بّسم اللّه الرّحمن الرّحيم سفر نامة تأليف : ناصر خسرو ● [ مغادرة بيت المقدس والتوجه الى مصر ] ●
ثم عزمت على إن أغادر بيت المقدس إلى مصر بطريق البحر ثم أغادرها إلى مكة ولكن كانت الريح معاكسة وتعذر السفر بالبحر فسرنا عن طريق البر ومررنا بالرملة ثم بلغنا مدينة عسقلإن بها سوق وجامع جميل رأيت بها طاقاً قديماً قيل إنه كان مسجداً وهو طاق من الحجر الكبير ولو أرادوا هدمه للزمهم إنفاق مال كثير وخرجت من هناك فوجدت في الطريق قرى كثيرة ومدنا يطول وصفها فحذفته اختصارا وبلغنا مكاناً يسمى طينة وهو مرفأ للسفن يذهب منه إلى تنيس وقد ركبت السفينة إليها. تنيس جزيرة ومدينة جميلة وهي بعيدة عن الساحل بحيث لا يرى من أسطحها والمدينة مزدحمة وبها أسواق فخمة وجامعإن وقد يبلغ عدد الدكاكين بها عشرة آلاف دكان منها مائة دكان عطار وهناك في فصل الصيف يبيعون الكشكاب فإن الجو حار وتكثر الامراض في المدينة. وينسج بتنيس القصب الملون من عمامات ووقايات ومما يلبس النساء ولا ينسج مثل هذا القصب في جهة ما غير تنيس والأبيض منه ينسج في دمياط وما ينسج منه في مصانع السلطان لا يباع ولا يعطى لأحد وقد سمعت إن ملك فارس أرسل رسله إلى تنيس بعشرين ألف دينار ليشتري له بها حلة من كسوة السلطان وقد بقى رسله هناك عدة سنين ولم يستطيعوا شراءها وبتنيس صناع مختصون بنسيج ملابس السلطان وقد سمعت إن عاملاً نسج عمامة السلطان فأمر به بخمسمائة دينار ذهب مغربي وقد رأيت هذه العمامة ويقال إنها تساوي أربعة آلاف دينار مغربي. وينسجون في مدينة تنيس هذه البوقلمون الذي لا ينسج في مكان آخر من جميع العالم وهو قماش ذهبي يتغير لونه بتغير ساعات النهار وتحمل أثوابه من تنيس إلى المشرق والمغرب وسمعت إن سلطان الروم كان قد أوفد رسولاً ليعرض على سلطان مصر إن يعطيه مائة مدينة على إن يأخذ تنيس فلم يقبل السلطان كان قصده من هذه المدينة القصب والبوقلمون. حينما يزيد ماء النيل يبعد الماء الملح من حول تنيس بحيث يصبح ماء البحر عذباً حتى عشرة فراسخ حولها وقد بنوا بجزيرة تنيس ومدينتها صهاريج عظيمة تحت الأرض وهي قوية البنيإن وتسمى المصانع فحين يغلب ماء النيل ويطرد الماء الملح من هناك تملأ هذه الأحواض حين يفتحون له الطريق وماء هذه المدينة من تلك المصانع التي تمتلئ وقت زيادة النيل ويستعمل السكان هذا الماء حتى السنة التالية وكل من لديه ماء فوق حاجته يبيع الفائض لغيره وبتنيس مصانع كثيرة موقوفة يعطى ماؤها للغرباء وسكانها خمسون ألفاً. ويرابط حولها دائماً ألف سفينة منها ما هو للتجار وكثير منها للسلطان ويجلب لهذه الجزيرة كل ما تحتاج إليه إذ ليس بها من خيرات الأرض شيء وتجرى المعاملات فيها بالسفن لأنها جزيرة . ويقيم بتنيس جيش كامل السلاح احتياطا حتى لا يستطيع أحد من الفرنج أو الروم إن يغير عليها وسمعت من الثقات أنه يصل منها لخزانة سلطان مصر يومياً ألف دينار مغربي ويصل ذلك المقدار مرة واحدة يحصله شخص واحد يسلمه أهل المدينة إليه في وقت معين وهو يسلم للخزانة فلا يتأخر منه شيء ولا يجبى شيء بالعنف من أي شخص. وما ينسج للسلطان من القصب والبوقلمون يدفع ثمنه