنه الريان الملك، وهو فرعون يوسف عليه السلام،
والقبط تسميه نهراوس، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه، عاقلا متمكنا من العلم، فدخل عليه الناس وهنأوه ودعوا له، فتكلم بجميل، ومنى الناس ووعدهم بالاحسان، وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فدعوا له وأثنوا عليه وشكروه.
فأمر بفتح الخزائن وفرق ما فيها على الخاص والعام ممن حضر مجلسه، فخرجو عنه شاكرين له محبين فيه، فملك وأحسن.وتمكنت منه أريحية الصبا، فملك على البلد رجلاً من أهل بيته يقال له المعين وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز، وكان من أولاد الوزراء عاقلا متمكنا من عقله حصيف الرأي، كثير نزاهة النفس، مستعملاً للعدل والصلاح، وأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه.وكان يغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال وجميع الوزراء والكتاب بين يديه عند مسيره وعند رجوعه.فقام بالملك، وكفى الملك مهمه، وأصلح جميع الأمور، ووطأ البلاد وأمن الناس وأقام سوق العدل.
والملك نهراوس منغمس في لذاته، معتكف على لهوه، لا ينظر في عمل ولا يفكر في أمر ولا يخاطبه أحد، فأقاموا لذلك حيناً من الدهر، والبلد عامر، والخراج مدر.
يقال إنه بلغ في وقته تسعة وتسعون الف ألف مثقال فجعلها أقساماً فما كان له ولنسائه ولمائدته حمل اليه، وما كان في أرزاق الجيوش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصانع البلد وإصلاح العقار والحرث والغرس وأصحاب المهن حمل اليهم، وما فضل عن ذلك كله حمل الى خزائن الملك في قصره.
ونهراوس مع ذلك غير ناظر في شئ من ذلك ولا سائل عنه، وقد عملت له عدة متنزهات على عدة أيام السنة، فكان في كل يوم في موضع منها، فاذا كان من الغد انتقل الى موضع آخر في كل يوم في موضع من الفرش والآنية ما ليس في غيره.
فلما اتصل ذلك بملوك النواحي طمعوا فيه واستضعفوه، فقصده رجل من العمالقة يقال له عابد بن سجوم، ويكنى بأبي قابوس، فسار قاصداً الى مصر حتى نزل على حد من حدودها.
فأنفذ اليه العزيز جيشاً وجعل عليه قائداً يقال له دوناس، فقتله ذلك الملك وهزم عسكره، ودخل حدود مصر فهدم أعلاماً ومصانع كثيرة، واشتد طمعه في مصر وجهاتها.
واتصل خبره بأهل مصر فاعظموا ذلك وأكبروه واجتمعوا إلى العزير فأمرهم أن يسيروا الى قصر الملك، فأتوا الى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون، فسمعهم نهراوس، فسأل عن حالهم، فأخبر خبر العمالقي وأنه قد دخل حدود مصر وعاث فيها، وأفسد مزارعها وغير مصانعها، وهدم أعلامها وأنه مقبل بجيوشه يريد قصر الملك، فارتاع لذلك وأنف منه، وانتبه من غفلته.
وتذكر القبط أنه سمع نياح الجن على أبيه، فارتاع لذلك فعرض جيشه وأصلح أمره، وخرج إلى العمالقي واتبعه الى حدود الشام وقتل أكثر اصحابه، وأفسد الزرع وقطع الأشجار، وأحرق الديار وصلب من أسره من الجيوش ونصب أعلاماً على الموضع الذي بلغه أي لمن جاوز هذا المكان.
وقيل إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجاً وبنى عند العريش مدينة عظيمة وشحنها بالرجال وملأ تلك النواحي بالجنود، وانصرف إلى مصر فلما فعل ذلك هابته الملوك، وفزعوا منه وأعظموه وهادوه وصالحوه.
ولما استقر بمصر حشد جنوده من جميع الأعمال، واستعد لغزو ملوك الغرب، فخرج في تسعمائة ألف مقاتل واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحى عن طريقه، ومنهم من دخل في طاعته، ومنهم من بذل الأموال والذخائر وصالح بلده، ومنهم من قهره واستباحه.
ومر بأرض البربر فأخذ كثيراً منها، ووجه قائداً يقال له مريطس، فركب في سفن كثيرة وأخذ سواحل البحر فقتل بعض البربر، ودخل أرضهم وصالحه بعضهم، وحملوا اليه الأموال.
ومضى الملك إلى إفريقية وقرطاجنة، فصالحوه على ألطاف وأموال كثيرة حملوها اليه.
ومر حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم، وعمل هناك صنماً من نحاس وهو الموضع الذي فيه الأصنام القديمة، وأقام تحته علماً عظيماً زبر عليه اسمه وتاريخ الوقت، وصفة الأمر الذي خرج اليه، وضرب على أهل تلك النواحي خراجاً.
وعبر إلى الأرض الكبيرة وسار إلى الافرنجة وسار إلى الأندلس، وصاحبها عند ذلك اللاذريق، فحاربه أياماً، وقتل من اصحابه خلقاً كثيراً.
وصالحوه بعد ذلك على ذهب كثير في كل سنة يحمل اليه، وعلى ان لا يغزو أحداً في البحر ولا في البر شيئاً من حدوده، من جميع من في تلك النواحي، وعلى أن يمنع من رام شيئاً منهم من ذلك ويغالبهم عنه.
وانصرف راجعاً عنه، فسار على عبر البحر مشرقاً على بلاد البربر، فلم يمر بموضع إلا خرج اليه أهله وأهدوه ودخلوا في طاعته، ومشوا بين يديه وأخذ إلى ناحية الجنوب فمر بناحية الكوفاس وهي أمة عظيمة فحاربوه فقتل منهم خلقاً كثيراً.
