من طرف كراكيب السبت 1 نوفمبر 2014 - 14:55
بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة العلوم الشرعية
الأشباه والنظائر للسيوطي
الكتاب الرابع: في أحكام يكثر دورها
ويقبح بالفقيه جهلها
تابع القول في الناسي والجاهل والمكره
● [ فصل ] ●
وأما المكره فقد اختلف أهل الأصول في تكليفه على قولين وفصل الإمام فخر الدين وأتباعه فقالوا إن انتهى الإكراه إلى حد الإلجاء لم يتعلق به حكم وإن لم ينته إلى ذلك فهو مختار وتكليفه جائز شرعا وعقلا وقال الغزالي في البسيط الإكراه يسقط أثر التصرف عندنا إلا في خمس مواضع وذكر إسلام الحربي والقتل والإرضاع والزنا والطلاق إذا أكره على فعل المعلق عليه وزاد عليه غيره مواضع وذكر النووي في تهذيبه أنه يستثني مائة مسئلة لا أثر للإكراه فيها ولم يعددها وطالما أمعنت النظر في تتبعها حتى جمعت منها جملة كثيرة وقد رأيت الإكراه يساوي النسيان فإن المواضع المذكورة إما من باب ترك المأمور فلا يسقط تداركه ولا يحصل الثواب المرتب عليه وإما من باب الإتلاف فلا يسقط الحكم المترتب عليه وتسقط العقوبة المتعلقة به إلا القتل على الأظهر وها أنا أسرد ما يحضرني من ذلك.
● الأول الإكراه عن الحدث وهو من باب الإتلاف فإنه إتلاف للطهارة ولهذا لو أحدث ناسيا انتقض وفي مس الفرج وجه ضعيف أنه لا ينقض ناسيا وإذا نوعت هذه الصورة إلى أسباب الحدث الأربعة والجماع كثرت الصور.
● الثاني الإكراه على إفساد الماء بالاستعمال أو النجاسة أو مغير طاهر فإنه يفسد وهو أيضا من باب الإتلاف إذ لا فرق فيه بين العمد وغيره.
● الثالث قال في الروضة لو ألقى إنسان في نهر مكرها فنوى فيه رفع الحدث صح وضوؤه وقال في شرح المهذب قال الشيخ أبو علي أطلق الأصحاب صحة وضوئه ولا بد فيه من تفصيل فإن نوى رفع الحدث وهو يريد المقام فيه ولو لحظة صح لأنه فعل يتصور قصده وإن كره المقام وتحقق الاضطرار من كل وجه لم يصح وضوؤه إذ لا تتحقق النية به.
● الرابع والخامس الإكراه على غسل النجاسة ودبغ الجلد.
● السادس الإكراه على التحول عن القبلة في الصلاة فتبطل.
● السابع الإكراه على الكلام فيها فتبطل في الأظهر لندوره.
● الثامن الإكراه على فعل ينافي الصلاة فتبطل قطعا لندوره.
● التاسع الإكراه على ترك القيام في الفرض.
● العاشر الإكراه على تأخير الصلاة عن الوقت فتصير قضاء.
● الحادي عشر الإكراه على تفرق المتصارفين قبل القبض فيبطل كما ذكره في الاستقصاء وغيره وكذلك يبطل مع النسيان كما نص عليه والجهل كما صرح به الماوردي قال الزركشي وقياسه في رأس مال السلم كذلك.
● الثاني عشر لو ضربا في خيار المجلس حتى تفرقا ففي انقطاع الخيار قولا حنث المكره.
● الثالث عشر الإكراه على إتلاف مال الغير فإنه يطالب بالضمان وإن كان القرار على المكره في الأصح.
● الرابع عشر الإكراه على إتلاف الصيد كذلك بخلاف ما لو حلق شعر محرم مكرها لا يكون للمحرم طريقا في الضمان على الأظهر لأنه لم يباشر.
● الخامس عشر الإكراه على الأكل في الصوم فإنه يفطر في أحد القولين وصححه الرافعي في المحرر.