كاملاً بحيث يعمل الصناع برضاهم للسلطان لا كما في البلاد الأخرى حيث يفرض الديوإن و السلطان السخرة على الصناع وتصنع أستار هوداج الجمال ولبود سروج الخيل الخاصة ب السلطان من البوقلمون. ويؤتى بالفاكهة والأغذية لتنيس من قرى مصر ويصنعون بها آلات الحديد كالمقراض والسكين وغيرهما وقد رأيت مقراضاً في مصر صنع في تنيس ثمنه خمسة دنانير مغربية يفتح إذا رفع مسماره ويقص إذا أنزل. وتصيب النساء هناك أحياناً علة كالصرع فيصحن مرتين أو ثلاثاً ثم يعدن بعد ذلك إلى صوابهن وكنت سمعت في خراسان عن جزيرة تموء فيها النساء كالقطط وذلك على النحو الذي ذكرت . وتذهب السفينة من تنيس إلى القسطنطينية في عشرين يوماً وقد سرنا بجانب مصر وحين بلغنا شاطئ البحر سارت السفينة في النيل حين يقترب نهر النيل من البحر يصير فروعاً تصب متفرقة فيه ويسمى الفرع الذي سرنا فيه فرع الروم سارت السفينة حتى بلغنا مدينة تسمى الصالحية وهي مدينة كثيرة النعم والخيرات وتصنع بها سفن كثيرة حمولة كل منهما مائتا خروار وهي تنقل البضاعة إلى مدينة مصر حتى أبواب دكاكين البقالين ولو لم تكن وسائل النقل كذلك لتعذر نقل المؤن فيها على ظهور الدواب لكثرة الزحام الذي بها وقد نزلت من السفينة إلى الصالحية ثم بلغت قرب القاهرة تلك الليلة وفي يوم الأحد السابع من صفر سنة 439 4أغسطس 1047 وهو يوم هرمرذ من شهر يور القديم كنا في القاهرة. وصف مصر وولايتها يخرج ماء النيل من بين الجنوب والغرب ويمر بمصر ثم يصب في بحر الروم ويبلغ نهر النيل في زيادته ضعف نهر جيحون عند ترمذ ويمر النيل بولاية النوبة ثم يجيء إلى مصر والنوبة ولاية جبلية وحين يصل النيل إلى الوادي فهناك ولاية مصر وأول مدينة يصل إليها على الحدود تسمى أسوان .والمسافة من مصر إليها ثلثمائة فرسخ وتقع المدن والولايات كلها على شاطئ النيل وتسمى هذه الولاية أسوان بالصعيد الأعلى ولا تستطيع السفن عبور النيل حين تصل لأسوان لأن الماء يخرج هناك من شلالات فيندفع سريعاً. وولاية النوبة جنوبي أسوان ولها ملك خاص وسكانها سود البشرة ودينهم النصرانية ويذهب إليه التجار ويبيعون الخرز والأمشاط والمرجإن ويجلبون منها الرقيق والرقيق في مصر إما نوبيون وإما روم وقد رأيت قمحاً وذرة من النوبة كلاهما أسود. ويقال إن حقيقة منابع النيل لم تعرف وسمعت إن سلطان مصر أرسل بعثة لتتبع شاطئ النيل سنة كاملة ودرسه ولكن أحداً لم يعرف حقيقة منبعه ويقال إنه يأتي من جبل في الجنوب يسمى جبل القمر. حين تبلغ الشمس مدار السرطان يزداد النيل فيرتفع عشرين ذراعاً عما كان مستقراً عليه في الشتاء وهكذا يتزايد يوماً بعد يوم وقد أعدوا له في مصر مقاييس وعلامات ورتبوا عاملاً وظيفته ألف دينار للمحافظة عليها ولتسجيل الزيادة ومنذ أول يوم للفيضان يطوف منادون في المدينة منادين بان الله تعالى قد زاد النيل كذا أصبعاً ويذكرون مقدار زيادته كل يوم. وحين تبلغ الزيادة ذراعاً كاملاً تضرب البشائر ويفرح الناس حتى تبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وهي الزيادة المعهودة يعني أنه كلما قلت الزيادة عن ذلك قيل إن النيل ناقص فتصدقوا ونذروا النذور