من طرف كراكيب الأحد 25 أبريل 2021 - 6:14
بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم
مكتبة العقيدة
جامع الرسائل فى العقيدة
أهل الصُفة وأباطيل بعض الصوفية المتصوفة فيهم
وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم
● [ القسم الأول من المسألة ] ●
بسم الله الرحمن الرحيم
● [ مسألة ] ●
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في أهل الصفة كم كانوا، وهل كانوا بمكة أو بالمدينة، وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به، وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة أو كان منهم من يقعد بالصفة ومنهم من يتسبب في القوت، وما كان تسببهم هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل،
وما قول العلماء وفُّقهم الله تعالى فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين، وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن الستة الباقين من العشرة وأفضل من جميع الصحابة، وهل كان فيهم أحد من العشرة، وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة، وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حاد ينشد لهم أشعاراً ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون،
● [ أجاب ] ●
الحمد لله رب العالمين:
أما الصفة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومنعة جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة وكان المؤمنون السابقون بها صنفين المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم وكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا. وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ألا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم) فهذا في السابقين. ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم)، وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) الآية. وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها. وقال تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم? قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله غفوراً رحيماً).
فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم، ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهراً وباطناً وتارة ظاهراً فقط ويكثر المهاجرون، إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب. فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون، فتارة يكونون عشرة أو أقل وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين.
وأما جملة من آوى إلى الصُفة مع تفرقهم فقد كانوا نحو أربعمائة من الصحابة وقد قيل كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يعرف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة، وكان معتنياً بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا. والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة، وجمع أيضاً في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير ويروي أحياناً آثاراً ضعيفة بل موضوعة يعلم أنها كذب.
وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه وكان البيهقي إذا روي عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه وما يظن به وبأمثاله إن شاء الله تعالى تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البنان والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما.
وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحياناً من الخطأ أشياء وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ وبعضه باطل قطعاً مصدره مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعاً من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات الباطلة ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة، وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، ويوجد أحياناً عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون بها وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن إتباع الظن وما تهوى النفس.
[ فصل ]
وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء، فقال: (إن تبدوا الصدقات فنعماً هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لك ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) إلى قوله: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً) وقال في أهل الفيء: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله من الكسب وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب فكانوا يقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله.
وكان أهل الصفة ضيف الإسلام يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق.
وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حرمها على المستغني عنها وأباح منها أن يسأل الرجل حقه مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله أو يسأل إذا كان لا بد سائلاً الصالحين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقاً حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلا يقول لأحد ناولني إياه،
وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل وكلام للعلماء لا يسعه هذا الكتاب مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل له ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبع نفسك ". ومثل قوله: " من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ما أعطي أحد عطاء خيراً أوسع من الصبر ". ومثل قوله: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشاً أو خموشاً أو كدوشاً في وجهه ". وقوله: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ". إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله عز وجل عن موسى والخضر أنهما أتيا أهل قرية استطعما أهلها، ومثل قوله: " لا تحل المسألة إلا لذي ألم موجع أو غرم مفظع أو فقر مدقع "، ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي: " يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لثلاثة، رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فسأل حتى يجد سداداً من عيش وقواماً من عيش ثم يمسك، ورجل يحمل حمالة فيسأل حتى يجد حمالته ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فإنما هو سحت أكله صاحبه سحتاً ".
ولم يكن في الصحابة لا أهل الصفة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس والإلحاف بالمسألة بالكدية والمشاحذة - لا بالزنبيل ولا غيره - صناعة وحرفة بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضاً أهل فضول من الأموال يزكون لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولا يعطون في النوائب بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر من مانعي الحقوق الواجبة والمعتدين حدود الله في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثني عليهم.
[ فصل ]
من توهم أن أحداً من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابع التابعين قاتل مع الكفار أو قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه أو أنهم كانوا يستحلون ذلك أو أنه يجوز ذلك فهذا ضال غاو بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك فإن تاب وإلا قتل ،(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
بل كان أهل الصفة ونحوهم كالقراء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على قتلهم هم من أعظم الصحابة إيماناً وجهاداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصراً لله ورسوله كما أخبر الله عنهم بقوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون لله ورسوله أولئك الصادقون). وقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وقال: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).
وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة وكان القتال منهم في تسع مغاز مثل بدر وأحد وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا ثم عادوا يوم حنين ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنين من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلوا مع الكفار قط. وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان:
قسم منافقون وإن أظهروا الإسلام وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقاً غير الإيمان بالرسول ومتابعته وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول كاستغناء الخضر عن إتباع موسى وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقاً أو في بعض صفات الكمال وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع النقلين إنسهم وجنهم، زهادهم وملوكهم وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا كان يجب على الخضر إتباعه بل قال له: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى علمكه الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". وقال الله تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).
والقسم الثاني: من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا ويظن أن دين الله الموفقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر بهم وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان وأهل الجنة كأهل النار وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقة، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقربه المشركون وأنه الحقيقة الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتال الله وحتى يجعلوا أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) ويقولون: (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين أو يقولون إنه هو أو إنه حل فيه، وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
فإن التوحيد الواجب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً فلا نجعل له نداً في ألوهيته ولا شريكاً ولا شنيعاً، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم يعبدون غيره. وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) ، (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون الله فأنى تسحرون) فالكفار المشركون مقرون بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكاً مساوياً له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة ولا من عباد الأنبياء والصالحين ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم فإن جميع هؤلاء وإن كانوا كفاراً مشركين متنوعين في الشرك فهم يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء - أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب وخالق ذلك الخالق.
وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) . وقال تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون). وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة). وقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً أني بما تعملون عليم، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعتهم والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين وأنه يجب على جميع الخلق متابعته وأن الحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم من يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته إما عموماً وإما خصوصاً ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قالوه وأنهم قالوا نحن مع الله من كان مع الله كنا معه يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل وإن كان لأصحابه زهد وعبادة فهم في العباد، مثل أوليائهم في الأجناد فإن للمرء على دين خليله والمرء مع من أحب هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد جعل الله والمؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرون بعضهم أولياء بعض، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فإن في قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج وأن الله أمره أن لا يعلم به أحداً فلما أصبح وجدهم يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له أنا أمرتك أن لا تعلم به أحداً لكن أنا الله أعلمتهم - إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر وهي كذب واضح فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة والمعراج إنما كان من مكة كما قال سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) ومما يشبه هذا من بعض الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المختلق، ثم إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك مثلاً ما يدعي النصيرية والإسماعيلية والقرمطية والباطنية الثنوية والحاكمية وغيرهم - من الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عقب وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة وكل هذا باطل، فإنه لما كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته ومتابعته وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة والمتابعة وهذا كثير في أهل الضلال.
[ فصل ]
وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفاً ومرفوعاً وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم بالجنة وقد قال الله تعالى في كتابه: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى)، ففضل السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأنفسهم وأموالهم على التابعين بعدهم وقال الله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعوك تحت الشجرة) وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).
وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم وهؤلاء الذين فضلهم الله ورسوله فمنهم من هو من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص فقد قيل إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد ابن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد بن بشر وأبي أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ونحوهم لم يكونوا من أهل الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين، والأنصار كانوا في ديارهم ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.
[ فصل ]
وأما سماع المكاء والتصدية وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية سواء كان بكف أو بقضيب أو بدف أو كان مع ذلك شبابة فهذا لم يفعله أحد من الصحابة لا من أهل الصفة ولا من غيرهم ولا من التابعين بل القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم "، لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب وإنما كان السماع الذين يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ والباقي يستمعون وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائداً أنشدهم:
قد لسعت حية الهوى كبدي ● فلا طـبـيب لـهـــا ولا راقــي
إلا الطبيب الذي شغفت بـه ● فعــنـــده رقــيتـي وتـرياقــي
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: " إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم "، أنشدوا شعراً وتواجدوا عليه فكل هذا وأمثاله كذب مفترى وكذب مختلق باتفاق أهل الآفاق من أهل العلم وأهل الإيمان لا ينازع في ذلك إلا جاهل ضال وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان.
جامع الرسائل فى العقيدة
تأليف : ابن تيمية
منتدى ميراث الرسول ـ البوابة