● السادس عشر الإكراه على الجماع في الصوم فيه الطريقان الآتيان.
● السابع عشر الإكراه على الجماع في الإحرام فيه طريقان في أصل الروضة بلا ترجيح أحدهما يفسد قطعا بناء على أن إكراه الرجل على الوطء لا يتصور والثاني فيه وجهان بناء على الناسي.
● الثامن عشر الإكراه على الخروج من المعتكف فإنه يبطل في أحد القولين كالأكل في الصوم.
● التاسع عشر الإكراه على إعطاء الوديعة لظالم فإنه يضمن في الأصح ثم يرجع على من أخذ منه.
● العشرون الإكراه على الذبح أو الرمي من محرم أو مجوسي لحلال ومسلم.
● الحادي والعشرون إكراه الحربي على الإسلام.
● الثاني والعشرون إكراه المرتد عليه.
● الثالث والعشرون إكراه الذمي على وجه الأصح خلافه.
● الرابع والعشرون الإكراه على تخليل الخمر بلا عين قال الأسنوي يحتمل إلحاقه بالمختار ويحتمل القطع بالطهارة.
● الخامس والعشرون إلى الثلاثين الإكراه على الوطء فيحصل الإحصان ويستقر المهر وتحل للمطلق ثلاثا ويلحقه الولد وتصير أمته به مستولدة ويلزمه المهر في غير الزوجة قتله تخريجا ثم رأيت الأسنوي ذكر بحثا أنه كإتلاف المال.
● الحادي والثلاثون الإكراه على القتل فيجب القصاص على المكره في الأظهر.
● الثاني والثلاثون الإكراه على الزنا لا يبيحه.
● الثالث والثلاثون وعلى اللواط.
● الرابع والثلاثون ويوجب الحد في قول.
● الخامس والثلاثون الإكراه على شهادة الزور والحكم بالباطل في قتل أو قطع أو جلد.
● السادس والثلاثون الإكراه على فعل المحلوف عليه في أحد القولين.
● السابع والثلاثون والثامن والتاسع والثلاثون الإكراه على طلاق زوجة المكره أو بيع ماله أو عتق عبده لأنه أبلغ في الإذن أما لو أكره أجنبي الوكيل على بيع ما وكل فيه ففي نظيره من الطلاق احتمالان للروياني حكاهما عنه في الروضة وأصلها أصحهما عنده عدم الصحة لأنه المباشر.
● الأربعون الإكراه على ولاية القضاء.
● الحادي والأربعون لو أكره المحرم أو الصائم على الزنا قال الأسنوي لا يحضرني فيها نقل والمتجه أنه يفسد عبادته لأنه لا يباح بالإكراه قال إلا أن عدم وجوب الحد قد يرجح عدم الإفساد.
● الثاني والأربعون لو أكره على ترك الوضوء فتيمم قال الروياني لا قضاء قال النووي وفيه نظر قال لكن الراجح ما ذكره لأنه في معنى من غصب ماؤه قال الأسنوي والمتجه خلافه لأن الغصب كثير معهود بخلاف الإكراه على ترك الوضوء فعلى هذا يستثنى.
● الثالث والأربعون الإكراه على السرقة لا يسقط الحد في قول.
● الرابع والأربعون لا يرث القاتل مكرها على الصحيح.
● الخامس والسادس والأربعون الإكراه على الإرضاع يحرم اتفاقا ويوجب المهر إذا انفسخ به النكاح على المرضعة على الأصح، قال الأسنوي وفيه نظر.
● السابع والأربعون الإكراه على القذف يوجب الحد في وجه.
