بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
أحوال البلاد وأخبار العباد
الأحداث سنة ثلاثين وسنة إحدى وثلاثين
● [ ثم دخلت سنة ثلاثين ] ●
ذكر عزل الوليد عن الكوفة وولاية سعيد
في هذه السنة عزل عثمان رضى الله عنه الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص، وقد تقدم سبب ولاية الوليد على الكوفة في السنة الثانية من خلافة عثمان وأنه كان محبوباً إلى الناس، فبقي كذلك خمس سنين وليس لداره باب، ثم إن شباباً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه، فنذر بهم وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي، وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد، فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا وقتلوا ابن الحيسمان، وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي وغيرهم، فشهد عليهم أبو شريح وابنه، فكتب فيهم الوليد إلى عثمان، فكتب عثمان بقتلهم، فقتلهم على باب القصر، ولهذا السبب أخذ في القسامة بقول ولي المقتول عن ملإٍ من الناس ليفطم الناس عن القتل وكان أبو زبيد الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب، وكانوا أخواله، فظلموه ديناً له، فاخذ له الوليد حقه إذ كان عاملاً عليهم، فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد وحسن إسلامه، فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب وأبا مورع وجندباً، وكانوا يحفرون للوليد منذ قتل أبناءهم ويضعون له العيون، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة فاقتحموا عليه فلم يروا، فأقبلوا يتلاومون وسبهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان.
وجاء جندبٌ ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد يعتكف على الخمر، وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: من استتر عنا لم نتبع عورته. فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا. ثم أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار ويخرج من فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندبٌ فضرب الساحر فقتله، فحبسه الوليد وكتب إلى عثمان فيه، وأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين. فلما رجعوا أتاهم كل موتور فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مورع وغيرهما على الوليد فتحدثوا عنده، فنام فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة، واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك، فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا. فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما، فلم يوجدا.
فقدما على عثمان ومعهما غيرهما وأخبراه أنه شرب الخمر، فأرسل إلى الوليد، فقدم المدينة، ودعا بهما عثمان فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما، فكان على الوليد خميصة فأمر علي بن أبي طالب بنزعها لما جلد.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن الذي جلده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فأمر عبد الله بن جعفر فجلده أربعين. فقال علي: أمسك، جلد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أربعين وجلد عثمان ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي.
وقيل: إن الوليد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده، وقال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم: ... أأزيدكم سكراً وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك ولم تزل تجري
فلما علم عثمان من الوليد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص بن أمية، وكان سعيد قد ربي في حجر عمر فلما فتح الشام قدمه، فأقام مع معاوية، فذكر عمر يوماً قريشاً، فسأل عنه، فأخبر أنه بالشام، فاستقدمه، فقدم عليه، فقال له: قد بلغني عنك بلاء وصلاح فازدد يزدك الله خيراً. وقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا. وجاء عمر بنات سفيان بن عويف ومعهن أمهن، فقالت أمهن: هلك رجالنا وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهن في أكفائهن. فزوج سعيداً إحداهن، وزوج عبد الرحمن بن عوف أخرى والوليد بن عقبة الثالثة. وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له: قد هلك رجالنا وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا؛ فزوج سعيداً إحداهن، وجبير بن مطعم الأخرى. وكان عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة، فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش. فلما استعمله عثمان سار حتى أتى الكوفة أميراً ورجع معه الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله وجثامة بن صعب بن جثامة، وكانوا ممن شخص مع الوليد يعينونه فصاروا عليه، فقال بعض شعراء الكوفة:
فررت من الوليد إلى سعيدٍ ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
يلينا من قريشٍ كل عامٍ ... أميرٌ محدثٌ أو مستشار
لنا نارٌ نخوفها فنخشى ... وليس لهم، فلا يخشون، نار
فلما وصل سعيدٌ الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكارهٌ، ولكني لم أجد بداً إذا أمرت أن أتمر، ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.
ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعرابٌ لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها.
فكتب إليه عثمان: أما بعد ففضل أهل السابقة والقدمة ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعاً لهم إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍ منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.
فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسية فقال: أنتم وجوه الناس، والوجه ينبىء عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة. وأدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف. وجعل القراء في سمره، فكأنما كانت الكومة يبساً شملته نار فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم ففشت القالة في أهل الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه. فقالوا له: أصبت، لا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دبت إليكم الفتن، وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم حتى يأتي من شهد من أهل العراق الفتوح سهمه فيقيم معه في بلاده. فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟ فقال: يبيعها من شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد. ففرحوا وفتح الله لهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجاز لهم عن تراضٍ منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق.
