بّسم الله الرّحمن الرّحيم
مكتبة الثقافة الأدبية
أالأذكياء لابن الجوزي
الباب الرابع والعشرون
في ذكر طرف من أحوال الشعراء والمداحين
قال يموت بن المزرع جلس الجماز يأكل على مائدة بين يدي جعفر بن القاسم وجعفر يأكل على مائدة أخرى وكانت الصفحة ترفع من بين يدي جعفر فتوضع بين يدي الجماز فربما كان عليها قليل وربما لم يكن شيء فقال الجماز أصلح الله الأمير ما نحن اليوم إلا عصبة فربما فضل لنا بعض المال وربما أخذه أهل السهام ولا يبقى لنا شيء. قال أبو الحسن السلامي الشاعر مدح الخالديان سيف الدولة بن حمدان بقصيدة أولها:
تصدو دارها صدد ● وتوعده ولا تعد
وقد قتلته ظالمة ● فلا عقل ولا أقود
وقالا فيها في مدحه
فوجه كله قمر ● وسائر جسمه أسد
فلما أنشده إياها عجب بها سيف الدولة واستحسن هذا البيت منها وجعل يردد إنشاده فدخل عليه الشيميطي الشاعر فقال له اسمع هذا البيت وأنشده إياه فقال له الشيميطي أحمد ربك فقد جعلك من عجائب البحر. قال المصنف الخالديان رجلان وهما أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم كانا أخوين واتفقا في حسين الطبع ورقة الشعر وكثرة الأدب وكانا يشتركان في الشعر وينفردان فقال فيهما أبو اسحق الصابي:
أرى الشاعرين الخالدين سيرا ● قصائد يفنى الدهر وهي تخلد
تنــازع قــوم فيهمـا وتناقضـوا ● ومر جدال بينهم يتردد
فطائفة قالت ســــعيد مقدم ● وطائفة قالت لهم بل محمد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ● وما قلت إلا بأنني هي أرشد
هما في اجتماع الفضل روح مؤلف ● ومعناها من حيث ثنيت مفرد
● خرج طاهر بن الحسن لقتال عيسى بن هامان فخرج وفي كمه دراهم يفرقها على الفقراء ثم سها وأسبل كمه فتبددت فتطير فقال له شاعر في ذلك:
هذا تفرق جمعهم لا غيره ● وذهابه منا ذهاب الهم
شيء يكون الهم نصف حروفه ● لا خير في إمساكه في الكم
● أحضر عبد الملك رجلاً يرى رأى الخوارج فأمر بقتله فقال الست القائل:
ومنا سويد والبطين وقعنب ● ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال إنما قلت ومنا أمير المؤمنين أردت يا أمير المؤمنين فحقن دمه ودرأ عن نفسه إذ صرف الأعراب عن الخبر إلى الخطاب. هجا بعض الشعراء أبا عثمان المازني فقال:
وفتى من مازن ساد أهل البصرة ● أمه معرفة وأبوه نكرة
● ودخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد فلقيه إسماعيل بن صبيح الحاجب فقال اعلم أنه ولد لأمير المؤمنين ابنان فعاش أحدهما ومات الآخر فيجب أن تخاطبه بحسب ما عرفتك فلما صار بين يديه قال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجعلها واحدة بواحدة تستوجب من الله زيادة الشاكرين وجزاء الصابرين. قال دخل جعفر الضبي على الفضل بن سهل فقال أيها الأمير أسكتني عن أوصافك تساوى أفعالك في السؤدد وحيرني فيها كثرة عددها فليس إلى ذكر جميعها سبيل فإن أردت وصف واحدة اعترضت أختها فلم تكن الأولى أحق بالذكر فلست أصفها إلا بإظهار العجز عن وصفها.
● قال دخل أبو دلامة على المنصور فأنشده قصيدة فقال يا أبا دلامة إن أمير المؤمنين قد أمر لك بكذا وكذا من صله وكساك وجملك وأقطعك أربعمائة جريب مائتان عامر ومائتان غامر فقال أما ما ذكر أمير المؤمنين من الصلة فقد عرفته وعرفت العامر فما العامر قال الذي لا نبات فيه ولا شجر فقد أقطعت أمير المؤمنين أربعة آلاف جريب غامر قال ويحك أين قال ليما بين الحيرة والكوفة فضحك منه وسوغها إياه عامرة.