● الثامن والأربعون الإكراه بحق له وتحت ذلك صور الإكراه على الأذان وعلى فعل الصلاة والوضوء وأركان الطهارة والصلاة والحج وأداء الزكاة والكفارة والدين وبيع ماله فيه والصوم والاستئجار للحج والإنفاق على رقيقه وبهيمته وقريبه وإقامة الحدود وإعتاق المنذور عتقه كما صرح به في البحر والمشتري بشرط العتق وطلاق المولى إذا لم يطأ واختيار من أسلم على أكثر من أربع وغسل الميت والجهاد فكل ذلك يصح مع الإكراه، فهذه أكثر من عشرين صورة في ضابط الإكراه بحق.
ومنه فيما ذكر الأسنوي أن يأذن أجنبي للعبد في بيع ماله فيمتنع فيكرهه السيد فلا شك في الصحة لأن للسيد غرضا صحيحا في ذلك إما لتقليد إمامه أو أخذ أجرة فهذه أكثر من سبعين صورة لا أثر للإكراه فيها.
وفي بعض صورها ما يقتضي التعدد باعتبار أنواعه فيبلغ بذلك المائة وفيها نحو عشر صور على رأي ضعيف.
تنبيه: من المشكل قول المنهاج في الخلع وإن قال أقبضتني فقيل كالإعطاء والأصح كسائر التعليق فلا يملكه ولا يشترط للإقباض مجلس ويشترط لتحقق الصفة أخذه بيده منها ولو مكرهة ووجه الإشكال أن المعلق عليه إقباضها والإقباض مع الإكراه ملغى شرعا فلا اعتبار به قال السبكي فذكره في المنهاج لا مخرج له إلا الحمل على السهو ولم يذكر ذلك في الروضة والشرح إلا فيما إذا قال إن قبضت منك لا في قوله إن أقبضتني قال البلقيني فما وقع في المنهاج وهم انتقل من مسئلة إن قبضت إلى مسئلة إن أقبضتني ما يباح بالإكراه وما لا يباح فيه فروع.
● الأول التلفظ بكلمة الكفر فيباح به للآية ولا يجب بل الأفضل الامتناع مصابرة على الدين واقتداء بالسلف وقيل الأفضل التلفظ صيانة لنفسه وقيل إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو والقيام بأحكام الشرع فالأفضل التلفظ لمصلحة نقائه وإلا فالأفضل الامتناع.
● الثاني القتال المحرم لحق الله ولا يباح به بلا خلاف بخلاف المحرم للمالية كنساء الحرب وصبيانهم فيباح به.
● الثالث الزنا ولا يباح به بالاتفاق أيضا لأن مفسدته أفحش من الصبر على القتل وسواء كان المكره رجلا أو امرأة.
● الرابع اللواط ولا يباح به أيضا صرح به في الروضة.
● الخامس القذف قال العلائي ولم أر من تعرض له وفي كتب الحنفية أنه يباح بالإكراه ولا يجب به حد وهو الذي تقتضيه قواعد المذهب انتهى قلت قد تعرض له ابن الرفعة في المطلب فقال يشبه أن يلتحق بالتلفظ بكلمة الكفر ولا نظر إلى تعلقه بالمقذوف لأنه لم يتضرر به.
● السادس السرقة قال في المطلب يظهر أن تلتحق بإتلاف المال لأنها دون الإتلاف قال في الخادم وقد صرح جماعة بإباحتها منهم القاضي حسين في تعليقه قلت وجزم به الأسنوي في التمهيد.
● السابع شرب الخمر ويباح به قطعا استبقاء للمهجة كما يباح لمن غص بلقمة أن يسيغها به ولكن لا يجب على الصحيح كما في أصل الروضة.
● الثامن شرب البول وأكل الميتة ويباحان وفي الوجوب احتمالان للقاضي حسين قلت ينبغي أن يكون أصحهما الوجوب.
● التاسع إتلاف مال الغير ويباح به بل يجب قطعا كما يجب على المضطر أكل طعام غيره.
● العاشر شهادة الزور فإن كانت تقتضي قتلا أو قطعا ألحقت به أو إتلاف مال ألحقت به أو جلدا فهو محل نظر إذ يفضي إلى القتل كذا في المطلب وقال الشيخ عز الدين لو أكره على شهادة زور أو حكم باطل في قتل أو قطع أو إحلال بضع استسلم للقتل وإن كان يتضمن إتلاف مال لزمه ذلك حفظا للمهجة.