وعلاهم الغم فإذا زاد عن هذا القدر فرحوا وأظهروا الغبطة وما لم يصل الارتفاع إلى ثمانية عشر ذراعاً لا يأخذ السلطان الخراج ويتفرع من النيل فروع كثيرة تسير في الأطراف كما يتفرغ منها ترع صغيرة وعليها تقع الولايات والقرى وأقيمت بمصر سواق كثيرة يصعب حصرها أو قياسها وشيدت قرى مصر كلها على المرتفعات والتلول وذلك حتى لا تغرق فإن الماء يغمر البلاد كلها وقت الفيضإن وحينئذ يسيرون من قرية لأخرى بالزوارق وقد أنشأوا على الشاطئ من أول الولاية لأخرها جسراً من الطين ليسير عليه الناس أي بجانب النيل وتصرف خزينة السلطان كل سنة للعامل المعتمد عشرة آلاف دينار مغربي لتجديد عمارته ويجهز أهل الولاية حاجاتهم الضرورية كلها لهذه الأشهر الأربعة التي تكون بلادهم أثناءها مغمورة بالماء ويخبز كل شخص في الريف ما يكفيه من الخبز هذه المدة ويقدده حتى لا يتعفن ونظام الفيضان هو الآتي. يتزايد الماء أربعين يوماً من بدء الفيضان إلى إن يبلغ ثمانية عشر ذراعاً ويبقى على هذا أربعين يوما لا يزيد ولا ينقص ثم يتدرج نحو النقصان مدة أربعين يوماً أخرى حتى يصل إلى الحد الذي كان عليه في الشتاء وحينما يبدأ الماء في التناقص يتبعه الزراع فكلما حفت بقعة زرعوها الزرع الذي يريدون وعلى هذا النحو زرعهم الصيفي والشتوي فلا يتطلب ماء آخر قط. تقع مصر بين النيل والبحر والنيل يأتي من الجنوب ويتجه شمالا ويصب في البحر والمسافة من مصر إلى الإسكندرية ثلاثون فرسخاً . وتقع الإسكندرية على شاطئ بحر الروم وشاطئ النيل وتصدر منهما بالسفن فاكهة كثيرة لمصر وفي الإسكندرية منارة رأيتها قائمة وأنا هناك وقد كان فوقها حراقة مرآة محرقة فكلما جاءت سفينة رومية من القسطنطينية أصابتها نار من هذه الحراقة فأحرقتها وقد بذل الروم كثيراً من الجد والجهد والحيلة فبعثوا شخصاً فكسر المرآة وفي عهد الحاكم سلطان مصر جاءه شخص وعرض عليه إن يعيدها كما كانت فقال الحاكم لا حاجة إلى ذلك فإن الروم يرسلون إلينا الآن الذهب والمال كل سنة وهم راضون بأن يذهب جيشنا إليهم ونحن معهم في سلام تام وماء الشرب في الإسكندرية من المطر وصحراؤها مملوء بهذه الأعمدة المبعثرة التي قدمت وصفها. ويمتد بحر الإسكندرية حتى القيروان التي يفصلها عن مصر مسافة مائة وخمسين فرسخاً القيروان ولاية مدينتها الكبرى سجلماسة التي تقع على بعد أربعة فراسخ من البحر وهي مدينة كبيرة في الصحراء وبها حصن محكم وبجانبها المهدية التي بناها المهدي أحد أبناء أمير المؤمين الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما بعد استيلائه على المغرب والأندلس وهي في هذه الأيام تابعة لسلطان مصر ويسقط البرد في القيروان ولكنه لا يمكث على أرضها ويتجه البحر شمالاً ويسير ناحية اليمين إلى الأندلس. وبين مصر والأندلس ألف فرسخ وسكانها جميعاً مسلمون وهي ولاية كبيرة جبلية ينزل فيها البرد ويتجمد سكانها بيض وشعرهم أحمر وأكثرهم كالصقالبة عيونهم كعيون القطط وتقع الأندلس في نهاية بحر الروم فالبحر شرقي بالنسبة لأهلها وإذا ذهب السائر من الأندلس شمالا جهة اليمين متتبعاً الشاطئ فإنه يبلغ بلاد الروم وكثيراً ما يغزون