● قال المدايني دخل نصيب على عبد الملك بن مروان فتغدي معه ثم قال له هل لك فيما يتنادم عليه فقال لوني حائل وشعري مفلفل وخلقي مشوه ولم أبلغ ما بلغت من إكرامك إياي بشرف أب ولا أم وإنما بلغته بعقلي ولساني فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحول بيني وبين ما بلغت به هذه المنزلة فأعفاه. قال المدايني جلس نساء ظراف إلى بشار بن برد فتحدث وتحدثن ثم قلنا له لوددنا أنك أبونا قال على أني على دين كسرى. قال خالد الكاتب ارتج علي وعلى دعبل وواحد من الشعراء قد سماه ولم أحفظ اسمه نصف بيت قلنا جميعاً يا بديع الحسن ثم قلنا ليس لنا إلا جعيفران الموسوس فجئناه فقال ما تبغوني فقال خالد جئناك في حاجة فقال لا تؤذوني فإني جائع فبعثنا فاشترينا له طعاماً فلما شبع قال حاجتكم قلنا اختلفنا في نصف بيت فقال ما هو يا بديع الحسن فما تلعثم والله إن قال:
يا بديع الحسن حاشا ● لك من هجر بديع
فقال له دعبل زدني بيتاً فقال:
وبحسن الوجه عوذ ● تك من سوء الصنيع
فقال له الذي معنا ولي بيت فقال نعم وعزازة وكرامة.
ومن النخوة يستعفيك ● لي ذل الخضوع
فقلت استودعك الله فقال انتظروا أزدكم بيتاً آخر فقال:
لا يعب بعضك بعضاً ● كن جميلاً في الجميع
ومن الفطنة الكلام الموجه الذي يحتمل المدح والذم ومنه قول المتنبي:
عدوك مذموم بكل لسان فإنه يحتمل المدح ويحتمل الذم ووجه الذم
أن يكون المذكور دنيا ولا يعادي الدني إلا مثله وكذلك قوله.
والله سر في علاك يحتمل المدح أي سر لا يطلع عليه في تقديم مثلك قال شاعر فأراد أن يكثر عليه فقال لأهل البلد:
وتشابهت سور القرآن عليكمو ● فقرنتم الأنعام بالشعراء
ومدح رجل رجلاً يقال له:
يسير فقال في مدحه ● وفضل يسير في البلاد يسير
فقيل له أنك قد مدحته وأنه لا يعطيك شيئاً فقال إن لم يعطني شيئاً قلت بيدي هكذا وضم أصابعه يعني أنه قليل. وبلغني من هذا الجنس قول رجل في رجل:
تحلى بأسماء الشهور فكفه ● جمادى وما ضمت عليه المحرم
وقال شاعر آخر
وقائل لي ما الذي تشتهي ● من التي قد ضمها خدرها
أوجهها حين بدا مقبلا ● أم شعرها الأسود أم ثغرها
أم طرفها الأدعج أم كشحها ● أم منبت الرمان أم صدرها
قلت له أعشق ذا كله ● ونصف حران وثلثي زها
● سئل جحظة عن دعوة حضرها فقال كل شيء كان منها بارد إلا الماء.
وقدمت إلى أبي يعقوب الخزيمي سكباجه كبيرة العظام فقال هذه شطرنجية واتبعت بفالوذجة قليلة الحلاوة فقيل قد علمت هذه قبل أن يوحي ربك إلى النحل.
قال شاعر لشاعر أنا أقول البيت واخاه وأنت تقول البيت وابن عمه.
● قال دخل بعض شعراء الهند على أمير فمدحه فقال له الأمير تقدم يا زوج القحبة فقال ما زوج القحبة فقال هذه بلغة العرب كناية عمن له قدر جليل ومحل كبير ومال ودواب وغلمان ومنزلة قال فأنت والله أيها الأمير أكبر زوجة قحبة في الدنيا فخجل وعلم أن مزاجه جر عليه شتمه. دخل بعض الأدباء على المأمون يسأله حاجة فلم يقضها فقال يا أمير المؤمنين إن لي شكر قال ومن يحتاج إلى شكرك فأنشأ يقول:
فلو كان يستغني عن الشكر مالك ● لكثرة مال أو علو مكان
لما ندب الله العباد لشكره ● وقال اشكروني أيها الثقلان
فقال أحسنت وقضى حاجته.
قال ابن الهبارية:
قد قلت للشيخ الرئيس ● أخي السماح أبي المظفر
ذكر معين الملك بي ● قال المؤنث لا يذكر
● روى أبو جعفر محمد بن موسى الموسوي قال دخلت على أبي نصر بن أبي زيد وعنده علوي مبرم فتأذى بطول جلوسه وكثرة كلامه فلما نهض قال لي أبو نصر بن عمك هذا خفيف على القلب فقلت نعم فقال ما أظنك فهمت ففكرت فعلمت أنه أراد خفيفاً مقلوباً وهو الثقيل وهذا المعنى الذي أراده أبو سعيد بن دوست:
وأثقل مني زائري وكأنما ● يقلب في أجفان عيني وفي قلبي
فقلت له لما برمت بقربه ● أراك على قلبي خفيفاً على القلب
وصف لشاعر طيب خراسان فلما سافر إليها لم تعجبه فقال:
تمينا خراسانا زمانا ● فلن نعط المنى والصبر عنها
فلما أن أتيناها سراعاً ● وجدناها بحذف النصف منها
الباب الخامس والعشرون
في طرف من حيل المحاربين
في طرف من حيل المحاربين