من طرف كراكيب الأحد 25 أبريل 2021 - 6:18
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة العقيدة
جامع الرسائل فى العقيدة
أهل الصُفة وأباطيل بعض الصوفية المتصوفة فيهم
وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم
● [ القسم الثالث من المسألة ] ●
وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء.
● [ أجاب ] ●
وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين والنجباء الثلاثمائة فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله ولا هي أيضاً مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجل " ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب، ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشايخ المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشايخ وقد قالها إما أثراً لها عن غيره أو ذكراً. وهذا الجنس ونحوه من العلم الذي قد التبس على أكثر المتأخرين حقه بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله ومن الباطل ما يوجب رده، وصار كثير من الناس فيه على طرفي نقيض قوم كذبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل، وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ركوب هذه الأمة سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يعتبر الدين بالتبديل تارة وبالنسخ أخرى.
وهذا الدين لا ينسخ أبداً لكن يكون فيه من يدخل فيه من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفاً عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون فبالكتب المنزلة من السماء والآثار من العلوم المأثورة عن الأنبياء يميز الله الحق من الباطل ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقاً في كل زمان بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين يقلون تارة ويكثرون أخرى ويقل فيهم السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى وينتقلون في الأمكنة، ليس من شرط أولياء أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وقد بعث الله ورسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن يكون منهم من كان في الكفار، ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة، ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين أبي بكر وعثمان وعمر وعلي وإن كان علي قد خرج منها بعد أن بويع له فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم. ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين من لا يحصي عدده إلا رب العالمين لا يحصون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان أيضاً في القرون الخالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين من جعل لهم عدداً محصوراً لازماً فهو من المتظلمين عمداً أو خطأ.
وأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله تعالى فهو غياث المستغيثين لا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره لا بملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم، ونزول الرحمة بهم، إلى الثلاثمائة والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعين إلى الأربعين والأربعين إلى السبعة والسبعة إلى الأربعة والأربعة إلى الغوث فهو كاذب ضال مشرك فقد كان المشركون كما أخبر الله عنهم بقوله: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) وقال: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعدة وسائط من الحجاب وهو القائل تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)، وقال الخليل عليه السلام داعياً لأهل مكة: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إليك إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق أن ربي لسميع الدعاء).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه لما رفعوا أصواتهم بالتلبية: " أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً وإنما تدعون سميعاً قريباً إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحته ".
وهذا باب واسع وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم ولا ظاهراً ولا باطناً بهذه الوسائط والحجاب فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علواً كبيراً. وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به ثم مع هذا يقولون أنه كان صبياً دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك له حس ولا خبر.
وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم معناها للرافضة من بعض الوجوه بل هذا الترتيب والاعتداد يشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان، وأما الأوتاد فقد يوجد في كلام بعضهم أنه يقول فلان من الأوتاد ومعنى ذلك أن الله يثبت به من الدين والإيمان في قلوب من يهديهم الله به كما يثبت الأرض بأوتادها وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة، ومن كان دونه كان بحسبه وليس ذلك محصوراً في أربعة ولا أقل ولا أكثر بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة لقول المنجمين في أوتاد الأرض.
[ فصل ]
وأما القطب فيوجد في كلامهم أيضاً: فلان من الأقطاب وفلان قطب، فكل من دار عليه أمر من أمور الدين والدنيا باطناً أو ظاهراً فهو قطب ذلك الأمر ومداره سواء كان الدائر عليه أمر داره أو قرية أو مدينة أمر دينها أو دنياها باطناً أو ظاهراً، ولا اختصاص لهذا معنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر لكن الممدوح من ذلك من كان مداراً لصلاح الدين دون مجرد صلاح الدنيا وهذا هو القطب في عرفهم، وقد يتفق في عصر آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هو أفضل الخلق عند الله مطلقاً. وكذلك لفظ البدل جاء في كلام كثير منهم فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر ثم في خلافة علي قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق " فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام ومعلوم أن الذين كانوا مع علي من الصحابة مثل عمار وسهل بن حنيف ونحوهما كانوا أفضل من الذين مع معاوية وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام، هذا باطل قطعاً، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شيء قدراً. والكلام يجب أن يكون بالعلم وبالقسط فمن تكلم في الدين بغير علم دخل في قوله: (ولا تقف ما ليس لك به علم) وفي قوله: (وإن تقولوا على الله ما لا تعلمون) ومن لم يتكلم بقسط وعدل خرج من قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) ومن قوله: (وإذا قلتم فاعدلوا) ومن قوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
والذين تكلموا باسم البدل أفردوه بمعان منها أنهم أبدال، ومنها أنهم كلما مات منهم رجل أبدل الله مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بالحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا أكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحريز يظهر المعنى باسم النجباء، فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف مثل تفسير بعضهم بأن الغوث هو الذي يغيث الله به أهل الأرض من رزقهم ونصرهم، فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب وهو معدوم العين والأثر، وتشبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة، وكذلك من فسر الأربعين الأبدال بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل بل النصر والرزق يحصل بأسباب من أوكدها دعاء المسلمين المؤمنين وصلاتهم وأخلاصهم ولا يتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا أكثر كما في الحديث المعروف أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيسهم له مثل ما يسهم لضعفتهم، فقال: " يا سعد وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم " وقد يكون للنصر والرزق أسباب أخر فإن الكفار أيضاً والفجار ينصرون ويرزقون، وقد يجدب الله الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم، لينيبوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب، وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل السماء عليهم مدراراً ويمدهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إما ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر وإما ليضعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس كل إنعام كرامة ولا كل امتحان عقوبة قال الله تعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا).
[ فصل ]
وليس في أولياء الله المتقين بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من كان غائب الجسد دائماً عن أبصار الناس بل هذا من جنس قول القائل بأن علياً في السحاب وأن محمداً بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في سرداب سامراء، وإن الحاكم في جبل مصر، وأن الأبدال رجال الغيب في جبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان نعم قد تخرق العادة في حق الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو وإما لغير ذلك. وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل، نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيباً عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيباً عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع، وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا يعلمون.
[ فصل ]
وقد بينا عن بطلان اسم الغوث مطلقاً واندرج في ذلك غوث العرب والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما وكل منهم يدعي إنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه إلى غير ذلك من الكفر والبهتان وكل طمعاً في رياسة خاتم الأنبياء.
وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للإدلالة الدالة على ذلك، وليس كذلك للأولياء فإن أفضل هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما.
جامع الرسائل فى العقيدة
تأليف : ابن تيمية
منتدى ميراث الرسول ـ البوابة