الروم من الأندلس. ومن الممكن إن يركب المسافر البر إلى القسطنطينية إذا أراد ولكن لا بد من اجتياز خلجان كثيرة عرض كل منها مائتا فرسخ أو ثلثمائة فرسخ لا يمكن اجتيازها إلا بالسفن والمعابر. وقد سمعت من ثقة إن محيط هذا البحر أربعة آلاف فرسخ وإن فرعا منه يدخل بلاد الظلمات كما يقال وإن نهاية هذا الفرع متجمدة دائما لأن الشمس لا تبلغه. ومن جزائر هذا البحر صقلية وتبلغها السفينة من مصر في عشرين يوما وهناك جزر كثيرة غيرها ويقال إن صقلية ثمانون فرسخاً في ثمانين وهي ملك سلطان مصر وتغادرها كل سنة سفينة تحمل المال إلى مصر ويجلبون منها كتاناً رقيقاً وثياباً منقوشة يساوي الثوب منها في مصر عشرة دنانير مغربية . وإذا سار السائر من مصر شرقاً يبلغ بحر القلزم والقلزم مدينة على شاطئ البحر بينها وبين مصر ثلاثون فرسخاً وهذا البحر فرع من محيط يتفرع عند عدن ويتجه نحو الشمال فإذا بلغ القلزم انقطع ويقال إن عرضه مائتا فرسخ ويفصله عن مصر جبال وصحراء لا ماء فيها ولا نبات. ومن يريد الذهاب إلى مكة من مصر يلزمه الاتجاه نحو الشرق فإذا بلغ القلزم وجد طريقين أحدهما بري والآخر بحري وهو يبلغ مكة عن الطريق الأول في خمسة عشر يوماً في صحراء طولها ثلاثمائة فرسخ وتذهب عن هذا الطريق معظم القوافل الآتية من مصر فإذا سار عن طريق البحر يبلغ الجار في عشرين يوماً وهي مدينة صغيرة من الحجاز تقع على شاطئ البحر ومنها إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ومن المدينة إلى مكة مائة فرسخ. فإذا جاوز الجار وواصل السير في البحر بلغ ساحل اليمن ومن هناك إلى ساحل عدن فإذا جاوزه ينتهي إلى الهند وهكذا حتى الصين وإذا سار من عدن إلى الجنوب مائلاً نحو الغرب فإنه يذهب إلى زنجبار والحبشة وسأشرح ذلك في مكانه . وإذا سار من مصر إلى الجنوب وجاوز ولاية النوبة بلغ ولاية المصامدة وهي أرض ذات مراع واسعة وفيها دواب كثيرة وسكانها سود كبار العظام غلاظ أقوياء البنية ويكثر الجند منهم في مصر وهم قباح الصورة ضخام الجثة يسمون المصامدة يحاربون راجلين بالسيف والحربة ولا يستطيعون استعمال غيرها من الآلات. وصف مدينة القاهرة أول مدينة يصل إليها المسافر من الشام إلى مصر هي القاهرة وتقع مدينة مصر جنوبها وتسمى القاهرة المعزية ويقال للمعسكر الفسطاط يروى إن أحد أبناء أمير المؤمنين الحسين بن علي صلوات الله عليهن أجمعين. وهو المعز لدين الله استولى على بلاد المغرب حتى الأندلس ثم سير جيشاً نحو مصر كان لابد لهذا الجيش إن يعبر النيل وهذا أمر غير مستطاع أولاً لأن النيل عظيم الاتساع وثانياً لأنه مملوء بالتماسيح التي تجذب إلى قاعه في الحال كل من يعبر ويقال إنه في الطريق قرب مدينة مصر طلسم يحمي الإنسان والدواب من هذا الشر ولكن أثره يبطل على مسافة رمية سهم من المدينة فلا يجرؤ أحد إن يقترب من النيل قيل إن المعز أرسل جيشه فنزل حيث القاهرة اليوم وقد أمر جنوده قائلاً حين تصلون إلى النيل ينزل الماء أمامكم كلب أسود فيعبر النهر فاتبعوه واعبروا آمنين قيل وقد بلغ هذا المكان ثلاثون ألف فارس كلهم خدم المعز وقد انطلق الكلب سابحاً أمامهم وساروا على