وبعث قائداً له إلى مدينة على ساحل البحر المظلم، فخرج اليه ملك المدينة وأهلها يسألونه ما هو وما قصده، فعرفهم القائد بحال الملك الريان وإذعان الملوك له ومصالحتهم إياه. فقالوا له أما نحن فما بلغنا أحد قط ولا رأيناه ولا ضرنا أحد ولا ضاررناه.وأخرجوا اليه مالا وجوهراً وصالحوه على مدينتهم. فقبل ذلك منهم وسألهم هل ركب هذا البحر أحد قط ، فقالوا جميعهم إنه ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياماً.
ثم أتاهم الملك الريان فتلقوه بهدايا وفاكهة أكثرها التوت وحجارة سود فاذا جعلت في الماء صارت بيضاء.
وسار على أمم السودان حتى بلغ إلى مملكة الزموم الذين يأكلون الناس، فخرجوا اليه عراة بأيديهم حراب الحديد، وخرج ملكهم على دابة عظيمة الخلق لها قرون، وكان جسيماً أحمر العينين فصبر للحرب صبراً عظيماً ثم ظفر به الريان، فانهزموا في أوحال وأدغال وغيران وجبال وعرة فلم يتهيأ له أتباعهم فيها فجاوزهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة خفاف يلتفون بها من غير ريش ومر على البحر المظلم، فلما أمعن في السير فيه غشيهم منه غمام فرجع متيامنا، حتى انتهى إلى جبل نبارس، فرأى فوقه، تمثالاً من حجر أحمر يوميء بيده، أن ارجعوا وعلى صدره مزبوراً " ما ورائي احد " وانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل اليها، ثم مضى في الوادي المظلم، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون شيئاً منه لشدة ظلمته.
ثم سار حتى انتهى إلى وادي الرمل فرأى على عين أصناماً عليها اسماء الملوك قبله، فأقام صنماً وزبر عليه اسمه، فلما عدا وادي الرمل جاز إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود المظلم، فسمع جلبة وصياحاً هائلاً، فخرج في شجعان من أصحابه يتبعون ذلك الصياح حتى أشرف على سباع عظيمة غريبة الخلق مخزمة الأنوف وبعضها يغير على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع وعدى وادي الرمل، فمر بأرض العقارب فأهلكت بعض أصحابه فرجعوها عن أنفسهم بالنار وبالرقا والعزائم التي كانوا قد عرفوها حتى جاوزها.
وسار حتى انتهى إلى أرض سلوقة، وكانت بها حية تخرج عن الحد والمقدار، فرأوها ممتدة فظنوها ميتة، فهمموا عليها فوجدوهاحية فرجعوا عنها هاربين وتعوذوا منها بالرقا.
وتزعم القبط أنه سحرها، ومنعها من الحركة، وتركها على حالها، فلم تتحرك حتى هلكت ويقال إن طول هذه الحية ميل وإنها كانت تبتلع الفيلة. وسار إلى مدينة الكند وهي مدينة الحكماء، فهربوا إلى جبل وعر كان لهم صعدوا اليه من داخل مدينتهم من مواضع لا يقدر هو ولا أصحابه على الصعود فيها، فأقام على تلك الطريق يحرسها حتى عدم الماء ولم يجد منه شيئاً وضاع أصحابه، وكادوا أن يهلكوا عطشاً.
فنزل اليه رجل منهم يقال له ميدوش وكان من افضل الحكماء وقد غطى شعره جسده فقال له أيها الملك المغرور أين تريد، وقد مد لك في الأجل، ورزقت فوق الكفاية. ففيم تتعب نفسك وجيشك، هلا قنعت بما تملكه، واتكلت على خالقك الذي وهبك الغنى، وأعانك بهذا الخلق! فعجت نهراوس من قوله وسأله عن الماء فدله عليه. وسأله عن موضعهم إذ لم يكن أصاب في جيشهم أثراً لسكناهم.قال نحن في موضع لا يصل اليه أحد.
قال فما معاشكم، قال من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع فيقيتنا ويكفينا اليسيرمنه. قال فمن أين تشربون? قال من غدران لنا في الأرض يجتمع اليها الماء من الأمطاروالثلوج.
قال فلم هربتم عنا، قال رغبة عن جواركم، وزهادة في خلطتكم وكراهة لقربكم، وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه.
قال فأين تكونون إذا حميت الشمس، قال في غيران لنا تحت هذا الجبل. قال فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم، قال إنما يحتاج إلى هذا المال أهل البذخ. ونحن لا نستعمل شيئاً منه فاستغنينا عنه بما قد اكتفينا به. ومع ذلك فإنا قد رزقنا منه ما لو رأيته لحقرت ما عندك قال فأرنيه، قال فسر معي، قال فانطلق الملك ونفر من أصحابه معه إلى أرض في سفح جبل يتصل بهم فرأوا فيه قضبان الذهب نابتاً، وأروه وادياً لهم على حافتيه حجارة الزبرجد والفيروزج.
فأمر نهراوس أصحابه أن يتخيروا من جياد تلك الحجارة، ويحملوا منها ما يقدروا عليه ففعلوا، ورجع بهم إلى مصر فرأوا قوما من أهل العسكر يحملون صنما لهم ويعظمون امره، فجزع من ذلك، وسأل الرجل ٍ الملك أن يقيم بأرضهم، ونهاه عن عبادة الأصنام وخوفهم منها.
فسأله نهراوس أن يدله على الطريق، ففعل وودعه وسار على السمت الذي وصفه له، فلم يمر على أمة إلا أثر فيها أثراً إلى أن بلغ الى ارض النوبة، فصالح أهله على ما يحملونه اليه ثم أتى إلى دنقلة فأقام بها علما وزبر اسمه عليه ومسيره وجميع ما عمله في سفرته تلك.
ثم سار منها يريد منف فلم يبق احد إلا خرج إليه مع العزيز، وتلقوه بأصناف الطيب والرياحين والبخورات والملاهي وغرائب الالعاب. وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الغريب الابيض الصنعة الملون، وجعل فيه صهريجاً من زجاج سماوي، وجعل في ارضه سمكا من الزجاج الغريب.