● الحادي عشر الفطر في رمضان ويباح به بل يجب على الصحيح.
● الثاني عشر الخروج من صلاة الفرض وهو كالفطر.
فائدة: ضبط الأودني هذه الصور بأن ما يسقط بالتوبة يسقط حكمه بالإكراه وما لا فلا نقله في الروضة وأصلها قال في الخادم وقد أورد عليه شرب الخمر فإنه يباح بالإكراه ولا يسقط حده بالتوبة وكذلك القذف ما يتصور فيه الإكراه وما لا قال العلماء لا يتصور الإكراه على شيء من أفعال القلوب وفي الزنا وجهان أصحهما أنه يتصور لأنه منوط بالإيلاج والثاني لا لأن الإيلاج إنما يكون مع الانتشار وذلك راجع إلى الاختيار والشهوة وفي التنبيه ولا يعذر أحد من أهل فرض الصلاة في تأخيرها عن الوقت إلا نائم أو ناس أو من أكره على تأخيرها واستشكل تصوير الإكراه على تأخير الصلاة فإن كل حالة تنتقل لما دونها إلى إمرار الأفعال على القلب وهو شيء لا يمكن الإكراه على تأخيره وهو يفعله غير مؤخر وصوره في شرح المهذب بالإكراه على التلبس بمناف وقال القاضي زين الدين البلغيائي المراد أكره على أن يأتي بها على غير الوجه المجزئ من الطهارة ونحوها ولا يكون الإكراه عذرا في الإجزاء لندوره أو يكره المحدث على تأخيرها عن الوقت ويمنع من الوضوء في الوقت وقال الشيخ تاج الدين السبكي في التوشيح قد يقال المكره قد يدهش حتى عن الإيماء بالطرف ويكون مؤخرا معذورا كالمكره على الطلاق لا يلزمه التورية إذا اندهش قطعا ما يحصل به الإكراه قال الرافعي الذي مال إليه المعتبرون أن الإكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل أو ما يخاف منه القتل وأما غيره ففيه سبعة أوجه.
● أحدها لا يحصل إلا بالقتل.
● الثاني القتل أو القطع أو ضرب يخاف منه الهلاك
● الثالث ما يسلب الاختيار ويجعله كالهارب من الأسد الذي يتخطى الشوك والنار ولا يبالي فيخرج عنه الحبس.
● الرابع اشتراط عقوبة بدنية يتعلق بها قود.
● الخامس اشتراط عقوبة شديدة تتعلق ببدنه كالحبس الطويل.
● السادس أنه يحصل بما ذكر وبأخذ المال أو إتلافه والاستخفاف بالأماثل وإهانتهم كالصفع بالملأ وتسويد الوجه وهذا اختيار جمهور العراقيين وصححه الرافعي.
● السابع وهو اختيار النووي في الروضة أنه يحصل بكل ما يؤثر العاقل الإقدام عليه حذرا ما هدد به وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأفعال المطلوبة والأمور المخوف بها فقد يكون الشيء إكراها في شيء دون غيره وفي حق شخص دون آخر فالإكراه على الطلاق يكون بالتخويف بالقتل والقطع والحبس الطويل والضرب الكثير والمتوسط لمن لا يحتمله بدنه ولم يعتده وبتخويف ذي المروءة بالصفع في الملأ وتسويد الوجه ونحوه وكذا بقتل الوالد وإن علا والولد وإن سفل على الصحيح لا سائر المحارم وإتلاف المال على الأصح وإن كان الإكراه على القتل فالتخويف بالحبس وقتل الولد ليس إكراها وإن كان على إتلاف مال فالتخويف بجميع ذلك إكراه قال النووي وهذا الوجه أصح لكن في بعض تفصيله المذكور نظر والتهديد بالنفي عن البلد إكراه على الأصح لأن مفارقة الوطن شديدة ولهذا جعلت عقوبة للزاني وكذا تهديد المرأة بالزنا والرجل باللواط ولا بد في كل ذلك من أمور.