أثره وعبروا من غير حادث ولم يقل أحد قط إن فارسا عبر نهر النيل راكباً وكانت هذه الحادثة سنة ثلاث وستين وثلثمائة 973. قد حضر السلطان إلى مصر عن طريق البحر فأفرغت السفن التي حضر بها قرب القاهرة وأخرجت من الماء وتركت كأنها أشياء لا غناء فيها وقد رأى راوي هذه القصة ناصر خسرو تلك السفن وهي سبع طول الواحدة مائة وخمسون ذراعاً وعرضها سبعون وقد مضى عليها هناك ثمانون سنة كان ذلك سنة إحدى وأربعين وأربعمائة حين بلغ الراوي هذا المكان. وحين دخل المعز لدين الله مصر تقدم له بالطاعة قائد الجيش الذي ولاه خليفة بغداد ونزل المعز بالجيش في هذا الموضع الذي هو القاهرة اليوم وقد سمى المعسكر بالقاهرة لأن ذلك الجيش كان قاهراً وقد أمر المعز بان لا يتجول أحد من جيشه في المدينة أو يدخل بيت أحد ثم أمر إن تبنى مصر في هذه الصحراء وإن يشيد كل من أفراد حاشيته بيتاً وهكذا بنيت المدينة التي قل نظيرها. وقدرت إن في القاهرة ما لا يقل عن عشرين ألف دكان كلها ملك للسلطان وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير مغربية في الشهر وليس بينها ما تقل أجرته عن دينارين والأربطة والحمامات والأبنية الأخرى كثيرة لا يحدها الحصر وكلها ملك السلطان إذ ليس لأحد إن يملك عقاراً أو بيتاً غير المنازل وما يكون قد بناه الفرد لنفسه وسمعت إن للسلطان ثمانية ألف بيت في القاهرة ومصر وأنه يؤجرها ويحصل أجرتها كل شهر يؤجرونها للناس برغبتهم ثم يتقاضون الأجر فلا يجبر شخص على شيء. ويقع قصر السلطان في القاهرة وهو طلق من جميع الجهات ولا يتصل به أي بناء وقد مسحه المهندسون فوجدوه مساويا لمدينة ميافارقين وكل ما حوله فضاء ويحرسه كل ليلة ألف رجل خمسمائة فارس وخمسمائة رجل وهم ينفخون البوق ويدقون الطبل والكوس من وقت صلاة المغرب ويدورون حول القصر حتى الصباح ويبدو هذا القصر من خارج المدينة كأنه جبل لكثرة ما فيه من الأبنية المرتفعة وهو لا يرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره وقيل إن به اثني عشر ألف خادم مأجور ومن يعرف عدد من فيه من النساء والجواري إلا أنه يقال إن به ثلاثين ألف آدمي وهذا القصر يتكون من اثني عشر جوسقاً وله عشرة أبواب فوق الأرض لكل منها اسم على هذا التفصيل وذلك فضلاً عن أبواب أخرى تحت الأرض باب الذهب باب البحر باب السريج باب الزهومة باب السلام . باب الزبرجد باب العيد باب الفتوح باب الزلاقة باب السرية وتحت الأرض باب يخرج منه السلطان راكباً وهذا الباب على سرداب يؤدي إلى قصر آخر خارج لمدينة ولهذا السرداب الذي يصل بين القصرين سقف محكم وجدر إن القصر من الحجر المنحوت بدقة تقول إنها قدت من صخر واحد وفوق القصر المناظر والإيوانات العالية وفي داخله دهليز به دكك. وأركان الدولة والخدم من العبيد السود أو الروم والوزير رجل يمتاز عن الجميع بالزهد والورع والأمانة والصدق والعقل . ولم يكن شرب الخمر مباحاً أعني أيام الحاكم هذا وفي أيامه حرم على النساء الخروج من بيوتهن وما كان أحد يجفف العنب في بيته لجواز عمل السيكي نوع من الشراب منه ولم يكن أحدهم يجرؤ على شرب الخمر ولا كانوا يشربون الفقاع فقد قيل