فلما دخل منف أنزله العزيز في ذلك المجلس، وأقام الناس أياماً في لهو وسرور يأكلون ويشربون. وأمر بعرض جيشه ففقد سبعين ألفاً، وقد كانوا خرجوا في ألف ألف، وكانت غيبته أحد عشر عاماً.
ولما سمع الملوك بذكر ما عمل في سفره، وما غلب من الأمم، وما فتح من البلاد، وقتل وأسر من الخلق هابوه وخافوه، لشدة بأسه وعظيم سلطانه.
وتجبر نهراوس فبنى في الجانب الغربي قصورا من رخام، ونصب عليهاأعلاما فكان يغشاها أبداً، ويقيم فيها اياما كثيرة، وكان الخراج في وقته تسعة وتسعين ألف ألف، فامر بالزيادة في طلب العمارات، وطلب وجوه الزيادة فيها من احسن الطرقات لامن رديئها.
وأمر باصلاح الجسور في الجهات، والتحمل في أن يزيد الماء في انبساطه في الأرض، ففعل ذلك كله حتى وافى الخراج مراده وزاد عليه.
دخل الوليد بن دومع العمالقي مصر وملكها فاستباح أهلها وأخذ أموالها، وتتبع ما أمكنه الوصول اليه من كنوزها، وهبط اليه أيمن بالطاعة من الصعيد ومدنها سامعا له إذ كان عسكره من قبله، ومن أعانه بملكه وجيشه حتى أخذ بثأر خاله انداحس وتم الأمر للوليد على أعظم أمر.
ثم سنح له ان يمشي حتى يقف على مخرج النيل، ويغزو من بناحيته من الامم فأقام ثلاث سنين يستعد لذلك، حتى اصلح جميع ما احتاج اليه. واستخلف عبده عوناً على البلد وخرج في جيش كثيف، وعدد عظيمة، فلم يمر بأمة إلا أبادها.
فيقال انه اقام في سفره سنين كثيرة وأنه مر على امم السودان وجاوزهم ومرعلى ارض الذهب، فوجد فيها مواضع فيها قضبان ثابتة وهي بلاد عانة.
ولم يزل الوليد يسير حتى بلغ البطيحة التي ينصب ماء النيل إليها من الانهارالتي تخرج من جبل القمر، وجبل شامخ عريض طويل، وإنما سمي جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه لأنه خرج كثيرا عن خط الاستواء، ونظراليه كيف يخرج النيل من تحته فيمر في طرائق كثيرة كالانهار الرقاق، فيصير بعضها إلى حظيرة عظيمة يجتمع فيها، ويصير بعضها الى حظيرةعظيمة، ثم يخرج من كل حظيرة نهر عظيم ينصب إلى حظيرة عظيمة يجتمع النهران فيها وهي البطيحة الكبيرة، وهي بعد خط الاستواء، وقبل الاقليم الاول، ويخرج من تلك البطيحة نهر واحد، ويجوز خط الاستواء ويجري إلى مصر ويمده نهر آخر من ناحية مكران يصب فيه عند اول جبل معظم في ثلث الاقليم الأول.
ويذكر أن هذين النهرين يزيدان وينقصان، فيهما التماسيح وسمك كأمثال سمك النيل، ويخرج منه نهر عظيم على مقربة من آخر شرقي جبل القمر وحكي عن الوليد أنه وجد القصر الذين فيه قماقم النحاس الذي عملها هرمس الاول في وقت البودشير الاول بن قفطويم بن مصرايم بن حام بن نوح عليه السلام، وهي خمس وثمانون صورة جعلها جامعة لمن يخرج من الماء من الجبل، وبمعاقد وبمصاب مدبرة، يجري منها الى تلك الصور ويخرج من حلوقها على قياس معلوم واذرع معدودة معلومة.
ثم ينصب في أفواه الصور في انهار كثيرة ويتصل بالبطيحتين، ويخرج منها كما قلنا الى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من جبل القمر، وقد هندس في تلك ورتب مقدارا ًمن الماء في كل صورة ما معه صلاح البلدان التي يمر بها، وينفع أهلها دون الفساد، وسطح قبل انتهاء المسطح ثمانيةعشر ذراعا بالذراع التي ذرعها مقدار اثنين وثلاثين أصبعا، فما فضل عن ذلك عدل به عن يمين تلك الصور ويسارها الى مسارب تخرج عن يمين القصر ويساره تنصب إلى غياض ورمال لا عمارة فيها.
وقد ذكر قوم من أهل الأثر أن الانهار الاربعة تخرج من أصل واحد من قبة في ارض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحان وجيحان والنيل والفرات.
وذكر بعضهم أنها من الجنة وأن تلك القبة من زبرجد، وأن جميع هذه الانهار قبل أن يسلك الى البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك.
وممن جاء بهذا وذكره أبو صالح كاتب الليث وغيره من المحدثين ذكروا أن رجلاً من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام يقال له حايد وصل إلى القبة، وله خبر يطول ذكره هذا الخبر الذي قال المسعودي إنه يطول ذكره أثبته هنا، وإن لم يكن هو ذكره لانه بموضعه وهو من كتاب العظمة رواه ببغداد الفقيه أبو الحسن عباد بن سرحان وهو يحدث به إلى الآن عن شيوخه ببغداد بأسانيد ذكرها عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يمج لوجدتم من ورقها.