● [ ذكر غزو سعيد بن العاص طبرستان ] ●
في هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان، فإنها لم يغزها أحد إلى هذه السنة. وقد تقدم في أيام عمر الخلاف في ذلك، وأن اصبهبذها صالح سويد ابن مقرن أيام عمر على مال بذله. وأما على هذا القول فإن سعيداً غزاها من الكوفة سنة ثلاثين ومعه الحسن والحسين وابن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان وابن الزبير وناس من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وخرج ابن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً ونزل نيسابور، ونزل سعيد قومس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان، على البحر، فقاتله أهلها، فصلى صلاة الخوف، أعلمه حذيفة كيفيتها، وهم يقتتلون. وضرب سعيد يومئذ رجلاً بالسيف على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم، فسألوا الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلوا جميعاً إلا رجلاً واحداً؛ وحوى ما في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطاً عليه قفل، فظن أن فيه جوهراً، وبلغ سعيداً فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط، فكسروا قفله فوجدوا فيه سفطاً، ففتحوه فوجدوا خرقة سوداء مدرجة فنشروها فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء وفيها أيران كميت وورد. فقال شاعر يهجو بني نهد:
آب الكرام بالسبايا غنيمة ... وآب بنو نهدٍ بأيرين في سفط
كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما ... فظنوهما غنماً فناهيك من غلط
وفتح سيعدٌ نامية، وليست بمدينة، هي صحارى.
ومات مع سعيد محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمر. ثم رجع سعيد، فمدحه كعب بن جعيل فقال:
فنعم الفتى إذ حال جيلان دونه ... وإذ هبطوا من دستبى ثم أبهرا
في أبيات. ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحياناً مائة ألف، وأحياناً مائتي ألف، وأحياناً ثلثمائة ألف، ويقولون: هذا صلح صلحنا، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا، فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد منهم. كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان إلى خراسان، وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح صولا، وفتح البحيرة ودهستان، وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.
● [ ذكر غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف ] ●
وفيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، وكانوا يجعلون الناس ردءاً، فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا. فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمراً، لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لباب القلوب. فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكثير من التابعين. وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه، وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطإ. وقال حذيفة: والله لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك. فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام وتفرق الناس، وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فاخبره بالذي رأى، وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. فجمع عثمان الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعاً ما رأى حذيفة.
فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت فجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها.
فأرسل عثمان إليها أخذها منها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردها عثمان إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سوى ذلك. فكل الناس عرف فضل هذا الفعل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن أصحاب عبد الله ومن وافقهم امتنعوا من ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم والله قد سبقتم سبقاً بيناً فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم عليٌّ الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح به وقال: اسكت فعن ملإٍ منا فعل ذلك، فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله.
●[ ذكر سقوط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ]●
في بئر أريس
في بئر أريس
وفيها وقع خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، من يد عثمان رضى الله عنه في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اتخذه لما أراد أن يكاتب الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمل له خاتم من حديد، فلما عمل جعله في إصبعه، فأتاه جبرائيل فنهاه عنه، فنبذه، وأمر فعمل له خاتم من نحاس وجعله في إصبعه. فقال له جبرائيل، انبذه، فنبذه، وأمررسول الله، صلى الله عليه وسلم بخاتم من فضةٍ فصنع له فجعله في إصبعه، فأمره جبرائيل أن يقره، فأقره. وكان نقشه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر؛ فتختم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى توفي، ثم تختم به أبو بكر حتى توفي، ثم عمر حتى توفي، ثم تختم به عثمان ست سنين. فحفروا بئراً بالمدينة شرباً للمسلمين، فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم ويديره باصبعه فسقط من يده في البئر، فطلبوه فيها ونزحوا مافيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به، واغتم لذلك غماً شديداً. فلما يئس منه صنع خاتماً آخر على مثاله ونقشه فبقي في إصبعه حتى هلك، فلما قتل ذهب الخاتم فلم يدر من أخذه.
● [ ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة ] ●
وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة، من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير واء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصح النقل به، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه، كرهت ذكرها.
وأما العاذرون فإنهم قالوا: لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول: المال مال الله! ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون الناس ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله؟ قال: فلا تقله. قال: سأقول مال المسلمين. وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك. فقال: أظنك والله يهودياً! فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به عبادة وأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن: (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم) التوبة: . فكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم. فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها. فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك. ففعل ذلك. فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا، للذي يقوله الفقراء. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب فلا تنكإ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلاً وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. وبعث إليه بأبي ذر.
فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد. فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا القرابات. فقال كعب الأحبار، وكان حاضراً: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذر فشجه، وقال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما ههنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته، فوهبه. فقال أبو ذر لعثمان: تأذن لي في الخروج من المدينة؛ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً. فأذن له، فنزل الربذة وبنى بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء، وكذلك على رافع بن خديج، وكان قد خرج أيضاً عن المدينة لشيء سمعه.
وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابياً، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب مثقلٌ يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا. ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدم يا أبا ذر. فقال: لا، تقدم أنت، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي: اسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع، فأنت عبد ولست بأجدع؛ وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع.
● [ ذكر عدة حوادث ] ●
في هذه السنة زاد عثمان النادء الثالث يوم الجمعة على الزوراء. وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر.
حاطب بالحاء المهملة. وبلتعة بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة.
وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدرياً. وفيها مات مسعود ابن الربيع، وقيل: ابن ربيعة بن عمرو القاري، من القارة، أسلم قبل دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وشهد بدراً، وكان عمره قد جاوز الستين. وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري، شهد بدراً، وكان على غنائم النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها وفي غيرها. وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدرياً؛ وجبار بن صخر، وهو بدري أيضاً.
جبار بالجيم وآخره راء.
● ● [ ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ] ● ●
ذكر غزوة الصواري
ذكر غزوة الصواري