إنه مسكر فهو محرم. وللقاهرة خمسة أبواب باب النصر وباب الفتوح وباب القنطرة وباب الزويلة وباب الخليج وليس للمدينة قلعة ولكن أبنيتها أقوى وأكثر ارتفاعاً من القلعة وكل قصر حصن ومعظم العمارات تتألف من خمس أو ست طبقات . ويجلب ماء الشرب من النيل ينقله السقاءون على الجمال والآبار القريبة من النيل عذب ماؤها وأما البعيدة عنه فماؤها ملح ويقال إن في القاهرة ومصر اثنين وخمسين ألف جمل يحمل عليها السقاءون الروايا وهؤلاء عدا من يحمل الماء على ظهره في الجرار النحاسية أو القرب وذلك في الحارات الضيقة التي لا تسير فيها الجمال. وفي المدينة بساتين وأشجار بين القصور تسقى من ماء الآبار وفي قصر السلطان بساتين لا نظير لها وقد نصبت السواقي لريها وغرست الأشجار فوق الأسطح فصارت متنزهات. وحين كنت هناك أجر منزل مساحته عشرون ذراعاً في إثني عشر ذراعاً بخمسة عشر ديناراً مغربياً في الشهر كان أربعة طوابق ثلاثة منها مسكونة والرابع خال وقد عرض على صاحبه خمسة دنانير مغربية كأجرة شهرية فرفض معتذراً بأنه يلزمه إن يقيم به أحيانا ولو انه لم يحضر مرتين في السنة التي أقمتها هناك. وكانت البيوت من النظافة والبهاء بحيث تقول إنها بنيت من الجواهر لا من الجص والآجر والحجارة وهي بعيدة عن بعضها فلا تنمو أشجار بيت على سور بيت آخر ويستطيع كل مالك إن يجعل ما ينبغي لبيته في كل وقت من هدم أو إصلاح دون إن يضايق جاره. ويرى السائر خارج المدينة ناحية الغرب ترعة كبيرة تسمى الخليج حفرها والد السلطان وله على شاطئيها ثلاثمائة قرية ويبتدئ فم الخليج من مدينة مصر ويمر بالقاهرة ويدور بها ماراً أمام قصر السلطان وقد شيد على رأسه قصران أولهما قصر اللؤلؤة وثانيهما قصر الجوهرة . وفي القاهرة أربعة مساجد جمعة الأزهر وجامع النور وجامع الحاكم وجامع المعز والأخير خارج القاهرة على شاطئ النيل . ويتوجه المصريون نحو مطلع الحمل حين يولون وجوههم شطر القبلة وبين مدينتي مصر والقاهرة أقل من ميل والأولى في الجنوب والثانية في الشمال ويمر النيل بهما وبساتينهما وبيوتهما متصلة أما البقية فتحت مستوى الماء وتغمر المياه الوادي بأجمعه في الصيف كأنه بحر عدا حديقة السلطان لأنها على مرتفع أما البقية فتحت مستوى الماء. وصف فتح الخليج حين يبلغ النيل الوفاء أي من العاشر شهر يور أغسطس وسبتمبر إلى العشرين من آبان أكتوبر ونوفمبر ويبلغ ارتفاع الماء ثمانية عشر ذراعاً عن مستواه في الشتاء وتكون أفواه الترع والجداول مسدودة في البلاد كلها يحضر السلطان راكباً ليفتح النهر الذي يسمى الخليج والذي يبدأ قبل مدينة مصر ثم يمر بالقاهرة وهو ملك خاص للسلطان وفي ذلك اليوم يوم ركوب السلطان لفتح الخليج تفتح الخلجان والترع الأخرى في الولايات كلها. وهذا اليوم أعظم الأعياد في مصر ويسمى عيد ركوب فتح الخليج.