حدثني أبو الطيب أحمد بن روح، قال حدثني علي بن داود، قال حدثنا عبد الله بن صالح، قال حدثني الليث بن سعد قال زعموا والله اعلم أنه كان رجل من بني العيص، يقال له حايد بن أبي سالوم من العيص بن إسحق بن إبراهيم عليهما السلام أنه خرج هارباً من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر فأقام بها سنين. فلما رأى عجائب نيلها وما يأتي به جعل لله تعالى أن لا يفارق ساحله حتى يبلغ منتهاه من حيث يخرج أو يموت قبل ذلك، فسار عليه
-قال بعضهم ثلاثين سنة في عبر الماء، وقال بعضهم خمس عشرة سنة كذا وخمس عشرة سنة كذا- حتى انتهى إلى بحر فنظر إلى النيل مقبلا فصعد على ساحل البحر، وإذا هو برجل قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فلما رآه استأنس به وسلم عليه، فسأله الرجل صاحب الشجرة وقال له من أنت? فقال أناحايد بن أبي سالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ومن أنت أصلحك الله? قال له أنا عمران، فما الذي جاء بك هاهنا يا حايد حتى انتهيت إلى هذا الموضع، فان الله تعالى أوحى إلي أن أقف في هذا الموضع حتى يأتي أمره?فقال له حايد أخبرني يا عمران ما انتهى اليك من خبر هذا النيل، وهل بلغك أن احداً من بني آدم يبلغه? فقال عمران قد بلغني أن رجلاً من ولد العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك يا حايد، فقال حايد يا عمران كيف الطريق اليه، فقال له عمران لست أخبرك إلا أن تجعل لي ما سألتك قال وما ذلك يا عمران، قال إذا رجعت إلي وأنا حي أقمت عندي، حتى يوحى إلي بأمرك أو يتوفاني الله تعالى فتدفنني، قال له لك ذلك علي، قال سر كما أنت على هذا البحر، فإنك تصل إلى موضع فيه دابة ترى أولهاولا ترى آخرها فلا يهولنك أمرها، فاركبها فإنها دابة معادية للشمس، إذا طلعت اهوت اليها لتلتقمها، حتى يحول بيتها حجبتها، فاذا غربت أهوت اليها لتلتقمها، فاذاركبتها فسر راجعا عليها حتى تنتهي إلى النيل فانزل عنها، فإنك ستنزل وتبلغ أرضا من حديد جبالها وأشجارها وسهلها من نحاس، فان جزتها وقعت في أرض من فضة جبالها وأشجارها وسهلها من فضة، فان جزتها وقعت في أرض من ذهب جبالها وسهلها من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض الحديد، ثم منها إلى أرض النحاس، ثم منها إلى أرض الفضة، ثم منها إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب وشرفه من ذهب فيه قبة من ذهب لها أربعة أبواب ونظر إلى الماء ينحدر من ذلك السور، حتى يستقر في القبة، ثم يفرق فيخرج على الانهار الاربعة.
وأما ما يخرج من الثلاثة فيفيض في الارض، وواحد يشق على وجه الأرض وهو النيل، فشرب منه واستراح، وأهوى إلى السور ليصعد، فأتاه ملك فقال له ياحايد مكانك فقد انتهى اليك علم هذا النيل، وهذه الجنة والماء ينزل من الجنة.
فقال إني أريد أن أنظر إلى ما في الجنة، قال إنك لن تستطيع دخولها اليوم ياحايد، فقال أي شيء هذا الذي أراه، قال هذا الفلك الذي تدور فيه الشمس والقمر وهو شبه الرحى، قال إني أريد أن أركبه وأدور فيه، فقال بعضهم إنه ركبه في دار الدنيا، وقال بعضهم إنه لم يركبه، فقال له الملك يا حايد إنه سيأتيك رزقك من الجنة فلا تؤثر عليه شيئاًمن الدنيا فانه لا ينبغي لشئ من الجنة أن يؤثر عليه شئ فإنه يبقى ما بقيت.
قال فبينما هو كذلك إذ نزل عليه عنقود من عنب فيه ثلاثة الوان لون كالزبرجد الأخضر، ولون كاللؤلؤ الابيض، ولون كالياقوت الاحمر، ثم قال ياحايد قد انتهى إليك علم هذا النيل.
فقال ما هذه الثلاثة التي تفيض في الارض? قال أحدها الفرات، والثاني سيحان والثالث جيحان.
فرجع حايد حتى انتهى إلى الدابة فركبها، فلما أهوت الشمس للغروب قذفت به في الموضع الذي ركبها فيه، فاقبل حتى انتهى إلى عمران فوجده قد مات. فأقام على قبره ثلاثاً، فأقبل شيخ متشبه بالناس أغر من السجود، فبكى على عمران ثم أقبل إلى حايد فسلم عليه، ثم قال له يا حايد ما الذي انتهى إليك من علم النيل، فأخبره، فقال له الرجل هكذا نجده في الكتب.
وكان التفاح قد ظهر في تلك الشجرة من أحسن شيء، فأغراه الشيخ وقال لحايد ألا تأكل منه شيئاً، قال معي رزقي قد أعطيته من الجنة ونهيت أن لا أؤثر عليه شيئاً من الدنيا، قال صدقت يا حايد لا ينبغي لشيء من الجنة أن يؤثر عليه شيء من الدنيا، وهل رأيت في الدنيا مثل هذا التفاح، وإنما هذه الشجرة أخرجها الله من الجنة لعمران ليعيش منها فانبتها له في هذه الآرض، وليست من الدنيا وما تركها إلا لك، ولو وليت لرفعت، فلم يزل به حتى اخذ منها تفاحة فبعضه عليها عض الملك على يديه، وقال له أتعرفه، هو الذي أخرج أباك من الجنة، أما أنه لو سلمت بهذا العنقود الذي معك، لأكل منه أهل الدنيا فلم ينفذ فهو الآن مجهودك ان يبلغك، فكان مجهوده أن بلغه. فأقبل حايد حتى بلغ مصر فأخبرهم بهذا الخبر، ومات رحمه الله، وتم الخبر الذي اثبته وليس من الأم، ورجع الكلام الى حيث انقطع. وقال آخرون تنقسم هذه الأنهار الى اثنين وسبعين قسماً، حذاء اثنين وسبعين لساناً.للأمم المذكورة وقال آخرون إنما هذه الأنهار من ثلوج تنزل في أيامها، وتتكاثف هناك فتحملها حرارة الشمس مرة بلطف ومرة بقوة، فتسيل إلى هذه الأنهار، فتسقي لما أراد الله جل وتعالى من تدبير خلقه.