● أحدها قدرة المكره على تحقيق ما هدد به بولاية أو تغلب أو فرط هجوم.
● ثانيها عجز المكره عن دفعه بهرب أو استغاثة أو مقاومة.
● ثالثها ظنه أنه إن امتنع مما أكره عليه أوقع به المتوعد.
● رابعها كون المتوعد مما يحرم تعاطيه على المكره فلو قال ولي القصاص للجاني طلق امرأتك وإلا اقتصصت منك لم يكن إكراها.
● خامسها أن يكون عاجلا فلو قال طلقها وإلا قتلتك غدا فليس بإكراه.
● سادسها أن يكون معينا فلو قال أقتل زيدا أو عمرا فليس بإكراه.
● سابعها أن يحصل بفعل المكره عليه التخلص من المتوعد به فلو قال أقتل نفسك وإلا قتلتك فليس بإكراه ولا يحصل الإكراه بقوله وإلا قتلت نفسي أو كفرت أو أبطلت صومي أو صلاتي ويشترط في الإكراه على كلمة الكفر طمأنينة القلب بالإيمان فلو نطق معتقدا بها كفر ولو نطق غافلا عن الكفر والإيمان ففي ردته وجهان في الحاوي قال في المطلب والآية تدل على أنه مرتد قال الماوردي والأحوال الثلاثة يأتي مثلها في الطلاق ولا يشترط في الطلاق التورية بأن ينوي غيرها على الأصح وفي شرح المهذب نص الشافعي على أن من أكره على شرب خمر أو أكل محرم يجب أن يتقيأ إذا قدر أمر السلطان هل يكون إكراها اختلف في أمر السلطان هل ينزل منزلة الإكراه على وجهين أو قولين أحدهما لا وإنما الإكراه بالتهديد صريحا كغير السلطان والثاني نعم لعلتين إحداهما أن الغالب من حاله السطوة عند المخالفة والثاني أن طاعته واجبة في الجملة فينتهض ذلك شبهة قال الرافعي ومقتضى ما ذكره الجمهور صريحا ودلالة أنه لا ينزل منزلة الإكراه قال ومثل السلطان في إجراء الخلاف الزعيم والمتغلب لأن المدار على خوف المحذور من مخالفته وأما حكم الحاكم وحكم الشرع فهل ينزلان منزلته فيه فروع منها لو حلف لا يفارقه حتى يستوفي حقه فأفلس ومنعه الحاكم من ملازمته ففيه قولا المكره.
ومنها لو حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضا لم يحنث كما لو أكره على ترك الوطء.
ومنها قال إن لم تصومي غدا فأنت طالق فحاضت فوقوع الطلاق على الخلاف في المكره ذكره الرافعي.
ومنها من ابتلع طرف خيط ليلا وبقي طرفه خارجا ثم أصبح صائما فإن نزعه أفطر وإن تكره لم تصح صلاته لأنه متصل بنجاسة وقال في الخادم فطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر لأنه كالمكره قال بل لو قيل لا يفطر بالنزع باختياره لم يبعد تنزيلا لإيجاب الشرع منزلة الإكراه كما إذا حلف أن يطأها في هذه الليلة فوجدها حائضا لا يحنث.
ومنها لو حلف لا يحلف يمينا مغلظة فوجب عليه يمين وقلنا بوجوب التغليظ حلف وحنث.