حينما يقترب ينصب للسلطان على رأس الخليج سرادق عظيم التكاليف من الديباج الرومي وموشى كله بالذهب ومكلل بالجواهر ومعد أعظم إعداد بحيث يتسع ظله لمائة فارس وأمام هذا السرادق خيمة من البوقلمون وسرادق آخر كبير. وقبل الاحتفال بثلاثة أيام يدقون الطبل وينفخون البوق ويضربون الكوس في الاصطبل لتألف الخيل هذه الأصوات. وحين يركب السلطان يصطف عشرة آلاف فارس على خيولهم سروج مذهبة وأطواق وألجمة مرصعة وجميع لبد السروج من الديباج الرومي والبوقلمون نسجت لهذا الغرض خاصة فلم تفصل ولم تخط وطرزت حواشيها باسم سلطان مصر وعلى كل حصان درع أو جوشن وعلى قمة السرج خوذة وجميع أنواع الأسلحة الأخرى وكذلك تسير جمال كثيرة عليها هوادج مزينة وبغال عمارياتها هوادجها كلها مرصعة بالذهب والجواهر وموشاة باللؤلؤ وإن الكلام ليطول إذا وصفت كل ما يكون يوم فتح الخليج . وفي ذلك اليوم يخرج جيش السلطان كله فرقة فرقة وفوجاً فوجاً فرقة تسمى الكتاميين وهم من القيروإن أتوا في خدمة المعز لدين الله وقيل إن عددهم عشرون ألف فارس. وفرقة تسمى الباتليين وهو رجال من المغرب دخلوا مصر قبل مجيء السلطان إليها وقيل إن عددهم خمسة عشر ألف فارس . وفرقة تسمى المصامدة وهو سود من بلاد المصامدة قيل إن عددهم عشرون ألف رجل. وفرقة تسمى المشارقة وهم ترك وعجم وسبب هذه التسمية إن أصلهم ليس عربياً ولو إن أكثرهم ولد في مصر وقد اشتق اسمهم من الأصل قيل انهم عشرة آلاف رجل وهم ضخام الجثة. وفرقة تسمى عبيد الشراء وهم عبيد مشترون قيل إن عددهم ثلاثون ألف رجل. وفرقة تسمى البدو وهم من أهل الحجاز يقال لهم الرماة وهم خمسون ألف فارس. وفرقة تسمى الأستاذين كلهم خدم بيض وسود اشتروا للخدمة وهم ثلاثون ألف فارس. وفرقة تسمى السرائيين وهم مشاة جاءوا من كل ولاية ولهم قائد خاص يتولى رعايتهم وكل منهم يستعمل سلاح ولايته وعددهم عشرة آلاف رجل . وفرقة تسمى الزنوج يحاربون بالسيف وحده وقيل أنهم ثلاثون ألف رجل. ونفقة هذا الجيش كله من مال السلطان ولكل جندي منه مرتب شهري على قدر درجته ولا يجبر على دفع دينار منها أحد الرعايا أو العمال ولكن هؤلاء يسلمون للخزانة أموال ولايتهم سنة فسنة وتصرف أرزاق الجند من الخزانة في وقت معين بحيث لا يرهق احد بمطالبة الجند. وهناك فرقة من أبناء الملوك والأمراء الذين جاءوا لمصر من أطراف العالم ولا يعدون من الجيش وهم من المغرب واليمن والروم وبلاد الصقالبة والنوبة وأولاد ملوك الكرج جورجيا وأبناء ملوك الديلم وأبناء خاقان تركستان . وكذلك وجد في يوم فتح الخليج طبقات أخرى من الرجال ذوي الفضل والأدباء والشعراء والفقهاء ولكل منهم أرزاق معينة ولا يقل رزق الواحد من أبناء الأمراء عن خمسمائة دينار وقد يبلغ الألفين وليس لهم عمل إلا إن يذهبوا ليسلموا على الوزير حين يركب ثم يعودون.والآن نعود إلى حديث فتح الخليج. في اليوم الذي ذهب السلطان في صباحه لفتح الخليج استأجروا عشر آلاف رجل أمسك كل واحد منهم إحدى الجنائب التي ذكرتها وساروا مائة مائة وأمامهم الموسيقيون ينفخون البوق ويضربون الطبل والمزمار وسار خلفهم فوج من الجيش مضى هؤلاء من قصر السلطان حتى رأس الخيول أتت الجمال وعليها المهود والمراقد ومن بعدها البغال وعليها العماريات. وقد ابتعد السلطان عن الجيش والجنائب وهو شاب كامل الجسم طاهر الصورة من أبناء أمير المؤمنين حسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما كان حليق شعر الرأس يركب على بغل ليس