ونرجع إلى ذكر الوليد لما بلغ جبل القمر رأى جبلاً عظيماً، فاعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرى ما خلفه فأشرف منه على البحر الأسود الزفتي النتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كاللأنهار الرقاق، فأتته من ذلك البحرروائح منتنة، هلك بها كثير من أصحابه فأسرع بالنزول بعد ان كاد يهلك.
وذكر قوم أنه لم ير هناك شمساً ولا قمراً الا نوراً أحمر كنور الشمس عند غروبها وقالوا إنه أقام في غيبته مدة عشرين سنة.
وان عونا علامة تجبر بمصر بعد سبع سنين من مسيره، وادعى انه الملك، وادعى انه لم يكن عبد الوليد، وانه أخوه وله الملك من بعده وريب على الناس، واستعان بالسحرة عليهم وأسنى جوائز السحرة والكهنة، ولم يمنعهم محابهم، فمال إليه الناس ووثقوا بأمره ولم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالاً إلا أخذه وقتل صاحبه.
وكان مع ذلك يكرم الهياكل والكهنة، فكان الناس يمسكون عنه اشفاقاً منهم من السحرة الذين أطافوا به الى ان رأى في منامه الوليد، وكان يقول له من أمرك أن تتسمى باسم الملك، وقد علمت انه من فعل استحق القتل، ونكحت إلى ذلك بنات الملوك، وأخذت الأموال بغير واجب، وكأنه أمر بقدور فملئت زفتاً ثم غليت على النار وأحميت، وكأنه يغمسه فيها فلما غليت أمر بنزع ثيابه، فأتى طائر في صورة عقاب فاختطفه من ايديهم وعلق به في الجو، فجعله في هوة على رأس جبل، وكأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حمأة منتنة.
فانتبه مذعورا طائر القلب، وكان في طول فعله ذلك في تملكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة يكاد عقله أن يزول فرقاً منه، لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوته.
وكاد مرة يوقن بهلاكه لطول غيبته وانقطاع خبره، وكان مرة يخاف أنه حي. فلما رأى الرؤيا لم يشك في حياة الوليد، فاضمر في نفسه الهرب من مصر في الأموال، فأطلع بعض السحرة ممن كان يثق به على أموره.
وقال له إني خائف من الوليد وقد عزمت على الهرب من مصر، فما عندكم، قالوا له نحن نحميك على أن تقبل منا، قال قولوا، قالوا له نعمل عقاباً وتعبده، فان الذي خلصك منه في نومك هو بعض الروحانيين، وهو يريد منك أن تعمل صورته فتعبده.
قال عون أشهد لقد قال لي وأنا أسمع: اعرف لي هذا المقام ولا تنسه قالوا لقد بينا نحن لك ذلك.
فسمع منهم وعمل عقاباً من ذهب، وجعل عينيه من جوهرتين موشحتين بأصناف العمل الغريب.
وعمل له هيكلاً لطيفاً وجعله في صدره، وأرخى عليه ستور الحرير، فأقبل عليه السحرة على خدمته بالبخور والقربان، الى أن نطق لهم، فأقام عون على عادته ودعى الناس الى ذلك فأجابوه، فلما مضت لذلك مدة أمر العقاب ببناء مدينة يحوله اليها فتكون حرزاً له ومعقلاً من كل أحد، فأمرعون كل فاعل بمصر أن يجتمعوا له، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا اليه ارضا حسنة الاستواء، ويكون المدخل فيها بين فجوج صعبة وجبال وعرو، ويتوخى ان تكون تلك الأرض قريبة من مغاص المياه، فكان مغيض الماء هو اليوم الفيوم وكان مغيضا ً لمياه النيل، حتى أصلحه يوسف عليه السلام، وأنما أراد عون قرب مكان المدينة من مغيض المياه ليجري اليها الماء منها، فخرج أصحابه يطوفون في الأرض، فأقاموا في ذلك شهراً حتى وجدوا له بغيته، فلم يبق بمصر فاعل ولا مهندس ممن كان يفتت الصخور ويقطعها ويعمل شيئاً مما يصلح للبنيان إلا وجهه، وأنفذ معهم ألف فارس في طاعتهم، وانفذ معهم جميع الآلات، وأقام في توجيه الزاد اليهم شهرا على العجل، وطرق العجل اليوم ظاهرة واضحة في صحراء الغرب من خلف الأهرام، وهي التي يقصدها أصحاب المطالب وهي بنية مشهورة.
فلما تكامل لهم ما يريدونه من قطع الحجارة ونحتها أعدوا من العدد، وخطوا موضع المدينة وجعلوه فرسخين في مثلهما، وحفروا في وسطها بئراً، وجعلوا في تلك البئر تمثالاً من نحاس صورة خنزير ونحاسة بأخلاط وجعلوا وجهه إلى الشرق.
وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له وهو في شرفه.
واخذوا خنزيراً فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره، وأخذوا شيئاً من شعره عظامه ولحمه ودمه ومرارته، فجعلوا ذلك في جوف خنزير من النحاس ونقشوا عليه آيات زحل.
ثم شقوا في البئر أخدوداً من أربعة أوجه المدينة، وجعلوا فيها شوارع يتصل كل شارع فيها بباب من أبواب المدينة، ووصلوا ما بينها بالمنازل الحسنة والطرقات، وجعلوا حول القبة تماثيل من نحاس بأيديهم حراب، ووجوهها مقابلة لتلك الأبواب.
وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود، وفوقه حجر أحمر، وفوقه حجر اخضر، وفوقه حجر أصفر، وفوق الكل ابيض شفاف، مثقبة كلها بالرصاص المصبوب بينها، وفي قلوبهاأعمدة الحديد على صفة بناء الأهرام.