ومنها لو كان له عبد مقيد فحلف بعتقه أن في قيده عشرة أرطال وحلف بعتقه لا يحله هو ولا غيره فشهد عند القاضي عدلان أن في قيده خمسة أرطال فحكم بعتقه ثم حل القيد فوجده عشرة أرطال قال ابن الصباغ لا شيء على الشاهدين لأن العتق حصل بحل القيد دون الشهادة لتحقق كذبهما حكاه الرافعي في أواخر العتق تنبيه يقع في الفتاوي كثيرا أن رجلا حلف بالطلاق لا يؤدي الحق الذي عليه فيفنى في خلاصه بأن يرفع إلى الحاكم فيحكم عليه بالأداء وأنه لا يحنث تنزيلا للحكم منزلة الإكراه وعندي في هذه وقفة أما أولا فلأن الشيخين لم ينزلا الحكم منزلة الإكراه في كل صورة ولا قررا ذلك قاعدة عامة بل ذكراها في بعض الصور وذكرا خلافه في بعضها كما تراه فليس إلحاق هذه الصورة بالصورة التي حكما فيها بعدم الحنث أولى من إلحاقها بالتي حكما فيها بالحنث أما ثانيا فلأن الإكراه بحق لا أثر له في عدم النفوذ بدليل صحة بيع من أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه وطلاق المولى إذا أكرهه الحاكم لأن الإكراه فيهما بحق فالذي ينشرح له الصدر فيما نحن فيه القول بالحنث ولا أثر للحكم في منعه هذا إذا كان معترفا بالحق فإن كان منكرا له وثبت بالبينة قوي في هذه الحالة عدم الحنث لأنه يزعم أنه مظلوم في هذا الحكم فلم يكن الإكراه بحق في دعواه والطلاق لا يقع بالشك وقولي في هذه الحالة بعدم الحنث أي ظاهرا فلو كانت البينة صادقة في الواقع وهو عالم بأن عليه ما شهدت به وقع باطنا والله أعلم.
● ثم رأيت الزركشي قال في قواعده: ذكر الرافعي في كتاب الطلاق أنه لو قال إن أخذت مني حقك فأنت طالق فأكرهه السلطان حتى أعطى بنفسه فعلى القولين في فعل المكره وقضيته ترجيح عدم الحنث والمتجه خلافه لأنه إكراه بحق هذه عبارته القول في النائم والمجنون والمغمى عليه قال رسول الله رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود بهذا اللفظ من حديث عائشة رضي الله عنها وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يعقل وأخرجه أيضا عنهما بلفظ عن المجنون حتى يفيق وبلفظ عن الصبي حتى يحتلم وبلفظ حتى يبلغ وذكر أبو داود أن ابن جريج رواه عن القاسم بن يزيد عن علي عن النبي فزاد فيه والخرف وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وشداد بن أوس وثوبان والبزار من حديث أبي هريرة، قلت قد ألف السبكي في شرح هذا الحديث كتابا سماه إبراز الحكم من حديث رفع القلم ذكر فيه ثمانية وثلاثين.
فائدة تتعلق به: وأنا أنقل منه هنا في مبحث الصبي ما تراه إن شاء الله تعالى وأول ما نبه عليه أن الذي وقع في جميع روايات الحديث في سنن أبي داود وابن ماجه والنسائي والدارقطني عن ثلاثة بإثبات الهاء ويقع في بعض كتب الفقهاء ثلاث بغير هاء قال ولم أجد لها أصلا، قال الشيخ أبو إسحاق العقل صفة يميز بها الحسن والقبيح قال بعضهم ويزيله الجنون والإغماء والنوم وقال الغزالي الجنون يزيله والإغماء يغمره والنوم يستره، قال السبكي وإنما لم يذكر المغمى عليه في الحديث لأنه في معنى النائم وذكر الخرف في بعض الروايات وإن كان في معنى المجنون لأنه عبارة عن اختلاط العقل بالكبر ولا يسمى جنونا لأن الجنون يعرض من أمراض سوداوية ويقبل العلاج والخرف خلاف ذلك ولهذا لم يقل في الحديث حتى يعقل لأن الغالب أنه لا يبرأ منه إلى الموت قال ويظهر أن الخرف رتبة بين الإغماء والجنون وهي إلى الإغماء أقرب انتهى.