في سرجه أو لجامه حلية فليس عليه ذهب أو فضة وقد ارتدى قميصاً أبيض عليه فوطة فضفاضة كالتي تلبس في بلاد المغرب والتي تسمى في بلاد العجم دراعة وقيل إن اسم هذا القميص الدبيقي وإنه يساوي عشر آلاف دينار كان على رأسه عمامة من لونه ويمسك بيده سوطاً ثمينا وأمامه ثلثمائة راجل ديلمي عليهم ثياب رومية مذهبة وقد حزموا خصورهم وأكمامهم واسعة كما يلبس رجال مصر ومعهم النشاب والسهام وقد عصبوا سيقانهم . ويسير مع السلطان حامل المظلة راكباً حصاناً وعلى رأسه عمامة مذهبة مرصعة وعليه حلة قيمتها عشرة آلف دينار ذهبي مغربي والمظلة التي بيده ثمينة جداً وهي مرصعة ومكللة وليس مع السلطان فارس غير حامل المظلة وقد سار أمامه الديالمة وعلى يمينه ويساره جماعة من الخدم يحملون المجامر ويحرقون العنبر والعود. والعادة في مصر إن يسجد الرجال للسلطان وإن يدعوا له كلما قرب منهم وجاء بعد السلطان الوزير مع قاضي القضاة وفوج كبير من أهل العلم وأركإن الدولة وقد ذهب السلطان إلى حيث ضرب الشراع على رأس سد الخليج أي فم النهر وظل ممتطيا البغل تحت السرادق مدة ساعة وبعد ذلك سلموه مزراقاً ليضرب به السد ثم عجل الرجال بهدمه بالمعاول والفؤوس والمخارف فانساب الماء وقد كان مرتفعا وجرى دفعة واحدة في الخليج. وفي هذا اليوم يخرج جميع سكان مصر والقاهرة للتفرج على فتح الخليج وتجرى فيه أنواع الألعاب العجيبة. وكان في أول سفينة نزلت الخليج جماعة من الخرس يسمون بالفارسية كنكت ولال لعلهم يتفاءلون بنزولهم ويجري السلطان عليهم صدقاته في هذا اليوم. وكإن للسلطان إحدى وعشرون سفينة وقد عمل لها حوض خاص قرب القصر في اتساع ميدانين أو ثلاثة وطول كل سفينة منها خمسون ذراعاً وعرضها عشرون ذراعاً وكلها مزينة بالذهب والفضة والجواهر والديباج ولو وصفتها لسطرت أوراقاً كثيرة وهذه السفن كلها مربوطة في الحوض معظم الوقت كالبغال في الاصطبل . وللسلطان حديقة تسمى حديقة عين شمس على فرسخين من القاهرة وهناك عين ماء عذبة سمي البستان بها ويقال إن هذه الحديقة كانت لفرعون.و قد رأيت قربها بناية قديمة بها أربع قطع من الحجارة الكبيرة كل قطعة مثل المنارة وطول كل منها ثلاثون ذراعاً كان الماء يقطر من رؤوسها ولا يدري أحد ما هي وفي الحديقة شجرة البلسان يقال إن آباء هذا السلطان أتوا ببذرتها من بلاد المغرب وزرعوها في الحديقة ولا يوجد غيرها في جميع الآفاق وهي غير معروفة في بلاد المغرب ومع إن لهذه الشجرة بذراً إلا أنه لا ينبت حيثما زرع وإذا نبت فلا يخرج الزيت منه وهذه الشجرة مثل شجرة الآس يشذبون غصونها بالنصل حينما تكبر ويربطون زجاجة عند موضع كل قطع فيخرج منه الدهن كالصمغ وحين ينفذ ما فيها من دهن تجف ويحمل البستانيون غصونها إلى المدينة ويبيعونها ولحاؤها ثخين وطعمه كاللوز حين يقشر وينبت في جزعها أغصان في السنة التالية فيعملون بها كما فعلوا في السنة الغابرة. ولمدينة القاهرة عشر محلات وهم يسمون المحلة حارة وهي حارات برجوإن وزويله والجودرية والأمراء والديالمة والروم والباطلية وقصر الشوق وعبيد الشراً والمصامدة.
سفر نامه تأليف : ناصر خسرو منتدى توتة وحدوتة - البوابة