وجعل طول حصنها ستين ذراعاً ونصف ذراع، وعلى كل باب من أبوابها على أعلى الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط، أجوف ناشر الجناحين، وعلى كل من أركان المدينة صورة فارس بيده حربة ووجهه إلى خارج المدينة، وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقي ينحدر في صبيب الى الباب البحري، ويخرج إلى بطائح هناك، وكذلك من الباب الجنوبي الى الشمالي.
وقرب لتلك العقبان عقبانا ذكرا ولطخها بدمها، واجتلب الرياح الى أبواب التماثيل فكانت الرياح إذا دخلتها يسمع لها أصوات شديدة، لايسمعها أحد إلا هالته، وضمدها بعقارب مطلسمة تمنع الناس من دخولهاإلا أن يكون مع الغريب الداخل إليها أحد من أهلها، ونصب العقاب الذي يتعبد له تحت القبة التي في وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان في كل ركن منها شيطان مشوه، وجعلها على عمود زبرجد، فكان العقاب يدور على كل جهة من الجهات الأربع ويقيم كذلك ربع السنة يقرب اليه من جهته.
فلما فرغ من ذلك كله حمل إليها جميع الأموال والجواهر المخزونة بمصر، وما وجد في خزائن الملوك من التماثيل والحكم، وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك.
وحول اليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والمهن، وقسم المساكن التي بناها بينهم، لا يختلط بعضهم ببعض، وبنى حول سورها ربضا يحيط بها، وبنى فيه مساكن لأصحاب مهن الحرث والزرع وغير ذلك، وما يتعلق بالعمارة.
وعقدعلى ما أجراه من الأنهار قناطر يجوز عليها الخارج من المدينة والداخل اليها، وجعل الماء يدور حول الربض، ونصب عليه أعلاماً ثم غرس ما وراء ذلك كله بأجناس الأشجار وغرائبها، فأقام بها من الجنات كل غريبة حسنة كثيرة الفوائد، ثم جعل ما وراء ذلك مزارع لكل نوع من الحبوب، فاستغل بذلك كله أعظم الغلات.
وكان يرتفع اليه منها في السنة ما يكفيه عشر سنين، وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام فكان يخرج اليها فيقيم بها عشرة أيام، ثم يعود إلى منف.
وكان لتلك المدينة أربعة أعياد في السنة في كل وقت يتحول فيه العقاب إلى الجهات الأربع، فلما تم لعون ذلك اطمأن قلبه وسكنت نفسه. الى ان وافاه كتاب الوليد من ناحية النوبة، يأمره أن ينفذ اليه الأزودة، وينصب له الأسواق، فوجه عون ذلك كله من أحسن شيء وأتمه في المراكب وعلى الظهر.وحول جميع عياله ومن اصطفاه من بنات الملوك من مصر وكبرائها إلى المدينة المبنية، فلما قرب دخول الوليد مصر تحول هو الى مدينته فتحصن بها وخلف للوليد خليفة يكون بين يديه.
فدخل الوليد مصر فتلقاه الناس، وشكوا إليه عونا، وماحل بهم منه، فقال: وأين عون، قالوا: فر عنك وتحصن دونك.
فاغتاظ وأمر ان ينفذ إليه جيش كثيف، فعرفوه كيف بنى مدينته وأمكن فيها معه من السحرة، وأن امره صعب فما يكون إلا بعد نظر شاف واستعداد كاف، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، ويحذره التخلف عنه، ويقسم عليه إن لم يفعل وظفر به يبضع لحمه بعد المبالغة في عذابه.
فرد عليه عون جوابا يقول فيه: ما على الملك مني في هذا الموضع، ولا أتعرض لبلده، ولاأعبث في شيء منه لأني عبده، وأنا في هذه الجهة حام له من كل عدو يقصده من ناحية من نواحي الغرب، ولا أقدر على المسير اليه لخوفي منه على نفسي، فليقرني الملك على حالي كأحد عماله، وأوجه اليه في كل وقت ما يلزمني من خراجه ومن هداياه، ووجه مع الجواب مع أموالا جزيلة جليلة وجوهرا نفيساً، فلما رأى الملك ذلك قنع به، وكف عنه.
فأقام الوليد بمصر فاستعبد أهلها واستباح حريمهم واموالهم مائة سنة وعشرين سنة، فأبغضوه وشتموه.
وأنه ركب في بعض الايام متصيداً، فألقاه فرسه في هوة من الأرض فقتله، وأراح الله الناس منه.
وكان ابنه الريان ينكر فعله ولا يرضاه منه فلما هلك عمل له ناووساً قرب الاهرام، وقيل انه دفن في أحد الأهرام.
ثم ملك بعده ابنه الريان الملك، وهو فرعون يوسف عليه السلام،
والقبط تسميه نهراوس، فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه، عاقلا متمكنا من العلم، فدخل عليه الناس وهنأوه ودعوا له، فتكلم بجميل، ومنى الناس ووعدهم بالاحسان، وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فدعوا له وأثنوا عليه وشكروه.
فأمر بفتح الخزائن وفرق ما فيها على الخاص والعام ممن حضر مجلسه، فخرجو عنه شاكرين له محبين فيه، فملك وأحسن.وتمكنت منه أريحية الصبا، فملك على البلد رجلاً من أهل بيته يقال له المعين وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز، وكان من أولاد الوزراء عاقلا متمكنا من عقله حصيف الرأي، كثير نزاهة النفس، مستعملاً للعدل والصلاح، وأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه.وكان يغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج العمال وجميع الوزراء والكتاب بين يديه عند مسيره وعند رجوعه.فقام بالملك، وكفى الملك مهمه، وأصلح جميع الأمور، ووطأ البلاد وأمن الناس وأقام سوق العدل.
والملك نهراوس منغمس في لذاته، معتكف على لهوه، لا ينظر في عمل ولا يفكر في أمر ولا يخاطبه أحد، فأقاموا لذلك حيناً من الدهر، والبلد عامر، والخراج مدر.