● ● واعلم أن الثلاثة قد يشتركون في أحكام وقد ينفرد النائم عن المجنون والمغمى عليه تارة ويلحق بالنائم وتارة يلحق بالمجنون وبيان ذلك بفروع.
● الأول الحدث يشترك فيه الثلاثة.
● الثاني استحباب الغسل عند الإفاقة للمجنون ومثله المغمى عليه.
● الثالث قضاء الصلاة إذا استغرق ذلك الوقت يجب على النائم دون المجنون والمغمى عليه كالمجنون.
الرابع قضاء الصوم إذا استغرق النهار يجب على المغمى عليه بخلاف المجنون والفرق بينه وبين الصلاة كثرة تكررها ونظيره وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء دون الصلاة وأما النائم إذا استغرق النهار وكان نوى من الليل فإنه يصح صومه على المذهب والفرق بينه وبين المغمى عليه أنه ثابت العقل لأنه إذا نبه انتبه بخلافه وفي النوم وجه أنه يضر كالإغماء وفي الإغماء وجه أنه لا يضر كالنوم ولا خلاف في الجنون وأما غير المستغرق من الثلاثة فالنوم لا يضر بالإجماع وفي الجنون قولان الجديد البطلان لأنه مناف للصوم كالحيض وقطع به بعضهم وفي الإغماء طرق أحدها لا يضر إن أفاق جزءا من النهار سواء كان في أوله أو آخره والثاني القطع بأنه إن أفاق في أوله صح وإلا فلا والثالث وهو الأصح فيه أربعة أقوال أظهرها لا يضر إن أفاق لحظة ما والثاني في أوله خاصة والثالث في طرفيه والرابع يضر مطلقا فيه فتشترط الإفاقة جميع النهار.
● والفرع الخامس الأذان لو نام أو أغمي عليه أثناءه ثم أفاق إن لم يطل الفصل بنى وإن طال وجب والاستئناف على المذهب قال في شرح المهذب قال أصحابنا والجنون هنا كالإغماء.
● السادس لو لبس الخف ثم نام حتى مضى يوم وليلة انقضت المدة، قال البلقيني ولو جن أو أغمي عليه فالقياس أنه لا تحسب عليه المدة لأنه لا تجب عليه الصلاة بخلاف النوم لوجوب القضاء قال ولم أر من تعرض لذلك.
● السابع إذا نام المعتكف حسب زمن النوم من الاعتكاف قطعا لأنه كالمستيقظ وفي زمان الإغماء وجهان أصحهما يحسب ولا يحسب زمن الجنون قطعا لأن العبادات البدنية لا يصح أداؤها في حال الجنون.
● الثامن يجوز للولي أن يحرم عن المجنون بخلاف المغمى عليه كما جزم به الرافعي.
● التاسع الوقوف بعرفة لا يصح من المجنون والمغمى عليه مثله في الأصح بخلاف النائم المستغرق في الأصح وحكى الرافعي عن المتولي وأقره أنه إذا لم يجزه في المجنون يقع نفلا كحج الصبي وكذا المغمى عليه كما في شرح المهذب.
● العاشر يصح الرمي عن المغمى عليه ممن أذن له قبل الإغماء في حال تجوز فيه الاستنابة قال في شرح المهذب والمجنون مثله صرح به المتولي وغيره.
● الحادي عشر يبطل بالجنون كل عقد جائز كالوكالة إلا في رمي الجمار والإيداع والعارية والكتابة الفاسدة ولا يبطل بالنوم وفي الإغماء وجهان أصحهما كالجنون.
● الثاني عشر ينعزل القاضي بجنونه وبإغمائه بخلاف النوم.
● الثالث عشر ينعزل الإمام الأعظم بالجنون ولا ينعزل بالإغماء لأنه متوقع الزوال.
● الرابع عشر إذا جن ولي النكاح انتقلت الولاية للأبعد والإغماء إن دام أياما ففي وجه كالجنون والأصح لا بل ينتظر كما لو كان سريع الزوال.