يقال إنه بلغ في وقته تسعة وتسعون الف ألف مثقال فجعلها أقساماً فما كان له ولنسائه ولمائدته حمل اليه، وما كان في أرزاق الجيوش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصانع البلد وإصلاح العقار والحرث والغرس وأصحاب المهن حمل اليهم، وما فضل عن ذلك كله حمل الى خزائن الملك في قصره.
ونهراوس مع ذلك غير ناظر في شئ من ذلك ولا سائل عنه، وقد عملت له عدة متنزهات على عدة أيام السنة، فكان في كل يوم في موضع منها، فاذا كان من الغد انتقل الى موضع آخر في كل يوم في موضع من الفرش والآنية ما ليس في غيره.
فلما اتصل ذلك بملوك النواحي طمعوا فيه واستضعفوه، فقصده رجل من العمالقة يقال له عابد بن سجوم، ويكنى بأبي قابوس، فسار قاصداً الى مصر حتى نزل على حد من حدودها.
فأنفذ اليه العزيز جيشاً وجعل عليه قائداً يقال له دوناس، فقتله ذلك الملك وهزم عسكره، ودخل حدود مصر فهدم أعلاماً ومصانع كثيرة، واشتد طمعه في مصر وجهاتها.
واتصل خبره بأهل مصر فاعظموا ذلك وأكبروه واجتمعوا إلى العزير فأمرهم أن يسيروا الى قصر الملك، فأتوا الى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون، فسمعهم نهراوس، فسأل عن حالهم، فأخبر خبر العمالقي وأنه قد دخل حدود مصر وعاث فيها، وأفسد مزارعها وغير مصانعها، وهدم أعلامها وأنه مقبل بجيوشه يريد قصر الملك، فارتاع لذلك وأنف منه، وانتبه من غفلته.
وتذكر القبط أنه سمع نياح الجن على أبيه، فارتاع لذلك فعرض جيشه وأصلح أمره، وخرج إلى العمالقي واتبعه الى حدود الشام وقتل أكثر اصحابه، وأفسد الزرع وقطع الأشجار، وأحرق الديار وصلب من أسره من الجيوش ونصب أعلاماً على الموضع الذي بلغه أي لمن جاوز هذا المكان.
وقيل إنه بلغ الموصل، وضرب على أهل الشام خراجاً وبنى عند العريش مدينة عظيمة وشحنها بالرجال وملأ تلك النواحي بالجنود، وانصرف إلى مصر فلما فعل ذلك هابته الملوك، وفزعوا منه وأعظموه وهادوه وصالحوه.
ولما استقر بمصر حشد جنوده من جميع الأعمال، واستعد لغزو ملوك الغرب، فخرج في تسعمائة ألف مقاتل واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحى عن طريقه، ومنهم من دخل في طاعته، ومنهم من بذل الأموال والذخائر وصالح بلده، ومنهم من قهره واستباحه.
ومر بأرض البربر فأخذ كثيراً منها، ووجه قائداً يقال له مريطس، فركب في سفن كثيرة وأخذ سواحل البحر فقتل بعض البربر، ودخل أرضهم وصالحه بعضهم، وحملوا اليه الأموال.
ومضى الملك إلى إفريقية وقرطاجنة، فصالحوه على ألطاف وأموال كثيرة حملوها اليه.
ومر حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم، وعمل هناك صنماً من نحاس وهو الموضع الذي فيه الأصنام القديمة، وأقام تحته علماً عظيماً زبر عليه اسمه وتاريخ الوقت، وصفة الأمر الذي خرج اليه، وضرب على أهل تلك النواحي خراجاً.
وعبر إلى الأرض الكبيرة وسار إلى الافرنجة وسار إلى الأندلس، وصاحبها عند ذلك اللاذريق، فحاربه أياماً، وقتل من اصحابه خلقاً كثيراً.
وصالحوه بعد ذلك على ذهب كثير في كل سنة يحمل اليه، وعلى ان لا يغزو أحداً في البحر ولا في البر شيئاً من حدوده، من جميع من في تلك النواحي، وعلى أن يمنع من رام شيئاً منهم من ذلك ويغالبهم عنه.
وانصرف راجعاً عنه، فسار على عبر البحر مشرقاً على بلاد البربر، فلم يمر بموضع إلا خرج اليه أهله وأهدوه ودخلوا في طاعته، ومشوا بين يديه وأخذ إلى ناحية الجنوب فمر بناحية الكوفاس وهي أمة عظيمة فحاربوه فقتل منهم خلقاً كثيراً.
وبعث قائداً له إلى مدينة على ساحل البحر المظلم، فخرج اليه ملك المدينة وأهلها يسألونه ما هو وما قصده، فعرفهم القائد بحال الملك الريان وإذعان الملوك له ومصالحتهم إياه. فقالوا له أما نحن فما بلغنا أحد قط ولا رأيناه ولا ضرنا أحد ولا ضاررناه.وأخرجوا اليه مالا وجوهراً وصالحوه على مدينتهم. فقبل ذلك منهم وسألهم هل ركب هذا البحر أحد قط ، فقالوا جميعهم إنه ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياماً.
ثم أتاهم الملك الريان فتلقوه بهدايا وفاكهة أكثرها التوت وحجارة سود فاذا جعلت في الماء صارت بيضاء.
وسار على أمم السودان حتى بلغ إلى مملكة الزموم الذين يأكلون الناس، فخرجوا اليه عراة بأيديهم حراب الحديد، وخرج ملكهم على دابة عظيمة الخلق لها قرون، وكان جسيماً أحمر العينين فصبر للحرب صبراً عظيماً ثم ظفر به الريان، فانهزموا في أوحال وأدغال وغيران وجبال وعرة فلم يتهيأ له أتباعهم فيها فجاوزهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة خفاف يلتفون بها من غير ريش ومر على البحر المظلم، فلما أمعن في السير فيه غشيهم منه غمام فرجع متيامنا، حتى انتهى إلى جبل نبارس، فرأى فوقه، تمثالاً من حجر أحمر يوميء بيده، أن ارجعوا وعلى صدره مزبوراً " ما ورائي احد " وانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل اليها، ثم مضى في الوادي المظلم، فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون شيئاً منه لشدة ظلمته.