● الخامس عشر يزوج المجنون وليه بشرطه المعروف ولا يزوج المغمى عليه كما يفهم من كلامهم وهو نظير الإحرام بالحج.
● السادس عشر قال الأصحاب لا يجوز الجنون على الأنبياء لأنه نقص ويجوز عليهم الإغماء لأنه مرض ونبه السبكي على أن الإغماء الذي يحصل لهم ليس كالإغماء الذي يحصل لآحاد الناس وإنما هو لغلبة الأوجاع للحواس الظاهرة فقط دون القلب قال لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء فمن الإغماء بطريق الأولى انتهى. وهو نفيس جدا.
● السابع عشر الجنون يقتضي الحجر وأما الإغماء فالظاهر أنه مثله كما يفهم من كلامهم.
● الثامن عشر يشترك الثلاثة في عدم صحة مباشرة العبادة والبيع والشراء وجميع التصرفات من العقود والفسوخ كالطلاق والعتق وفي غرامة المتلفات وأروش الجنايات.
● التاسع عشر لا ينقطع خيار المجلس بالجنون والإغماء على الصحيح ولم أر من تعرض للنوم.
● العشرون لو قال إن كلمت فلانا فأنت طالق فكلمته وهو نائم أو مغمى عليه أو هذت بكلامه في نومها وإغمائها أو كلمته وهو مجنون طلقت أو وهي مجنونة قال ابن الصباغ لا تطلق وقال القاضي حسين تطلق قال الرافعي والظاهر تخريجه على حنث الناسي.
● الحادي والعشرون لو وطئ المجنون زوجة ابنه حرمت عليه قاله القاضي حسين.
● الثاني والعشرون ذهب القاضي والفوراني إلى أن المجنون لا يتزوج الأمة لأنه لا يخاف من وطء يوجب الحد والإثم ولكن الأصح خلافه كذا في الأشباه والنظائر لابن الوكيل ثم ذكر أن الشافعي نص على أن المجنون لا يزوج منه أمة فرع قال النووي في شرح المهذب يسن إيقاظ النائم للصلاة لا سيما إن ضاق وقتها وقال السبكي في كتابه المتقدم ذكره إذا دخل على المكلف وقت الصلاة وتمكن من فعلها وأراد أن ينام قبل فعلها فإن وثق من نفسه أنه يستيقظ قبل خروج الوقت بما يمكنه أن يصلي فيه جاز وإلا لم يجز وكذا لو لم يتمكن ولكن بمجرد دخول الوقت قصد أن ينام فإن نام حيث لم يثق من نفسه بالاستيقاظ أثم إثمين أحدهما إثم ترك الصلاة والثاني إثم التسبب إليه وهو معنى قولنا يأثم بالنوم وإن استيقظ على خلاف ظنه وصلى في الوقت لم يحصل له إثم ترك الصلاة وأما ذلك الإثم الذي حصل فلا يرتفع إلا بالاستغفار ولو أراد أن ينام قبل الوقت وغلب على ظنه أن نومه يستغرق الوقت لم يمتنع عليه ذلك لأن التكليف لم يتعلق به بعد ويشهد له ما ورد في الحديث أن امرأة عابت زوجها بأنه ينام حتى تطلع الشمس فلا يصلي الصبح إلا ذلك الوقت فقال إنا أهل بيت معروف لنا ذلك أي ينامون من الليل حتى تطلع الشمس فقال النبي إذا استيقظت.
● [ فصل ] ●
وأما إيقاظ النائم الذي لم يصل فالأول وهو الذي نام بعد الوجوب يجب إيقاظه من باب النهي عن المنكر وأما الذي نام قبل الوقت فلا لأن التكليف لم يتعلق به لكن إذا لم يخش عليه ضرر فالأولى أيقاظه لينال الصلاة في الوقت انتهى ملخصا.
● [ تم القول في الناسي والجاهل والمكره ] ●
الأشباه والنظائر
تأليف : السيوطي
منتديات الرسالة الخاتمة . البوابة