ثم سار حتى انتهى إلى وادي الرمل فرأى على عين أصناماً عليها اسماء الملوك قبله، فأقام صنماً وزبر عليه اسمه، فلما عدا وادي الرمل جاز إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود المظلم، فسمع جلبة وصياحاً هائلاً، فخرج في شجعان من أصحابه يتبعون ذلك الصياح حتى أشرف على سباع عظيمة غريبة الخلق مخزمة الأنوف وبعضها يغير على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع وعدى وادي الرمل، فمر بأرض العقارب فأهلكت بعض أصحابه فرجعوها عن أنفسهم بالنار وبالرقا والعزائم التي كانوا قد عرفوها حتى جاوزها.
وسار حتى انتهى إلى أرض سلوقة، وكانت بها حية تخرج عن الحد والمقدار، فرأوها ممتدة فظنوها ميتة، فهمموا عليها فوجدوهاحية فرجعوا عنها هاربين وتعوذوا منها بالرقا.
وتزعم القبط أنه سحرها، ومنعها من الحركة، وتركها على حالها، فلم تتحرك حتى هلكت ويقال إن طول هذه الحية ميل وإنها كانت تبتلع الفيلة. وسار إلى مدينة الكند وهي مدينة الحكماء، فهربوا إلى جبل وعر كان لهم صعدوا اليه من داخل مدينتهم من مواضع لا يقدر هو ولا أصحابه على الصعود فيها، فأقام على تلك الطريق يحرسها حتى عدم الماء ولم يجد منه شيئاً وضاع أصحابه، وكادوا أن يهلكوا عطشاً.
فنزل اليه رجل منهم يقال له ميدوش وكان من افضل الحكماء وقد غطى شعره جسده فقال له أيها الملك المغرور أين تريد، وقد مد لك في الأجل، ورزقت فوق الكفاية. ففيم تتعب نفسك وجيشك، هلا قنعت بما تملكه، واتكلت على خالقك الذي وهبك الغنى، وأعانك بهذا الخلق! فعجت نهراوس من قوله وسأله عن الماء فدله عليه. وسأله عن موضعهم إذ لم يكن أصاب في جيشهم أثراً لسكناهم.قال نحن في موضع لا يصل اليه أحد.
قال فما معاشكم، قال من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع فيقيتنا ويكفينا اليسيرمنه. قال فمن أين تشربون? قال من غدران لنا في الأرض يجتمع اليها الماء من الأمطاروالثلوج.
قال فلم هربتم عنا، قال رغبة عن جواركم، وزهادة في خلطتكم وكراهة لقربكم، وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه.
قال فأين تكونون إذا حميت الشمس، قال في غيران لنا تحت هذا الجبل. قال فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم، قال إنما يحتاج إلى هذا المال أهل البذخ. ونحن لا نستعمل شيئاً منه فاستغنينا عنه بما قد اكتفينا به. ومع ذلك فإنا قد رزقنا منه ما لو رأيته لحقرت ما عندك قال فأرنيه، قال فسر معي، قال فانطلق الملك ونفر من أصحابه معه إلى أرض في سفح جبل يتصل بهم فرأوا فيه قضبان الذهب نابتاً، وأروه وادياً لهم على حافتيه حجارة الزبرجد والفيروزج.
فأمر نهراوس أصحابه أن يتخيروا من جياد تلك الحجارة، ويحملوا منها ما يقدروا عليه ففعلوا، ورجع بهم إلى مصر فرأوا قوما من أهل العسكر يحملون صنما لهم ويعظمون امره، فجزع من ذلك، وسأل الرجل ٍ الملك أن يقيم بأرضهم، ونهاه عن عبادة الأصنام وخوفهم منها.
فسأله نهراوس أن يدله على الطريق، ففعل وودعه وسار على السمت الذي وصفه له، فلم يمر على أمة إلا أثر فيها أثراً إلى أن بلغ الى ارض النوبة، فصالح أهله على ما يحملونه اليه ثم أتى إلى دنقلة فأقام بها علما وزبر اسمه عليه ومسيره وجميع ما عمله في سفرته تلك.
ثم سار منها يريد منف فلم يبق احد إلا خرج إليه مع العزيز، وتلقوه بأصناف الطيب والرياحين والبخورات والملاهي وغرائب الالعاب. وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الغريب الابيض الصنعة الملون، وجعل فيه صهريجاً من زجاج سماوي، وجعل في ارضه سمكا من الزجاج الغريب.
فلما دخل منف أنزله العزيز في ذلك المجلس، وأقام الناس أياماً في لهو وسرور يأكلون ويشربون. وأمر بعرض جيشه ففقد سبعين ألفاً، وقد كانوا خرجوا في ألف ألف، وكانت غيبته أحد عشر عاماً.
ولما سمع الملوك بذكر ما عمل في سفره، وما غلب من الأمم، وما فتح من البلاد، وقتل وأسر من الخلق هابوه وخافوه، لشدة بأسه وعظيم سلطانه.
وتجبر نهراوس فبنى في الجانب الغربي قصورا من رخام، ونصب عليهاأعلاما فكان يغشاها أبداً، ويقيم فيها اياما كثيرة، وكان الخراج في وقته تسعة وتسعين ألف ألف، فامر بالزيادة في طلب العمارات، وطلب وجوه الزيادة فيها من احسن الطرقات لامن رديئها.
وأمر باصلاح الجسور في الجهات، والتحمل في أن يزيد الماء في انبساطه في الأرض، ففعل ذلك كله حتى وافى الخراج مراده وزاد عليه.